علوم وتقنيات

كشف الألغاز من خلال أدلة طب الأسنان
إعداد: د. سومر سليمان سمعان

اختصاصي في طب الأسنان الشرعي وتحديد الهوية الإنسانية

يؤدي طب الأسنان الشرعي، وهو فرع أساسي من علوم الطب الشرعي، دورًا حاسمًا في حل لغز بعض الجرائم وتحديد هوية الأفراد من خلال فحص أدلة الأسنان. يدمج هذا المجال طب الأسنان مع التحقيقات القانونية، ويستخدم بقايا الأسنان لتحديد الهوية، وتحديد أسباب الوفاة من خلال تحليل الترسّبات داخلها، وتقديم رؤى قيّمة في الجرائم والقضايا الجنائية.

”يؤدي طب الأسنان الشرعي دورًا أساسيًا في التحقيقات الجنائية وقد أصبح أكثر تطورًا مع تقدم التكنولوجيا، وهو يتفوّق في الكشف عن الحقائق في القضايا الجنائية، مساعدًا في تحقيق العدالة للضحايا وعائلاتهم.“

”يعتمد الطب الشرعي على مجموعة متنوعة من الأساليب والتقنيات لتحديد الهوية الإنسانية، وقد تتضمن هذه الطرق فحص الحمض النووي وأخذ البصمات وصور الأشعة… لكن يبقى للأسنان مميزات خاصة تجعلها بمنزلة الصندوق الأسود الذي يبقى من دون سواه في بعض الحالات. “

يشكّل طب الأسنان الشرعي تقاطعًا مميزًا بين طب الأسنان والتحقيقات الجنائية، وله نسب تاريخي غني يعود إلى قرون مضت، إذ يمكن إرجاع جذوره إلى الحضارات القديمة التي استفادت من خصائص الأسنان في التعرف على الأفراد وكشف الجرائم.

شهد القرن التاسع عشر تقدمًا في طب الأسنان الشرعي بفضل العمل الرائد للدكتور بول ريفير، وهو طبيب أسنان أميركي مشهور وشخصية رئيسية في الثورة الأميركية، وكان يُعتبر أول طبيب أسنان شرعي في الولايات المتحدة الأميركية، إذ تعرّف على جثة أحد الثوار وهو الجنرال جوزيف وارن، من خلال بعض التعويضات السنية – جسر من الفضة والعاج – وكان ذلك في العام 1776. كان تحديد ريفير لهوية الجنود القتلى بناءً على خصائص الأسنان بمثابة محطة رائدة في طب الأسنان الشرعي. مع تطور هذا التخصص، جلبت الحرب العالمية الثانية تطورات إضافية حيث أدى أطباء الأسنان الشرعيون أدوارًا حاسمة في تحديد هوية الأفراد العسكريين من خلال سجلات طب الأسنان.

الأسنان الشرعي، بدءًا من تحديد هوية ضحايا الكوارث الجماعية إلى التحقيقات الجنائية مرورًا بالأعمال الإرهابية. اليوم، وبمساعدة التكنولوجيا المتطورة وحفظ سجلات الأسنان الدقيقة، يظل طب الأسنان الشرعي أداة لا غنى عنها في كشف الألغاز وتوفير حل لحالات لا حصر لها. هذه الرحلة التاريخية بمنزلة شهادة على الأهمية الدائمة لأدلة طب الأسنان في مجال علم الطب الشرعي.

 

الطب الشرعي وتحديد الهوية

يعتمد الطب الشرعي على مجموعة متنوعة من الأساليب والتقنيات لتحديد الهوية الإنسانية، وقد تتضمن هذه الطرق فحص الحمض النووي وأخذ البصمات وصور الأشعة… لكن يبقى للأسنان ميزات خاصة تجعلها بمنزلة الصندوق الأسود الذي يبقى من دون سواه في بعض الحالات.

يعتمد طب الأسنان الشرعي في المقام الأول على تفرّد الأسنان ومتانتها، فالأسنان البشرية فردية للغاية رغم وجود اختلافات في شكلها وحجمها ومحاذاتها وترميماتها، وهي تُعرف بـ «بصمة الأسنان». يشمل هذا المجال تقنيات مختلفة لتحليل أدلة الأسنان، بما في ذلك سجلات الأسنان، وتحليل علامات العض، وفحوصات ما بعد الوفاة. وتكمن أهمية الأسنان في كونها جزءًا مقاومًا لمعظم العوامل الطبيعية مثل التحلّل مع مرور الزمن، وأيضًا للحوادث والحرائق والكوارث الطبيعية، وفي بعض الأحيان تكون الدليل الوحيد المتبقي.

