قضايا بيئية

تغيّر المناخ: هذا ما فعله الإنسان...
إعداد: باسكال معوّض بو مارون

موجات حر غير مسبوقة في مناطق وبلدان كانت تُصنّف باردة، حرائق هائلة تلتهم مساحات شاسعة يصعُب على الدول المتطورة احتواؤها. فيضانات مدمّرة وسيول تؤدي إلى كوارث بشرية ومادية وتغيّر معالم مدنٍ بأكملها... لقد باتت الأرض عرضة لظواهر مناخية متطرفة، والسبب هو ما يُعرف بالتغيّر المناخي الذي يُنذر بتداعيات خطيرة على البيئة والإنسان.

 

التغيّر المناخي مصطلح بات حاضرًا بقوة، ليس فقط في المؤتمرات العالمية ومراكز الأبحاث المختصة وأوساط العلماء، وإنّما على المستويات كافة، إذ إنّه يُعد القضية الحاسمة في عصرنا بسبب تداعياته الكارثية. فالتأثيرات العالمية لتغيّر المناخ واسعة النطاق ولم يسبق لها مثيل. يُعرّف التغيّر المناخي بكونه اضطرابًا في مناخ الأرض بسبب ارتفاع درجات حرارتها، ويشكّل هذا الارتفاع أوضح انعكاسات التغيّر المناخي وأخطرها، مع حدّة كبيرة في الظواهر الطبيعية، وتدهور مستمر للغطاء النباتي وللتنوّع البيئي.

تكون التحولات طويلة الأجل في درجات الحرارة وأنماط الطقس طبيعية عادة بسبب التغيّرات في نشاط الشمس أو الانفجارات البركانية الكبيرة. إلا أنّه ومنذ القرن التاسع عشر وقيام الثورة الصناعية، أصبحت الأنشطة البشرية تؤدي دور المحرك الرئيسي لتغيّر المناخ بسبب الغازات المنبعثة ومنها الغازات الدفيئة. في العادة تؤدي هذه الغازات دورًا محوريًا في الحفاظ على متوسط درجة حرارة كوكب الأرض، إذ إنّها تمتص الأشعة تحت الحمراء وتعكسها باتجاه الأرض لتسخينها نسبيًا، ولولاها لكانت الأرض باردة جدًا ويستحيل العيش عليها. إلّا أنّ زيادة النشاطات الإنسانية بشكلٍ كبير، وما نتج عنها من انبعاثات خطيرة، أدّى إلى زيادة انبعاث هذه الغازات وبالتالي زيادة تركيز بخار الماء في الغلاف الجوي وكمية الغيوم، ما رفع حرارة الأرض بشكلٍ دراماتيكي.

 

لأسباب الرئيسية

يعرض الدكتور نديم فرج الله، مدير برنامج تغيّر المناخ والبيئة في معهد عصام فارس للسياسات العامة والشؤون الدولية في الجامعة الأميركية في بيروت، العوامل الرئيسية المتسبّبة بالتغيّر المناخي الذي يحصل عالميًا، وأهمها احتراق الوقود الأحفوري الذي يؤدّي إلى انبعاث غازات ثاني أكسيد الكربون والميثان (عوادم السيارات والمصانع)، مشيرًا إلى أنّ صناعة الإسمنت هي ثالث أكبر مصدر لإنتاج ثاني أكسيد الكربون. كما أنّ لاستخدام الأراضي عشوائيًا في الزراعة وإزالة الغابات والزحف العمراني دورًا مهمًا في هذا المجال وكذلك الأمر بالنسبة إلى الثروة الحيوانية المسؤولة عن 18% من انبعاثات الغازات الدفيئة حول العالم."

 

تأثيرات ومخاطر جمّة

نلمس مظاهر التغيرات المناخية في الجفاف الشديد، وندرة المياه، والحرائق الكبيرة، والفيضانات، وذوبان الجليد القطبي، والعواصف الكارثية، وتدهور التنوع البيولوجي. وكذلك في ارتفاع معدّلات مستوى المحيطات (12 سنتم منذ 1880)، ما يهدّد الكثير من المدن الشاطئية بالغرق.

ويقول الدكتور فرج الله "إنّ هذه الظواهر تسبّب بداية انخفاضًا في الإنتاج النباتي والحيواني، إذ تقضي على آلاف الأنواع من النباتات والحيوانات الدقيقة، وهو ما يؤثر على دورة حياة الأرض والتنوع البيئي بشكلٍ عام؛ كما تؤدي إلى انتشار الأمراض والأوبئة البشرية والحيوانية والنباتية، إضافة إلى تدمير المنشآت والبنى التحتية جرّاء ازدياد نسبة حصول هذه الظواهر المتطرّفة (فيضانات، أعاصير...). وهي إضافة لذلك تؤدي إلى ازدياد التوتر السياسي والاجتماعي الناتج عن الصراعات على الموارد الآيلة للزوال خصوصًا المياه والتربة الخصبة، ما يفضي إلى موجات من النزوح."

فالصدمات المناخية والضغوط المتزايدة، مثل تغيّر درجات الحرارة وأنماط هطول الأمطار والجفاف والفيضانات وارتفاع مستويات سطح البحر، تؤدي إلى تدهور على الصعد البيئية والاجتماعية والصحية البدنية والعقلية. وسيؤدي المزيد من التأخير في التصدي لتغيّر المناخ إلى زيادة المخاطر. وقد خلص تقرير التقييم السادس الصادر عن الهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغيّر المناخ (IPCC) إلى أنّ المخاطر المناخية تظهر بوتيرة أسرع وستصبح أكثر حدة في وقت أقرب مما كان متوقعًا في السابق، وسيكون من الصعب التكيّف مع زيادة الاحترار العالمي. ويُظهِر التقرير أيضًا أنّ البلدان منخفضة الدخل والدول النامية تتحمل أقسى الآثار رغم أنّ مساهمتها بالانبعاثات العالمية هي ضئيلة جدًا.

