- En
- Fr
- عربي
الحـرب علـى غـزة إفراط في العنف وفشل في السياسة
المقدمة
يختلف الخبراء الاستراتيجيون والعسكريون حول اعتبار القتال الذي جرى بين إسرائيل و«حماس» بين 27 كانون الأول /ديسمبر العام 2008 و18 كانون الثاني/يناير العام 2009 حرباً أم أنه فورة من جملة فورات العنف التي شهدها عقد كامل من المواجهات بين إسرائيل والفلسطينيين. لكن، من وجهة نظرنا، تستأهل هذه المواجهة أن نطلق عليها تسمية حرب إسرائيل على غزة. وهي تشكّل أول مواجهة عسكرية واسعة بين إسرائيل و«حماس»، كما تشكِّل محطة لدراسة تطوُّر القدرات العسكرية بعد الحرب التي خاضتها إسرائيل ضد حزب الله العام 2006.
سنحاول أن نستعرض ونحلِّل مراحل الحرب وطرائق القتال من أجل استخلاص المتغيِّرات التي طرأت على العقيدة القتالية والتكتية الإسرائيليتين، وبالتالي استنتاج الدروس المستفادة منها والتي يمكن تطبيقها في حرب «اللاتماثل» Asymmetric War. ومن الطبيعي أيضاً أن نقيِّم الموقف الإستراتيجي الإسرائيلي في الصراع العسكري المتواصل، ومدى تطبيق القيادات الإسرائيلية لمبادئ نظرية الحرب ومبادئ الإستراتيجية الكبرى، والتي فشلت إسرائيل في اعتمادها في الحرب على لبنان العام 2006.
نواجه هنا الصعوبة نفسها التي واجهناها في تحليلنا للحرب على لبنان العام 2006، حيث لم تقدِّم «حماس» أيّ معلومات ذات قيمة حول ما جرى في القتال، مكتفية بإعلان جملة مواقف أيديولوجية ودعائية. ولمواجهة هذا النقص في المعلومات، كان لا بدّ من الاستناد إلى المعلومات التي تضمَّنتها الدراسات الغربية والإسرائيلية القائمة على التقارير والتحقيقات المستقاة من الجانب الإسرائيلي. واللافت في الأمر أنه لا تتوافر وجهة نظر إسرائيلية واحدة، بل هناك عدة وجهات نظر متعارضة حول الحرب. وهنا لا بد من تسجيل حالة من الغموض بالإضافة إلى مواقف سياسية حاولت التغطية (أو التبرير) على مجريات الحرب وخصوصاً لجهة استهداف المدنيين الفلسطينيين، أو لجهة مخالفة قوانين الحرب. لقد جهد تقرير لجنة غولدستون من أجل كشف هذا الجانب المظلم من مجريات الحرب[1].
يبدو بوضوح أن وقف النار الذي أعلن في 17 كانون الثاني/يناير العام 2009 لا يسمح بتحديد الجهة التي ربحت الحرب، ولكن يمكن اعتبار هذه الأخيرة نقطة انتقال إلى مرحلة جديدة من المواجهة المستمرة، وإنما بوتيرة أدنى وأقل كثافة في مستوى العمليات الإسرائيلية ضد القطاع، مع استمرار الحصار البري والبحري القائم. إن الأمر متروك للتطوُّرات السياسية والعسكرية اللاحقة لتحديد الجهة التي خرجت منتصرة من هذه الحرب بين إسرائيل و«حماس».
لا بدّ من لفت النظر إلى أننا لن نسعى في تحليلنا مجريات الحرب إلى الخروج بأحكام أخلاقية أو قانونية حول السلوكية الإسرائيلية في إدارة الحرب أو في تنفيذها على الأرض، بل سيتركَّز اهتمامنا على الطريقة التي خاض بها الطرفان هذه الحرب غير التقليدية، وعلى مدى إدراك الطرفين، الإسرائيلي والفلسطيني، وإدراك الدول الأخرى الأبعاد الإستراتيجية المترتِّبة عليها، مع الأخذ بالاعتبار تأثيرات الحرب على المدنيين.
أثبت تحرُّك الرأي العام العربي والدولي، وأيضاً الشرعية الدولية (من خلال تقرير لجنة غولدستون)، أنه لم يعد بإمكان إسرائيل تجاوز قوانين الحرب من خلال استهداف السكان والمؤسسات المدنية من دون أن تواجه الإدانة الدولية، ومن دون أن يواجه قياديوها خطر الاعتقال والمثول أمام المحاكم الدولية. أثبتت حرب إسرائيل على غزة بأن البعد القانوني والأخلاقي للحرب قد تحوّل إلى سلاح أساسي في تقييم الربح والخسارة في حرب «اللاتماثل» Asymmetric War.
كان من الواضح جداً أن إسرائيل قد لجأت منذ بداية الحرب إلى استعمال قدراتها الناريَّة بشكل مفرط، كما استعملت أسلحة تحرّمها الأعراف والاتفاقيات الدولية. لقد كانت تريد حسم المعركة في وقت مبكر فاعتقدت بأن اللجوء المفرط إلى العنف سيؤدي إلى هذا الحسم المنشود. استعملت القوات الإسرائيلية قدراتها النارية ضد مجموعة من الأهداف المدنية كالمدارس والمستشفيات ودور العبادة، كما قصفت الأحياء السكنية في مدينة غزة المكتظَّة بالسكان مسبِّبة قتل وجرح آلاف المدنيين بالإضافة إلى تهجير عشرات الآلاف منهم. أما في مجال استعمال الأسلحة والذخائر المحرَّمة فقد لجأت إسرائيل إلى قذائف الفوسفور الأبيض المحرَّم استعماله ضد المدنيين، في حين يُسمح باستعماله ضد أهداف عسكرية أو من أجل خلق سواتر دخانية. كما استعملت ذخائر «بي هايف» المحرّمة بموجب الاتفاقيات الدولية.
إن الإدعاء بأن طبيعة الحرب تجعلها فعلاً غير أخلاقي لا يبرِّر استهداف المدنيين أو استعمال فائض القوة الذي يملكه أحد الأطراف بشكل مفرط بهدف إنزال أكبر قدر من الخسائر في جانب الطرف الآخر.
من هنا تظهر أهمية دراسة وتحليل مجريات العمليات في «حرب غزة» بما يسمح أن يدرك الطرفان الفلسطيني والإسرائيلي الأسباب التي حركَّت الشعوب الأخرى لإدانة الحرب والمطالبة بوقفها. وترتب على هذا الإدراك الشعبي العام لطبيعة الحرب وجوب تعيين لجنة غولدستون الدولية للتحقيق في التجاوزات التي ارتكبت في أثناء العمليات. في مثل هذه الحرب غير التقليدية يضطلع العامل السياسي وقطاع الإعلام بدور كبير في رسم الصورة النهائية لنتائجها، وهي تتعدَّى ما تُحقِّقه عادة مفاعيل الأعمال العسكرية الصرفة.
تبقى حرب «اللاتماثل» ضمن تصنيف الحرب المحدودة والتي تسمح للمتحاربين بالحفاظ على بقائهما، حيث يمكن للطرف الأضعف الاحتماء ضمن التجمعات المدنية وبالتالي تجنب الدخول في مواجهة حاسمة مع الطرف الأقوى. إذا كانت إسرائيل قد شنَّت الحرب من أجل وقف القصف على مستعمراتها وتجمعاتها السكانية، «وهذا يشكل هدفاً إستراتيجياً، ولكن النجاحات التكتيكية التي حقِّقتها لا تبرِّر الخسائر السياسية الكبيرة التي واجهتها في نهاية الحرب»[2].
