جيشنا

أثبتت المؤسسة العسكرية على مرّ السنوات والأزمات، أنها قادرة على تخطّي الصعوبات ومواجهتها بإرادة الصمود والابتكار، وبهمّة عناصرها. وإذ تُقدم كل من وحداتها قصة تؤكّد أنّ الجيش سيبقى مصدر الأمان لهذا الوطن الذي يعاني، تُشكّل قصة اللواء اللوجستي نموذجًا للمرونة في التكيّف مع الظروف الصعبة، ومضاعفة الجهود واستثمار الطاقات والمواهب وتوظيفها، لا لخدمة اللواء والمؤسسة العسكرية فحسب، بل لخدمة كل الوطن.

جولة في هذه المدينة اللوجستية كفيلة بأن تترك زائرها في ذهول، لما يعاينه من جهود ومهارات وإيجابية في خضمّ كل سوداوية المشهد اللبناني. هنا الاستسلام ممنوع، والسعي حثيث إلى التميّز رغم كل الظروف، وإلى تحويل اللواء إلى قطعة منتجة من خلال عدة مشاريع. فالأزمة كشفت عن الكثير من القدرات لدى العسكريين وفتحت الباب أمام الاستفادة منها وتطويرها للتكيّف مع الأوضاع الراهنة.

خطوط الجهد

البداية كانت مع قائد اللواء اللوجستي العميد الركن جوني عقل، الذي تحدّث عن 3 خطوط جهد يعمل عليها اللواء:

1. تقديم المساندة اللوجستية لكل الوحدات في السلم والحرب، في أثناء تنفيذ المهمات العسكرية والقتالية أو عمليات حفظ الأمن. ولدعم هذه المهمة، يعمل اللواء على تطوير القدرات البشرية والإدارية، لتقوم كل المديريات التابعة للواء بواجبها على أكمل وجه.
2. تعزيز معنويات العسكريين والتأكيد لهم أنّ قيادتهم إلى جانبهم، وهذا ما يُعمل عليه من خلال دراسة الحاجات والعمل على تأمينها في مركز العمل.
3. تحويل اللواء إلى قطعة منتجة، ليس فقط على صعيد المؤسسة العسكرية بل على صعيد الوطن، وذلك من خلال عدة مشاريع.

تدعم هذه الخطوط الثلاثة مشاريع ومبادرات تستثمر قدرات العسكريين وتركّز على الاستدامة، وإعادة التدوير، والإنتاج والتوفير.

إلى المشاغل...

انطلقنا في جولتنا الميدانية مع العميد الركن أيوب رشيد رئيس القسم الثاني في اللواء، وكانت أولى محطاتنا في المشاغل حيث تتلقى آليات الجيش مستويات عالية من المساعفة غير المتوافرة في الوحدات، وهذا أمر بالغ الحيوية في ظل شح الموارد المالية وتهالك العتاد بسبب عدم القدرة على تجديده.

أوّل ما يلفت النظر هنا آليتان معروضتان عند مدخل المشغل: هامفي وديفندر، الهيكل الخارجي للآليتين غير موجود، فالمقصود أن تكون القطع الميكانيكية من المحرّك إلى ناقل الحركة والدواليب والفرامل وغيرها مكشوفة، بما يتيح استخدام الآليتين كمشبهين للآليات الموجودة في الجيش. الفكرة مستوحاة من زيارة لقائد اللواء إلى المملكة المتحدة، والهدف منها التدليل للتلامذة والميكانيكيين على كل التفاصيل الميكانيكية الموجودة داخل هاتَين الآليتَين وكيفية عملها، لتجنّب الأخطاء في تركيب القطع وبالتالي التقليل من هدر الوقت والقطع.

ونتابع دخولًا إلى غرفة التدريب، حيث تُعرَض كل قطعة ميكانيكية موجودة في الديفندر والهامفي على حدة (والتي تُعتبر قطعها باهظة الثمن وحسّاسة)، مع تعريف لكل منها ووصفها ودورها باللغتين الإنكليزية والعربية، ليشرحها المدرّب بكل تفاصيلها. كما عُرضَت كل الأجزاء الكهربائية في مثل هذه الآليات بهدف تجربة كل وظيفة والأعطال التي قد تصيبها وكيفية تصليحها، ومن جهة أخرى عُرضَت الحساسات sensors الخاصة بالديفندر، وآلة تنظيف البخاخات... كل ذلك يتعرف عليه المتدرب خلال فترة تدريبه في المدرسة التقنية التابعة للواء.

