في كل بيت

الغيرة حالة نفسية وجدانية محبطة
إعداد: ناديا متى فخري

كيف نتعامل مع الولد الغيور؟

 

السبب الرئيس للغيرة هو الشعور بمنافسة الغير لنا على مركز نحتلّه، أو اعتقادنا أن شخصاً ما يحاول أن ينتزع منا عطف شخص نحبه أو امتيازات خاصة نتمتّع بها... وأحياناً يبلغ الإفراط في الغيرة حدّ الإستئثار لدرجة تحصر الفرد في دائرة نفسه وتجعل تفكيره مشبعاً بنزعة الأنانية ولا يتجه إلا إلى إرضاء ذاته.
والغيرة على أنواع: غيرة الزوجين، غيرة الزملاء في المهن والطلاب في المدارس وغيرة الأخوة، هذا النوع الأخير من الغيرة هو ما سنتطرق اليه.

 

الغيرة الأخوية
الغيرة بين الأخوة حالة نفسية وجدانية مثيرة للقلق ونادراً ما تخلو منها بيئة منزلية.
فمعظم الأولاد يشعرون بالغيرة ويعبّرون عن غيرتهم بسلوكيات مختلفة، وكثيراً ما تتملكهم الغيرة من الأخ الذي يولد حديثاً، لأنهم يعتقدون أنه سلبهم مركزهم المميز ونقلهم من محور الإهتمام إلى المركز الثاني، أو إلى زاوية الإهمال والنسيان، ولكن أكثر من يتأثر بالغيرة هو الولد البكر، أو أي ولدٍ إزاء الولد الذي يليه مباشرة، وقد يغار الولد الصغير من أخيه الكبير أحياناً، لما قد يتمتع به من امتيازات جسدية خاصة كالقوة مثلاً، أو لامتيازات معنوية: كالمعاملة المميزة التي قد يعامله بها الوالدان.
تؤدي الغيرة دوراً وجدانياً، فالولد يكون مدفوعاً بدافع لا شعوري إلى أن يرى في أخيه المولود الجديد منافساً له في حب والديه، لذلك يعيش حالةً من التناقض الوجداني، فيبدو سلوكه تجاه الأخ الأصغر متسماً بالحب والكراهية في آن معاً.
وهذه الغيرة تشتد أو تضعف، حسب طبيعة كل ولد، وعمره ومركزه في الأسرة ونوع التربية التي يمارسها الوالدان، وكيفية معاملتهما لكل من أولادهما؛ فالولد الذي تعوّد مثلاً الإستقلال نسبياً عن أمه، وانصرف باكراً إلى معاشرة غيره من الأولاد، تكون ردود فعله الغيرية أقل عنفاً من الولد الشديد التبعية لأمه، ومن كان عمره أربع سنوات أو خمساً، كان أكثر قدرة على تمالك نفسه ممن عمره سنتان أو ثلاث.
الشعور بالغيرة هو أمر طبيعي، لكن بعض الأهل يعتبر الغيرة نقيصة وانحرافاً في السلوك، لذلك يحاولون تبرئة أولادهم منها، وإذا لفتنا انتباههم إلى غيرة أحد أبنائهم أجابوا بالنفي، فيدّعون مثلاً أن ولدهم يحب أخاه الصغير ولا يقوى على فراقه ويلعب معه بلطف وفرحٍ ولهفة شديدة، ويتجاهلون أن في هذه اللهفة شرارة من الغيرة الكامنة تحت رماد من المخاوف القاهرة لإحساسه بالخوف من فقدان مركزه في قلب والديه، وهذا طبيعي من الناحية البسيكولوجية.
تبرز الغيرة بين الأخوة بشكل جلي بين عمر يالسنة ونصف والأربع سنوات، إلا في بعض الحالات حيث تظهر في سن السادسة، مع الأخذ في الإعتبار فارق السن بين الأخ وأخيه وقوة الإحتمال بين عمر آخر.

