قضايا دولية

إنّها الهند الجديدة...
إعداد: د. هيام كيروز

بدأت ولايته الثانية في 30 أيار 2019، وها هو يخوض الآن غمار ولاية ثالثة بدأت في نيسان الماضي.

ولا شك أنّ الولاية الثالثة سوف تسمح لمودي، إبن بائع الشاي، الآتي من ولاية غوجارات في الغرب، والمتاخمة لباكستان، بالمضي أبعد في برامج تحديث البلاد ورفدها بمقوّمات إمبراطوريّة آسيوية، متّكئًا على ثلاث ركائز: القومية الهندوسية، الليبرالية الاقتصادية والشراكات الدولية، تحديدًا مع الولايات المتحدة الأميركية، وفرنسا، وروسيا.

 

لاعب أساسي على المسرح الدولي

«الهند باتت أكبر من العالم»، قال الكاتب الأرجنتيني خورخي لويس بورخيس (1899-1986) قبل 47 سنة في مجموعته القصصية ALEPH. وهذه المعاينة الاستباقيّة تتجسّد واقعًا اليوم، بعد أن كسب هذا البلد الآسيوي بُعدًا ديبلوماسيًا واستراتيجيًا شاملًا جعل منه لاعبًا أساسيًا على المسرح الدولي.

وقد لفت إلى ذلك وزير الخارجيّة الهندي سوبراماينام جايشانكار، وهو نائب في حزب الشعب الهندي (BJP) الذي يتزعّمه رئيس الوزراء ناريندرا مودي، قائلًا إنّ بلاده «حدّدت لها مهمة الوصول إلى قائمة الدول ذات الوزن الحاسم في قرارات الكرة الأرضية...».

وآخر مثال على ذلك ما حدث في قمّة مجموعة العشرين التي استضافتها العاصمة الهندية في أيلول ٢٠٢٣، وأعلن خلالها رئيس الوزراء مودي، أنّ بلاده أصبحت الأولى في العالم على مستوى الكثافة الديمغرافية، متقدّمة على الصين، ومسجّلةً الرقم 1.4 مليار إنسان. كما أنها تربّعت على الموقع الخامس عالميًا لناحية الاقتصاد، على حساب بريطانيا التي تحكّمت بمفاصلها طوال 250 عامًا.

وقال مودي ساخرًا: «نترك وراءنا من حكمنا 250 سنة، وقد منحناه، على الرغم من هذا الإرث الثقيل، وزيرًا أول، هو ريشي سوناك المتحدّر من أصول هندية...».

 

زعيم لا يلتفت كثيرًا إلى الوراء

تؤكّد مجموعة دراسات صادرة في باريس ولندن ونيودلهي أنّ ناريندرا مودي انتظر هذه اللحظة-الذروة في مسيرة تصاعدية على جميع المستويات الاستراتيجية، وهو الزعيم الشعبي والشعبوي في آن معًا، ليرسم خريطة النفوذ الهندي الجديد الذي صاغه على قاعدة صعود اليمين الهندوسي القومي. وهو سلاحه ومتراسه على الساحة الداخلية، في مواجهة الأقليّة المسلمة التي يبلغ تعدادها نحو 200 مليون نسمة. لكنّ مودي يتريث في هذه المواجهة التي يريدها صقور الهندوس جذرية حاسمة، لأنّ في ذلك حربًا مع الجار الباكستاني النووي. تضاف إلى ذلك معضلة كشمير، وهي المقاطعة الحدودية التي تحتل الهند جزءًا كبيرًا منها عند إعلانها الاستقلال في 15 آب 1947. وقد تسبب هذا الستاتيكو بصدامات عسكرية بين إسلام آباد ونيودلهي، دخلت الصين على خطّها من باب دعمها للحليف الباكستاني ومطالِبة بحصّتها من المقاطعة ذات الموقع الاستراتيجي الحساس.

