متاحف من بلادي

حليم الحاج نحات الوجوه والأفكار والمشاعر...

حديقة منزله متحف ومعرض دائم لروائع أعماله

إنه ابن الجبل اللبناني، يحمل في وجهه ملامحه وفي قلبه حنين الأرض وحبه الكبير لها...
من معبده الفني الذي بناه بسنوات عمره وإبداعه، من قرية بجّة المنحوتة في قلب الجبل بإزميل الخالق المبدع.. حليم الحاج، الفنان ­ النحات، الذي نذر نفسه منذ طفولته للتراث، معتبراً أن التراث هو رمز البقاء والإستمرار، وصلة الوصل بين الماضي والحاضر، تمهيداً للانطلاق نحو المستقبل.
منحوتات من البرونز والرخام والجص، تمثل الإنسان والطبيعة والتراث... أعمال تمثل في جوهرها، التراث الفكري والتاريخي والشعبي والحضاري... وتعبّر أفضل تعبير عن نمط خاص في التعامل مع فن النحت، الذي كرّس له حليم الحاج حياته كلها.
حليم الحاج نحت الحجر إنساناً وأبدع في واقعية أعماله التي أعطاها روحاً من روحه وحياة من حياته لتكون أكثر سمواً. أعماله تخطت حدود الوطن وصنفته واحداً من المبدعين الكبار.
مجلة الجيش زارت متحف حليم الحاج في بجّة، حيث أعماله التي تختصر مسيرته الفنية.

 

تخليداً ووفاءً

في بجّه حيث أبصر النور وعاش، حوّل الفنان حليم الحاج حديقة منزله الى متحف تتوزع في جنباته نماذج من أعماله. وكأنه في إصراره على بقاء منحوتاته هناك، حاول رد الجميل لقرية أغدقت عليه من جمالاتها وإيحاءاتها بسخاء. وبسخاء مماثل، راحت أنامله تدوزن الصخر وتنحت الوجوه والمشاعر. فقد تجاوزت منحوتاته الألف، موزعة في أنحاء مختلفة من لبنان والعالم العربي وبلاد المهجر، وكلها تنطق بقدرته وأصالته وعمق رؤيته وبراعة أنامله.
والفنان حليم الحاج أحد رواد مدرسة الرسم والنحت في لبنان التي كان من أعلامها الأوائل يوسف الحويك وقيصر الجميّل وعمر الأنسي ومصطفى فروخ.. وهو أراد بإنشائه هذا المتحف في قريته بجّة أمرين: أولاً إحياء أعماله الفنية وتخليدها وهو الذي يحتفظ بنماذج عن كل ما صنعته أنامله، وثانياً تعزيز مكانة القرية التي ولد وترعرع فيها والتي أنجبت نخبة من رجال الفكر والشعراء ورجال الدين الفنانين.

 

الحديقة المتحف

تعود فكرة إنشاء المتحف الى العام 1951؛ فبعدما بنى حليم الحاج منزله في قرية بجة، وأنشأ مشغلاً بجواره، بدأ يحتفظ لنفسه بتصاميم التماثيل التي كان يقوم بصنعها لشخصيات سياسية وفكرية أو لأفراد. ومرّت السنوات وهو يسعى من أجل أن ترعى الدولة هذا المتحف وتتبناه، ولكن مسعاه بقي من دون جدوى.
تنقسم أعمال حليم الحاج في متحفه الى أربعة أنواع مختلفة: التماثيل الكاملة، التماثيل النصفية، المنحوتات الناتئة والميداليات. التماثيل الكاملة مصنوعة من الحجر أو البرونز أو الجص أو الرخام، ولقد جارى في نحتها المدرسة الكلاسيكية التي تعتمد المظاهر الواقعية والتوازن في أقسام الأجسام البشرية والحيوانية، وأبرز هذه التماثيل: الانطلاق، الأمومة، الينبوع، الربيع، قدموس والأبجدية، الإنتشار الفينيقي، البحّار الفينيقي.
أما التماثيل النصفية فهي كناية عن مجموعة فيها الكثير من الابتكار، وهي تمثل طائفة من الأدباء والشعراء ورجال الفكر والسياسة. ولكل واحد منهم سمات خاصة غير اعتيادية تظهر في وجهه وعينيه وأنفه وشعره... ومن أبرز الشخصيات التي نحت لها الحاج تماثيل نصفية: مارون عبود، الأخطل الصغير، ديغول، سامي الصلح، إميل البستاني، سعيد عقل، رشيد نخله...
والى جانب التماثيل الكاملة والتماثيل النصفية، نجد المنحوتات الناتئة الشبيهة بالقطع النقدية ومن بينها تلك التي تمثل شارل القرم، وجبران خليل جبران، وريمون إده وسواهم.
أما بالنسبة للميداليات فقد أنجز الحاج العديد منها. بعضها يمثل مشاريع ومنشآت عمرانية، الى قطع من النقود المعدنية للبنان ولبعض الدول العربية.

