- En
- Fr
- عربي
قضايا إقليمية
لا يمكن إنكار أنّ محاولات إسرائيل تغيير الأمر الواقع في المسجد الأقصى قد شكّلت سببًا رئيسًا لتفجّر الأحداث الدامية الحالية في مدن الضفة الغربية عمومًا، والقدس خصوصًا، ضمن ما سمي اصطلاحًا بـ«هبة السكاكين». ولكن لا بد من الأخذ بعين الاعتبار ايضًا الأسباب الهيكلية العميقة التي أسهمت بصورة كبيرة في تأجيج الأزمة.
لقد بات واضحًا لدى الغالبية العظمى من الفلسطينيين سواء على المستوى الشعبي أو الرسمي، أنّ مسار عملية السلام قد انتهى، ولم يعد هناك أي أمل حقيقي في إقامة دولة فلسطينية مستقلة وقابلة للحياة على الأراضي الفلسطينية المحتلة في العام 1967. وهذا ما عبّر عنه الرئيس الفلسطيني محمود عباس بشكل واضح في شهر ايلول الماضي خلال خطابه في الجمعية العامة للأمم المتحدة، عندما أعلن أنّ الاتفاقيات الفلسطينية - الإسرائيلية أصبحت من الماضي بعد تخلّي إسرائيل عن التزاماتها.
سياسات الإذلال والاستيطان
لقد تراكم لدى الفلسطينيين خلال السنوات المنصرمة مخزون واسع من الإحساس العميق بالظلم والقهر نتيجة سياسات الإذلال والاستيطان التي مارستها وتمارسها إسرائيل في الضفة الغربية وقطاع غزة. فخلال تلك الفترة، تضاعف الاستيطان في الضفة الغربية بشكل مطَّرد وتصاعدت اعتداءات المستوطنين وأخذت منحًى عنيفًا، تمثَّل في إحراق عائلة دوابشة الفلسطينية بأكملها في قرية دومة في نابلس، وهو ما أسهم في زيادة شعور الفلسطينيين بفقدان الأمن الداخلي، وخصوصًا أن السلطة الفلسطينية وقفت عاجزة عن حمايتهم؛ حيث يعتقد ثلثا الفلسطينيين أن السلطة الفلسطينية مقصّرة في توفير الحماية لهم. وهي لا تقف موقف المتفرج على الاعتداءات المتكررة على الفلسطينيين فحسب، بل أدى فشل مشروعها السياسي وانتشار الفساد والوساطة والمحسوبية والمحاباة ضمن أجهزتها المختلفة، إلى زيادة الإحباط واليأس لدى قطاع كبير من الفلسطينيين وخصوصًا الجيل الصاعد. وتزامنت هذه الظروف جميعها، مع تراجع مكانة القضية الفلسطينية ضمن الأجندات الإقليمية الرسمية والشعبية، حيث تعاني غالبية الدول العربية نزاعات داخلية وحروبًا أهلية، وهو ما بدا واضحًا أيضًا في تعبير الفلسطينيين الذين يعتقد 80% منهم أن فلسطين لم تعد قضية العرب الأولى.
انتفاضة السكاكين
في هذا السياق، انطلقت هجمات منظّمة ومكثفة ضد الإسرائيليين بالسكاكين وخصوصًا في مدينة القدس. وبخلاف الانتفاضة الأولى (1987) التي تمّ الاعتماد فيها على الحجارة كسلاح رئيسي في المواجهات، أو الانتفاضة الثانية (2000) التي ركّزت على العمليات العسكرية المسلّحة، تميزت الأحداث الحالية بتكثيف عمليات الطعن، وهو ما أدى إلى نشر حالة من الرعب وزعزعة الأمن الداخلي بين الإسرائيليين. فخلال الأسابيع الثلاثة الأولى من الهبة الجماهيرية، نجح الفلسطينيون في تنفيذ 46 عملية طعن (نجح منها 29 أو وصل إلى مرحلة متقدمة)؛ وذلك خلال فترة زمنية قصيرة. وبالاطِّلاع على الخارطة الجغرافية التي خرجت منها العمليات، يُلاحَظ أن مدينتي القدس (13 عملية) والخليل (11 عملية) شكّلتا بؤرة الارتكاز الأساسية لعمليات الطعن، تلَتهما مدينة رام الله (عملية واحدة)، ومدينة جنين (عملية واحدة) والمناطق المحتلة في العام 1948 (3 عمليات). أي أن العمليات تركزت بشكل أساسي في المدن المختلطة ما بين الإسرائيليين والفلسطينيين والتي تشهد بشكل مستمر عمليات تنغيص وإذلال مستمرة ومتفاقمة ضد الفلسطينيين. وبعكس العمليات العسكرية خلال الانتفاضة الثانية أو إطلاق الصواريخ من قطاع غزة خلال الحرب الأخيرة (2014)، يعتبر الهجوم بالسكاكين ذا مفعول نفسي عميق على الإسرائيليين، فهو يظهِر المهاجم في موقع قوة مقابل حالة الضعف التي يعيشها الجنود والمدنيون الإسرائيليون وهم يفرون من المواجهة لتجنب الإصابة أو