- En
- Fr
- عربي
تحت الضوء
شهدت المبادلات التجارية اللبنانية مع الخارج تحوّلات كان لها تأثير عميق على هيكلية التجارة وعلى مستوى عجز الميزانين: الميزان التجاري وميزان المدفوعات. وقد بدأ هذا التحوّل يظهر بشدّة منذ بداية الحرب السورية وتداعياتها، بالإضافة إلى تأثيرات أخرى على الأسواق اللبنانية.
مؤثرات وتقلبات وكلفة إقليمية
أدّت عدّة عوامل اقتصادية وسياسية ومالية وإقليمية إلى تدهور هيكلية الميزان التجاري وميزان المدفوعات في لبنان. فقد تقلّبت أسعار المشتقات النفطية التي تُراوح حصتها بين 23 و32 % من مجمل الاستيراد، ويراوح سعر الوحدة النفطية بين 50 و52 دولارًا أميركيًا. أي أنّ الفاتورة النفطية هي بحدود 5 إلى 6 مليار دولار من ضمنها حاجات كهرباء لبنان. أما هيكلية الاستيراد فتأثرت بالأزمة السورية ابتداءً من العام 2011. وقد أثّرت الزيادة في عدد النازحين على الاستيراد لجهة:
• المواد الاستهلاكية الأولية التي ازداد حجمها بنسبة 6 إلى 7% سنويًا رغم تردي النمو في الاقتصاد اللبناني. ويُلاحظ أنّ زيادة الاستيراد تتركز على المواد الاستهلاكية الأساسية في حين يتراجع استيراد المنتجات الفاخرة. والدليل على ذلك مؤشر استيراد السيارات الخاصة التي تراجعت قيمة استيرادها من 2 مليار دولار سنة 2010 إلى 1.5 مليار دولار سنة 2014 وتدهورت تدريجًا حتى نهاية العام المنصرم.
• حاجات الأسواق السورية عبر المرافئ والحدود اللبنانية التي تنامى حجمها، خصوصًا بعد فرض حظر الاستيراد المباشر إلى سوريا للكثير من السلع الاستهلاكية والوسيطة الضرورية للصناعات السورية. وبالتالي بات هناك استيراد لبناني مخصص للسوق السورية الداخلية التي تؤمن مشترياتها عبر المرافئ اللبنانية. وذلك لأسباب لوجستية مع صعوبة تنقل الشاحنات داخل الأراضي السورية، أو بسبب العقوبات التي فرضها المجتمع الدولي على التصدير إلى سوريا.
تقلّبات أسعار الصرف العالمية
لا تتأثر فاتورة الاستيراد فقط بالطلب بل أيضًا بأسعار صرف العملات الأجنبية. وتحسُّن سعر صرف الدولار الأميركي انعكس تراجعًا في فاتورة الاستيراد. على سبيل المثال تراجعت قيمة الاستيراد في الفترة الممتدة من كانون الثاني حتى تشرين الأول من سنة 2019 بنسبة 3% مقارنة بالفترة نفسها للسنة السابقة، فيما ازداد حجمها بنسبة 25%.
التباطؤ الاقتصادي الداخلي وفي بلدان الاستيراد
بشكل عام انخفض النمو الاقتصادي في لبنان تدريجًا من 10.5% في العام 2008 إلى حوالى 0.9% في العام 2011 ليقارب الـ 0% في العام 2019، ومن المتوقع أن يكون سلبيًا في العام 2020.
فضلًا عن ذلك، عادت مؤشرات التضخّم إلى الارتفاع منذ العام 2018، وهي وصلت إلى نحو 9% مع بداية العام 2020، وعادت أسعار النفط العالمية إلى منحاها التصاعدي وكذلك أسعار صرف العملات الأجنبية، وهذا ما ينعكس على كلفة الاستيراد كما على الأسعار في السوق الداخلي.
الاستيراد والتصدير
سجّل إجمالي الاستيراد حتى تاريخ تشرين الثاني 2019 مبلغًا وقدره 17,894 مليون د.أ. (وزارة المالية، 2019). يستورد لبنان جميع احتياجاته تقريبًا بما في ذلك الاحتياجات الرئيسية. ويتوزّع باقي الاستيراد بين احتياجات ومنتجات أخرى مثل التغذية (منتجات الألبان والنشاء والطحين وغيرها، والزيوت والألومنيوم والحديد والأثاث والورق والأجهزة الطبية ومنتجات السيراميك والأخشاب).
أمّا بالنسبة إلى التصدير، فيشكّل الذّهب والألماس المصنوع من الأحجار الكريمة والمعادن أكبر نسبة من صادرات لبنان. يتبعها سلع مثل محركات الطائرات والحرّاقات والآلات والأجهزة الميكانيكية والمعدات الكهربائية والبلاستيك وغيرها.
والجدير ذكره أن معظم صادرات لبنان تتوزّع في الدرجة الأولى على: سويسرا (28%)، الإمارات العربية المتّحدة (12%)، المملكة العربية السعودية (7%)، سوريا (5%) والعراق (4%).