التحضير للحرب
لم تبدأ «الحرب على غزة» في 27 كانون أول/ديسمبر 2008، ولكنها جاءت كنتيجة طبيعية للصراع المستمر بين الفلسطينيين وإسرائيل. ويمكن اعتبارها حصيلة تداعيات فشل اتفاقيات أوسلو لمقايضة الأرض بالسلام. وكانت زيارة شارون للمسجد الأقصى العام 2000 قد ألهبت مشاعر الفلسطينيين ما أدى إلى انطلاق الانتفاضة الثانية التي اتخذت طابع المواجهة المسلَّحة. وهي أيضاً نتيجة مباشرة لنمو «حماس» ومعارضتها لمشروع السلام الذي تدعو إليه «فتح» ومنظمة التحرير، ونشوء صراع سياسي بين «فتح» و«حماس» تحوّل في ما بعد إلى مواجهة عسكرية بينهما وذلك على خلفية الصراع على السلطة بعدما حقَّقت «حماس» نجاحاً كاسحاً في الانتخابات التشريعية، ولم يُسمح لحكومة «حماس» التي تشكَّلت نتيجة هذه الانتخابات ممارسة السلطة ما دفع «حماس» إلى استعمال قدراتها العسكرية ضد «فتح» وقوات السلطة والانتصار عليها، وبالتالي التفرُّد في ممارسة السلطة في قطاع غزة وذلك في حزيران/يونيو 2007.
بعد سيطرة «حماس» على غزَّة كان على إسرائيل أن تواجه وضعاً جديداً ونوعاً آخر من التهديد خصوصاً بعدما كانت قد فشلت في تحقيق انتصار عسكري في الحرب التي خاضتها ضد حزب الله في لبنان. لذا ردَّت على سيطرة «حماس» على القطاع بفرض حالة حصار كامل عليه وتحويله بالتالي إلى سجن لمليون ونصف فلسطيني. وبالفعل تحوّل سكان غزة إلى رهائن للصراع بين «حماس» وإسرائيل.
قرَّرت «حماس» التحضير لرد عسكري لكسر حالة الحصار فبدأت بالفعل بتهريب السلاح إلى داخل القطاع عبر الأنفاق أو عن طريق البحر، كما شرعت في تصنيع بعض الأسلحة والذخائر محلياً، وحاولت تقليد النظام العسكري الذي اعتمده «حزب الله» سواء لجهة إنشاء تحصينات أو ملاجئ وأنفاق داخل القطاع.
في المقابل، كانت القيادة الإسرائيلية تجري الاستعدادات اللازمة لاستيعاب الدروس المستقاة من حربها مع «حزب الله»، وتستعجل إجراء الإصلاحات اللازمة تحضيراً لمواجهة «حماس» في غزة.
بعد مناوشات بين إسرائيل «حماس» دامت أشهراً عديدة قرَّر الطرفان في 18 حزيران/يونيو 2008 إعلان هدنة لمدة ستة أشهر اعتباراً من 19 حزيران /يونيو، كان الجانب المصري قد اضطلع بدور أساسي في التوصُّل إلى هذه الهدنة. ولكن هذه لم تأتِ بالنتائج التي توخَّتها «حماس» لجهة فك الحصار عن القطاع، ما دفع قيادتها إلى إعلان عدم رغبتها في تجديد وقف إطلاق النار. وربط بعض المحللين الإسرائيليين هذه الرغبة بحصول «حماس» على ترسانة كبيرة من الأسلحة والصواريخ التي باتت تهدِّد تجمعات سكانية كبرى داخل إسرائيل بما فيها عسقلان وأطراف ريهوفات.
إنطلقت شرارة الحرب نتيجة غارة إسرائيلية قتل من جرَّائها ستة مقاتلين من «حماس» داخل القطاع في تشرين الثاني/نوفمبر العام 2008. وردّت «حماس» بهجمات صاروخية كثيفة (بلغت 190 صاروخاً في شهر تشرين الثاني/نوفمبر)، وأطلقت بتاريخ 21 كانون أول/ديسمبر سبعين صاروخاً باتجاه إسرائيل مع إعلان استعدادها لتمديد وقف النار إذا التزمت إسرائيل التهدئة، وقرَّرت وقف هجماتها على القطاع.
يبدو بوضوح أن «حماس» لم تقرأ بعناية ردود الفعل «المحتملة» للقيادة الإسرائيلية، ولم تُصغِ إلى التحذيرات المصرية من مغبّة الاستمرار في العمليات العسكرية التي ستؤدي في نهاية المطاف إلى حرب واسعة. وشهدت هذه التحذيرات حملة من الإدانات العربية كان أبرزها إدانة أمين عام حزب الله السيد حسن نصر الله الموقف المصري، والتي وصلت إلى اتهام الحكومة المصرية «بأنها شريك في الجريمة». وهكذا، يمكن القول إن «حماس» قد فشلت، على غرار ما فعله حزب الله في تموز/يوليو 2006، في قراءة نيّات العدو الذي تواجهه وقدراته.
بدأت إسرائيل هجومها العسكري على قطاع غزة، والذي سُمِّيَ «الرصاص المصبوب» في 27 كانون الأول/ديسمبر العام 2008، بعد استكمال الاستعدادات اللازمة كلها، وبعد قيام «حماس» بهجوم صاروخي كبير باتجاه جنوب إسرائيل[3].
لقد بدأت «حماس» الحرب وهي الطرف الأضعف حيث اقتصرت عملياتها على إطلاق الصواريخ القصيرة المدى باتجاه التجمُّعات السكانية داخل إسرائيل، وبقيت قدراتها العسكرية الأخرى محدودة جداً بالمقارنة مع القدرات التي توافرت لحزب الله في أثناء حرب تموز/يوليو 2006. كان بإمكانها الهروب من قدرات إسرائيل على حسم القتال من خلال الاحتماء وراء التجمعات المدنية الكثيفة داخل غزة، الأمر الذي قامت به بالفعل لتحمي قياداتها ومنشآتها ضد الهجمات الإسرائيلية الجوية والبرية والبحرية.
في المقابل، دخلت إسرائيل الحرب بقدرات جوية وبرية وبحرية متفوِّقة، بالإضافة إلى استعمالها التكنولوجيا المتطوِّرة من أجل مفاجأة «حماس»، وتخفيف خسائرها البشرية والمادية، وإنزال أكبر قدر من الخسائر، وفي أقصر وقت ممكن، في الجانب الفلسطيني، وذلك بغية تحقيق ما يطلق عليه الأميركيون «الصدمة والرعب».
حرب بأهداف غامضة وقيادة منقسمة
يركِّز أي تحليل للحرب على إجراء قراءة موضوعية للأهداف الإستراتيجية التي سعت إسرائيل إلى تحقيقها من بدء الحرب حتى نهايتها. قالت القيادات الإسرائيلية إن مخططات الحرب تقوم على شنِّ هجوم جوي يتبعه هجوم بري–جوي لإضعاف «حماس» وتأمين مناطق شمال قطاع غزة، بالإضافة إلى إقفال خط فيلادلفيا وتأمين الحدود مع مصر. ولم يتضمَّن مخطط الحرب أي نيّة لاحتلال أجزاء من قطاع غزة ولا أي طموحات لتدمير «حماس» أو قواتها العسكرية، أو أي نوايا لإعادة السلطة الفلسطينية إلى القطاع.
تحدَّثت وسائل الإعلام وبعض مؤسسات الدراسات في بداية الحرب عن وجود أهداف أكثر طموحاً لدى القيادة الإسرائيلية، معتبرة أنَّها تتضمَّن أربع مراحل تهدف الأخيرتان منها إلى تدمير «حماس» وبنيتها العسكرية، وإلى إعادة السلطة الفلسطينية إلى قطاع غزة. ويبدو من بعض التصريحات أن مثل هذه الطموحات كانت موجودة لدى بعض القيادات الإسرائيلية ولكنه جرى التراجع عنها لأسباب عديدة منها: أولاً، سيتطلَّب تحقيقها جهداً عسكرياً مكثفاً قد يتسبَّب بخسائر فادحة في صفوف المدنيين كما في صفوف القوات المهاجمة، ثانياً، يتطلَّب إعادة السلطة وتمكينها من السيطرة على القطاع احتلال أجزاء كبيرة منه لفترة عدة أشهر، وذلك بسبب ضعف السلطة وقدراتها المحدودة على فرض سيطرتها الأمنية، وثالثاً، ستكون إسرائيل مسؤولة عن حدود القطاع الجنوبية مع مصر، وهو أمر لا ترغب به إسرائيل، ورابعاً، سيؤدي اعتماد مثل هذا المخطَّط الطموح جداً إلى ردود فعل عربية ودولية قوية، وإلى إمكان توجيه إدانة دولية للعمل الإسرائيلي مع كل ما يمكن أن يتسبَّب ذلك من إحراج للسلطة الأميركية.
