قضايا إقليمية

العدوان على غزّة وتخبّط العدو الإسرائيلي في اتخاذ قرار
إعداد: إحسان مرتضى
كاتب وباحث في الشؤون الإسرائيلية

بدا العدو الإسرائيلي في الأسابيع والأشهر القليلة الماضية أضعف وأوهن من أي وقت مضى. والخلل الأساسي في هذا السياق يكمن في حجم التناقـضات غير العادية، التي تختزنها في جبهتها الداخلية، الأمر الذي تجلّى في خروج مئات الآلاف من المستوطنين لأشهر عديدة إلى الشوارع لمقاومة الحكومة الأكثر يمينية ودينية في تاريخ إسرائيل. كما بدأ الاقتصاد يعاني، وكذلك أمن الدولة في أعقاب رفض المئات من جنود الاحتياط، بما في ذلك العديد من الطيارين، الخدمة بسبب الغضب من خطط الحكومة الرامية لحماية رئيسها من السقوط والدخول في محاكمة صعبة لتورطه بعدة ملفات فساد وسوء ائتمان. وعلى الأثر بدأت معنويات الجيش بالانهيار وتعرضت فاعليته القتالية للتهديد.

 

ربما أدّت الاضطرابات المتزايدة في الضفة الغربية دورها أيضًا في هذا الإرباك، كما فعلت الهجمات التي نفّذها المستوطنون المتطرفون والمذبحة التي وقعت في بلدة حوارة الفلسطينية، ناهيك عن  انتهاك أكثر من 1500 إسرائيلي، معظمهم من المتدينين القوميين، حرمة المسجد الأقصى للمطالبة بملكيته بمناسبة عيد المظلة اليهودي. وضمن هذه الأجواء كتب رئيس الكنيست السابق أبراهام بورغ ينعى الأيام الأولى لجيل المؤسسين الصهاينة فيقول: «استندت الثورة الصهيونية دائمًا على دعامتين: مسار عادل وقيادة أخلاقية. ولم يعد أي منهما قائمًا الآن. فالدولة الإسرائيلية تقوم اليوم على سقالات من الفساد وعلى أسس من الاضطهاد والظلم... وهناك احتمال فعلي لأن نكون آخر جيل صهيوني. قد تظل الدولة العبرية قائمة هنا، لكنها ستكون من نوع مختلف، غريبة وبشعة... دولة مستوطنات تدار من قبل زمرة لا أخلاقية من منتهكي القانون الفاسدين الذين يصمّون آذانهم إزاء مواطنيهم وأعدائهم على السواء. إنّ دولة تفتقر إلى العدالة لا يمكن أن تبقى على قيد الحياة».

 

علامة فارقة

يصف الصحافي الإسرائيلي ناحوم برنياع يوم 7 تشرين الأول 2023 بأنه "أسوأ يوم في تاريخ الحروب العسكرية التي خاضتها إسرائيل"، واختصر ضابط في جيش الاحتلال مهمته في أعقاب هذه المعركة بالقول: «مطلوب منا إعادة الاعتبار إلى صورتنا أمام الجمهور. علينا إعادة الشرف إلى إسرائيل. ولذلك علينا هزيمة حماس لمرة أخيرة وإلى الأبد». لكن كما هو معلوم: الرغبة شيء والقدرة على سداد الكلفة شيء آخر.

ويلخّص عاموس يادلين، رئيس معهد أبحاث الأمن القومي، فشل نظرية الردع الإسرائيلي في هذا المجال، فيرى أنّ حروب إسرائيل على قطاع غزة لم تُثنِ خصومها عن مواجهتها والاستعداد لمواجهات قادمة، رغم الأفضلية التسليحية والدعم العالمي الواضح لها، ورغم الحصار المفروض منذ سنين على القطاع بأكمله. لكن هذا كله لم يسهم في إقناع خصومها برفع الراية البيضاء والاستسلام لها، لتصبح، وفق الكاتب شاؤول شاي "رادعة ومردوعة".