الذين يعرفون جيدًا ناريندرا مودي يقولون إنّه لا يلتفت كثيرًا إلى الوراء، ولا تدخل في حساباته إعادة أي جزء من جغرافية كشمير إلى الباكستانيين. فهو يحرس الأمر الواقع الذي هو لمصلحة الهند، وقد أقام نوعًا من تسوية الشجعان مع روالبندي، مقر قيادة الجيش والاستخبارات العسكرية الباكستانية، المعروفة بأحرفها الأولى ISI، أي Inter-Services-Intelligence. وهي بأذرعها الطويلة، بمثابة دولة عميقة تصنع الشتاء والصيف معًا في بلد البشتون والبنجابيين ولغة الأوردو والباشتو والسندي. ولذلك ضَمِن رئيس الوزراء الهندي خاصرته الشمالية، مما سمح له بالتفرّغ لمشروعه الأساسي والكبير: الارتقاء في معارج التنمية وتحويل بلاده إلى مصنع العالم ومختبره واحتياط أدمغته ومبتكريه وروّاد الآفاق العلمية الجديدة.

 

غوجارات... منصّة الوثوب

لا شك أنّ مودي يتكئ إلى إرث حضاري عريق. وهو لم ينتظر قمّة العشرين الأخيرة في بلاده كي يندفع في ورشة التطوير والتنوير متعددة الأقطاب. منذ منعطف الاستقلال، تطلّع جواهر آل نهرو (1889-1964) إلى تشكيل مناخ مؤاتٍ للنهوض التنموي وبناء أجيال سلاحها العلم والمعرفة والتكنولوجيا. لكن الفقر والتخلّف كانا في مستوى ارتفاع جبال هملايا، وأعلى قمة فيها وهي إفرست (8.848 مترًا). كذلك اصطدمت أنديرا غاندي (1917-1984) بهذا الواقع الاقتصادي والاجتماعي المأزوم الذي عاند كل الذين تعاقبوا على الحكم بعدها. قد يكون الاستثناء الوحيد في قافلة القادة الهنود هو ناريندرا مودي الذي حكم المقاطعة التي وُلد فيها، وهي غوجارات (Gujarat)، غربي الهند وعاصمتها غانديناغار، وتمرّس بخطط ومنهجيات الحوكمة، وأحاط نفسه بشبكة من الخبراء أصحاب الكفاءات الذين تدرّجوا في الغرب وعملوا فيه لسنوات.

ولاية غوجارات هي إذًا منصّة الوثوب للزعيم القومي الهندوسي، وخطواته الأولى ارتبطت بتطهير عرقي، تواترت وقائعه حتى فترات قريبة، حتى قيل إنّ هذا الإقليم المتاخم لباكستان، وهو خامس أكبر ولاية هندية، يُعتبر أكثر المناطق تعصّبًا للهندوسية. وانطلق من هذا «الانحراف العقائدي» لبناء تنمية شاملة على طريقة حفر الجبل بالإبرة، وحرص أشدّ الحرص على عقد شراكات واتفاقيات مع الدول المتقدمة على مستوى التقنيات والخبرات لكي يقتدي بنماذجها التنموية، ويستلهم خططها ومشاريعها. البداية كانت في أول تشرين الثاني 2006 في تشينزين Shenzhen، وهي مدينة حديثة بأبراجها ومنشآتها، تربط هونغ-كونغ بالقارة الصينية. كان مودي في هذه الفترة وزيرًا أول، وقاد الوفد الهندي، فلم يستقبله أي مسؤول ذي وزن. فهو لم يكن يعتمد على رادار الجار الأصفر الصعب المراس، وإن كانت طموحاته كبيرة جدًا. لكن هذه الرحلة كانت في سياق مساره ومسيرته، بمثابة الصاعق الذي دشّن انعطافة محورية في رؤيته ومشروعه. وقيل يومها إنه أراد زيارة واشنطن، فلم يحصل على تأشيرة دخول. وتردّد كواليس سياسية أنّ العاصمة الفيدرالية عاقبته لدوره في التطهير العرقي في ولايته في العام 2002. الإهانة كانت لاذعة لذلك الذي لم يخفِ يومًا إعجابه بأميركا. وأمام هذا الصدود وهو البراغماتي بقدر ما هو مبدئي، انعطف نحو الشرق، واقترب من بكين، على الرغم من عداوات دفينة وخلافات حدودية... شعاره الضمني هو أنّ «طبق الانتقام يؤكل باردًا».