لم يرغب القادة الإسرائيليون، على ما يبدو من تصريحاتهم، باعتماد هذا المستوى من التصعيد القتالي على أمل أن يتحقَّق بفعل «الصدمة والرعب» وقف سريع لإطلاق النار يحقق قطع كل طرق تهريب السلاح باتجاه القطاع، وأن تتحمَّل الحكومة المصرية أعباء دور أمني فاعل في جنوب القطاع، بالإضافة إلى تسهيل إمكان عودة السلطة الفلسطينية إلى ممارسة دورها الأمني في القطاع، وذلك من بوابة اعتبارها المسؤولة لتلقي كل المساعدات الخارجية والاضطلاع بعمليات إعادة بناء ما هدّمته الحرب.
هناك توافق عام بين القيادات المدنيَّة الإسرائيلية والعديد من المحلِّلين حول ما واجهته الإستراتيجية الإسرائيلية الكبرى من تعقيدات في أثناء الحرب على غزَّة وأبرز وجوهها يتلخَّص بما يأتي:
- 1 - كان الهدف الرئيس الذي طمحت إسرائيل إلى تحقيقه يتمحور حول ضرورة استعادة الجيش الإسرائيلي عامل الردع ليثبتَ بالتالي لحزب الله وسوريا وإيران مدى الخطر الذي ستواجهه إذا ما حاولت استدراج إسرائيل إلى حرب محدودة من نوع حرب «اللاتماثل» على غرار ما حدث العام 2006. كانت «حماس» وقطاع غزة هدفين للحرب، ولكن استعادة عامل الردع شكّلت هدفاً موازياً للهدف الأول، وهذا ما أبرز ضرورة القيام بعملية عسكرية سريعة وقاسية تدفع من خلالها «حماس» أعلى الخسائر بالأرواح، فيما يتحمَّل الجيش الإسرائيلي أدنى الخسائر الممكنة.
- 2 - لم يكن لدى القيادة الإسرائيلية أي خطة أو تطمينات تشير إلى أن القيادة المصرية ستقوم بفرض حزام أمني على الحدود مع قطاع غزة عند بدء العمليات العسكرية، وهي خطوة مهمة لفرض حالة من الضعف على «حماس» طوال فترة الحرب، وخصوصاً في مجال الاتصال الخارجي مع وسائل الإعلام العربية والدولية من أجل شن حملة إعلامية لإدانة إسرائيل، الأمر الذي يسمح لها باستغلال إعلامها الخاص وصداقاتها في الإعلام الدولي من أجل تحميل «حماس» مسؤولية اندلاع الحرب، وتحقيق أهداف الإستراتيجية الإسرائيلية الكبرى في نهاية الحرب. في الواقع لم يعطِ أي من قادة إسرائيل مؤشرات واضحة عن الأهداف الإستراتيجية الإسرائيلية طوال فترة الحرب ما أوحى للمحللين بأن إسرائيل قد عادت لتكرّر الأخطاء نفسها التي سبقت وارتكبتها في حرب تموز/يوليو 2006 ضد حزب الله، حيث غابت الغاية السياسية من شن الحرب.
- 3 - هناك توافق عام على وجود خلافات أساسية بين رئيس الحكومة أولمرت ووزير الدفاع باراك ووزيرة الخارجية ليفني حول طول فترة الحرب، وطبيعة الجهد الدبلوماسي وأولويته، وحول القبول بوقف النار وشروطه. وكان من الواضح أن وزير الدفاع يرغب بالتوصل إلى وقف لإطلاق النار مباشرة بعد أن تحقق القوات الإسرائيلية بعض المكاسب الواضحة على الأرض، بينما كانت وزيرة الخارجية ترغب في قبول وقف النار عندما تحقق المكاسب الدبلوماسية التي تسمح بإعلانه. وكان رئيس الحكومة يرى أنه لا بد من الاستمرار في القتال إلى حين إنهاك قدرات «حماس» العسكرية وإضعافها إلى أدنى مستوى ممكن، وذلك بهدف استدراج بعض الدول وعلى رأسها مصر للاضطلاع بدور بنَّاء وفاعل في فرض نظام أمني جديد في غزة[4]. ويبدو من التحليلات التي نشرت عن الحرب أنه لم تتوافر للقيادة الإسرائيلية رؤية واضحة حول الأهداف الإستراتيجية التي سعت فعلياً لتحقيقها من خلال خوضها الحرب. كما يرى هؤلاء أنه لم تتوافر لـ «حماس» رؤية واضحة عن ما كانت تريد تحقيقه من دفعها بالأمور نحو الحرب. لم يكن لدى أي من الطرفين المتحاربين خيارات واضحة وحاسمة عند بدء الحرب، وبالتالي فإن الطرفين قد سعيا إلى تحقيق مكاسب بالنقاط بدل البحث عن تحقيق انتصار واضح.
مرحلة الهجوم الجوي الإسرائيلي
إمتدَّت مرحلة الهجوم الجوي أسبوعاً كاملاً من 27 كانون أول/ديسمبر 2008 ولغاية 3 كانون الثاني/يناير 2009. وضعت إسرائيل مخططاً للحرب مع التأكيد على الاستفادة القصوى من الدروس التي تلقَّنتها من الحرب على لبنان. وكان قد سبق الحرب على غزة مجموعة من التمارين والمناورات العسكرية هدفت إلى التأكد من إمكان تفادي المصاعب والتعقيدات كلها التي واجهتها في جنوب لبنان، كما أعادت تنظيم قياداتها وفق متطلبات وطبيعة الأعمال العسكرية التي تفرضها حرب «اللاتماثل».
وكان التركيز الأساسي قد انصبّ على ضرورة تحقيق المفاجأة وخداع «حماس» من خلال الحفاظ على سرية الخطة لجهة أهدافها وتوقيتها ودور القوى المشاركة فيها على حد سواء. كما قرَّرت عدم تغطية وسائل الإعلام المحلية والدولية أخبار العمليات، ومنعت أفراد الوحدات جميعها التي شاركت في العملية من حمل هواتفهم الخلوية إلى ميدان المعركة.
نجحت خطة الخداع الإسرائيلية في فرض ستار كثيف من السريّة، ومنعت بالتالي إمكان حصول «حماس» على أي إنذار قبل إطلاق موجة الهجوم الجوي الأولى. وقضت هذه الخطة بالإبقاء على المأذونيات للعسكريين، وعدم إلغاء بعض النشاطات الاحتفالية، وقيام قيادات عسكرية بزيارة المناطق القريبة من حدود غزة، كما سمحت بذهاب وزيرة الخارجية بزيارة رسمية إلى مصر. وحدَّدت إسرائيل توقيت انطلاق الهجوم الساعة 11:30 يوم عطلة السبت، ومسار الهجوم من الغرب ومن خلال الممر الجوي الخاص بالرحلات الجوية المدنية.
لم تتوافر تقارير حول دقة المعلومات التي حصلت عليها القوات الجوية الإسرائيلية عن مختلف الأهداف التي قصفت، لكن يمكن من خلال مراجعة عدد الأهداف التي جرى قصفها خلال عدة أسابيع ونوعيتها الاستنتاج أن بنك المعلومات الذي استعملته إسرائيل قد احتوى معلومات وافرة سواء من خلال المعلومات المجمَّعة الكترونياً وخصوصاً من خلال رصد الاتصالات في غزة أو من خلال العملاء المزروعين في القطاع. ويفيد بعض التقارير بأن جهاز الاستخبارات الداخلي «شين بيت» قد ساهم بصورة فعلية في تزويد القوات الجوية لائحة الأهداف الواسعة التي يملكها. وكانت هذه القوات قد لجأت أيضاً إلى استعمال طائرات من دون طيار من أجل تدقيق المعلومات حول بعض الأهداف أو من أجل اعتلام أهداف جديدة.