تراجع التصدير في لبنان
تراجعت قيمة الصادرات بشكل ملحوظ في السنوات الأخيرة. فبعد أن وصلت إلى حوالى 4.5 مليار د.أ. في العام 2012 عادت لتتراجع إلى 3.3 مليار د.أ. في العام 2014 وإلى 2.9 مليار د.أ. في العام 2019.
يعود هذا التّراجع إلى عدّة أسباب أبرزها اندلاع الحرب السورية في 2011 وتدهور الوضع الأمني في مناطق حيوية لتجارة لبنان، ممّا أدّى إلى إقفال المعابر البرية نحو الأردن والعراق في وجه الشاحنات اللبنانية العابرة نحو الأسواق العربية وبخاصةٍ دول الخليج التي تُعتبر الأسواق الرئيسية للصادرات اللبنانية. بالمقابل، حاولت الدولة اللبنانية تأمين قسم من النقل بحرًا لكن هذه المسارات تعتبر عالية الكلفة وتتطلب فترات طويلة للنقل وتفتقد الانتظام مما يمنع عددًا كبيرًا من الزبائن من تبني هذا الخيار.
وقد أدّى تراجع أسعار النفط وتباطؤ الاقتصاد في دول الخليج نتيجة الأزمات الأمنية وحروب اليمن وسوريا والعراق وبدرجة أقل البحرين، وارتفاع الإنفاق العسكري للعمليات الحربية، إلى تراجع الطلب على المنتجات اللبنانية أو المستوردة من لبنان في بلدان الخليج.
نضيف إلى ذلك الاستثمارات التي يطلبها التأقلم مع التطورات التقنية المتسارعة وهي ضعيفة معطوفة على تدنّي استثمارات اللبنانيين المقيمين والمغتربين الاقتصادية في الداخل، ما أدّى إلى تراجع القدرة التنافسية للسلع اللبنانية والقيمة المضافة للسلع التقليدية والخفيفة التي لم تتأقلم مع مواصفات الجودة الحديثة. وإذا ما أخذنا بعين الاعتبار ضعف الاستثمار في التطوّرات التقنية والتكنولوجية، فاليوم لبنان لا يواجه منافسة حادّة في التجارة مع البلدان الآسيوية فحسب، بل منافسة مع دول الخليج التي تمكّنت من تحسين قدراتها الإنتاجية واستفادتها من الدعم المقدّم للمنتجين المحليين. كما أنّ لارتفاع أسعار كلفة السلع نتيجة تردي البنى التحتية أيضًا دور مهم في تدني الصادرات اللبنانية.
أخيرًا، تراجعت رغبة المستوردين الخارجين عن الارتباط مع الشركات اللبنانية خوفًا من عدم قدرتها على تأمين وصول السلع بشكل منتظم وغير مكلف. ولا تقتصر هذه المخاوف على الأسواق العربية بل تتعداها إلى الأسواق الأخرى.
اختلالات الميزان التجاري
توسّع العجز في الميزان التجاري اللبناني في السنوات الأخيرة مع ارتفاع وتيرة الاستيراد وضعف الصادرات اللبنانية، التي لم تعد تغطّي نسبة 16% من مجموع الاستيراد في حين كانت هذه النسبة تتخطى 23% سنة 2007. كان العجز التجاري على مدى السنوات العشر الماضية (2010 – 2019) يراوح بين 20% و25% وبلغ 14.5 مليار دولار سنة 2019. هذا المستوى مقلق وبخاصة في ظل الركود الاقتصادي العميق وتراجع الاستثمارات وغياب التدفقات السياحية. هو مقلق بشكلٍ خاص في ظل انحسار التحويلات الخارجية إذ إنّ صافي التحويلات لم يتخطّ ما قدره 1.5 مليار د.أ. في سنة 2019 أي 2.6% من الناتج المحلي القائم والتي لم تعد كافية لتغطية عجز الميزان التجاري. بالإضافة إلى ما تقدّم، يسجل ميزان المدفوعات عجوزات متتالية منذ العام 2011 وقد وصل هذا العجز إلى 4 مليار دولار سنة 2019.
إعادة التوازن للميزان التجاري
هناك عدّة سبل يمكن اعتمادها لإعادة التوازن للميزان التجاري، منها ما هو مرتبط بقطاع النفط والطاقة، ومنها ما يتمّ من خلال دعم الإنتاج المحلي.
أولًا، إعادة التوازن تبدأ بخفض الفاتورة النفطية اللبنانية وهذه ترتبط بقدرة شركة كهرباء لبنان على تحسين إنتاجها أو استعمال الغاز السائل أو الطبيعي في معامل الإنتاج الأساسية التي تُعتبر أكثر توفيرًا للطاقة من المصادر الكهربائية العاملة على المازوت أو على المشتقات الثقيلة. لذلك، فإنّ إنتاج الطاقة من المعامل، إضافة إلى إنتاج الطاقة المستدامة، يمكن أن يحلّ محلّ الإنتاج من المولدات الصغيرة الخاصة التي تعمل على المازوت والتي تستهلك كميات كبيرة منه.