 

القومية الهندوسية والليبرالية الاقتصادية

عاد مودي من الحواضر الصينية التي تضجّ أبراجًا وجسورًا وطرقات دائرية وسدودًا وقطارات أنفاق وجامعات ومختبرات، بقناعة عميقة: إنّ تحديث بلاده يمرّ حتمًا عبر الليبرالية الاقتصادية. في طريق العودة إلى غوجارات أسرّ إلى مستشاريه أنّ طموحه هو سدّ الفجوة مع المنافس الصيني الجامح، ونموذجه في هذا المجال ليس مدينة شينزين حيث لاحظ أنّ الحزب الشيوعي شديد الحضور، بل سنغافورة التي ألهمت دُبي والدوحة وحواضر خليجية أخرى. فتقرّب من رئيس وزرائها لي كيان يي Lee Kvan Yew الذي هو مهندس ثرائها وازدهارها، ونسج علاقات ودّية معه. هنا يقول كاتب سيرته، إنّ ناريندرا مودي له معلّمان أو مرشدان: في السياسة فينايات سافاركار، مؤسس الإيديولوجية القومية الهندوسية، وفي الاقتصاد الزعيم السنغافوري لي كيان يي. وقد دفعاه إلى تغيير جذري للنسق أو الطريقة التي سارت في حكم الهند منذ استقلالها. فلم يجد لدى أي زعيم سبقه ما يروي غليله. انتقد الاشتراكية الديمقراطية وعلمانية نهرو، ورأى أنّ غاندي كرمز لا يصلح إلا كصورة على أوراق النقد الوطني.

أما أنديرا غاندي، فيثني على سطوتها ونفوذها الصارم، وإن كان لا يفصح عن ذلك علنًا. وهو أراد القفز فوق هذا الإرث لكي يبني أسطورته الخاصة كصانع للهند الجديدة على طريق الخطوة خطوة من دون قفزات في الفراغ.

ما إن دقّ العام 2010، حتى ارتقت مقاطعة غوجارات إلى مرتبة متقدمة في أحضان الشركات الخاصة. وفي مدينة أحمد آباد بالذات التي تتوسطها، جسّد مودي عقيدته السياسية التي توائم وتراوح بين القومية والهندوسية والليبرالية الاقتصادية. كان الأمر بمثابة ثورة كوبرنيكية-انقلابية، خصوصًا وأنّ القطاع العام هيمن دائمًا على الأداء الاقتصادي-الاجتماعي، مع ما اعترى ذلك من فساد وزبائنية وإهدار للموارد والطاقات.

مع النقلة النوعية في المناجم والمصارف إلى خدمات القطاع الثالث، حلّق النمو في غوجارات بجناحين قويين، وسمح للزعيم القومي الهندوسي بأن يقفز إلى الموقع الأول في حزبه BJP على المستوى الوطني في العام 2013. هذا العبور المؤزر، كما وصفه محاضرون في جامعة هارفرد، دفعه في العام 2014 إلى إطاحة حزب «المؤتمر» من الحكم، هو الذي أمسك بالدفّة منذ الاستقلال، وما إن تربّع مودي على القمة كوزيرٍ أول حتى قام بأول زيارة له إلى سنغافورة، لكن هذه المرة لحضور جنازة صانع نهضتها وصائغ ريادتها ومعلمه في الاقتصاد لي كيان يي. في المناسبة التي صادفت يوم 29 آذار 2015، التقى بيل كلينتون، وهنري كيسنجر، ورئيس الوزراء الياباني السابق شينزو آبي Shinzo Abe الذي اغتيل في بلاده في 8 تموز 2022. ورثى صديقه الراحل بطريقة تفاعلية، مؤكدًا أنّه «مفكّر شمولي تلمّس الأمور قبل الآخرين واستشرف أولويات مستقبلية...»

