- En
- Fr
- عربي
إقتصاد ومال
أيام مُثقلة بالقلق على المصير، الحكومة تتلمّس خطواتها باتجاه خطة إنقاذية وسط تحدّيات وصعوبات هائلة.
«الجيش» تقرأ مع الخبير المالي والاقتصادي البروفسور روك - أنطوان مهنّا، (عميد وأستاذ في جامعات فرنسا ومستشار لعدد من المؤسـسات المالية الدولية)، في مفاصل الأزمة الاقتصادية والمالية التي يعيشها لبنان، وتستطلع إمكانات التعامل معها.
ينطلق مهنّا بدايةً من البيان الوزاري لقراءة ملامح الخطّة الإنقاذية التي ستُعتمد لمواجهة الأزمة الاقتصادية والنقدية والمالية الحادّة، فيرى أنّ هذا البيان لم يأتِ على المستوى المطلوب في هذه المرحلة ولم يتضمن خطوات جريئة. فقد أظهر مكامن الخلل في مختلف المجالات المالية والقانونية والاجتماعية والصناعية... من دون تحديد آليات لإصلاح هذا الخلل.
ويضيف: «استند البيان إلى موازنة 2020، التي جاءت خجولة كسابقاتها، ولا تليق بالظرف الحالي، ولم تتضمن أيّ إصلاحات، بل ارتكزت في مقرّراتها على الذهنية الحسابية (حجم الإيرادات وحجم النفقات) وليس على الذهنية الاقتصادية، ما أضعف الموزانة، التي تُعتَبر خارطة طريق عمل الحكومة، والركيزة الأساسية التي تنطلق منها أي خطّة بنيوية».
معضلة الأرقام
ويوضح قائلًا: «خَلَت الموازنة من أيّ خطّة اقتصادية للقطاعات المُنتجة الواعدة، وإنشاء مناطق اقتصادية خاصة بها، فضلًا عن الفرضيات غير الدقيقة والخاطئة لناحية الأرقام. وإضافة إلى خدمة الدين العام جاءت أرقام الرواتب والأجور للقطاع العام ضخمة، أمّا أرقام العجز في فاتورة الكهرباء فوُضِعت خارج الموازنة. كما قُدّرت نسبة الناتج المحلي بـ89 مليار ليرة تقريبًا بمعدل نمو 1,2%، ولكن الواقع أنّنا في معدلات نمو سلبية وانكماشية. نسبة التضخّم قُدّرت بــ2,2%، وهذا غير صحيح في ظل الفلتان الحاصل في أسعار السلع الغذائية. وبلغت كلفة فواتير الكهرباء والاتصالات في الإدارات العامة نحو 33.8 مليار ليرة، وقد اقترحت الموازنة في مجال الاتصالات على سبيل المثال تركيب نظام اتصالات داخلي Avaya في هذه الإدارات، من شأنه الإسهام في تخفيض الفاتورة على المديَين المتوسط والبعيد. لكن في رأينا المطلوب هو خفض الاستهلاك في استعمال الهواتف، وحصرها بالمعنيين وبالحالات الطارئة، أو جمع الإدارات الرسمية في مبانٍ حكومية مركزية، للتخفيض من كلفة الفواتير».
ورأى مهنّا أنّنا نحتاج إلى موازنة تقشّفية وطارئة، تتضمن حلولًا جذرية واستثنائية، منها سياسة ترشيد الإنفاق والحدّ من الهدر (نفقات النقل، المؤتمرات، بعثات دبلوماسية، صيانة، مفروشات مكتبية، تجهيزات إدارية وسيارات خاصة بالرسميين، الهواتف، المرافقين ومخصّصات السفر...)، وكذلك نحتاج إلى إقفال فوري للمجالس والصناديق والإدارات الرديفة، إضافة إلى إصلاح القطاع العام وإعادة هيكلته، إذ إنّه يشكّل ثلاثة أضعاف حجم القطاع العام للدول المماثلة للبنان (لناحية الحجم أو تركيبة الاقتصاد). ولا بدّ برأيه من توزيع الفائض من الموظفين على المراكز الشاغرة في بعض الإدارات، وتفعيل المحاسبة، وزيادة الإنتاجية وتقدير الكفاءات وتشجيعها. وأشار في هذا السياق إلى أنّ «لبنان هو منارة للعلم والكفاءت البشرية، ولكنّ المحسوبيات الطائفية والمحاصَصات السياسية، أفسدت الإدارة العامة وأثقلت كاهل الموازنة».