ثانيًا، إطلاق الطاقة الإنتاجية للبلاد وبخاصة في مجال المواد الغذائية والمشروبات، وهذا يقتضي إصلاحات جوهرية هيكلية تتطلب وقتًا والتزامًا ورؤيا متوسطة إلى طويلة الأجل، منها: إزالة العوائق أمام الأعمال وتخفيض أكلافها، تحسين الحوكمة في الإدارات الحكومية، الاستثمار في البنى التحتية الميسرة مثل الطرقات ودعم التدريب المهني.
التدابير الأخرى تشمل الاستفادة من الانتشار اللبناني في الخارج لتقوية الطلب على السلع والخدمات اللبنانية وخصوصًا في دول الانتشار الجديد مثل العراق والمغرب والجزائر والسودان، والتوجّه نحو الخدمات التقنية والفكرية والمنتجات الثقافية، فلبنان يتمتّع بطاقات تنافسية كبيرة وبعلاقات مميّزة تساعد في بنائها الجاليات في بلدان الانتشار حيث تتمتّع بسمعة جيدة وتفرض نفسها.
تدبير آخر يرتكز على تطوير الشروط الداخلية لتطوير هذه القطاعات الواعدة ومنها تأمين إطار محفّز للاستثمار وإعادة الإنتاجية للمؤسسات العامة والخاصة كافة، مما يؤمن أداء سياسيًا ومؤسساتيًا أفضل ويسهّل آليات التصدير ومساربه. وأخيرًا، يجب تحسين الأطر القانونية وحكم القانون بما يسهّل تطوير الأعمال والصناعات، والاستفادة من الديبلوماسية الاقتصادية والتواصل مع الملحقين الاقتصاديين اللبنانيين في الخارج، فمن مهماتهم استكشاف أسواق جديدة للمنتجات اللبنانية والتواصل مع الجهات المعنية في لبنان.
تجربة اليونان
ألغت اليونان ما كان يمثل عجزًا كبيرًا في الحساب الجاري بين العامين 2007 و 2016. رغم ذلك، لم ترتكز هذه النتيجة على آلية مستدامة لحل هذه الأزمة الاقتصادية. والسبب هو أنّ العجز تمّ تخفيضه من خلال تقليص الاستيراد في اليونان، وليس من خلال دعم التصدير وزيادته ، ما أدى إلى انخفاض كبير في الناتج المحلي الإجمالي. عادةً تُعتمد هذه الآلية، أي تخفيض الاستيراد، لتخفيض العجز التجاري عندما يعكس ارتفاع الاستيراد ازدهارًا اقتصاديًا غير مستدام.
بلغت الفجوة في الإنتاج في اليونان 8.9% في العام 2007 بناءً على أحدث البيانات الصادرة عن منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (OECD). من الناحية المثالية، كانت اليونان قد خفّضت الاستيراد في هذه العملية وخفّفت فجوة الإنتاج إلى 0%. بدلاً من ذلك، انهار الإنتاج الاقتصادي إلى مستوى أقل بكثير، ووصلت الفجوة إلى 11.8% في العام 2016.
المرجع: معهد بيترسون للاقتصاد الدولي (2017)
تجربة فنزويلا
خفّضت الحكومة الفنزويلية استيرادها بنسبة 70% وجعلت مدفوعات ديونها الخارجية أولوية على الرغم من النقص المزمن في المنتجات. ورغم انخفاض عائدات النفط، تمكّنت فنزويلا من دفع 17 مليار دولار من الديون الخارجية وبناء 360 ألف منزل جديد في مشروع الإسكان الحكومي في العام 2016 وذلك بسبب تخفيض نفقاتها المخصصة للاستيراد.
لكن فنزويلا التي يبلغ عدد سكانها 30 مليون نسمة تعاني نقصًا في جميع المنتجات في السوق، كما أنّ المواد الغذائية الأساسية والأدوية وغيرها من المنتجات تعاني نقصًا بسبب هذا التدبير. وبالتالي تقوم الحكومة بتخصيص عملات أجنبية للواردات لتحرير الموارد التي تسمح لها بمواصلة التزاماتها الخارجية (ديونها الخارجية) مع تجاهل احتياجات السوق.
ما زال الناتج المحلي الإجمالي في فنزويلا ينخفض بسبب استخدامها للعملات الأجنبية المخصصة للاستيراد لسداد دينها الخارجي، لكن التدابير تلك لم تنجح لأنّ الاقتصاد الفنزويلي في حالة ركود منذ العام 2014.
المرجع: Moody's Analytics, 2018 - Brookings, 2018
شارك في إعداد الإحصاءات فريق عمل معهد باسل فليحان المالي والاقتصادي مشكورًا.