تحدَّثت مصادر إسرائيلية مطَّلعة عن أن لائحة الأهداف التي خطَّطت القوات الجوية لضربها قد تضمَّنت 603 أهداف أساسية، وتكون بذلك قد حضّرت لضرب كل أهداف منظمة «حماس» والمؤسسات العامة الأخرى[5].
لكن على الرغم من وجود لائحة الأهداف الفضفاضة فإن القيادات الإسرائيلية كانت تدرك سلفاً بأنه لن يكون بمقدورها تدمير «حماس»، وبأن إضعافها سيتطلَّب زيادة القصف الجوي واستمراره لعدة أسابيع. كما أنها قد سلَّمت منذ البداية، وانطلاقاً من تجربتها مع حزب الله العام 2006، بأنه لن يكون بإمكانها وقف إطلاق صواريخ وقذائف هاون باتجاه بعض المستعمرات الإسرائيلية، وبأن على فرق الدفاع المدني القيام بواجبها في تخفيف آثار القصف ومفاعيله على السكان المدنيين. من خلال هذه المقاربة الواقعية فقد استطاعت القوات الجوية أن تحافظ على تركيزها على ضرب أهداف «حماس» الأساسية من دون إضاعة الجهد في البحث عن انتصارات وهمية.
لكن، وعلى عكس ما ورد في بعض الدراسات التي وضعت حول العمليات الجوية الإسرائيلية، لم تبذل إسرائيل الجهود المطلوبة لتخفيف الخسائر بين المدنيين الفلسطينيين، كما أنها قد قامت بضرب مجموعة من الأهداف الإنسانية كالمستشفيات والمدارس وأيضاً بعض الأهداف ذات الطبيعة الدينية كالمساجد والكنائس. ويبدو أن بعض مؤسسات الدراسات والباحثين المحترمين أمثال كوردسمان قد وقعوا ضحية الكذب الإسرائيلي في محاولة إقناعهم بحرص إسرائيل على العمل لتخفيف عدد الإصابات بين المدنيين.
استعملت إسرائيل أسطولها الجوي بحرية كاملة بسبب عدم توافر أسلحة مضادة للطائرات لدى «حماس». واستطاعت من خلال مقاتلاتها المتطوِّرة واستعمالها الذخائر الذكيَّة من النيل من الأهداف بشكل مباشر وكامل. وكانت تحمّل الطائرات حمولة كاملة من الذخائر بحيث يمكنها تنفيذ القصف ضد عدة أهداف في كل طلعة جوية.
استعملت القوات الجوية قنابل 500 رطل و250 رطلاً بالإضافة إلى صواريخ ذات دقة عالية ضد الملاجئ والأنفاق. واستعملت قنابل 500 رطل JDAM ضد الأنفاق، وذلك ضمن محاولة للتخفيف من استعمال قنابل ضخمة كما جرت العادة في لبنان في عمليات تدمير الملاجئ والأنفاق.
لا يمكن لأحد أن ينكر لجوء إسرائيل إلى استعمال قوة نيرانها في رمايات شلٍّ بهدف تجميد الحركة بصورة كاملة على جبهة معيّنة، وذلك لمنع مقاتلي «حماس» من التحرك والاقتراب من القوات الإسرائيلية ومفاجأتها على غرار ما كان يفعله حزب الله في حرب 2006. لم تهتم إسرائيل في استعمالها كثافة النيران بمستوى الخسائر التي تسبَّبت بها في الممتلكات أو في أرواح السكان المدنيين. ولم تصدر معلومات رسمية حول عدد الطلعات التي نفَّذتها طائراتها، مع أنها قد استعملت في غارات «الصدم والرعب» الأولى 88 طائرة مقاتلة بالإضافة إلى عدد من الطوافات المسلحة.
لم تُقدِّم قيادة القوات الجوية الإسرائيلية جردة بعدد الأهداف التي هاجمتها ونوعيتها، كما أنها لم تقدّم تقييماً لنتائج القصف الجوي المباغت الذي نفَّذته في اليوم الأول للهجوم، والذي شمل ما يقارب 150 هدفاً، فيما تحدثت المعلومات عن أن عدد الأهداف التي هاجمتها في اليوم الثاني قد بلغ 90 هدفاً، وتراوح عدد الأهداف في الأيام اللاحقة من الحرب ما بين 40 و70 هدفاً في اليوم. واستعملت إسرائيل أكبر كمية من الذخائر الذكية حيث كانت تحمل كل طائرة شاركت في القصف من 4 إلى 6 قنابل ذكية.
وفق تقييم بعض قيادات القوات الجوية الإسرائيلية كانت الأيام الثلاثة الأولى للهجوم الجوي كافية لتحقيق جميع الأهداف المرسومة لها، وقد حقَّقت بذلك أضراراً كبيرة في بنية «حماس» العسكرية والقيادية. وذهب مرجع إسرائيلي رفيع المستوى إلى توصيف نتائج المفاجأة التي حقَّقتها الغارات الجوية الأولى إلى حد القول: «بدأ الهجوم يوم السبت الساعة الحادية عشرة والنصف وكان يمكن إنهاؤه في الحادية عشرة وأربعين دقيقة». لقد كانت المفاجأة كاملة، ما سمح بأخذ «حماس» على حين غرَّة، وفي حالة انكشاف وتعرض كاملين.
وشبَّه قائد إسرائيلي مفاعيل المفاجأة والصدمة بتلك التي حدثت في بداية حرب 1967 واعتبر أن القوات الجوية قد حقَّقت نتائج حاسمة خلال أربع دقائق من بداية الهجوم. وبعد ذلك توزَّعت قوات «حماس» ما فتح المجال للقوات الجوية لمهاجمة البنى الأساسية لـ «حماس»، ومن أبرز الأهداف:
- القدرات الصناعية، ومختلف المشاغل الصناعية التي تديرها «حماس».
- المخازن العسكرية وغير العسكرية.
- مراكز إطلاق الصواريخ، ومخابئها تحت الأرض.
- البنى التحتية الأساسية.
- الأنفاق والملاجئ والبنى المحصَّنة تحت الأرض.
- مراكز قيادة «حماس» ومنازل قادتها.
- قوات «حماس» وملاحقة تحركاتها بالقصف المستمر.
إدَّعت مصادر من القوات الجوية بأن عملياتها قد دمَّرت الأهداف جميعها، والبالغة 603 أهداف، التي تضمَّنتها الخطة الأساسية خلال 3 إلى 4 أيام من بداية القصف. ولكن تصريحات الناطق الرسمي باسم الجيش الإسرائيلي قد جاءت أكثر تواضعاً حيث ذكرت أن الأهداف التي دُمِّرت خلال الأيام الأربعة الأولى للهجوم قد بلغت 450 هدفاً، وأن الموجة الأولى قد شملت 88 طائرة، والهجوم شمل مئة هدف، وأن فترة القصف لم تتعدَّ 220 ثانية. أما لجهة عدد الطلعات الجوية خلال الأسبوع الأول فقد بلغت 555 طلعة بالإضافة إلى 125 مهمة نفَّذتها الطوافات المسلحة.
النتائج العسكرية للهجوم الجوي
لا تتوافر معلومات كافية عن العملية الجوية الإسرائيلية لإعطاء صورة واضحة عن تطوُّر نتائج القصف طوال فترة الحرب، ولكن هناك اعتقاداً بأن مفاعيل القصف قد بدأت بالتراجع بعد الأيام الأولى لبداية الحرب وخصوصاً بعد أن جرى استنفاد لائحة الأهداف الأساسية، وكانت نتائج القصف قد هيأت الأرض لبداية الهجوم البري على القطاع.
تسبَّب الهجوم الجوي الكاسح والمفاجئ بأضرار جسيمة في البنى العسكرية والمدنية، وأربك قيادات «حماس» سواء لجهة أداء الخدمات العامة أو لجهة قدرتها على استعمال بنية القيادة والسيطرة التي تملكها، ولم يعد من الممكن التواصل بين القيادات والوحدات إلا عبر الرسائل المكتوبة أو الشفوية. كما تسبَّب القصف الجوي باستشهاد بضع مئات من المقاتلين في صفوف حركة «حماس». لكن ذلك لم يؤثر بشكل دراماتيكي على قدراتها العسكرية ولا سيما أنها نجحت في نشر معداتها وذخائرها وتوزيعها على مراكز عديدة محميَّة ومموّهة.