إشارة إلى أنّ المدرسة التقنية هي صرح أكاديمي يسعى إلى تعزيز قدرات الجيش، والتأكيد على جهوزيته ومواكبته للتطور والحداثة. فهي تتولى التدريب المهني والتقني لكل الوحدات، بما يُتيح رفع الكفاءة وتخفيف الفاتورة اللوجستية. وقد زوّدت مشبهات وتجهيزات تفعّل التدريب التطبيقي وتزيد من خبرة المتدرّبين.

تأهيل الآليات والمعدات

في مشغل تأهيل الآليات مشروع كبير انطلق منذ عدّة أشهر، حيث تمّ تحوير آليات استطلاع مكشوفة مقدَّمة هبة من بريطانيا، وتزويدها الأسقف والأبواب والشبابيك العائدة لقطع من آليات اللواء المنفاة، وبالتالي تم تطويعها لتصبح مناسبة لمهمات اللواء من دون أي تكلفة. وقد باتت إحدى هذه الآليات جاهزة لإرسلها كمشغل متحرك أو لمواكبة مهمات قتالية وأخرى اعتيادية.

في موازاة ذلك، تسلّم اللواء هبة فرنسية هي عبارة عن 8 آليات فاب للاستفادة من قطعها لتصليح آلياته، ولكنّه عوضًا عن ذلك قام بتصليح هذه الآليات وإعادتها إلى العمل بقدراته الخاصة، 6 منها أُهّلت بالكامل وباتت جاهزة فتمّ تسليمها إلى فوج المغاوير، والعمل جارٍ على تأهيل الإثنتَين المتبقيتَين.

وفي تجربة هي الأولى من نوعها في مشاغل تجديد المجموعات، ومع تعطّل أول آلية بانهارد قديمة الصنع وصعوبة إيجاد قطع بدل لها في السوق، وبالتالي عدم إمكان تصليحها، قام عناصر اللواء بتحوير محرّكها من البنزين إلى الديزل المتوافر في السوق بأقل كلفة، مع تعديل بسيط فيها. وها هو اللواء يجرّب هذه الآلية ويقوم بفحصها كاملةً للتأكد من فاعليتها وتعميم هذه التجربة على كل آلية من هذا النوع تصاب بعطل. مع الإشارة إلى أهمية هذه الآلية وفاعليتها في القتال في الأماكن المبنية والأماكن الضيقة، ومناورتها السريعة وتوافر ذخيرتها.

من جهة أخرى، تُنفَّذ عمليات صيانة الأعطال وتأهيل القطع لكل وحدات الجيش في مشغل صيانة وتأهيل المعدات الذي بات معملًا بكل ما للكلمة من معنى، مع ما يتطلّبه ذلك من مهارات وخطوط إنتاج، مما خفّف التكلفة والمصاريف في الجيش. وهذا المعمل حائز رخصة وزارة الصناعة مدى الحياة.

الاستدامة وإعادة التدوير

تطبيقًا لتعليمات الحفاظ على البيئة، وبما أنّ الجيش هو المستهلك الأكبر في البلد للدواليب الخاصة بالآليات، أعاد اللواء تشغيل معمل لإعادة تدوير الدواليب، إذ يتم فرم التالف منها للحصول على منتج نهائي من الكاوتشوك المطحون. وستكون الخطوة التالية إحضار مكبس للاستفادة من هذا المنتج في تصنيع البلاط المطاطي للأرضيات، ولحضانات الأطفال والملاعب الرياضية وهو ما سيشكّل دخلًا إضافيًّا يُستفاد منه لتلبية الاحتياجات.

باب آخر للتوفير وتخفيض الكلفة طرقه اللواء اللوجستي عبر معمل للدهانات الخاصة بطلاء الآليات العسكرية والذي يحتاج إلى كميات كبيرة منها سنويًا، المبنى المخصص لهذا المعمل هو قيد الإنشاء، والمواد والمعدات جاهزة.