 

الانعطاف نحو الرقمية

ثمّة إجماع في أوساط المراقبين والمعلّقين على أنّ السنوات العشر التي قضاها ناريندرا مودي في قيادة الهند (2014-2024) تميّزت بتنمية اقتصادية مذهلة: فالناتج الوطني الخام (PIB) للبلاد بات متقدّمًا على الناتج الفرنسي، وكذلك البريطاني. وتُومئ التوقعات إلى أنّ نيودلهي مرشّحة لأن تصبح القوة الاقتصادية الثالثة في العالم مع حلول العام 2030، بعد الولايات المتحدة الأميركية والصين.

وإذا كانت النهضة الصينية قامت على التصنيع الشامل في كل أرجاء البلاد، فإنّ القفزة الهندية تأسست على الركائز الرقمية. ومن المراكز التجاريّة الرافلة بلمسات الحداثة في بومباي إلى أحياء الصفيح المحيطة بالعاصمة، فإنّ الهنود يشترون عصير الليمون الحامض أو خلطة بانيبوري Pani Puri الشعبية، عبر تطبيقات هواتفهم النقّالة. ولم يعد خافيًا أنّ الإنجازات في ميادين الفضاء والصناعات العسكرية ومختبرات الأبحاث ومصانع الدواء التي تزوّد أوروبا كزبون أساسي، ويسوّقها هذا الزعيم بلحيته البيضاء ولباسه التقليدي ونظاراته الرفيعة من خلال وكالات إعلامية أميركية. وبعد أن ظهر كرجل تنمية في الولاية الأولى (2014-2019)، وكناسج شراكات واتفاقيات إقليمية ودولية في الولاية الثانية (2019-2024)، فإنه يطرح نفسه كقائد عسكري-استراتيجي في الولاية الثالثة. لذلك يظهر في معظم الأحيان في قمرة قيادة الطائرة القتالية Tejas، وهي من إنتاج الصناعات العسكرية الهندية التي تنافس نظيرتها الصينية والباكستانية والروسية. ويلاحظ المحاضر في المعهد الملكي في لندن، هارتش ف. بانت Harsh v.Pant، أنّ مودي يستقطب في آنٍ معًا ولاء أصحاب الثروات الكبيرة واحترام الذين هم في أسفل الهرم الاجتماعي، وشعبويته تلعب دورًا كبيرًا في الالتفاف حوله. ونادرًا ما حصل إجماع بهذا الشكل حول زعيم هندي، خصوصًا في ظل تنوّع البلاد وفسيفسائها الإثنيّة والدينية والاجتماعية والثقافية. ويصف المحاضر هارتش ف. بانت هذه الحالة بـ «الإنجاز النادر» الذي لم يستطع تحقيقه حتى جواهر آل نهرو، أحد زعماء حركة الاستقلال عن التاج البريطاني.

 

سباق وجودي بين الزعيمين الهندي والصيني

صاغ الزعيم القومي الهندوسي علاقات متوازنة بين موسكو وواشنطن، وعقد شراكات مثمرة مع دول آسيوية مثل اليابان وتايلاند وفيتنام، وحتى مع أفغانستان التي كانت إلى وقت قصير بمثابة الحديقة الخلفية لباكستان، وكذلك مع دول أوروبية، وفي طليعتها فرنسا وألمانيا. وكان ضيف العرض العسكري في جادة الشانزيليزيه بمناسبة العيد الوطني الفرنسي في 14 تموز 2023. وفي 28 كانون الثاني الماضي، كان الرئيس إيمانويل ماكرون ضيف مودي في نيودلهي مع أكثر من مئة رجل أعمال وأقطاب «البيزنس» الفرنسيين. اشترت الهند أسرابًا من مقاتلة Rafale (50 طائرة) و6 غواصات Scorpène وهي من أهم زبائن الصناعات العسكرية الفرنسية. لكن الشوكة الجارحة الباقية في حلق الزعيم الهندي هي علاقته الإشكالية، وعلى حافة الهاوية، مع الصين، منافسته الرئيسية، ومع باكستان، العدو التاريخي منذ زمن الانفصال وإعلان دولة محمد علي جناح، أي الكيان الباكستاني في 15 آب 1947.