رغم تفوّق الجيش الإسرائيلي التكنولوجي والاستخباري، الذي ظل يعتبر أساسًا لا يهتز في استراتيجيته العسكرية، غيرّ العدوان على غزّة المعادلات لناحية مفهومَي القوة والضعف ما أدى إلى سلسلة من التساؤلات عن الاستراتيجيات المستقبلية حول الصراع، وكيف ستتطور التوازنات الجديدة التي قد ترسم وجهًا جديدًا للمنطقة برمّتها، بحيث أنّ الارتباك الذي أصاب مؤسسات القرار في كيان العدو، أصبح واضحًا من خلال ترددها وتخبطها بل وفي عجزها عن اتخاذ قرارات استراتيجية مستقلة، لا سيما في ما يتعلّق بالاجتياح البري للقطاع، كما من خلال التورّط بارتكاب عمليات إبادة جماعية هستيرية ضد المدنيين الفلسطينيين تفتقد لأي معيار أخلاقي أو مغزى عسكري أو استراتيجي.

 

سقوط الهيبة ومقولة الردع

في كتاب "الحرب والاستراتيجيا" يوضح الجنرال الإسرائيلي يهوشفاط هركابي "أنّ جوهر الردع هو التهديد من طرف ما بإلحاق ضرر كبير بخصمه إذا اتخذ خطوة عدائية تجاهه، وسيكون الردع فعالًا طالما اعتقد الخصم بأنّ الطرف الذي يهدده يمتلك القوة والقدرة والتصميم والأدوات على تنفيذ تهديده". فالردع وفرض المهابة يُستخدمان للتأثير على قرارات الطرف الخاضع للتهديد ومصالحه الاستراتيجية. وهو ما حاولت إسرائيل القيام به منذ نشأتها ضد كل أعدائها. لكن قوة الردع التي امتلكتها تعرّضت للتآكل والانهيار خلال السنوات السابقة. ما حدا بمجلة دير شبيغل الألمانية الى القول : "إنّ ما حصل مع جيش كان يطلق عليه أقوى جيش في المنطقة، هو عار كبير، وفشل ذريع بدأ من الاستخبارات وعدم توقعها المسبق لما يحصل".

لقد كان العنف يتجدد بين إسرائيل وغزة، وبعد كل مرة كانت إسرائيل تزعم أنّها استعادت قوة الردع، لكن الذي يثبت على الأثر هو فشلها الاستراتيجي وإخفاقها المعنوي بسبب غياب خطة متكاملة ذات أبعاد سياسية، في الوقت الذي يؤدي سقوط المدنيين في القصف الإسرائيلي المتكرر إلى تجذُّر الحقد والكراهية المتراكمة للأجيال المقبلة، ما يدفع بدوره إلى مزيد من العنف وتعقيد القضايا والرغبة في الانتقام.

 

"أرض الميعاد" تفقد جاذبيتها

لقد كانت آلة السيطرة الإسرائيلية المتوحشة على حياة الفلسطينيين في الأراضي المحتلة، تعمل بهدوء حتى 7 تشرين الأول الماضي، مُغرقةً إسرائيل في شعور زائف بالأمان لسنوات طويلة، وذلك في سياق سياسة عنصرية هادفة لتجريف كافة الحقوق السياسية والمدنية والإنسانية للفلسطينيين الذين خضعوا دائمًا للتنكيل والإجراءات التعسفية الحاقدة الرامية إلى طردهم من أرضهم، وإحلال شراذم المستوطنين المستقدمين من أصقاع الدنيا محلهم. لكن ما لبثت أن تهاوت الفرضية القائلة بأنّ احتلال الأراضي الفلسطينية وتصوينها بالجدران العازلة والأنظمة الالكترونية يشكل شبكة أمان للمستوطنين. ولأنّ الأمن أمر جوهري في بنية إسرائيل، بوصفها قادرة على "سحق وردع" كل القوى والجيوش في البيئة المحيطة بها؛ فإنّ الضربة الأخيرة التي تلقتها في الصميم، ستفرغ هذا الأمن من محتواه في أعين سكانها، وتُفقد "أرض الميعاد" جاذبيتها.