يعتقد قادة القوات الجوية الإسرائيلية بأن الهجوم الجوي على قطاع غزة قد أعاد بناء الثقة بقدرات إسرائيل على الردع، وبأن كل من سوريا وإيران وحزب الله وأيضاً «حماس» تدرك أهمية ذلك بالنسبة إلى أمن إسرائيل. وأعادت نتائج الهجوم الجوي الثقة بقدرات الجيش الإسرائيلي على استعمال قواته العسكرية بشكل حاسم حتى داخل المدن والأماكن الآهلة.
في الواقع، لم تستطع القوات الجوية والبرية الإسرائيلية تجاوز كل المشاكل التي سبق وواجهتها في الحرب على لبنان العام 2006. ولم تحقِّق النصر الحاسم الذي كانت تبحث عنه في غزة أو في لبنان، حتى أن وقف النار الذي تحقَّق في نهاية العمليات لم يكن ضمن الشروط التي تريدها إسرائيل. وتقود هذه الحقائق إلى الاستنتاج أن نجاح الهجوم الجوي في تدمير الأهداف المنتقاة يشكِّل نجاحاً تكتياً ولكنه يبقى دون مستوى تحقيق أهداف الإستراتيجية الكبرى التي تطمح إليها إسرائيل، وذلك على الرغم من تسبُّبها بقتل 430 فلسطينياً.
خطة الهجوم الجوي – البري – المرحلة الثانية
بدأ الجيش الإسرائيلي خطة لإعادة تنظيم قياداته وإعادة تدريب وحداته المقاتلة وتحضيرها للحرب فور الانتهاء من حرب 2006، وتوافرت له سنتان كاملتان لتنفيذ هذه الخطة واختبارها. كان لا بدّ من التخلِّي عن الاهتمامات السابقة، التي كانت تركِّز على تدريب الوحدات العسكرية للقيام بمهمات حفظ الأمن الداخلي أو على العمليات الخاصة بمحاربة المقاومين الفلسطينيين ما بين العامين 2000 و2005، وكان البديل أن يعود التركيز في التدريب والمناورات على العمليات العسكرية الميدانية على مستوى الفرقة وفي جميع أنواع الحروب، التقليدية والنووية «اللاتماثل» Asymmetric.
تعلّم الجيش الإسرائيلي دروساً ثمينة حول قدرات والزامات القوة الجوية، كما أدرك المخاطر المترتبة على الدخول في مواجهة مباشرة بدل القيام بمناورات جانبية أو عمليات التفاف تؤمن له مفاجأة الخصوم وإجبارهم على القتال في الاتجاه والظروف التي لم يتوقَّعوها. كانت قيادات المنطقة الشمالية قد أدركت ثمن الفشل الذي واجهته بسبب عدم تطبيقها الخطة الأساسية الموضوعة لمقاتلة حزب الله، والتي تقضي بالقيام بعمليات مجوقلة على الضفة الجنوبية لنهر الليطاني تحضيراً لعملية تطويق قوى الحزب المنتشرة في المنطقة جنوب الليطاني، والعمل على تدميرها أو إجبارها على الاستسلام.
بعد الحرب نفَّذت إسرائيل مناورة مشابهة لهذه الخطة بواسطة الفرقة 91 التابعة للقيادة الشمالية وذلك ضمن فكرة اختبارها تمهيداً لمرحلة جديدة يجري خلالها تدريب وحدات الاحتياط على النمط القتالي نفسه.
كان الجيش الإسرائيلي قد استعاد العديد من دروس حرب 1973 وعِبَرِها وذلك ضمن فكرة تحاشي الوقوع في مفاجآت كالتي حدثت في تلك الحرب، وتجنّب ردود الفعل البطيئة على ما يحدث في الميدان، وأيضاً المفاعيل السياسية لارتفاع مستوى الخسائر البشرية في صفوف جنوده. وجرى أيضاً فتح ملف العبر المستقاة من حرب 1982 على لبنان وأبرزها عدم الوقوع في خطأ الاحتلال الطويل المدى للأراضي والدخول في حرب استنزاف طويلة.
كان لا بدّ من تفادي تكرار الانقسام الذي حصل على مستوى القيادات السياسية لجهة تحديد أهداف الحرب، أو تحديد مدتها، وضرورة الأخذ بتوصية تقرير فينوغراد حول ضرورة تحديد أهداف واضحة لأي عملية عسكرية قبل اندلاعها.
يبدو بوضوح أن القيادات الإسرائيلية قد حاولت تحاشي تكرار مثل هذه الأخطاء في الحرب على غزة، وهذا ما جعلها تعتمد مجموعة أهداف قابلة للتنفيذ: تدعيم عامل الردع، إضعاف «حماس»، تخفيف أو تبديد كل المخاطر الناتجة عن تهريب الصواريخ والأسلحة إلى قطاع غزة.
كانت الخطة الموضوعة لتنفيذ هذه الأهداف مرنة، ومنظمة، ولكنها تحاشت اعتماد برامج جامدة، ووضع خطوط مرحلية، وذلك بقصد إعطاء القيادات الميدانية حرية المبادرة في اختيار الحلول. وكان التركيز في الجهد العسكري على منطقتين: مدينة غزة لمحاصرة قوى «حماس» وتدمير كل الأهداف الممكنة، وخط فيلادلفيا من أجل العمل على تدمير أنفاق التهريب.
كان يمكن أن يؤدي التركيز على هاتين المنطقتين إلى تصعيد قتالي يؤدي إلى إطالة فترة الحرب أو وقوع إصابات عديدة في عداد الجيش، أو إطالة فترة احتلال بعض المناطق الحساسة، أو التسبب بأزمة دولية بسبب كثرة الخسائر بين المدنيين الفلسطينيين. كان يجب أن تستبق الخطة كل هذه الأمور وتمنع حصولها. وكان القرار أن لا تستغرق مرحلة الحرب الجوية – البرية أكثر من 7 إلى 10 أيام كحد أقصى، وعلى أساس تفادي الانعكاسات السيئة التي يمكن أن تترتَّب على إطالة فترة الحرب.
إن إطالة فترة الحرب ستؤدي حتماً إلى ارتفاع عدد الإصابات في صفوف الجيش الإسرائيلي حيث يمكن أن يستفيد مقاتلو «حماس» من التجارب الميدانية التي اكتسبوها للانقضاض على الوحدات العسكرية المنتشرة في وضع شبه ثابت.
كان لا بدّ من توقع أن ينسحب مقاتلو «حماس» أمام تقدم الجيش الإسرائيلي إلى ما وراء التجمَّعات السكانية، وسيتسبَّب ذلك بارتفاع عدد الإصابات بين المدنيين، وسيقود ذلك إلى تحرك المجتمع المدني الدولي لإدانة إسرائيل واتهامها بارتكاب جرائم حرب.
كان تحرُّك الدبلوماسية الإسرائيلية بطيئاً بالقياس مع التطوُّر الميداني الذي حقَّقته المعركة الجوية – البرية، وكان من نتيجة ذلك تراجع قيمة المكاسب التي تحقَّقت على الأرض. وذهب أحد القادة العسكريين إلى القول بإنه كان يمكن إنهاء الحرب قبل خمسة إلى ثمانية أيام لو استطاعت الدبلوماسية توفير الظروف المناسبة لإعلان وقف لإطلاق النار. لهذا السبب بالذات أجبرت إسرائيل على إعلان وقف النار من جانب واحد من دون انتظار موافقة «حماس» أو تقديمها أي تنازلات.
تسبَّب هذا الوضع بزيادة الضغوط المتبادلة والانقسامات بين أعضاء «الترويكا» السياسية، المؤلفة من أولمرت وباراك وليفني. وكانت الصحافة قد تحدثت عن خلافات عميقة بين أعضائها ما سمح بالاستنتاج أن القيادة السياسية والعسكرية قد دخلت الحرب من دون أن يكون لديها خطة لوقفها مكرِّرة بذلك بعض الأخطاء التي ارتكبت في حرب 2006، حيث لم يكن هناك أي تحديد للفترة الزمنية للحرب.
