- En
- Fr
- عربي
وجهة نظر
قد تكون حرب أوكرانيا على مشارف الهزيع الأخير، بعد هذا المدّ الواسع من الشراهة الطافحة من صحون المصالح الكبرى.
العلم الأبيض والتفاوض
استنادًا إلى القانون الدولي الإنساني، العلم الأبيض هو إحدى الوسائل العرفية المستخدمة في الحرب والتي ما زالت مستخدمة على نطاق واسع حتى اليوم. وهو يستخدم للكشف عن النية في التفاوض وحماية الذين يقومون بالتفاوض وهو لا يدل بالضرورة على اعتزام الخصم على الاستسلام. ويجوز التفاوض مع الخصم لأسباب عسكرية عملية، مثل التوصل لترتيبات لوقف إطلاق النار لإخلاء القتلى والجرحى أو لتبادل الأسرى، ويجب ألا يلحق الأذى بالأشخاص الذين يستخدمون العلم الأبيض خلال عملية التفاوض.
صراع ما بين المبادئ والأنظمة
الأمين العام لحلف شمال الأطلسي (الناتو) ينس ستولتنبرغ يقول إنّ «الحرب بدأت بالفعل، ولكن ليس في ساحة المعركة، بل بين مبادئ وأنظمة مختلفة».
يضيف: «إنّ الحروب بالإضافة لكونها خطرة، لا يمكن التنبُّؤ بها، وإنّ المأساة والمعاناة اللّتين ألحقتا بأوكرانيا من الخطر افتراض أنّه سيتم احتواؤه داخل حدودها».
سبقه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى القول «إنّ روسيا تواجه غربًا يريد إضعافها، وتفكيك أوصالها». برّر «عمليته العسكرية» للقضاء على «النازيّين الجدد»، ومنع حلف «الناتو» من تحويل أوكرانيا إلى خط تماس.
موقف ماكرون... والمواقف الأخرى
لم يقتنع الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بهذه النظريّة. حثّ القادة الأوروبيّين على مدّ أوكرانيا بالمزيد من السلاح (اجتماع في باريس 26 شباط)، وفاجأ حلفاءه في «الناتو»، والاتحاد الأوروبي، بموقف صادم «ينبغي التدخل عسكريًا، وعدم استبعاد أي شيء، حتى لا تتمكن روسيا من الانتصار في هذه الحرب».
ترك موقفه تموّجات. حاول قصر الإليزيه تدارك الأمر بالقول «إنّ تصريحات ماكرون فُهمت بشكل خاطئ، وإنّ المقصود هو الدفاع السيبراني، وإنتاج الأسلحة».
الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي رحّب، واعتبر مبادرة إرسال قوات «الناتو» إلى أوكرانيا «خطوة ملموسة لضمان أمن بلاده». الدول الأعضاء في «الناتو»، وعلى رأسها الولايات المتحدة، قابلت موقف ماكرون بالاستغراب والرفض لعدّة أسباب:
أولًا: «إنّ تلك التصريحات تمّ الإدلاء بها من دون تنسيق مع باقي الشركاء في حلف «الناتو» وتطبيقها يقتضي الإجماع».
ثانيًا: منذ بداية الحرب الروسية الأوكرانية، اتفقت الدول الأعضاء في «الناتو» على دعم أوكرانيا، لكن «من دون أن تكون طرفًا مباشرًا في الحرب لأنّ ذلك يعني الدخول في مواجهة مباشرة مع روسيا، قد تفتح الباب أمام حرب عالميّة ثالثة بالأسلحة النوويّة».