 

تمثال فخر الدين

وضع حليم الحاج مذكرات تحت عنوان ˜لكل تمثال قصتهŒ، يروي فيها قصة كل تمثال ومراحل انجازه، ومن بينها تمثال الأمير فخر الدين الموجود على مدخل وزارة الدفاع في اليرزة. ويقول الحاج في هذا الإطار أنه نحت التمثال في روما، والى جهده رتب عليه إنجاز العمل كلفة مادية باهظة، حتى أنه تعذّر عليه إيجاد المال اللازم لنقل التمثال الى لبنان. ولو لم تتدخل قيادة الجيش آنذاك وتقوم بنقله على نفقتها، لكان التمثال ما يزال في روما وليس على مدخل وزارة الدفاع.

 

بطريرك الكلاسيكيين

أطلق النقّاد على حليم الحاج لقب بطريرك الكلاسيكيين، ووصفته بعض الصحف بالأكاديمي الجامد، والجاف، وأحياناً بالساذج. ولكنه تجاوز كل هذه الألقاب والنعوت، ماضياً في مسيرته الفنية نحو الأفضل والأجمل والأبقى. إنه فنان آمن بالإنسان والطبيعة، وأخذ عنهما الكثير من أعماله وآثاره. وبتعبير آخر، إنه فنان عفوي لا يحب الإنتماء الآسر ولكنه يعبّر بوضوح، وبواسطة الأشكال الطبيعية، على شيء من التصرّف الشخصي؛ وهذه طريقة من الطرق التي درج عليها الفنانون، منذ غابر الأجيال، كلٌ بأسلوبه الخاص ولمساته المميزة. وهذه الطريقة يضعها النقّاد في إطار المدرسة التقليدية حيناً والكلاسيكية حيناً آخر.
أما حليم الحاج فيقول عن أسلوبه في النحت:
هو بسيط واضح بمدلوله التعبيري، وهذا لا يعني بأنني أنقل الأشياء كما هي، بل إنني أتخذ من الموضوع وسيلة لإبراز مكامن الجمال فيه وبلورتها، متحاشياً الإسفاف والتعقيد. وبانضوائي تحت لواء الواقعية أو الكلاسيكية المتشعبة الطرق الفنية والأساليب، ليس لي نهج موحّد أعبّر به، فطوراً أختصر وأبسّط الأشكال، وتارة أضيف ما أراه مناسباً الموضوع والتأليف. ولا يمكنني الجزم بأن محاولاتي الحاضرة أوصلتني الى غاية ما أصبو إليه، بل لتجاربي وتفتيشاتي الدائمة الكلمة الفصل في المستقبلŒ.
ولا يسهو عن البال أن حليم الحاج هو خرّيج المدرسة الإيطالية، التي خرّجت كبار الفنانين الذين أعطوا العالم من روائع الفن وشوامخ الآثار الباقية ما بقي الزمن. عمل مع يوسف الحويك المتأثر برودان، واقتدى به، ولكن لم يتبع خطواته. فالأعمال التي تركها لنا تحمل لمساته الخاصة.
إن نظرة حليم الى الكون والحياة تطبع أعماله بجمالية إنسانية اجتماعية، إنها جمالية أنيقة بجلالها المتواضع، بعيدة عن كل رأي فلسفي معقّد أو ما ورائي، بل جمالية تلذّ للناظر وتقرّ به أكثر فأكثر من الواقع الذي نعيشه.
وهذه الجمالية عند حليم الحاج تظل مادة خصبة لدراسات متخصصة يقوم بها عارفون في علم الجمال في المستقبل...


حليم الحاج في سطور

ولد حليم الحاج في بجة في العام 1915. تعلّق منذ الصغر بالرسم، فكان يرسم على الحيطان والدفاتر. تلقى دروسه الابتدائية في مدرسة الضيعة، ثم في سيدة ميفوق والأخوة المريميين في جبيل، ولم تكن محاولاته البدائية في الرسم والنحت والقولبة لترضي طموحه الفني، فانتسب في العام 1932 الى مدرسة الصنائع والفنون في بيروت لمدة سنتين حيث تعلّم بعض مبادئ الرسم الصناعي والقولبة.
غير أن الحـدث الأبـرز في حـياته أنه تعـرّف وهو في الثامنة عشرة الى النـحات يوسف الحـويك الذي ضمّه الى مشغله لمعاونته في تنفيذ بعض المنحوتات، استطاع بعدهـا في العام 1947 أن يدخل الأكاديمية اللبنانية للفنـون الجميلة، ويحصل في العام 1949 على منحة حكوميـة، سافـر بعدهـا الى روما ونال دبلوم أكاديمية الفنون الجميلة والكلية الرسمية للميداليات، وتمكـن أثناء وجوده في أوروبا من زيارة أغلب المتاحـف الفنية والأثرية، مما زاده إطلاعاً على أعمال رواد الفن العالميين، وأكسبه ثقافـة عامـة تتوافـق مع طموحه الفني. وفي العام 1952 عاد الى لبنان وأنشأ محترفاً في بيروت وآخر في قريته بجة، وأصبـح أستاذاً للنـحت في الأكاديمية اللبنانية.
اعتباراً من العام 1939 شارك حليم الحاج في العديد من المعارض الدولية والمحلية.
توفي في العام 1990، وفي الوصية التي تركها أن يبقى البيت الذي بناه حجراً حجراً ونصب حواليه الأشجار والمنحوتات... متحفاً دائماً ومدرسة للفن والجمال.