 

سجلات الأسنان

سجلات الأسنان ضرورية في طب الأسنان الشرعي. يحتفظ أطباء الأسنان بسجلات شاملة لتاريخ أسنان المرضى، بما في ذلك صور الأشعة السينية والانطباعات وتفاصيل العلاج، في ملف طبي واضح يتضمّن تاريخ كل علاج خضع له المريض. تعمل هذه السجلات بمثابة خط أساس للمقارنة عند اكتشاف بقايا مجهولة الهوية أو أدلة أسنان. من خلال مقارنة سجلات الأسنان قبل الوفاة مع نتائج ما بعد الوفاة، يمكن لأطباء الأسنان الشرعيين تحديد هويات إيجابية. ومن ميزات هذه الطريقة السرعة في إعطاء النتائج للجهات المختصة أو أهالي الضحايا، بعكس تحاليل أخرى تتطلب وقتًا أكثر، فضلًا عن صعوبة الحصول على عينات غير ملوثة في بعض الحالات والكلفة المرتفعة لهذا الفحص.

تتجلّى أهمية هذه التقنية في حالات التلف الكاملة أو الجزئية لجثث الضحايا، مثل حالات الحرائق التي تسبب تلف الأنسجة وبالتالي خسارة أدلة طبية مثل البصمات. ويصعب في هذه الحالات أيضًا الحصول على عينات الحمض النووي، أما الأسنان فتبقى الجزء الوحيد المقاوم لهذه العوامل.

تستفيد تقنيات فحص الأسنان المتقدمة من التطور التكنولوجي، وتُمكّن الأطباء من مقارنة وتحليل هياكل الأسنان بدقة. يساعد هذا الأمر في إجراء المقارنة بين سجلات الأسنان قبل الوفاة والأدلة المستخرجة بعد الوفاة، ما يؤدي إلى تحديد الهوية بشكل دقيق. إحدى هذه التقنيات هي الأودونتوغرام، وهو نظام رسم بياني يُستخدم في طب الأسنان لتسجيل معلومات الأسنان وتوثيقها لدى المرضى. يتضمن الأودونتوغرام رسمًا تخطيطيًّا للفكَّين يُظهر توزيع الأسنان وترتيبها، ووضع جهاتها الخمسة وجذورها ووجود أسنان مزروعة، ما يعكس حالتها الصحية والعلاجات التي تم تنفيذها.

تتم تعبئة هذا السجل حسب الملفات الطبية والصور المتوافرة قبل الوفاة ومقارنتها بالسجل الذي تمّت تعبئته عند الفحص الطبي الشرعي بعد الوفاة، ومن ثم مقارنة الأودونتوغرام قبل الوفاة وبعدها، واستخلاص النتائج. كما يتم مقارنة صور الأشعة وتحديد درجة التطابق وتحليل أسباب الاختلافات البسيطة في حال وجودها (خضوع المريض لإجراء علاجي من دون إضافته للملف الطبي).

في بعض الحالات قد يطلب القضاء أو أهالي الضحايا تأكيدًا إضافيًا لنتائج فحص الأسنان الطبي الشرعي، فيكون الدليل داخل الأسنان نفسها حيث يوجد أيضًا الحمض النووي. يظهر هذا الحمض في الأنسجة داخل الأسنان، وتحديدًا في اللب الذي يحتوي على الأوعية الدموية والأعصاب. وفي استخراج العينات للتحليل الجيني، يُعَدّ اللب داخل السن المكان المفضل والأكثر دقة، إذ يوفّر إمكان الوصول إلى مصدر غني بالحمض النووي، ما يُمكّن من إجراء التحاليل اللازمة.

 

تطبيقات طب الأسنان الشرعي

لا يقتصر طب الأسنان الشرعي فقط على حالات تحديد الهوية، إذ تعتبر هذه الناحية مجرد جزء من مهمته، فنطاقه يشمل قضايا أخرى حساسة في المجتمع. من بين هذه القضايا، يبرز التصدي للاعتداء الجسدي، وقضايا التعنيف، والتحقيق في حالات الاغتصاب، بالإضافة إلى مساهمته في معالجة حالات انتهاك حقوق الإنسان. في مواجهة قضايا الاعتداء الجسدي والتعنيف، يقدم طب الأسنان الشرعي تحليلات دقيقة تسهم في فهم آثار الضرب والتشويه على الأسنان والفم، كما تُحلل آثار العض على أجساد الضحايا. ويؤدي هذا الطب دورًا مهمًا في جمع الأدلة وتحليلها في حالات الاغتصاب، إذ يمكن استخدام التحاليل الفموية والأسنان لتقديم أدلة قوية تسهم في مساعدة الضحية وتحقيق العدالة. وفي إطار حقوق الإنسان، يسهم طب الأسنان الشرعي في التحقيق في حالات الانتهاكات والتعذيب، ويمكن استخدام الأدلة الطبية المتعلقة بالأسنان لتقديم شهادات تدعم القضايا المرفوعة ضد انتهاكات حقوق الإنسان. بهذا الشكل، يبرز دور طب الأسنان الشرعي كمساهم حيوي في تقديم العدالة ودعم القضايا الحساسة التي تتطلب تحليلًا دقيقًا وشاملًا.