معارضة الداخل الفرنسي
في الداخل، قوبلت تصريحات ماكرون بانتقاد شديد اللهجة من طرف الحزبين المعارضين، الحزب اليساري «فرنسا الأبيّة» بقيادة جان لوك ميليشون، واليمين الشعبوي «التجمع الوطني الفرنسي» بزعامة مارين لوبين. وقال ميليشون في تغريدة على شبكات التواصل الاجتماعي: «إنّ الحرب ضدّ روسيا ستكون جنونًا». ووصف تصريحات ماكرون «بأنّها غير مسؤولة». وغرّدت مارين لوبين في موقع «إكس» قائلة: «لا أعلم إذا كان الجميع يدرك خطورة مثل هذا التصريح، يلعب إيمانويل ماكرون دور زعيم الحرب، لكنّه يتحدّث عن حياة أطفالنا بمثل هذا الإهمال. إنّ السلام والحرب في بلادنا هي التي على المحك».
زعامة أوروبا
وجاء في مقال تحليلي على موقع «دوتيشه فيله» الألماني «إنّ الاختلافات في ردود الفعل أظهرت أيضًا الجدل بشأن من يقود أوروبا، ففي حين تسعى فرنسا إلى الاضطلاع بدور أكثر نشاطًا في السياسة الخارجيّة، فإنّ ألمانيا غالبًا ما تفضّل التحفّظ، والفعالية بالتركيز بشكل أكبر على الحلول الدبلوماسية. وفي وقت يشوب فيه الغموض لدور ألمانيا القيادي في أوروبا، يبدو أنّ ماكرون انتهز الفرصة في محاولة لإبراز تطلعات باريس القيادية في أوروبا».
الإنتخابات الأميركية.. وحرب أوكرانيا
يحاول المتفهّمون وضع تصريحات ماكرون في السياق الذي تشهده الحرب الروسية في أوكرانيا، والدور الذي يؤديه الكونغرس الأميركي بتعليقه مساعدات واشنطن لكييف، خصوصًا وأنّ الغموض سيكتنف هذا الدعم مستقبلًا في حال عاد الرئيس السابق دونالد ترامب إلى السلطة في نهاية العام الحالي، فتصريحات الرئيس الفرنسي تعكس في عمقها هذا الاحتمال، وتأثيره على تماسك حلف «الناتو».
ترامب لن يدفع فلسًا واحدًا
يقول رئيس وزراء المجر فيكتور أوربان، إنّ الرئيس ترامب أبلغه في اجتماع بأنّه لن يعطي أي فلس لتمويل الحرب في أوكرانيا، أما فريق ترامب فلم يشأ التعليق.
وقال أوربان لمحطة البث العامة (أ م أ) إنّه تحادث مع ترامب في شأن الحرب الدائرة في أوكرانيا خلال لقاء جمعهما في دارة الميلياردير الجمهوري في مارالاغو.
وأضاف: لترامب رؤية واضحة جدًّا يصعب عدم الاتفاق معها، وهو يقول إنّه لن يعطي أي فلس لتمويل الحرب بين روسيا وأوكرانيا. ورأى أنّ ذلك سيضع حدًّا للحرب، لأنّه من الواضح أن أوكرانيا لا يمكنها أن تقف على قدميها بنفسها، وإذا لم يعطِ الأميركيّون المال، فلن يكون الأوروبيون قادرين لوحدهم على التمويل، وعندها ستنتهي الحرب.
مؤشرات حول المستقبل
من جهته، يرى منسّق السياسة الخارجيّة والأمن في الاتحاد الأوروبي جوزيب بوريل أنّ دول الاتحاد قد أعدّت خطة تمويليّة تقدر بـ 60 مليار دولار على مدى السنوات الخمس المقبلة، لكنّ السؤال: هل يمكن أن تستمر الحرب على مدى هذه السنوات الخمس؟ وهل تتحمّل البنى الأمنية والاقتصادية والاجتماعية والسياسية في أوكرانيا تداعيات حرب ضروس تمتد لخمس سنوات؟ هل تصمد؟ ثم كيف للاتحاد أن يستمر في الدعم لوحده إذا ما انسحبت الولايات المتحدة من الميدان؟ وخصوصًا إذا ما عاد دونالد ترامب إلى البيت الأبيض نهاية هذا العام.