في المقابل اعتبر مهنّا أنّ من إيجابيات الموازنة شموليّتها، فالإيرادات باتت تصبّ جميعها في صندوق الخزينة الموحّد، بعد أن كانت تصبّ في اللجان المؤقتة للمرافىء أو للاتصالات...
شروط التحوّل إلى الإنتاج
وفي معرض ردّه على سؤال يتعلّق بإمكان تحويل الاقتصاد اللبناني من ريعي إلى منتج، يقول:
«يتطلّب الأمر إصلاحًا جذريًا في قطاع الكهرباء والحدّ من أكلافها، وكذلك أكلاف الإنترنت، فضلًا عن التحفيزات والإعفاءات الخاصة وتوفير بيئة مناسبة لمزاولة العمل بسهولة». وأشار في هذا الإطار إلى دراسة للبنك الدولي أظهرت حجم التعقيدات والأكلاف التي تواجه تأسيس شركات جديدة في لبنان، مؤكدًا أنّ الخطّة الإنقاذية، يجب أن تتضمن تقديم سلّة من التحفيزات والإعفاءات الضريبية ضمن الأطر القانونية، والبدء بخطة إصلاح حقيقي تحفّز النموّ من خلال معرفة الميزة التفاضلية والتنافسية للبنان، وتحديد القطاعات المُنتجة الواعدة. وحدّد في هذا السياق بعض الزراعات كالنبيذ، والتفاح، والزيتون، والعسل، والورد، والأعشاب الطبيّة البريّة، مزارع الفطر ومزارع البزاق، كما أشار إلى أهمية زراعة الكرمة كونها ترتبط بإنتاج النبيذ، منوّهًا بضرورة تشجيع الصناعات المستدامة وتفعيل الاقتصاد الرقمي من خلال تحرير قطاع الاتصالات».
واعتبر مهنّا أنّ لبنان اليوم وسط الانهيار الشامل، والدولة تعاني الاهتراء المزمن، والمرافق والإدارة العامة تُسيّر بذهنية قديمة بالية. ومع غياب الحكومة الإلكترونية والتشريعات المتعلّقة بمكافحة الفساد، والإرادة السياسية للمحاسبة والمساءلة، تُترك أبواب الفساد والهدر مشرّعة على مصراعيها.
مفترق أساسي ومفصلي
ما الذي يمكن عمله لوقف الانهيار؟ يرى مهنّا في هذا السياق أنّ على الحكومة التفرّغ للشقَّين الاقتصادي والمالي فقط، وترك الاستراتيجية السياسية وجدليّاتها إلى مرحلة لاحقة، وإلى حكومة أخرى. واعتبر أنّ الأولوية هي لكيفية معالجة الوضعَين المالي والنقدي، من خلال خطة طوارىء إنقاذية، تتضمن الإصلاحات الضرورية في جميع القطاعات.
في ما يتعلّق بسندات اليورو بوند أكد أنّه كان على لبنان أن يبدأ عملية التفاوض حولها منذ تشرين الثاني الماضي، أما الآن فالأولوية لتأمين كلفة فاتورة الاستيراد المرتفعة، والتي تضمّ مروحة واسعة من السلع الأساسية (القمح، المحروقات، الأدوية، المعدّات الطبيّة، المواد الغذائية، المواد الأوليّة).
وأشار إلى أنّه بإمكان الحكومة إجراء عمليات سواب Swap على الدين الداخلي، علمًا أنّه لم يكن يشكّل عقبة أمام الدولة، لكنّ بيع بعض المصارف اللبنانية لمعظم سنداتها إلى مؤســسة أشمور Ashmore الدولية وغيرها من الصناديق الاستثمارية، عقّد الأمور، فقد تحوّلت النسبة الكبرى من الدين الداخلي في استحقاق آذار إلى دين خارجي.
