الماء... بين الكم والنوع

لم تكن للماء في ما مضى قضية تطرح. كان متوافرًا لا ينضب، وكان الإنسان يقصده في الغابات والبراري فيقيم حوله البيوت والمساكن، وينشئ الحقول والحدائق، يرويها بواسطته، صافيًا منعشًا عذبًا.
كان عدد الشّاربين قليلاً، وكان الفضاء زاخرًا بالغيوم، والأرض وارفة الظلال في معظمها، كما كان الماء غزيرًا بشكل تلقائي، ومن المرجح، والله أعلم، أنّ كلمة "نضب" لم تكن قد صنفت بين الأفعال في قواميس اللغة. تزايد المستهلكون، بعد ذلك، من بشر وتراب ومعامل ومصانع، فبدأت كمية الماء تطرح مشكلة متنامية متزايدة، تلقى الحلول حينًا، وتفقدها أحيانًا، خصوصًا مع تراجع المطر الهادئ المفيد في مناطق كثيرة.
كان ذلك في ما مضى، أما اليوم فقد تكثفت المشكلة المائية وصعبت حلولها، لا بل ندرت وفشلت، أو، على الأقل، ازدادت كلفة وعناء، وقد يصبح الماء بذلك امتيازًا يختص به الأغنياء والموسرون، دولاً وجماعات وأفرادًا. لم تعد تلك المشكلة مقتصرة على الكمية، بل توسَّعت وامتدَّت إلى النوعية. الموضوع هو في تأمين الماء أولاً، والماء الصافي، أو على الأقل، غير الملوث، ثانيًا. وأنّى لنا أن نهتدي إلى الماء الصافي في فوضى التمدن التي تخطت المدن فغمرت القرى واجتاحت السفوح والربى، واستقرت في الأودية فاقدة الوعي عديمة الهمة، بحيث إذا صوّبت النظر على بقعة ما، رقدت على قلبها إلى الأبد، ترابًا وأسمنتًا ومعدنًا ونفايات وأوساخًا وملّوثات لا حصر لها. في ذلك، لا أمل كبيرًا في الصفاء ولا في النقاء، ولم تعد للكمية أهمية تذكر، سواء لدى الأفراد الظامئين، أو النباتات العطشى، كما باتت جهود الطبيعة، وهي ترصف الطبقات البيض الباردة فوق القمم، تذهب سدى، إذ إن في جوف الأرض سمومًا سودًا تحتاج تعقيمًا سحريًا تتخطى كلفته حدود البشر، ملوِّثين وملوَّثين.
أما نحن في لبنان، فإننا نضيف إلى تلك الحالات مشكلة خاصة بمنطقتنا، وهي المطمع الإسرائيلي بمائنا، المطمع الذي رافق أحلام الصهيونية الأولى، وقد لا ينتهي إلا بانتهائها. إلى ذلك الحين، لا بد من الاستمرار في الجهوزية، للّدفاع عن الأرض بغيمها وترابها ومائها، في جوف الأرض وفي قعر البحر، وكما أننا لم نتخاذل سابقًا، فإن استعدادنا للبذل لن يهدأ لاحقًا، وما ضاع حق استبسل في الدفاع عنه بنوه.