 

تحليل علامات العض

غالبًا ما تترك علامات العض أنماطًا مميزة يمكن أن تكون حاسمة في التحقيقات الجنائية. يقوم أطباء الأسنان الشرعيون بفحص علامات العض على الضحايا أو الأشياء لربط الأفراد بمسرح الجريمة. الخصائص الفريدة للأسنان مثل الترميمات، وعدم انتظام المحاذاة، وتآكل الأسنان، تساعد في تضييق نطاق المشتبه بهم المحتملين. ويتم أخذ طبعة لأسنان المتّهم ومقارنة تفاصيل الأسنان الدقيقة مع آثار العض الظاهرة على جسد الضحية. أحد الأمثلة البارزة في هذا السياق كان قضية القاتل المتسلسل تيد بندي. كان ثيودور روبرت بندي قاتلًا متسلسلًا أميركيًّا اختطف واغتصب وقتل عشرات الشابات والفتيات خلال السبعينيات وربما قبل ذلك. بعد أكثر من عقد من الإنكار، اعترف بارتكاب 30 جريمة قتل في سبع ولايات بين العامين 1974 و1978، وإجمالي ضحاياه الحقيقيين غير معروف حتى الآن. تم اتهام تيد بندي بجرائمه من خلال التحليل الطبي الشرعي للأسنان. ففي العام 1978، عندما كان قد تم القبض عليه، قام أطباء الأسنان بتحليل أسنانه ومقارنتها مع آثار العض التي تركها على ضحاياه. كانت هذه التحاليل الطبية حاسمة في توجيه الاتهام إليه، إذ تم تأكيد التطابق بين أسنانه وآثار العض على جثث الضحايا. تم اعتبار تحليل الأسنان لتيد بندي أحد الأدلة الحيوية الرئيسية التي أسهمت في إدانته، وقد أدت هذه الأدلة إلى إصدار حُكم الإعدام بحقه.

 

الكوارث الجماعية

أصبح طب الأسنان الشرعي أمرًا لا غنى عنه في الكوارث الجماعية، مثل حوادث الطائرات أو الكوارث الطبيعية أو العمليات الإرهابية، ففي هذه الحالات قد يكون تحديد الهوية بالطرق التقليدية صعبًا بينما تساعد سجلات الأسنان وفحوصات الأسنان بعد الوفاة في التعرف على الضحايا عندما لا تكون الوسائل الأخرى ممكنة. في حالات الكوارث الجماعية توضع السلطات تحت ضغط كبير بسبب مطالبة ذوي الضحايا والرأي العام بتحديد هويات الضحايا وتسليمها إلى ذويهم بالسرعة الممكنة، وتكون الجهات المختصة عادةً أمام أعداد كبيرة من الضحايا وفي الوقت نفسه لا يمكن إهمال تحديد هوية كل ضحية بشكل مؤكد. هنا تظهر أهمية طب الأسنان الشرعي الذي يقدم نتائج دقيقة وفي وقت قياسي. أحد الأمثلة في هذا السياق حادثة تسليم جثث خاطئة في كارثة تسونامي المحيط الهندي في العام 2004، والتي تسببت في وفاة الآلاف. أدت الكارثة إلى تشوه العديد من الجثث، ما جعل تحديد الهويات أمرًا صعبًا  في أحد المستشفيات الأندونيسية، تم تسليم جثة لأسرة خاطئة بسبب الارتباك والضغط الكبير. بعد فترة، تقدّم أحد أفراد الأسرة بشكوى مفادها أنّ الهوية غير صحيحة، وتمّت إعادة فحص الجثة عبر فحص الأسنان، وأمكن بالتالي تصحيح الخطأ. تُظهر هذه الحادثة أهمية تحديد الهويات بدقة وتوفير إجراءات فحص موثوقة، خصوصًا في الكوارث الكبيرة التي تسبب صعوبات إضافية في التعرف إلى الضحايا.

 

دور حيوي

يؤدي طب الأسنان الشرعي دورًا أساسيًا في التحقيقات الجنائية وقد أصبح أكثر تطورًا مع تقدم التكنولوجيا، وهو يتفوّق في الكشف عن الحقائق في القضايا الجنائية، مساعدًا في تحقيق العدالة للضحايا وعائلاتهم. تعتمد أهمية طب الأسنان الشرعي على القدرة على تحليل بيانات الأسنان بدقة، إذ يمكن استخدام الأدلة السنية لتحديد الهوية، وحتى تقديم توقعات حول معلومات مثل العمر. ويُعدّ تحليل الأسنان أحد أفضل الوسائل لتحديد الهوية، خصوصًا في حالات عدم توافر الأدلة الأخرى. ومن خلال تطبيق تقنيات التصوير الثلاثي الأبعاد وتحليل الأسنان، يمكن لطب الأسنان الشرعي توفير معلومات دقيقة وشاملة. وتسهم هذه التقنيات في توجيه التحقيقات وتحديد ملابسات الجرائم بشكل أفضل.  وبفضل التقدم المستمر في مجال التكنولوجيا والأبحاث العلمية، يظل طب الأسنان الشرعي في موقع ريادي، ما يعزز دوره الحيوي في دعم العمل القضائي والتحقيقات الجنائية.