التكتية الإسرائيلية
أوكلت قيادة العلميات العسكرية إلى القيادة الجنوبية التي نظَّمت عملياتهـا علـى أساس أن يكون اللواء الوحدة القتالية المعتمدة، وأن يكون لقادة الألوية حريـة العمـل والمبادرة وفق ما تستدعيه ظروف المعركة. وكانت القيادة الإسرائيليـة قـد تنبَّهـت إلـى الأخطاء والمصاعب التي نتجت عن ربط العمليات على الأرض في الحرب علـى لبنـان بقرارات القيادة المركزية للأركان، ونتج عن هذه العملية سوء تفاهم وخلافـات حـادَّة بين القيادة في تل أبيب وقيادة المنطقة الشمالية. وأعطيت حرية العمل في حرب غزة إلـى قيادة المنطقة الجنوبية التي كان عليها أن تنسّق عملها مع الأركان المركزية في تل أبيـب.
تولَّت عمليات الرعيل القتالي فرقة مؤلفة من ثلاثة ألوية (العديد 10.000 رجل) مدعومة من فرقة أخرى كاحتياط (الرعيل الثاني). وكانت الفرقة التي خاضت المعارك هي الفرقة المدرَّعة 162، وهي من فرق الخط الأول الكاملة العديد والتجهيز، واستحضرت الفرقة المدرعة 91 من قيادة الشمال لتشكل الرعيل الثاني للهجوم، وشارك في القتال بشكل أساسي لواء المظليين.
وضعت فرقة ثالثة كاحتياط يمكن أن يكلَّف باحتلال المواقع التي احتلتها الفرقة 162 في شمال القطاع في حال الطلب إليها تنفيذ مهمة تأمين خط فيلادلفيا في جنوب القطاع. وجرى أيضاً وضع قوى أخرى في وضع الإنذار تحسباً لحصول أي تطورات عسكرية على الحدود الشمالية.
جرى تنظيم الفرقة 162 ضمن ثلاثة ألوية، لكل منها تشكيل مدفعي خاص به. وقسمت غزة إلى ثلاثة قطاعات حيث انتشرت الألوية الثلاثة بشكل طوق حول القطاع قبل بدء الهجوم، ما تسبَّب بحرمان قوى «حماس» من استعمال القطاع الأوسط لإطلاق الصواريخ باتجاه جنوب إسرائيل، وحصر معظم مقاتليها داخل مدينة غزة. ويفسّر هذا الوضع أسباب حصر الدمار الكبير في مدينة غزة وعلى طول خط فيلادلفيا حيث جرى القتال الفعلي.
تطور التكتية الإسرائيلية
طبَّقت القوات البرية الإسرائيلية في الحرب على غزة مجموعة جديدة من الطرائق والمقاربات التكتية، والتي استقتها من تجربتها السيئة في لبنان وأبرزها:
-1 استعمال وحدات المشاة الراجلة للالتفاف على مواقع «حماس» قبل تعريض الوحدات المدرعة لخطر الأسلحة المضادة للمدرعات.
-2 عدم الوقوع في خطر المواجهة الجبهية على غرار ما حدث في لبنان واعتماد عمليات المناورة والالتفاف لمفاجأة مواقع «حماس»، مع استعمال الوسائل الهندسية لفتح ممرات تحمي طرق الاقتراب، وتفادي الألغام والكمائن.
-3 اعتماد السرعة في تنفيذ العمليات الهجومية وعدم التعرض للنيران المضادة من خلال احتلال مواقع لفترات طويلة. ولم تترك سرعة العمليات الوقت اللازم لـ«حماس» لنصب كمائن على طول محور الهجوم.
-4 ترافقت عمليات الهجوم مع استعمال كثيف دائم للنيران بقصد شل مواقع «حماس»، ومنعها من نصب الكمائن على محاور التقدم. ما تسبّب بزيادة مطَّردة في الإصابات بين المدنيين.
-5 اعتمدت قوات الهجوم على تنفيذ عملياتها في أثناء الليل للاستفادة من تجهيزاتها للرؤية الليلية، والتي تفتقدها «حماس».
-6 استعملت القوات الإسرائيلية نظاماً متقدماً من الكومبيوتر ما سمح لها بالإفادة المتواصلة من كل الطاقات المتوافرة لجمع المعلومات الميدانية: الطيارات من دون طيار، التصوير الجوي، معلومات الإشارة والاتصالات وغيرها من المصادر.
-7 استعملت القوات المهاجمة «ضربة السيف» السريعة، بدلاً من الاستمرار في تنفيذ القتال وفق نسق هجومي واضح المعالم.
-8 جرى استعمال مدافع موجَّهة بواسطة التلفزيون (عن بعد) من أجل مفاجأة مواقع «حماس»، أو من أجل تفادي التعرض لنيران محكمة.
-9 جرى تجهيز السيارات الخفيفة (هامفي) بمدافع مع مثبت هيدروليكي يسمح بالرماية الدقيقة في أثناء السير Stabilitizer، وأيضاً أجهزة خاصة للرماية الليلية، كما جرى تركيب هواوين 120 ملم على ناقلات جند من طراز م 113.
-10 جرى تحاشي استعمال الممرات الضيقة تفادياً للأخطاء التي ارتكبت في لبنان، ولكن تبيّن أن «حماس» لا تملك صواريخ موجَّهة مضادة للدبابات، كما أن دفاعاتها الجوية هي بدائية. سجّل استعمال بعض الأسلحة من طراز RPG29.
يظهر بوضوح أن الجيش الإسرائيلي قد استفاد من الدروس والعبر التي استقاها من حرب لبنان ليعيد تدريب وحداته الكبرى وتنظيمها وإعدادها لمواجهة مختلف أنواع الحروب. وكان اللافت التنسيق الذي حصل بين القوات الجوية والقوات البرية حيث أعطي لكل لواء مقاتل الحق باستعمال القوات الجوية بشكل مباشر، بينما بقي عمل هذه القوات في أثناء حرب لبنان تحت الأوامر المباشرة لقيادة القوات الجوية. وحصلت الألوية المقاتلة على دعم مباشر من الطوافات المسلحة التي وضعت تحت أوامرها المباشرة. وكان يمكن لقائد اللواء طلب مساندة جوية مباشرة في الوقت والمكان الذي يريدهما، وبواسطة ضابط توجيه متقدم (FAO).
احتفظت قيادة القوات الجوية بمهمات «المنع» في العمق، وتأمين استمرار النيران الكثيفة لإضعاف قدرات «حماس» العسكرية. وأدَّت القوات الجوية دوراً كبيراً في تقرير نتائج الحرب حيث نفَّذت خلال الحرب 2744 طلعة جوية.
صحيح أن مرحلة الهجوم الجوي – البري قد حققت مكاسب تكتية عديدة ولكنها أفرزت مجموعة من المشاكل السياسية والإستراتيجية والإنسانية التي كانت قد بدأت بالظهور قبل نهاية المرحلة الأولى من الهجوم الجوي. وأثبتت المرحلة الثانية أن هناك تحسناً كبيراً قد طرأ على أداء الوحدات البرية حين أكدَّت قدرتها على خوض معركة طويلة ضد تنظيم غير تقليدي، ما يسمح بالاستنتاج أن الجيش قد استعاد جهوزيته من خلال استيعابه لكل الدروس والعبر التي استمدّها من تجربته السيئة مع حزب الله.
تحدَّثت المصادر الإسرائيلية عن أن خسائر «حماس» قد بلغت 600 قتيل وما يقارب ألف جريح، بينما قالت «حماس» إن عدد القتلى الإجمالي في أثناء الحرب قد بلغ 1314 منهم 412 طفلاً و110 نساء و48 فقط من أعضاء «حماس»، وعدد الجرحى 5300 منهم 1855 طفلاً و795 امرأة.