ولكي يتحوّط الزعيم الهندي من فورة غضب التنّين الأصفر، اقترب من واشنطن التي تستخدمه بدورها لاحتواء البروز الصيني وترسيخ نفوذه على سطح العالم. وقد جرت عدة وساطات لتدوير الزوايا في هذا الخلاف المستدام، فشلت كلها، والسبب الأول هو الصراع للسيطرة على القارة الآسيوية. ولا مجال لأي مهادنة في عملية ليّ الذراع بين العملاقين. وكان مودي قد انتظر قمّة مجموعة العشرين التي استضافتها بلاده في أيلول الماضي، لكنّ الزعيم الصيني شي جينبينغ  Xi Jinping تغيّب عنها من دون أن يقدّم أي عذر، وحلّ مكانه رئيس الوزراء لي كيانغ Li Qiang.

كانت خيبة مودي ظاهرة، إذ أراد تسجيل هدفين في مرمى بكين: الأول؛ الحصول على توافق المشاركين حول قضايا شائكة، مثل حرب أوكرانيا واحترار المناخ، والثاني؛ الظهور بمظهر الزعيم الآسيوي الرقم واحد، متقدمًا على القطب الصيني.

تتمتّع الهند اليوم بصورة أفضل من تلك التي تعكسها الصين، وفق مقولة أو رأي فيليب لو كورن  Philippe Le corne الباحث في معهد IRIS الفرنسي. فالاقتصاد الهندي ينمو سنويًا بنسبة 7 في المئة، مقابل 3 في المئة للاقتصاد الصيني. ولأول مرة منذ منتصف القرن الثامن عشر، تتجاوز الهند ديمغرافيًا الجار الصيني وكلاهما فوق 1.4 مليار نسمة. إلا أنّ بكين أقوى اقتصاديًا في المحصلة العامة، بعد الأخذ في الاعتبار كل المؤشرات والمعايير، والسباق الذي يخوضه مودي ينحصر في هذا الإطار بالذات. ومن المتوقّع أن يحتدم في ولايته الحالية، وهو يتكئ إلى مقومات ومكوّنات تفتقر إليها الصين التي تتعثر في أكثر من مجال.

 

الجيش الأصفر يسجل نقاطًا

لم ينحصر التنافس بين شي ومودي في إطار مزاحمة المال والأعمال فقط، بل انتقل إلى الميدان العسكري، وتمثّل في مواجهات دمويّة في بعض الأحيان. ولم يشفع في ذلك أنّ مودي قام بخمس زيارات إلى بكين بين 2014-2019. وقد أجّجت جائحة كوفيد التي انطلقت من الصين وأحدثت محرقة بشرية في الهند، الخلاف بين الجارين اللدودين. وفي 15 حزيران 2020، حدثت مواجهة مسلّحة بينهما في وادي غالوان Galwan، في قلب جبال الهملايا، وكشفت عن خلافات حدودية. جرت بعد ذلك مناوشات عسكرية، خصوصًا في كانون الأول 2022 في شمالي شرقي الهند حيث قضم الجيش الصيني نحو 2000 كيلومتر مربّع من الأراضي الهندية. تدخّل مودي ببراغماتيته في ظل توازن قوى ليس في مصلحته، وطرح إمكان تبادل أراضٍ مع الجار العنيد الذي رفض العرض، ووصفه بـ «المفخّخ». وردّ مودي على هذا الموقف بنشر خرائط تشدّد على هنديّة الأرض المتنازع عليها.

هذا التباين العميق أطلق حرب المخابرات بين الجهاز الصيني الخارجي غوامبو Guoanbu وجهاز راو Raw الهندي الخارجي أيضًا. ساحة هذه المنازلة كانت إيران ودول خليجية وأفريقية، وصولًا إلى أفغانستان ودول أخرى في مربّعات آسيا الصغرى. واللافت أنّ التنين الصيني يتصرّف دومًا مع الهند بفوقية وغطرسة على أساس أنّ ميزانيته العسكرية تبلغ ثلاثة أضعاف ميزانية خصمه الهندي.

