- En
- Fr
- عربي
العوافي يا وطن
يُقال إنّ التاريخ يُعيد نفسه، وغالبًا ما تُستخدم هذه المقولة في حالات الانكسار والمآسي. نعم، قد يُعيد التاريخ نفسه بشكلٍ مأسوي، فتعاني المجموعات والأوطان في حاضرها ما عاناه الأسلاف في الماضي، من دون أن تكون التجارب دروسًا تؤثر في صياغة الحاضر. لكنّ التاريخ المشرق قد يُعيد نفسه أيضًا، وهذا ما يحصل عندما تصبح التجارب إرثًا ينتقل مع الأجيال ويحرّك تطلعاتها وتوجهاتها ومواقفها.
يستند جيشنا في مسيرته اليوم إلى إرث كبير من النضال بدأ منذ تأسيس فرقة الشرق التي منها انبثقت نواته، وكانت ثمرة توق اللبنانيين إلى الحرية والخلاص من الاحتلال العثماني. يومها شهد لبنان موجة هجرة كبيرة حملت أبناءه إلى مختلف أصقاع الأرض هربًا من الظلم العثماني، لكنّهم في غربتهم ظلوا على التصاقهم بوطنهم، فالوطن هو «بيوت اللي بيحبونا، وتراب اللي سبقونا» كما تقول فيروز، وهكذا أصبح هذا الوطن الصغير «وسع الدني». تنادى اللبنانيون في المهجر إلى نصرة وطنهم، فأسسوا الجمعيات والمنتديات عاقدين العزم على إنقاذه. كان المفكرون والشعراء والأدباء طليعة المناضلين، زرعت أقلامهم جذوة الحرية والأمل في النفوس، فأقدم الشباب على التطوّع في فرقة الشرق ليشاركوا في معارك الحرب العالمية الأولى إلى جانب الحلفاء ضد العثمانيين بهدف الحصول على استقلال لبنان. كانت المراكب تنقلهم من الخارج إلى الشاطئ اللبناني مجموعات مجموعات للالتحاق بصفوف الفرقة، وكانت تلك المراكب تحمل المؤن لمواطنيهم الرازحين تحت الحصار أيضًا. انتهى الاحتلال العثماني وبدأ عهد الانتداب واستمر النضال إلى أن حصل لبنان على استقلاله، وبعد سنتَين تسلّمت دولته جيشها الذي نحتفل اليوم بالذكرى الـ77 لتأسيسه.
77 عامًا مكتنزة بالعطاء، نجد تكثيفًا لها في مسيرة السنوات القليلة الماضية، فمسيرة الحاضر تبدو على اتصال وثيق بإرث الأسلاف وتضحياتهم وتجاربهم، وصورة المؤسسة التي سطعت في وجدان اللبنانيين منذ تأسيسها، تواصل إشراقها، تتعمق أكثر في هذا الوجدان، وتُحرز كل يوم المزيد من الاحترام في العالم.
في مسيرة الأمس واجه جيشنا وهو طري العود العدو الإسرائيلي في المالكية، ثم كانت له مواجهات كثيرة معه سجّل خلالها رجاله بطولات تحفظ حكاياتها أرض الجنوب. في الداخل كان هذا الجيش يد العون الممدودة للمواطنين في كل كارثة أو ضائقة، وكان المبادر إلى شق الطرقات وإيصال العمران إلى مناطق نائية. عرف البلد أكثر من أزمة سياسية أنزلت الناس إلى الشوارع، طُلب إليه أن يُخرجهم منها، فرفض الوقوف في وجه شعبه، لكنّه حمى المؤسسات الدستورية، ولم يسمح بالمساس بها.
أتت رياح السموم والتفرقة وحل التشرذم والانقسام الحاد، وظلت بزة الجيش مصدر الأمان الوحيد للبنانيين على اختلاف فئاتهم. قاوم الانقسام وصمد فترة ليست بقليلةٍ، لكنّ حسابات السياسات ومفاعيلها كانت أقوى من قدرته على الصمود. انهار الجيش فانهار الوطن، وحل الخراب الكبير.