القتل. وإذا كان يمكن للقيادة الإسرائيلية تبرير ارتفاع عدد قتلاها في الحرب الأخيرة على قطاع غزة، على سبيل المثال، فإن هروب الجنود من أمام المهاجمين، كما حصل في عملية بئر السبع التي قتل فيها أحد الجنود وهربت مجموعة أخرى (مما حدا بالجيش الإسرائيلي إلى فتح تحقيق في الحادث)، عزز الشعور بفقدان الأمن لدى الإسرائيليين، كما أنّ نجاح المهاجمين في الأسبوعين الأولين في الوصول إلى أهدافهم وإيقاع قتلى إسرائيليين، أغرى المزيد من الشبان بمحاولة تنفيذ عمليات اخرى، خصوصًا أن السكاكين تعتبر سلاحًا بسيطًا وفي متناول أيدي الجميع. وهو ما يعني أنّ كل إسرائيلي يمشي على الأرض أو يتسوّق، قد يصبح هدفًا محتملاً للهجوم في أي لحظة. ونتيجة لذلك، سجلت العيادات النفسية في إسرائيل ارتفاعًا بنسبة 100% من زوارها الإسرائيليين الذين بدأوا يفقدون الإحساس بالطمأنينة الشخصية. وانعكس ذلك أيضًا على الارتفاع القياسي في شراء الأسلحة الشخصية من قبل المدنيين الإسرائيليين. كما أثرت الأحداث وبصورة مباشرة على الاقتصاد الإسرائيلي وأدَّت إلى تباطؤ حركة الشراء وتراجع البورصة الإسرائيلية. بالإضافة إلى ذلك، أدى انتشار الرعب والتوتر بين الإسرائيليين، إلى مقتل إسرائيلي وطالب لجوء إريتري على يد الجيش والشرطة عن طريق الخطأ للظن بأنهما فلسطينيين.
وسائل التواصل الاجتماعي
بخلاف الانتفاضتين الأولى والثانية، تميزت «الهبّة» الحالية بالاستخدام المكثَّف لوسائل التواصل الاجتماعي، مثل: الفيسبوك والتويتر واليوتيوب، وبسبب الدور الكبير الذي لعبته هذه الوسائل في عملية التعبئة والحشد، بذلت إسرائيل جهودًا مضاعفة لتحييد هذا الفضاء وتقييده. وقد جاء استخدام هذه الوسائل لتحقيق عدة اهداف هي:
- تعبئة الجماهير والتجنيد، والحشد، والتحريض ضد الاحتلال.
- زيادة الوعي بالأحداث الجارية ومحاولة توسيع الحراك ليضم شرائح ومناطق جغرافية جديدة.
- خلق روابط قوية مع الجمهور الفلسطيني العريض، وبالتالي إمكان التفاعل مع الأحداث بشكل مباشر وسريع.
- تقليل تكاليف عملية تعبئة الاحتجاجات ونشر المعلومات وزيادة سرعة تداولها وانتشار نطاقها.
- الالتفاف على التعتيم الإعلامي المفروض، سواء من قبل إسرائيــل أو السلطة الفلسطينيــة، وكســر القبضــة الأمنيــة التــي تحتكــر نشــر المعلومــات.
- نقل الاحتجاجات والمظالم الفلسطينية من المستوى المحلي إلى المستوى الدولي، مما سمح بإعادة إنتاج وتأكيد قضية الفلسطينيين ومظلوميتهم أمام الرأي العام الدولي.
الأقصى هو الهدف
في العموم وفي خلفية الأحداث، لم يعد يخفى على أحد أن المسجد الأقصى، قد أصبح هدفًا لجميع مكوّنات المجتمع الصهيوني، بكل أطيافه وتنوعاته على الرغم من التباين في هذا المجتمع، إذ تتضافر الجهود من أجل تهويده وإقامة ما يزعمون أنه الهيكل الثالث. ويتم لأجل ذلك ضخ مليارات الدولارات، وتأسيس جمعيات ومؤسسات للغاية نفسها. ويظهر تقرير أعده المركز الإعلامي لشؤون القدس والأقصى «كيوبرس» أن المجتمع الصهيوني بكل مركباته يتربص بالمسجد الأقصى شرًا ويمارس دورًا في استهدافه، إما بالاقتحامات الميدانية وتدنيسه، أو بوضع المخططات والدراسات على أساس النشاط التلمودي التهويدي، أو من خلال النشاط السياسي الداعم. وأوضح التقرير أن الأفراد الصهاينة العاديين - جماعات وفرادى - هم ضمن أذرع هذه المركبات، بالإضافة إلى الجماعات والمنظمات والحركات التي تعنى بهذا الشأن، والشخصيات السياسية والدينية كالوزراء وأعضاء الكنيست والحاخامات. وخلص التقرير إلى أن هناك أدوارًا ومهمات تتداخل وتشكل في نهاية المطاف إجماعًا صهيونيًا تتكامل أدواره ويمارس الاعتداء اليومي المنسق والممنهج على المسجد الأقصى، بهدف فرض وجود يهودي يومي فيه، مع العمل الدائم والدؤوب للحفر تحت أركانه وصولاً إلى هدمه كليًا.