لكنّ مودي ليس الرجل الذي يرفع الراية البيضاء، ولا يساوم على خط الحدود وفق أحد المحاضرين في جامعة جواهر آل نهرو في نيودلهي، لذلك ارتمى في الحضن الأميركي. وفي حزيران الماضي، استقبلته واشنطن كحليف موثوق ومَدّته بمنظومات السلاح النوعي والمتطوّر، ما أثار غضب بكين. لكن من الصعب جدًا أن يلجأ الطرفان إلى الحرب، فقد تنحصر المنافسة في إطار استراتيجي عام. وتبقى نيودلهي في عيون الحزب الشيوعي الصيني كتحدٍ كبير لطموحاتها التوسّعية.

 

تحوّلات الجيش الهندي

عكف ناريندرا مودي على تحديث الآلة العسكرية الهندية لزيادة فعاليّتها والاستجابة للتحدّيات التي تطرحها منطقة تغلي بالتناقضات العرقية والدينية، وتعاني منذ الأزل حساسيات المصالح والفقر والانفجار الديمغرافي. ولعلّ الدور الأول لجيش المليون جندي هو تأمين الوحدة الجغرافية لـ «القارة» الهندية مترامية الأطراف. وهي أشبه بموزاييك شعوب وأديان وأعراق، يمكن أن تتعرض في أي لحظة لتشقّقات وانسلاخات وعمليات تمرّد. من هنا، المهمة الأولى للجيش الهندي هي الحفاظ على الوحدة الجغرافية والاستقلال والاستعداد الدائم لدرء أي طارئ صيني أو باكستاني. هذه الجهوزيّة تستلزم تجديدًا في العمق لكل القطاعات الدفاعية، الأمر الذي التزم رئيس الوزراء تحقيقه، مخصّصًا له ميزانية كبيرة، في تعاون وثيق مع روسيا وفرنسا والولايات المتحدة الأميركية.

يعود الجنود بالذاكرة إلى خريف 2022، حيث المشهديّة غذّت المشاعر الوطنية وألهبت حماسة القومية الهندوسية بشكل خاص. فأمام نحو 400 ضابط بالزي الأبيض، وعلى إيقاع الموسيقى العسكرية، دشّن مودي أول حاملة طائرات Vikrant، أي الظافر Victorieux، من تصميم وإنتاج هندي. وقد دام تصنيعها 13 عامًا، وتستطيع استيعاب 1700 بحّار و30 مقاتلة على متنها. معمودية النار هذه حظيت بتسويق إعلامي واسع، وكشفت أنّ الهند ليست فقط قوّة نوويّة، بل أيضًا بحريّة، يمكنها أن تجوب بحار العالم وتقوم بإنزال قوات دفاعًا عن مصالحها.

ومنذ فترة، أطلق الزعيم الهندي بناء حاملة طائرات ثانية، والتزم تزويد بحريّة بلاده 160 سفينة حرب جديدة قبل العام 2030، مجسّدًا وعدًا قطعه عند وصوله إلى الحكم: خلْق صناعات دفاعية تستجيب لطموحاته الجيوسياسية والاستراتيجية، ورفد جيشه بسلاح «صُنع في الهند». ولا شك أنّه يمضي في هذا الطريق، على قاعدة تعزيز وضعية الجيش إن من ناحية التدريب العملاني، أو على مستوى الراتب والتقديمات الأخرى. وبذلك ضمن الجيش إلى جانبه، وأبعده عن منزلق الحالة الباكستانية أو البنغالية، حيث أصحاب الخوذات والبزّات المرقّطة يشكّلون دولة داخل الدولة ويهدّدون بالانقلابات العسكرية.

وقد أُعجب مودي بشخصية رئيس الأركان بيبن راوات Bipin Rawat الذي أصيب بجروح بليغة خلال مواجهات سابقة مع الجيش الباكستاني، وحرص على أن يكون وريثه في الحكم بعد الولاية الثانية عام 2029. لكن هذا الأخير وافته المنيّة في كانون الأول 2021، في حادث طوافة عسكرية من صنع روسي. لذلك صمّم على تصنيع طوافات محلية وفق التقنيات الأميركية والفرنسية لضمان سلامة جنوده.