وعن صعوبة وخطورة اعتماد لبنان لخطة يقدمها صندوق النقد الدولي للخروج من أزمته، أكدّ البرفسور مهنّا أنّ صندوق النقد الدولي كان في الماضي يحمل ما يُسمى بـالوصفة المشتركة Consus Washington إلى الدول التي تحتاج إلى المساعدة المالية (يحقّ للبنان بنحو 9 مليارات دولار وفق الكوتا، وتُقسّم بمعدلّ 3 مليارات عن كل سنة)، ويوعز إليها سلسلة من الإصلاحات أهمها:
خصخصة بعض المرافق أو تطبيق الشراكة معها وفق PPP، زيادة تعرفة الكهرباء، فرض زيادة على صفيحة البنزين، زيادة الرسوم والضرائب خصوصًا ضريبة القيمة المضافة TVA، تحرير سعر الصرف وتخفيض رواتب القطاع العام وحجمه... والإجراء الأخير طُبّق في اليونان، إذ تمّ اقتطاع نحو 33% من الرواتب، ولكنّ تطبيقه في لبنان صعب جدًا نظرًا لتركيبته الطائفية والسياسية.
أمّا اليوم، فقد بات الصندوق يراعي خصوصية كل دولة، وبالتالي على الدولة اللبنانية تحضير نفسها ووضع خارطة طريق اقتصادية ومالية.
من الضروري اللجوء إلى الخصخصة وفق مهنّا، فليس في العالم دولة ما زالت تدير مطارها مثلًا، ولكن قيمة هذه المرافق العامة منخفضة اليوم، وعلينا الانتظار حتى تستقيم الأوضاع المالية في البلد قبل الخصخصة التي يمكن تطبيقها ولكن من باب الشراكة بين القطاعَين العام والخاص PPP.
وهنا أشار إلى نقطة بالغة الأهمية، إذ ذكّر بأنّ لبنان غني جدًا بموجوداته من عقارات ومرافق عامة (المطار، الكازينو، الجمارك، الاتصالات، الكهرباء...)، وعند البدء بتنفيذ عملية الشراكة مع القطاع الخاص، من المهم إتاحة فرصة الاكتتاب أمام اللبنانيين الأفراد بنسبة 60 %، وخصوصًا في القطاعات التي ترتبط بالأمن القومي (الغذاء، الكهرباء، المياه، المطار)، كي لا ننتقل من احتكار عام إلى احتكار خاص.
وقال مهنّا: «من المهم هنا استكمال عمليات الضمّ والفرز للعقارات المملوكة من الدولة، وتشجيع المغتربين على الاستثمار فيها لمدة ثلاث سنوات مثلًا، من خلال حوافز معيّنة، أمّا الأهمّ فهو تطبيق الإصلاحات وإغلاق مكامن الفساد، وإقرار سلسلة من القوانين أبرزها: استقلالية القضاء، الإثراء غير المشروع، استرداد الأموال المنهوبة، تطبيق الحكومة الإلكترونية، استكمال الآليات التنظيمية والتنفيذية لقانون حق الوصول إلى المعلومات».
ماذا عن المصارف؟
إثر بداية الأزمة وصدور التصنيفات الائتمانية المنخفضة للدولة اللبنانية، أصدر حاكم مصرف لبنان تعميمًا يهدف إلى رفع رسملة المصارف بنسبة 20 %، ولكن معظم المصارف لم تلتزم بهذا التعميم. الحكومة أيضًا طلبت من المصارف في بيانها الوزاري زيادة رأسمالها، ولكنّ البيان لم يُشِر إلى الكلمة الذهبية، «من الخارج».
والمطلوب اليوم أن تتمّ زيادة الرسملة من الخارج بإشراف لجنة الرقابة على المصارف وفق عدّة نقاط:
- ضَخّ المساهمين المال من أموالهم الخاصة (علمًا أنّ معظمهم يتلكأ في ذلك).
- بيع استثمارات من صناديق المصارف الخارجية أو من استثماراتها في أصول مختلفة، أو بيع العمليات الخاصة في الخارج.
- إقفال عدد كبير من الفروع المصرفية (في لبنان نحو 1045 فرعًا موزّعة على 65 مصرفًا).
وإذا تعذّر على أي بنك القيام بأحد هذه الإجراءات، من الضروري اللجوء إلى الدمج، علمًا أنّ عمليات الدمج ستكون مكلفة جدًا لناحية صرف الموظفين أو ضمّهم. وفي حال عدم نجاح هذه العمليات، يمكن اتخاذ الإجراءات المماثلة التي قام بها البنك الفيدرالي الأميركي إثر الأزمة المالية العالمية في العام 2008، أي شراء البنك المركزي أسهمًا من المصرف المتعثّر كأحد الشركاء، ولفترة مؤقتة.