لاءات ثلاث
يلخّص الأوروبيّون الوضع بلاءات ثلاث:
لا يمكن لأوكرانيا أن تنتصر وتستعيد ما فقدته من سيادة على أراضيها إلّا بدعم عسكري مباشر، وهذا غير وارد، لا في حسابات الأوروبيّين، ولا في حسابات حلف «الناتو».
لا يمكن للبنية الاجتماعيّة والاقتصاديّة الأوكرانيّة أن تتحمل وزر حرب استنزاف طويلة الأمد.
لا يمكن إلحاق الهزيمة بروسيا، كي لا يدخل السلاح النووي أرض المعركة، وينزلق العالم نحو حرب كونية ثالثة.
ردّ الفعل الروسي
لم يتأخر الردّ الروسي على تصريحات ماكرون والحراك الأوروبي، إذ أعلن المتحدث باسم الكرملين ديمتري بيسكوف: «إنّ التدخل العسكري في أوكرانيا من قبل دول حلف «الناتو» ليس لمصلحة هذه الدول بتاتًا». معتبرًا أنّ «مجرّد إثارة هذا الاحتمال يشكّل عنصرًا جديدًا مهمًّا في الصراع».
الشرق الأوسط
وفتح بيسكوف نافذة على الشرق الأوسط، متهمًا الدول الأوروبية وحلف «الناتو» بالكيل بمكيالين، «تستجمع قواها لدعم أوكرانيا، فيما هي عاجزة عن تقديم حلّ متوازن يضع حدًّا للمأساة في غزّة».
صحيفة «واشنطن بوست» الأميركية، أكّدت «أنّ حلف الناتو يسعى لتفادي الانجرار إلى حرب أوسع مع روسيا المسلّحة نوويًا. لا شيء يمنع أعضاء الناتو من الانضمام إلى هذا المشروع بشكل فردي، أو في مجموعات، لكنّ المنظمة نفسها لن تشارك، إلّا إذا وافق جميع الأعضاء الـ 31، وأنّ الاهتمام بدأ يتحوّل إلى الشرق الأوسط، والحرب في غزّة. وما يجري في البحر الأحمر يماثل حربًا أكثر كلفة على اقتصاديات العالم. فمقاطعة أكثر من 18 شركة ملاحية دولية البحر الأحمر، والدوران حول رأس الرجاء الصالح، يرفع تكاليف السلّة الغذائية، ويُرهق المستهلك، خصوصًا بعد الخلل الذي أصاب البنية الزراعية الإنتاجية، كون أوكرانيا كانت تحتل المرتبة 56 بين اقتصاديات العالم، وتحتل الزراعة أكثر من ثلثي مساحتها (603.542 كيلو متر مربع). وتقدّر صادراتها من الذرة بـ 4.8 مليار دولار، ومن زيت زهرة دوار الشمس بـ 3.8 مليار دولار، إضافة إلى 3.11 مليارًا من صادرات القمح، أي ما مجموعه 11.7 مليار دولار. وهي تحمل لقب «سلّة خبز أوروبا» كونها تنتج: 12 بالمئة من القمح، 16 بالمئة من إنتاج الذرة، و18 بالمئة من الشعير. وتُعدّ الصين وروسيا وألمانيا وبولندا وإيطاليا من أبرز الشركاء التجاريين لأوكرانيا التي تشكّل وجهة اقتصاديّة– تجاريّة مهمّة مع 18 دولة عربيّة في طليعتها مصر (أكثر من 46 مليار دولار من القمح والذرة)، تليها المملكة العربيّة السعوديّة.