في الاستنتاج العام لم تأتِ الحرب على غزة بنتائج حاسمة، ما سمح للطرفين بالإدعاء بتحقيق انتصار واضح في هذه الحرب. من المؤكد أن «حماس» قد أصيبت بأضرار كبيرة. وسجّل في نهاية الحرب حالة شعبية إسرائيلية راضية عن نتائج الحرب.
ويعتقد عدد من الخبراء بأن الحرب قد أكَّدت على استعادة إسرائيل لعامل الردع في أي مواجهة جديدة مع «حماس» أو حزب الله أو سوريا أو إيران، خصوصاً في مجال استعمال قدراتها الجوية المتفوقة.
الشكوك الإستراتيجية حول نتائج الحرب
- أولاً: الفشل في إدراك طبيعة الحرب
كان يمكن تفادي العديد من المسائل التي تسبَّبت بالحملات الشعبية التي عبَّرت فيها جماهير الناس في العالم العربي والإسلامي وفي معظم العواصم الأوروبية عن غضبها من استعمال إسرائيل قوتها العسكرية «البهيمة» ضد المدنيين وضد البنى المدنية الأساسية بما فيها المستشفيات والمدارس ودور العبادة. لم تنجح إسرائيل في معالجة الإستراتيجية السياسية والديبلوماسية أو إدارتها بالفعالية نفسها التي أدارت بها الحرب. كان يفترض أن تنتبه إسرائيل إلى ضرورة تفادي الإضرار بالمدنيين، وأن تعلن عن نيتها بعدم قصف الأهداف المدنية، ولكنها قد ذهبت في الاتجاه المعاكس، ما تسبَّب بتحميلها مسؤولية أخطائها تجاه الرأي العام والمجتمع الدولي والذي ترجم بالإدانة التي أصدرتها لجنة تحقيق غولدستون.
- ثانياً: الشكوك حول استعادة عامل الردع
لم تبدأ إسرائيل الحرب وفي ذهنها صورة واضحة عن كيفية تغيير المعادلة العسكرية بحيث تستعيد العامل النفسي المستند إلى فائض قدراتها العسكرية من أجل إعادة بناء عامل الردع الذي خسرته من جرَّاء الضعف العسكري الذي أظهرته في حرب 2006. تقول القيادات الإسرائيلية إن تركيزها على القيام بعمل حاسم في الدقائق الأولى من الهجوم الجوي إنما جاء ضمن نيتها لاستعادة عامل الردع وخصوصاً لجهة ردع حزب الله وسوريا وإيران عن التدخل في مسار الحرب على غزة. لكن حسب رأي اللواء جيورا إيلاد، سوف تواجه «حماس» بعد حرب غزة تحديات جديدة وهي لا تقتصر على إعادة بناء ما تهدّم بل وأيضاً إعادة بناء موقعها السياسي وشرعية وجودها». وهذا يعني أن الأمر قد جاء نتيجة العمل المتفوق الذي قام به الجيش الإسرائيلي، وإثباته القدرة على خوض حرب غير تقليدية في مناطق آهلة ومكتظّة بالسكان مثل مدينة غزة. لكن هناك تشكيكاً بقدرة الجيش الإسرائيلي على القيام بمثل هذا العمل في غزة في ما لو امتلكت «حماس» قدرات عسكرية كتلك التي يمتلكها حزب الله. ويدرك الخبراء العسكريون مستوى النجاح الذي حققته القوات الجوية الإسرائيلية في الحرب العام 2006 على الرغم من امتلاك حزب الله والجيش اللبناني وسائل دفاع جوي أفضل بكثير مما امتلكته «حماس» في الدفاع عن غزة.
- ثالثاً: عدم وجود إستراتيجية سياسية ودبلوماسية وخطة لإنهاء الحرب
جاءت الخلافات التي نشبت بين القيادات السياسية الإسرائيلية لتؤكـد علـى عـدم وجـود نظرة موحَّدة حول متى وكيف يمكن التوصل إلى وقف للعمليات، ويبدو أن الفكـرة السائدة كانت بضرورة إعطاء مصر حرية العمل لتحقيـق ذلـك مـن خـلال اضطلاعها بدور الوسيط.
لم تضع القيادة الإسرائيلية أي خطة للتعامل مع البعد الإنساني للحرب أو أي خطة لإعادة إعمار ما دمرته الحرب. يؤشر كل ذلك إلى أن الإسرائيليين قد أهملوا تطبيق بعض الدروس الهامة التي أعطتها الحرب على لبنان. وكان إعلان أولمرت بتاريخ 17 كانون الثاني/يناير بأن العملية العسكرية قد حققت أهدافها هو أشبه بتصريح جورج بوش بعد الحرب على العراق «نفذت المهمة».
كان يُفترض أن تؤكد إسرائيل محدودية أهدافها من الحرب، وأن تضع شروطها الواضحة حول إنهاء الحرب وأن تلتزمها. وتسبَّب هذا الغموض بمناقشات واسعة حول نيّة إسرائيل أو قناعتها بإمكان تدمير «حماس». هذا القصور في الرواية الإسرائيلية قد أعطى الفرصة والمبرر لـ «حماس» لإعلان انتصارها في الحرب، وذلك من خلال تأكيد قدرتها على البقاء والاستمرار في السيطرة على قطاع غزة.
عندما تنتهي الحرب بإعلان الطرفين عن انتصارهما فيها من دون وجود أي مقاييس لتعريف عناصر هذا الانتصار، بالإضافة إلى ترك جميع الأسباب التي أدت إلى اندلاع الحرب على ما كانت عليه قبل اندلاعها، فإنه يبقى من المشكوك فيه تحقيق أي انتصار لأي من الطرفين. إن أكبر دليل على صحة مثل هذا الاستنتاج أنه قبل نهاية شهر كانون الثاني/يناير عادت عمليات إطلاق الصواريخ باتجاه إسرائيل، كما عاد القصف الجوي الإسرائيلي المتكرر لأهداف متعددة داخل قطاع غزة وعلى طول خط فيلادلفيا.
الدروس الإستراتيجية المستقاة من الحرب على غزة
هناك مجموعة من الدروس التي يمكن استخلاصها من الحرب على غزة، والتي سبق وجرى استخلاص مثيلاتها من الأخطاء التي ارتكبها الأميركيون وحلفاؤهم في حربي العراق وأفغانستان من أبرزها:
-1 لا يمكن لأي قيادة سياسية كفيَّة أن تبدأ حرباً من دون وضع خطة واضحة ومفصَّلة حول طريقة إنهاء الحرب، وأيضاً وضع كل الفرضيات والبرامج اللازمة للتعامل مع نتائج الحرب، وخصوصاً لجهة التأكد من زوال الأسباب التي دعت إلى اندلاع الحرب. لا يكفي تسجيل انتصار عسكري من أجل إعلان نهاية الحرب، فالانتصار العسكري يمكن أن يتبدَّد أو أن يتحوَّل إلى هزيمة «إستراتيجية» إذا لم تتحقَّق الأبعاد السياسية للصراع، وقد سبق للقيادات الإسرائيلية أن دفعت ثمناً غالياً نتيجة ارتكاب مثل هذا الخطأ بعد حربيها على لبنان في العامين 1982 و2006.
-2 ليس هناك من جديد حول أهمية تقصير الوقت بين تقدّم الإنجاز العسكري والعمل الدبلوماسي من أجل إنهاء الصراع. لا بدّ من تجنب المخاطر التي يمكن أن تنتج عن إطالة الحرب بانتظار تحقيق الظروف الدبلوماسية المناسبة لوقف العمليات العسكرية. ويتحدث كارل فون كلوزويتز في كتابه «عن الحرب» عن أهمية بلوغ النقطة القصوى لبلوغ النصر Culminating point of victory والتي تفترض التنسيق بين تقدم الأعمال التكتية على الأرض لتحقيق الأهداف المرسومة والعمل السياسي والدبلوماسي لاستغلالها من أجل تحقيق النصر وإعلانه. فشلت القيادات الإسرائيلية السياسية في تحقيق العمليات التنسيقية اللازمة بين الجهد العسكري والعمل الدبلوماسي.