واقترح مهنّا تخفيضًا إضافيًا للفوائد حتى لو وصلت إلى ما دون الـ 2% على الدولار، بغية تخفيض كلفة عمل المصارف، مؤكدًا أهمية تشريع عمليات الـكابيتال كونترول Capital Control على الودائع، للحدّ من هروب الأموال إلى الخارج.
... والودائع
هل ودائع اللبنانيين في خطر، ولماذا لا تصارح السلطات النقدية والسياسة اللبنانيين بحقيقة الواقع؟
مع واقع الشحّ في السيولة، من الطبيعي أن تنشأ حالة من الهلع بين اللبنانيين والخوف على ودائعهم وفق مهنا الذي يضيف: «كان من المفترض عند بداية الأزمة وضع خطّة طوارىء تطمئن من خلالها السلطتان السياسية والنقدية الرأي العام اللبناني حول واقع الأمور، وتعلن عن حقيقة الإجراءات المصرفية المتخذة، مع التزام معايير الشفافية والمعاملة بالمثل لجميع الزبائن.
ولكن ما حصل كان عكس ذلك، فسادت حالة من الهلع والفوضى، يرافقها فقدان مطلق للثقة بين المصارف والمودعين، إضافة إلى السحوبات الفردية للزبائن، التي أسهمت في أزمة السيولة».
وأكد مهنّا: «علينا جميعًا التأقلم مع هذه التجربة المماثلة لتجارب حصلت في عدّة دول كاليونان، البرازيل، جامايكا والأرجنتين... والمهمّ العمل وبسرعة على ترميم الثقة بين اللبناني ومصرفه، من خلال ضخّ السيولة بواسطة دعم من مؤسـسات دولية خارجية أو ما شابه، ومن خلال إصلاحات بنيوية. عندها يودع اللبناني أمواله مجدّدًا في المصارف، وتعود الأمور إلى نصابها الصحيح وبشكل تدريجي.
ومن الضروري القيام بإجراءات سريعة وحكيمة، للحدّ من التدهور، لأنّ عامل الوقت يسير ضدّ مصلحة لبنان، وكذلك السعي لوقف الشائعات كـالـحديث عن Haircut وForced Convergen (تحويل الودائع من الدولار إلى الليرة) وغير ذلك...».
وعن قضية الفوضى العارمة في السوق الموازي (السوداء) لسوق الصيارفة أكدّ أنّه ثمّة شبكة من الصيارفة وغيرهم تستفيد من الظرف الراهن. وللحدّ من هذه الظاهرة وضبط عمل الصيارفة يجب البدء بتوسيع هامش سعر الصرف، باعتماد Crawling Band (نظام نقدي غير مثبّت وغير محرّر).
علّ الفينيق يحلّق مجددًا؟
واعتبر أخيرًا أنّنا نحتاج اليوم إلى قرار سياسي استراتيجي حاسم لجذب المساعدات المالية من الدول الخليجية على سبيل المثال، أو إصلاح جدّي بنيوي مدعوم معنويًا من صندوق النقد. وفي المقابل يُمكننا القيام بإصلاحات فردية موافَق عليها دوليًا لإنقاذ الوضع المالي.
وأبرز هذه الإصلاحات في قطاع الكهرباء، إذ يجب إطفاء مولّدات مؤسسة الكهرباء لمدّة سنة، بغية توفير ملياري دولار، والاعتماد على المولّدات الخاصة بإشراف البلديات وإدارتها لضبط العدّادات، واعتماد تجارة حمائية للمنتجات المحلية، وضبط المعابر غير الشرعية والمرافىء، وخفض فاتورة الاستيراد، وإجراء إصلاح شامل للقطاع العام، والعيش بانضباط وتقشّف، علّ طائر الفينيق يحلّق مجدّدًا...
استحقاقات قادمة
يواجه لبنان استحقاقات متتالية تنتهي في العام 2037. فمثلًا قيمة السندات المُستَحقة للعام الحالي هي 4,5 مليار دولار، وفي العام 2021 تبلغ 3,7 مليار دولار، وفي العام 2022 تصل إلى 3،1 مليار دولار.