وتمسّ المخاطر الصحية المتأثرة بالمناخ أكثر الفئات ضعفًا وحرمانًا، بما في ذلك النساء والأطفال والأقليات الإثنية والمجتمعات الفقيرة والمهاجرين أو النازحين وكبار السن...

يؤثّر تغيّر المناخ على توافر الأغذية وجودتها وتنوعها، ما يؤدي إلى تفاقم أزمات الغذاء والتغذية. وفي العام 2020، عانى 98 مليون شخص إضافي من انعدام الأمن الغذائي مقارنة بالمتوسط خلال فترة 1981-2010. وتتوقع منظمة الصحة العالمية بشكل متحفظ وقوع 000 250 حالة وفاة إضافية سنويًا بحلول العام 2030 بسبب آثار تغيّر المناخ على أمراض مثل الملاريا والفيضانات الساحلية.

 

ما العمل؟

تواجه الدول تحديات كبرى في مكافحة تداعيات التغيّر المناخي، وهذا ما دعا إلى عقد العديد من المؤتمرات الدولية والقمم منذ منتصف التسعينيات، لكنّ انبعاثات غاز الاحتباس الحراري ما زالت عند مستويات قياسية تدعو إلى القلق. ويلفت الدكتور فرج الله إلى "أنّ المشكلة تكمن في غياب الوعي السياسي والشعبي الذي يتجلّى بعدم إدراج الخطط لمكافحة هذا التغيّر من ضمن استراتيجيات التطوير الاقتصادي، والخفة في التعاطي مع المشكلة في جميع القطاعات الاقتصادية (الزراعة، النقل، الصناعة، الصحة العامة، والسياحة...)، إضافة لضعف أو حتى انعدام التمويل للمشاريع واستراتيجيات التكييف والحدّ من التغيّر المناخي.

ويؤكّد على ضرورة تعزيز التعاون الدولي لمواجهة هذه المشكلة وتنمية القدرات الوطنية، مع رفع درجات الوعي في الإطارين السياسي والمؤسساتي لإدراج قرارات حاسمة في الأجندة الدولية، وتسليط الضوء على أهمية الانخراط في المعاهدات الإقليمية والدولية المتعلّقة بجميع النواحي البيئية للتقيّد بها وتطبيقها، وأهمية تأمين التمويل للمشاريع والإستراتيجيات الهادفة للحدّ من التغيّر المناخي.

بالإضافة إلى ذلك، يجب على الدول تغيير نمط الاستهلاك والتخفيف من إنتاج النفايات، ومن استعمال الوقود الأحفوري بغية التخلص منه ومن مشتقاته، واستبداله بالطاقة المتجددة، والاعتماد على السيارات الكهربائية، والتوجّه نحو الحلول القائمة على الموارد الطبيعية.

في موازاة مسؤولية الحكومات والمنظمات الدولية ثمّة مسؤوليات يتحمّلها الأفراد، فكلنا مسؤول أمام الخطر الذي يهدد البشرية بسبب التغيّر المناخي. وفي هذا السياق يُعدّ التزام بعض السلوكيات في حياتنا اليومية ضروريًا. ويذكر الخبراء مجموعة اقتراحات في هذا السياق:

- استخدموا وسائل النقل العام.

- تشاركوا السيارات مع الآخرين مداورة.

  -اتركوا سياراتكم في المنزل وامشوا أو استخدموا الدراجات الهوائية كلما أمكن ذلك.

- تحولوا إلى مصادر الطاقة النظيفة.  

- أخفضوا التدفئة شتاءً قدر الإمكان وتدفأوا بالبطانيات والوسائل الطبيعية...

- أوقفوا تشغيل الأجهزة والأضواء، في حال عدم استخدامها.

- تجنّبوا هدر الطعام بشراء ما تحتاجونه فقط. وكونوا مبدعين في التعامل مع بقايا الطعام، وشاركوا ما يزيد عن حاجتكم مع الأصدقاء والجيران.

أسرف الإنسان في استنزاف موارد الأرض وفي التعدي على الطبيعة وها هي ترد له الصاع صاعين. فهل يكون الذكاء الاصطناعي مسعفًا له في مواجهة مخاطر التغيّر المناخي؟ يتوقع العلماء أن يكون لهذا الذكاء دور على صعيد التخطيط واستخدام التقنيات وإيجاد الحلول، والرقابة على تنفيذ المهمات بأقل الموارد وبأدنى حد من الانبعاثات. إذًا لا مفر من تخفيض الانبعاثات التي يُخلّفها النشاط الإنساني.

 

3.6 مليار شخص في خطر

وفق تقرير حديث لمنظمة الصحة العالمية، يساهم تغيّر المناخ بشكل مباشر في حدوث حالات الطوارئ الإنسانية الناجمة عن موجات الحر وحرائق الغابات والفيضانات والعواصف الاستوائية والأعاصير التي تتزايد من حيث الحجم والتواتر والشدة.

  ويقول التقرير: "تظهِر الأبحاث أنّ 3.6 مليار شخص يعيشون بالفعل في مناطق شديدة التعرض لتغيّر المناخ. وما بين العامين 2030 و 2050، يُتوقع أن يسبّب تغيّر المناخ نحو 000 250 حالة وفاة إضافية كل سنة بسبب نقص التغذية والملاريا والإسهال والإجهاد الحراري".