 

دوافع الغيرة بين الأخوة
إن أساس الغيرة عند الأطفال هو خوفهم من فقدان محبة والديهم وانصرافهما إلى المولود الجديد، حيث ينظر الطفل الأكبر سناً إلى أخيه الصغير نظرة غضب كونه يرى فيه زائراً متطفلاً دخيلاً على حياته فيشعر بالعداء تجاهه ويعجز عن إخفاء ضيقه منه وإحساسه بالغيرة.
وهناك أولاد يحتفظون بما يشعرون به في قلوبهم ويحاولون إخفاء غيرتهم مما يزيد في اضطرابهم، وفي الحالتين إن حسن معاملة الأم والأب للطفل الغيور وعطفهما عليه يعيدان إلى نفسه الطمأنينة لأن والديه لم يتخليا عنه لمصلحة أخيه.
من المنطقي أن يحاول الولد الغيور - بصورة لا شعورية غالباً - الإعتداء على منافسه في محبة والديه بمحاولة حذفه عن طريق تحقيره بالمشاجرات أحياناً، وأحياناً أخرى بتفريغ غيرته بصورة رمزية، (بتحطيم دمى أخيه مثلاً أو أي شيء يخصه، أو رسمه بطريقة ساخرة... الخ).
وقد يكبح الولد هذه الميول العدوانية بتأثير والديه، أو تحت وطأة الشعور بالذنب إزاء أخيه الصغير، وهذا الكبت قد يبقى ذا تأثير نفسي محدود وقد يصبح عصاباً، حسب شدّته ومدى استمراره. فإذا أسرع الوالدان في معالجة الغيرة بفهم وحكمة وصبر، فإنها تزول سريعاً ولا تترك آثاراً مؤذية في نفس الطفل، أما إذا أهملاها أو أساءا التصرف فقد تزول تلقائياً، أو قد تتحول إلى عقد نفسية - حسب طبع كل ولد وسنّه - كالشعور بالنقص أو الذنب أو العداء أو الخجل أو الضيق المصحوب بألم نفسي مبرّح، وقد يؤدي بعض الإضطرابات النفسية العنيفة بالطفل إلى حدّ الجنوح... وبين هذه العقد، عقدة النكوص - وهو ارتداد إلى مستوى عقلي أو سلوكي سابق، وعودة إلى مرحلة من النمو أكثر طفولية. ومن أعراض هذه العقدة مطالبة الولد الغيور بتناول الطعام نفسه الذي يقدم لأخيه الصغير، أو ارتداء ملابسه واستعمال حوائجه، أو الطلب من أمه أن تطعمه بنفسها أسوة بأخيه الأصغر سناً... وباختصار يقلّده في كل شيء ويحاول أن يتقمّص دوره ليجذب انتباه والديه ويفوز منهما بالعطف والإهتمام ذاته.
ويكمن خطر النكوص في كونه نوعاً من الهرب والكبت والإنطواء على الذات، ومن يكبح عواطفه ويلجمها يبقيها في نفسه كالنار في قلب بركان لا تلبث أن تفجره، إذا استمرت في التفاعل داخله.
أما الولد الغيور الذي يستطيع أن ينفّس عن غضبه فيشعر بنوع من الراحة، ويخف الضيق الذي يستبدّ به، بعكس الولد الذي يخفي قلقه واكتئابه فيتصرّف طوال النهار كتعيس صغير حائر أصيب بصدمة عميقة.
فماذا نستطيع أن نفعل لتخفيف شعور الغيرة عند الأولاد، والحيلولة دون إصابتهم بالنكوص أو العصاب؟

 

