- En
- Fr
- عربي
قضايا إقليمية
«هذه ليست ازمة مساكن، إنها امراض دولة اسرائيل بدأت تخرج الى العلن. نحن امام طوفان من الغضب وخيبة الامل والاذلال والعجز ، قرر اصحابه في لحظة واحدة أن يقلبوا الامور رأساً على عقب، ومن الصعب اعادة هذا الغليان الى الزجاجة بالاساليب المعروفة». هكذا اختصر الصحافي الاسرائيلي امير اورين في «هآرتس» ما جرى في كيان العدو من تظاهرات واعتصامات احتجاجية على سوء الاوضاع الاقتصادية والاجتماعية والسياسية التي تعانيها الطبقات الدنيا والوسطى، وهذه تشكل الاغلبية الساحقة من المجتمع الاسرائيلي. ويجمع المراقبون على أن موجة الاحتجاجات التي ضمت اكثر من 300 الف متظاهر لا تقتصر فحسب على المطالب الاجتماعية مثل ازمة السكن وغلاء المعيشة والبطالة، بل هي في جوهرها ترتقي الى حدود المطالب السياسية المتمثلة في التطلع نحو تغيير النظام الإقتصادي - الإجتماعي السائد في إسرائيل. ولهذا وضعت حكومة نتنياهو اليمينية المتطرفة والنيو ليبرالية نفسها أمام أخطر أزمة داخلية منذ تشكلها. ويرى بعض المحللين الإسرائيليين أيضاً أن جذر الأزمة الحالية إنما يكمن في الأموال الطائلة التي تنفق بشكل جنوني على عمليات التوسع الإستيطاني في مختلف أرجاء الضفة الغربية وخصوصًا حول مدينة القدس. ولعل هذا ما دفع قادة المستوطنين الذين يمتصون اموال الرفاه والتطور الاجتماعي الى محاولة الإرتباط ولو بشكل مصطنع مع الحركة الإحتجاجية من اجل الإيحاء بأنهم ليسوا سببًا في إلحاق الضرر بالطبقات المعدومة من المجتمع الإسرائيلي.
على الرغم من كل شيء لا يمكن فصل ما يجري حاليًا في كيان العدو عن جذوره الكامنة في خطة نتنياهو الإقتصادية، التي كان بدأها العام 2003 عندما شغل منصب وزير المالية في حكومة شارون آنذاك، وراح يعمل على تطبيق نظرية «الاقتصاد الليبرالي والاجراءات النيو ليبرالية» الرامية الى خصخصة الاقتصاد الاسرائيلي ولبرلته. وكان نتنياهو في حينه قد تبنى نهج رئيسة وزراء بريطانيا السابقة مارغريت تاتشر النيوليبرالي الذي أدى الى تعميق الفوارق الاجتماعية وتوسيعها، وخصخصة ميزانيات وزارات الخدمات الاجتماعية لمصلحة كبار المتمولين، وذلك على حساب الصحة والمواصلات والتعليم العالي والسلطات المحلية والتقديمات الاجتماعية. لقد أدى هذا النهج الى الامعان في زيادة افقار الفقراء وإغناء الأغنياء عبر تسليم مفاتيح الاقتصاد والقطاعات الاجتماعية والخدماتية العامة الى القطاع الخاص. وهذا يعني في المحصلة انشاء طبقة رأسمالية متوحشة تضم عائلات وشركات معينة تستولي على كامل مقدرات المجتمع، وتتوصل بعدها إلى امتلاك النفوذ الأقوى لجهة التحكم في القرارات السياسية الاستراتيجية، في مقابل تقزيم دور النقابات العمالية والمهنية وتشكيلات المجتمع الاهلي، وفتح الأسواق الاسرائيلية أمام السلع الأجنبية خدمة لمصالحها الخاصة.
والاحتجاجات الشعبية العارمة في معظم المدن الاسرائيلية من الشمال الى الجنوب، تأتي أيضاً نتيجة فشل خطط الهروب الى الامام التي وضعها نتنياهو لإيجاد حلول ظرفية وموضعية، في مقابل أزمة متجذرة ومعاشة داخل القطاعات الشعبية، وتجاهل الحكومات المتعاقبة ما تعانيه هذه القطاعات منذ أكثر من عشرسنوات بسبب عدم الاستقرار السياسي وحالة الركود الاقتصادي وزيادة عدد العاطلين عن العمل ومن هم دون خط الفقر. وكانت الحكومات الاسرائيلية السابقة تتهرب من هذا الواقع عبر التلطي وراء المتطلبات الامنية واستغلال حالة التشرذم السياسي في المجتمع الاسرائيلي. وقد اعتبر البروفسور يوسف زاعيرا أن نتنياهو لن يستجيب لمطالب المحتجين، مشيرًا الى أن طاقم الخبراء الذي ألّفه ما هو سوى مناورة اعلامية لأن مشاكل نتنياهو تقنية قبل أن تكون سياسية، فجميع النخب السياسية والاقتصادية الحالية تؤيد السياسة الاقتصادية القائمة والتي تدعو الى خفض الضرائب عن الأغنياء وتقليص نفقات الحكومة. وبالتالي لا فرق من هذه الناحية بين «الليكود» أو «كديما» أو «حزب العمل»، الأمر الذي ينبىء باحتمال حصول تغييرات مستقبلية على مستوى الحكومة والخريطة السياسية عمومًا مثل احتمال انسحاب «حزب شاس» الديني.