 

غزو الفضاء

اللافت أنّ 50 ألف جندي جديد ينضمّون كل عام إلى صفوف القوات المسلحة الهندية. الحافز على هذه الظاهرة هو مستوى التقديمات التي ترافق التطوّع في الجنديّة. وتبلغ ميزانية الدفاع 72 مليار يورو، نصفها يغطي الرواتب ونفقات التقاعد والطبابة والتعليم والسكن. وهاجس رئيس الوزراء هو الإسراع في ورشة التحديث لردم الهوّة مع الجيش الصيني. كما أنّه رصد مؤخّرًا خطّة استثمار لامست 250 مليار دولار تغطي 10 سنوات، لكي يلحق بالجيش الصيني ويكسب أحدث التكنولوجيا العسكرية من مصادر أوروبية – أميركية – إسرائيلية – روسية. وكان الكونغرس الأميركي، وبطلب من البيت الأبيض، قد أصدر مجموعة قوانين تسمح بتصدير أعتدة حسّاسة إلى الهند، هي عادة محصورة بالحلفاء الموثوقين.

بموجب هذا الامتياز، حصلت نيودلهي على 30 مسيّرة انقضاضية من فئة MQ-9 Reaper، بفاتورة 3 مليارات دولار، مع توطين تقنيات هذه الطائرة لديها. بهذه الطريقة، تمكّنت الهند من بناء مصنع لمحركات الطائرات في مدينة بانغالوز Bangaloze. وتنسحب هذه المعادلة بدورها على التعاون العسكري مع فرنسا.

يرمي مودي إلى استبدال الميغ الروسية المتقادمة بأخرى فرنسية حديثة من طراز رافال Rafale. وكشفت تقارير عسكرية بريطانية أنّ نيودلهي تمتلك 165 رأسًا نووية. وهي لم توقّع على اتفاقية عدم انتشار هذا السلاح. وأشارت إلى أنّ الرجل القوي في البلاد لا يريد فقط أن يخطب الشركاء ودّه بسبب دفتر الشيكات، بل يلمّح إلى تعزيز الدفاع في المجمّع العسكري-الصناعي الهندي، وسط الإصرار على توطين التكنولوجيا، وليس فقط استهلاكها. بدأ هذا المجمّع بتقديم جزء من إنتاجه، متجاوزًا رقم المليار يورو في السنة.

ومنذ عدة أشهر، باعت الهند إلى الفيليبين بطاريات صواريخ Brahmos، وإلى برمانيا مجموعة رادارات وطوربيدات، كذلك سونارات مستعملة تكشف ما يجري تحت الماء بالتموّجات الصوتية. وفي آب الماضي، أصبحت الهند رابع دولة تهبط بنجاح على سطح القمر، فيما يشهد برنامجها الفضائي نقلة نوعيّة عبر المركبة المأهولة تشاندريان 3. علّق مودي: «هذه صرخة انتصار لـ «هند جديدة». إنّها أيام تاريخية».

في 26 أيار 2014، أقسم ناريندرا مودي Narendra Modi (72 عامًا) اليمين كرئيس لوزراء الهند، لولاية تستمر خمس سنوات، وحمل الرقم 14 في مسلسل رؤساء الحكومات الذين تعاقبوا في نيودلهي منذ الاستقلال عن التاج البريطاني، في 15 آب 1947.

 

المراجع:

1-Christophe Jaffrelot: L’inde de Modi: National - Populisme et Démocratie ethnique 2019- Fayard

2-Gilles Boquérat: L’Inde d’aujourd’hui en 100 questions – Tallandier 2021

3-Olivier Da Lage: L’inde, un géant fragile, atouts et handicaps d’une superpuissance en devenir. EYROLLES – IRIS

4-Géopolitique de L’Inde - Revue Hérodote. No 173 – 2019

5-مواقع إلكترونية مختلفة