-3 إذا كان الهدف من شن حرب محدودة يتركز على إمكان الاستفادة من عامل الردع لمنع توسيع النزاع الجاري أو الحؤول دون حصول نزاع جديد فإنه من الضروري وضع كل الخطط وإجراء الحسابات اللازمة لتحقيق هذا الهدف. ولا بد، واقعياً، من إدراك أن القوة قه تتسبَّب بحرب كما أنها يمكن أن تحول دون اندلاعها، وأن الأمور ترتبط بالوعي الذي تتحلَّى به الدول أو الفئات المتحاربة حول دراستها للمخاطر التي يمكن أن تواجهها أو المكاسب التي يمكن أن تحصل عليها من جراء دخولها الحرب. تكمن الصعوبة في قراءة مدى النجاح في تحقيق عامل الردع في أن الطرفين، أي حزب الله و«حماس» ينطلقان في صراعهما مع إسرائيل من أرضية أيديولوجية دينية، بحيث يمكنهما مواجهة مفاعيل عامل الردع بشعارات كبرى حول أولوية المعركة وشرعية الجهاد والانتصار الإلهي، وذلك خارج المقاييس الموضوعية التي يجب أن تعتمد في بحث خيارات الحرب.
-4 يضطلع البعد الإنساني للحرب بدور أساسي في قرار الحكومات الحديثة للدخول في الحرب وطريقة خوضها وإدارتها. هذا الكلام لا يعني البحث في القواعد القانونية التي ترعى الاتفاقيات الدولية أو الارتكاز على القواعد الأخلاقية التي تفرضها الأديان من أجل تجنيب الناس الأبرياء مخاطر الحرب وويلاتها بل يعني أن مراعاة البعد الإنساني يشكل أحد العناصر الأساسية في تحقيق النصر.
لم تراع القيادات الإسرائيلية البعد الإنساني في حربها على غزة، حيث تسبَّب استعمالها المفرط لقدراتها النارية بقتل عدة مئات من المدنيين وفي تدمير بنى تحتية مدنية كالمدارس والمستشفيات ودور العبادة من دون وجود أي عذر أو مبرر عسكري أو أخلاقي. وكان اللافت العدد الكبير للقتلى والجرحى في صفوف الأطفال والنساء. واستدعى هذا التنكر للبعد الإنساني إلى تحرك دولي وشعبي لإدانة إسرائيل ومطالبتها بوقف الحرب. وكانت النتيجة المطالبة بلجنة تحقيق دولية حول جرائم إسرائيل في الحرب، وجاء تقرير غولدستون بأقوى أنواع الإدانة للأعمال العسكرية التي لم تفرّق بين مدني ومقاتل.
-5 تؤدي المعركة الإعلامية دوراً أساسياً في تقرير كمية الربح والخسارة للجانبين المتصارعين ولا يمكن ربح الحرب من خلال اتهام الخصم بتهديد الأمن أو العدوان في وقت يتعرض فيه هذا الخصم لكل أنواع الظلم من خلال التحكم بكل مصادر وسبلها ووسائلها الحياة الكريمة على غرار ما تفعله إسرائيل بشعب غزة من جراء الحصار الكامل الذي تفرضه على القطاع. يترتّب على استمرار هذا الحصار على مليون ونصف فلسطيني يعيشون في قطاع غزة خسارة إسرائيل للمعركة الإعلامية في الحرب بصورة سابقة لاندلاعها. ويبدو أن إسرائيل قد أهملت أو أنها لا تدرك بأنه بات من المستحيل التغطية على استعمالها المفرط للقوة العسكرية ضد المدنيين من خلال منع وسائل إعلامها ووسائل الإعلام الدولية من تغطية مجريات الحرب.
يتوجّب على الدول الحديثة أن تعتمد الشفافية في تغطية العمليات العسكرية، والتي يجب أن تعمل على تحقيق أهداف عسكرية مشروعة وواضحة، وأن يجري ذلك من خلال إعطاء تغطية إعلامية عن مسار العمليات، مع مراعاة مشاعر وقناعات جماعات حقوق الإنسان كخطوة على طريق إقناعهم بمراعاة الأبعاد الإنسانية للحرب.
-6 ضرورة معالجة نتائج الحرب بعد نهاية الحرب أو بعد التوصل إلى وقف للنار وهذا ما يعرّف تقنياً بالمخطط (ب) وعلى أساس أن المخطط (أ) هو للعمليات العسكرية. ويجب أن يتضمَّن المخطط (ب) عمليات فرض الاستقرار والأمن، وعمليات تأمين الخدمات الضرورية للناس وإعادة عمل المؤسسات الحكومية وانبعاث الحياة السياسية. لقد وقعت الولايات المتحدة في مثل هذه الأخطاء الإستراتيجية في كل من العراق وأفغانستان حيث فشلت في أداء أي من الأعمال التي يجب أن تتحقَّق بعد انتهاء العمليات العسكرية ما أدى إلى وقوع انقسامات قوية داخل المجتمع وإلى الانزلاق نحو حرب أهلية.
أعلنت إسرائيل وقفاً لإطلاق النار من جانب واحد، وكأنها أرادت بذلك بأن لا تلتزم أي واجبات تجاه شعب غزة وتجاه المجتمع الدولي في جهوده لإعادة بناء القطاع. وكانت الصعوبة كبيرة في إيجاد الوسائل لتأمين المساعدات اللازمة حيث لا تعترف معظم الهيئات الدولية بمنظمة «حماس» باستثناء منظمة أونروا.
في الواقع، لم تحل الحرب على غزة أي من المشكلات التي تواجهها إسرائيل من جراء سيطرة «حماس» على قطاع غزة، كما أنها لم تؤدِّ إلى رفع الحصار عن قطاع غزة، وهذا يؤكد عدم تحقيق أي من الطرفين المصلحة الإستراتيجية التي سعى إلى تحقيقها من خلال قراره بالذهاب إلى الحرب.
The war on Gaza: Excessiveness in the use of power and failure in policy
Strategic and military experts differ in opinion with regard to considering the incidents between Israel and Hamas from the 27th of December 2008 and the 18th of January 2009 as a war or as an outburst in a series of violence outbursts during a century of confrontations between the Israelis and the Palestinians.
However, in our point of view, this confrontation deserves to be called the Israeli war on Gaza. It constitutes the first wide military confrontation between Israel and Hamas and a stage to study the development of military capabilities after the war launched by Israel against Hizbullah in 2006.
We will attempt to discuss and analyze the stages of the war as well as the combat systems in order to deduce the changes which occurred in the Israeli combat and tactical doctrine. Consequently, we will conclude the lessons learned from this war and which can be applied in the asymmetric war. It is also normal to evaluate the Israeli strategic stance in the continuing military conflict and the commitment of the Israeli command to implement the principles of the war theory and the principles of greater strategy which Israel failed to adopt in its war on Lebanon in 2006.
La guerre contre Gaza: Démesure dans l’utilisation de l’énergie et de l’échec de la politique
Les Stratégiques et les experts militaires ont différents points de vue en ce qui concerne les incidents entre Israël et le Hamas à partir du 27 Décembre 2008 et le 18 Janvier 2009, une guerre ou une explosion dans une série d’explosions de violence au cours d’un siècle d’affrontements entre les Israéliens et les Palestiniens.
Toutefois, cette confrontation mérite d’être appelée la guerre israélienne sur Gaza. Il constitue la première confrontation large militaire entre Israël et le Hamas, et une étape pour étudier le développement des capacités militaires après la guerre lancée par Israël contre le Hezbollah en 2006.
Nous allons essayer de discuter et d’analyser les étapes de la guerre ainsi que les systèmes de combat pour en déduire les changements survenus dans la lutte contre Israël et la doctrine tactique. Par conséquent, nous allons conclure notre étude sur les leçons tirées de cette guerre et qui peuvent être appliquées dans la guerre asymétrique. Il est également normal d’évaluer la position israélienne stratégique dans la poursuite du conflit militaire et de l’engagement du commandement israélien pour mettre en œuvre les principes de la théorie de la guerre et les principes d’une plus grande stratégie qu’Israël a échoué à adopter dans sa guerre contre le Liban en 2006.