ومن الثوابت الاسرائيلية على مدى العقدين الماضيين أنه في كل مرة تدور فيها المعركة الانتخابية حول الموضوع الاقتصادي الاجتماعي، فإن «الليكود» يكون هو الخاسر دائمًا في حين أنه يربح في حال كانت أولوية الاهتمام تنصب على الموضوع السياسي – الأمني. ومن هذا المنطلق يجري الحديث حاليًا عن مخارج متعددة لمأزق نتنياهو وحكومته مثل صرف انتباه الداخل عن الأزمة المعيشية باتجاه أزمة الصراع مع الفلسطينيين حول اعلان الدولة الفلسطينية العتيدة أو باتجاه التصعيد الأمني على الجبهتين اللبنانية والفلسطينية.
في هذا السياق علّق رئيس أركان الجيش الاسرائيلي بيني غانتس على احتمال التجاوب مع مطالب المحتجين بالقول أمام لجنة الخارجية والأمن التابعة للكنيست: «إن المطالب الشعبية بزيادة الموارد للمواضيع الاجتماعية يمكن أن تضر بقدرات الجيش». وأضاف : «إن تقليص ميزانية الدفاع سيؤدي بالضرورة الى تقليص قدرة الجيش على الرد.... وينبغي الأخذ بالحسبان أننا نعيش في فترة انعدام استقرار ويقين، تجعل المنطقة في حالة خطر شديد». وفي التعليق على ذلك يقول نتنياهو إنه «على الرغم من الاحتجاجات الشعبية فإن تقليص ميزانية الدفاع ليس مدرجًا على جدول الأعمال». ويضيف: «ينبغي الحذر من اطلاق تعابير مبسّطة حول هذا الموضوع». وكتب عاموس هارئيل في «هآرتس» أنه «منذ انتهاء حرب لبنان الثانية والجيش يدير سجالاً متواصلاً مع وزارة المال حول الميزانية» وأشار الى أن الجيش ينغمس في الآونة الأخيرة في المداولات حول خطة «حلاميش» المتعددة السنوات والتي تنطوي على انفاق مبالغ طائلة للتسلح وتعظيم القوة. وما من شك في أن الثورات العربية المتتالية قد ساعدت الجيش في وجهة نظره الداعية إلى التخوف من اضطرابات المنطقة وتداعياتها على أمن اسرائيل وأوضاعها الداخلية، وبالتالي الحفاظ على مستوى الميزانية المرتفع المخصص له. في المقابل رأى شاؤول موفاز رئيس لجنة الخارجية والأمن التابعة للكنيست، أن النفقات الضخمة على المسائل الأمنية والعسكرية قد أدت الى ارهاق الموازنة وتسببت بمشاكل خطيرة أثقلت كاهل الطبقات الضعيفة في المجتمع الاسرائيلي ومن الممكن أن تستمر لعشرات السنين. ونقلت صحيفة «معاريف» عن موفاز تحذيره من أنه «في حال استمرت المواجهة مع الفلسطينيين، فإن حجم الاستثمارات الاسرائيلية في المجال الاستراتيجي وتأمين الحماية للجبهة الداخلية سيتناقص باستمرار». والحديث في رأيه يدور حول مئات المليارات التي ستنفقها اسرائيل خلال السنوات الخمس المقبلة.
الخبراء الاسرائيليون، على ضوء ما تقدم، يطالبون من اجل مواجهة الازمة، ببلورة سلم أولويات اجتماعي جديد يقوم على تقليص الضرائب غير المباشرة، التي أدى رفعها في السنوات الأخيرة الى رفع اسعار المياه والكهرباء والوقود والمواد الغذائية، كما يقوم على الغاء الاعفاءات الضريبية عن الطبقات الثرية، الامر الذي تعترض سبيله عقبات سياسية وحزبية كثيرة.