واردات الأسلحة ومعادلة المنتصر مهزوم
فيما تروّج جبهات المعارك المفتوحة من أوكرانيا إلى غزّة، مرورًا بجنوب لبنان وسوريا والعراق واليمن، للصناعة الحربيّة، تضاعفت واردات الأسلحة إلى أوروبا في السنوات الخمس الماضية، وتضخّمت بسبب الحرب في أوكرانيا، والشرق الأوسط، في حين انخفضت الصادرات الروسيّة وفق تقرير لمعهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام (سيبري)، نُشر في 11 آذار 2024. وقال المعهد إنّ أوكرانيا أصبحت رابع أكبر مستورد للأسلحة في العالم. وحلّت فرنسا محل روسيا بصفتها ثاني أكبر مصدّر في العالم بعد الولايات المتحدة الأميركيّة.
وخلال الفترة ما بين 2019 و2023، قفزت واردات الأسلحة إلى أوروبا بنسبة 94 في المئة، مقارنة بالسنوات الخمس السابقة - وفق المعهد - وهذه الزيادة تعود إلى الحرب المفتوحة في أوكرانيا وغزّة.
اللافت في التقرير، هو أنّ السلاح على تنوّعه لا يحقّق انتصارات، لأنّ المنتصر مهزوم في النهاية تحت وطأة التراكمات والتداعيات وأحجام الخراب والدمار والكلفة العالية لإعادة الإعمار.
ما بين البجعة.. والراية البيضاء
يفيد ما اختزنته تجربة الميدان بأنّ «الحربَين عبثيتان»، وأنّ وقفًا لإطلاق النار لا بدّ منه مهما طال الزمن، والتسوية آتية لا محال.
الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، المنخرط في حرب أوكرانيا، يؤدي دور عرّاب السلام في غزّة. وهو استضاف حوارًا فلسطينيًا – فلسطينيًا في موسكو حول اليوم التالي ما بعد الحرب، ومستقبل القضيّة، والدولة الفلسطينيّة. إنّه يمتطي «البجعة البيضاء» في نزهة اختباريّة، فيما دبلوماسيته تنشط في المنطقة للتوصل إلى وقف لإطلاق النار، ثابت ونهائي.
ودعا البابا فرنسيس الذي تحدّث إلى قناة «آر تي سي» السويسرية العامة، أطراف النزاع في أوكرانيا، إلى «التحلّي بشجاعة رفع الراية البيضاء، وعدم الخجل من التفاوض قبل أن تتفاقم الأمور». ورأى «أنّ الأقوياء هم أولئك الذين يرون الوضع، ويفكّرون في الناس، ولديهم الشجاعة لرفع الراية البيضاء، والتفاوض».
الرئيس التركي رجب الطيّب أردوغان أبدى في رسالة فيديو مسجّلة بعث بها إلى القمّة المنعقدة في العاصمة الألبانية، بين الرئيس الأوكراني، وقادة دول البلقان، «استعداد بلاده لتأسيس طاولة مفاوضات بين روسيا وأوكرانيا في إسطنبول من أجل السلام».
الرئيس الصيني شي جينبينغ أوفد مبعوثه الخاص للسلام في أوكرانيا ماي هوي في جولة قادته إلى خمس دول أوروبيّة، بما فيها روسيا وأوكرانيا، «للعمل على وقف إطلاق النار بين موسكو وكييف، والشروع في محادثات سلام لإنهاء الحرب التي اندلعت في 24 شباط 2022».
ويتحرّك باتجاه الشرق الأوسط، عصف دبلوماسي عالمي، وحراك أمميّ - دولي، لوقف حرب الإبادة في غزّة، وتهدئة «جبهات المساندة». جرت محاولات كثيرة في مجلس الأمن الدولي وخارجه، لإسكات المدفع ورفع راية السلام البيضاء، لم تنجح، لكنّ النجاح آتٍ لا محال. ويمكن للرؤوس الحامية، هنا وهناك وهنالك، أن ترفض، وتعترض إلى حين، لكنّ التسوية آتية حتمًا. ومهما طال التوغّل في أدغال الحرب الأوكرانية، والشرق أوسطية، لا بدّ من راية بيضاء تُرفع يومًا، وطاولة حوار منتج تُعقد، يزنّرها اللاعبون بمصير الشعوب والأمم، اللاهثون وراء سراب المصالح!...