تعلّم جيشنا من هذه التجربة الكثير، وها هو اليوم يناضل متشبثًا بتماسكه في وجه أعتى الأزمات التي عرفها لبنان منذ استقلاله، مصممًا على الحؤول دون الوصول إلى الخراب. تلك هي النقطة الأهم التي ينطلق منها وتُجسّدها استراتجيته في مختلف المجالات التي تتصل بدوره ومهماته، وتلتقي عندها جهود قيادته وعسكرييه.
ولأنّه عاهد اللبنانيين على بذل كل ممكن ومستحيل ليبقى لبنان، نراه يعمل بإصرارٍ عجيب على النهوض بكل الأحمال التي تترتب على مهماته بين الحدود والداخل، ومن بينها الكثير مما ينبغي أن تتحمّله مؤسسات أخرى، أمنية كانت أم مدنية.
جنوبًا يسهر على الحدود البرية حارسًا أرضه، ويدافع عن ثرواتنا البحرية مفاوضًا واثقًا. على الحدود الشرقية الشمالية ينتشر في الجرود الوعرة فيتصدى للإرهاب في معركة ستظل واحدة من أروع وقفاته، وينتشر لأول مرة منذ استقلال لبنان على تلك الحدود. والمعركة ضد الإرهاب ما زالت مستمرة للقضاء على الخلايا النائمة في الداخل، وقد كلّفته دماء غالية.
في الداخل هموم كثيرة ومسؤوليات كبيرة أيضًا ما كان ينبغي أن تكون على عاتقه لو كان للدولة يومًا وجود فعلي، على صعيد الخدمات والرعاية وغيرها. وها هو يعمل لتخفيف حجم المعاناة عن المواطنين، مصممًا على أن «نصمد معًا»، مدركًا أنّ تداعيات الفقر والجهل تقود إلى الخراب. يمد يد العون مساعدًا، مساندًا، ويمد جسور التواصل مع المرجعيات المؤثرة ومع الشباب، مراهنًا على بناء جيل يؤمن بوحدة لبنان، ويمتلك الأمل بأنّ النهوض ممكن، مقدّمًا نماذج مشرقة للصمود. وفي موازاة ذلك، يشنّ حربًا على المخدرات لمنع مصنّعيها وتجارها من تدمير أولادنا، حرب كلّفته دماء غالية أيضًا.
مع بداية الأزمة أواخر العام 2019 هدرت الشوارع غضبًا، فكان أن أمضى العسكريون أشهرًا في الشوارع وهم يمارسون أصعب مهمة يمكن أن تُسند إليهم، الحفاظ على حرية التعبير، وعدم السماح بانزلاق الأمور إلى الهاوية.
لم تتأخر كورونا كثيرًا في الوصول إلى البلد المنهك بأزماته، تعامل الجيش مع الجائحة فكان على جبهتَين: تطبيق إجراءات التعبئة العامة من جهة، ومنع تفشّي الوباء في صفوفه من جهة أخرى، وقد نجح في هذه المواجهة أيضًا.
حين حلّت كارثة انفجار مرفأ بيروت كان الجيش الوجه الوحيد المشرق للدولة في قلب الدمار، سواعد رجاله خففت ثقل المعاناة، والثقة به حمّلته أثقالًا كثيرة. فكان عليه بالإضافة إلى رفع الأنقاض أن يمسح الأضرار ويوزع المساعدات العينية والمالية، وحتى المساعدات الطبية وُضعت في عهدته ليسلّمها إلى المستشفيات. أما المرفأ المنكوب الذي عاد إلى العمل خلال أيام فكان شاهدًا لإنجازٍ يعد أشبه بمعجزةٍ، حقّقها وأدهش الداخل والخارج. غبار الأنقاض ما زال يسكن في صدور العسكريين إلى اليوم، تمامًا كما تسكن عيونهم صور رفاقهم الشهداء وصور جرحاهم الذين تحمّلوا إصاباتهم وهبّوا لنجدة مواطنين آخرين.