قديمًا كانت في الجيش حرف أتقنها العسكريون وبرعوا فيها مثل خياطة الألبسة وتصنيع الأحذية العسكرية. اختفت هذه الحرف لفترة طويلة من الزمن، لكنها تعود مع افتتاح المعمل الخاص بها حديثًا، وهو جاهز مع العناصر الكفوءة لتلبية طلبات القيادة عند الحاجة.

بوابة الابتكار والتحف الفنية

المحطة التالية عند بوابة تُدخلنا إلى عالم من الابتكارات والحرف اليدوية. هنا قسم تنجيد وإعادة تأهيل المفروشات المكتبية القديمة وفرش السيارات والآليات العسكرية، وقسم خياطة الشوادر العسكرية، ومعمل التجهيزات المكتبية والمفروشات، والدروع، والمنشرة حيث يُعاد تدوير الأخشاب القديمة واستخدامها في تصنيع قطع فنية وأثاث للمنازل والمكاتب، وقد تم تنظيم معرض لها في بيروت منذ فترة قصيرة وكان الإقبال على شرائها لافتًا.

مركزي بيتي

مركز الخدمة بالنسبة للعسكري هو بيته الثاني، وأحيانًا يمضي فيه من الوقت أكثر مما يمضيه في بيته، وهذا ما دفع اللواء إلى تنفيذ العديد من المبادرات التي توفّر الراحة لعسكرييه ويستفيد منها أيضًا عسكريو القطع المجاورة له.

بدأت المبادرة الأولى بفرن مناقيش وتطوّرت مع افتتاح سناك للغداء يقدّم السندويشات بأسعار الجملة وبنوعية ممتازة، وهو يتمتّع بشهادة مصدّقة وعسكريوه لديهم شهادات صحية من وزارة الصحة. إلى ذلك تم تحسين خدمات بيت الجندي، وفيما استحدثت "قعدة صيفية"، وتم تجهيز قاعة شتوية، يستمتع العسكريون أيضًا بجلسة قهوة جميلة بين الأشجار. Log Café استراحة تمّ إنشاؤها من الحديد والخشب الموجود في اللواء، وقد تابع العسكريون العاملون فيها دورة في شركة متخصصة لتصنيع مختلف أنواع القهوة اللذيذة التي تُقدَّم لعسكريي اللواء، وتستقبل أيضًا من يأتي من الخارج.

كذلك فكّر اللواء بأدقّ التفاصيل لمواجهة الأزمة وتخفيف العبء على العسكريين، فأنشأ محطة لتكرير المياه للاستعمال العائلي المنزلي وللعسكريين في الخدمة. قدرة هذه المحطة تصل إلى 12 ألف لتر يوميًّا وهي تكفي للواء والقطع المحيطة، ومياهها تُفحص في مختبرَين للتأكد من أنها صالحة للشرب.

أبعد من ذلك، تحقق بعض المبادرات في اللواء هدفًا مزدوجًا إذ تخفف الأعباء المادية التي يتحملها العسكريون من جهة، وتوفّر له بعض المداخيل من جهة أخرى. من الأمثلة في هذا السياق، مغسل للسيارات، وكاراج غيار الزيت، وغيار الدواليب والبطاريات لجميع أنواع السيارات. يستفيد الضباط والعسكريون من هذه الخدمات التي تُقدم بنوعية ممتازة وبسعر الجملة، لذلك تشهد أماكن توافرها زحمة كبيرة.

وتجدر الإشارة إلى أن كل مشاغل اللواء مرخصة من وزارة الصناعة: مصنع تكرير وتعبئة المياه، ومواد التنظيف والصابون ومصنع القطع الفنية والحرفية ومعمل الدواليب وغيرها...

طموح اللواء اللوجستي أن يحوّل الضعف إلى قوة، والأزمات إلى مبادرات تضمن استمرارية الجيش. هذا الطموح بدأ يتحقّق من خلال العديد من المبادرات والمشاريع الجريئة، ومن خلال تعزيز التعاون مع القطاع الخاص من أجل تحقيق الوفر على صعيدي اللواء والمؤسسة العسكرية، وخدمة المجتمع اللبناني... والخير لقدّام!