كيف نتعامل مع الطفل الغيور؟
هناك عدة وسائل تستطيع الأم أن تستخدمها سنذكر بعضها على سبيل المثال لا الحصر:
• تستطيع الأم أن تهيىء ولدها لاستقبال أخ جديد له بإعلامه قبل شهر أو شهرين على الأكثر بولادة الطفل حتى لا تكون ولادته مفاجأة كاملة له، ولكن هذه الطريقة لا تعطي النتائج المرجوة لمن عمرهم أقل من ثلاث سنوات، فمثل هؤلاء يفهمون فهماً يكتنفه الغموض لا يجعلهم مهيئين للسيطرة على المشاعر التي ستجتاحهم عندما يرون أمهاتهم يعتنين بحنان بالمولود الجديد، فعلى الوالدين ألا يتطرّفا بالإنهماك بالمولود الجديد وأن يتحدثا - كلما كان ذلك ممكناً - إلى الولد الكبير ويساعداه عند الحاجة ويلعبا معه، فهذا السلوك الأبوي يجعله يطمئن ويشعر بالأمان، ويشعر بأن ولادة منافس له لم تحرمه حب والديه ولم تفقده مركزه في قلبهما.
• عند ذهاب الأم إلى المستشفى يستحسن أن تخفي بعض الهدايا الصغيرة في البيت، ولدى عودتها مع المولود الجديد تبادر إلى احتضان ابنها أو ابنتها الأكبر سناً وترشده إلى مكان وجود الهدايا فيشعر بأن والدته لم تتخلّ عنه بل هي تفكر فيه حتى لو كانت بعيدة.
• من المفيد ألاّ تنهمك الأم كثيراً بالمولود الجديد وتهمل الأكبر... فقد جرت العادة أن ينهمك الأهل والأقارب بالمولود الجديد وأن يطروا صفاته ويمطروه بالهدايا، ما يجعل الأخ الأكبر يشعر بأنه مهمل وبأن هذا القادم الجديد قد خلعه عن عرشه، وبأن نصيبه من حب والديه قد زال، عندئذ تتجسّد مخاوفه من إمكان تخلّي والديه عنه، وهذا يؤدي إلى اضطرابات نفسية وسلوكية، قد تصبح خطيرة إذا استمرت طويلاً.
• درجت العادة على توبيخ الولد الكبير كلما كشف عما يجيش في نفسه من شعور الغيرة نحو الصغير، ومثل هذا الصدّ أو التأنيب غالباً ما يؤدي إلى النتيجة المعكوسة، فيثير مخاوف الولد وغيرته وإحساسه بتفضيل أخيه الصغير عليه... فمن الأفضل ترك الولد يعبّر عن شعوره الحقيقي نحو الطفل ويقول كل ما لا يُعجبه فيه، فمثل هذا التعبير يريحه وينفّس عنه الحقد والغيرة، بدون أن يلحق الأذى بالطفل الصغير، لأنه لا يفهم ما يُقال عنه، ويجعل حقده على أخيه الأصغر وشعوره بالغضب منه غير قابلين للإستمرار.
إن صدّ الولد بقسوة يصدمه ويؤجج ميله إلى النكوص والتصرّف كطفل لا سيما أن الولد يشعر بالسعادة والطمأنينة إذا تكوّن لديه انطباع من أنه ما يزال يحتفظ بامتيازاته.
فعلى الوالدين أن يرضيا أنانيته، والاّ يرخيا لنفسهما العنان في إظهار تفضيلهما لأحد الولدين؛ فالمفاضلة قد تولّد التنافس وتعزّز في الولد الشعور بالخوف الدائم من أن يقع في الحرمان وهذا ما يدفعه إلى التحقّق بجميع الوسائل من أنه ما يزال يحتفظ بامتيازاته من الناحية العاطفية...
وفي كل حال، يجب ألاّ ندع ولداً يقع فريسةً لعاطفة عميقة - عنيفة من الغيرة فيميل إلى التشاؤم ويفقد الشعور بالأمان. فالطفل يرفض الإهمال الأبوي والحرمان يجعله قاسي الطبع، منكمشاً على نفسه.
ويبدو أن العاطفة الأقوى في السنوات الست الأولى من حياة الولد هي العاطفة التي تربطه بوالديه، وهو يتمنى في هذه الفترة أن يحتكر إلى حدّ ما محبتهما، ويخاف أن يكون الحنوّ الذي يوجّه إلى اخوته مأخوذاً من حصته الخاصة، لذلك يبدو ظنوناً، حقوداً، غيوراً.
ولكن هذه الغيرة تتبدل كثيراً، حسب عادات كل ولد، وطبعه، وبيئته ورتبته في الأسرة، وتصرفات أهله، وكيفية معاملتهم له؛ وعلى الرغم من تبدّلها تبقى أهم الأسباب التي تؤدي إلى الشجار والإقتتال بين الأخوة، ولا سيما المتقاربي الأعمار منهم، ويقوى الشجار ويتواتر إذا كانت البيئة العائلية تذكّي المنافسات، أو تفضّل ولداً على ولد...
أما تدخّل الوالدين في مشاجرات أبنائهما، فيتعلّق بطبيعة هذه المشاجرات وأسبابها وعنفها، فإذا تحولت إلى خصام بين الأخ وأخيه يهدّد سلامة تكيّفهما العلائقي معاً، لا بدّ من تدخل الأم والأب لتوجيه الإرشادات أو التنبيهات الضرورية لقمع حدّة الخصام والتنافس بين الإخوة وكي لا يحصل بينهم تباعد وغربة...
فللإرشاد الأسري قيمة وفاعلية لتقويم النقائص في الطبع والسلوك...
ويبقى أن نسلط الضوء على أن الغيرة لا تخلو من حسنات فالطفل الذي يخرج منها كحالة عاطفية منتصراً، يكتسب مناعة نفسية تجعله واثقاً بنفسه وبوالديه وأكثر احتمالاً وقدرة وصبراً على مواجهة صعوبات الحياة وتحدياتها.
وبصورة عامة... يجب ألاّ نقلق من غيرة الأطفال، فالطبيعة لا تستطيع أن تصنع التغيير من دون أن تتعرض لضغوط مرحلية وإنقباضات تعكّر صفوها.