كيف يستطيع جيشنا أن يقوم بمهماته في ظل الأزمة التي سحقت معظم اللبنانيين وشلّت مؤسسات الدولة، وجعلت القطاعات تتهاوى؟ كيف يستطيع الحفاظ على تماسكه في ظل التشرذم الحاد؟ هذه الأسئلة طرحها الكثيرون من المسؤولين الدوليين، ويطرحها يوميًا اللبنانيون على أنفسهم، وعلى العسكريين أنفسهم. أسئلة كثيرة، أما الجواب فواحد: لن نسمح بانهيار البلد مهما كلفنا ذلك. هذا هو الأساس الذي تتفرع منه كل الخطط والتدابير والحلول. هذا هو الإيمان بلبنان في أبهى تجلياته، والعزم بأوضح صوره، ومنهما ينبع الأمل وتبنى الثقة.
لقد جهدت قيادة الجيش لإبعاد التدخلات السياسية في صفوفها لتعمل وفق نهج مؤسساتي سليم، وعملت على مكافحة الفساد والهدر. خبّأت قروشها البيضاء القليلة لأيام سوداء استشرفت قدومها. بنت قدرات عناصرها في المجالات كافة، وحصّنتهم بالمعرفة والخبرة والقدرة على استنباط الحلول مهما بدا الأفق مقفلًا. أغلقت جميع المنافذ في وجه فكرة «لا نستطيع». استثمرت الإمكانات المتواضعة بأفضل ما يمكن، فنشط فنّيو الجيش في العمل على إصلاح العتاد القديم المتهالك وإعادته إلى الخدمة. عملت الوحدات بجهدٍ لا يمكن تصوره كل في مجالها لتطور مهارات عسكرييها وتنطلق إلى مجالات أوسع. فوج الأشغال المستقل الذي بات يُعنى بالحفاظ على تراثنا المعماري مثال في هذا السياق، لكنّه ليس المثال الوحيد. وحدات أخرى استطاعت من خلال استثمار جزء يسير من قدرات عديدها إنتاج حاجاتها من المزروعات فضلًا عن منتجات أساسية لتغذية العسكريين وأخرى يستعملونها في الحياة اليومية. خططت القيادة لتطوير الخدمات وفي طليعتها الطبابة التي باتت الجهة الأولى الضامنة في لبنان، ابتكرت حلولًا لمشكلة ارتفاع كلفة التنقل، وأمّنت المساعدات الغذائية للعسكريين، وخففت عن كاهلهم ثقل الأقساط الجامعية والمدرسية.
بالطبع لم يكن كل ذلك ممكنًا لولا الدعم الذي تلقاه المؤسسة العسكرية من اللبنانيين المقيمين والمغتربين ومن الجهات الدولية. وهذا الدعم هو ثمرة الاحترام والثقة ورصيدها فيهما كبير، وهو ثمرة عرق كثير ودم غالٍ في مسيرة يتجلى فيها تواصل الماضي والحاضر من أجل بناء مستقبل أفضل. فكما ناضل أبناء هذه المؤسسة في الماضي ليحرروا وطنهم من الاحتلال، يناضلون اليوم لمنعه من الانهيار ولزرع الأمل بقيامته.
بالأمس احتفل جيشنا بالذكرى الـ77 لتأسيسه محاطًا بمحبة مواطنيه وافتخارهم به وإجماعهم على أنّ لا أمل للبنان سواه. وهذا الأمل عززه قَسَم ضباطه الجدد إناثًا وذكورًا يتخرجون معًا للمرة الأولى، وينطلقون بالكفاءة نفسها إلى ميادين الشرف والتضحية والوفاء.
العوافي يا جيشنا.
العوافي يا وطن.