- En
- Fr
- عربي
العوافي يا وطن
لأنّنا صمدنا، لأنّنا تضامنّـا،ولأنّنا أبناء هذه الأرض المؤمنون بأنّها أمانة سنسلّمها لأبنائنا، تعبت آلة الدمار.
تعبت من قتلنا في وطننا وأرضنا وداخل منازل بنيناها بكثيرٍ من العرق والأحلام والأعمار..
قُتِلنا، تطايرت أشلاء أطفالنا وألعابهم وكتبهم.
نُبِشت أضرحة موتانا.
دُمِّرت معالم حضارات شعّت في بلادنا منذ آلاف السنين.
أراد العدو أن تُختَم ذاكرتنا بشمع الظلم.
سعى جاهدًا لتمزيق نسيجنا الوطني بآلاف الأطنان من القذائف، ومئات التحذيرات والتهديدات والاستهدافات التي لاحقت الآمنين في كل المناطق.
في القرن الـ21 كيف يكون ما عشناه حقيقة؟
يصعُب على المخيلة أن تستنبط صورًا كالتي رأيناها، عشناها.
صور راحت تأكلنا. تحاصر حياتنا بمفردات الموت: مجازر، دمار، رعب، صواريخ، طائرات، حرائق، نزوح...
لكن، ولأنّنا صمدنا، أتى اليوم الذي انتهى فيه الكابوس الرهيب.
كيف سيكون شكل الحياة بعد هذا اليوم؟
كيف لنا أن نسير فوق تراب قُرانا وفي كل شبر منها روح أُزهقت ودماء تستصرخ ضمير العالم؟
كيف سنعيد نسج أيامنا وعلاقاتنا بعالمٍ فيه هذا القدر من التوحّش؟
في الماضي البعيد صدّرنا الأبجدية إلى العالم فأشرقت حضاراته.
اليوم بتنا بحاجةٍ إلى ابتكار أبجدية جديدة نُصدّرها إلى هذا العالم ليستعيد إنسانيته.
أبجديتنا الجديدة تولد اليوم من رحم الظلم والدمار والنار.
أبجديةٌ حروفها من مبادئ وقيم تُشرق في مجتمعنا وتتجلى في مواقف وسلوكيات شهدناها يوميًا على مدى أكثر من شهرين في كل ناحية من أنحاء الوطن.
مواطنون يتقاسمون أمان بيوتهم ومناطقهم مع إخوة لهم لم تلدهم أمهاتهم، ولم يسبق أن ربطتهم بهم معرفة عن قرب. هؤلاء بمعظمهم لم تُرهبهم طائرات تلاحق بصواريخها وقذائفها الهاربين من الموت، بل تحدّوها وظلّوا مصممين على احتضان إخوتهم.
متطوعون في مجالات الإنقاذ والإسعاف يمضون الأيام والليالي في مقارعة الخطر بين أطنان من الركام لينقذوا روحًا، أو ينتشلوا جثامين لتُدفن بما يليق بكرامة الإنسان. وهؤلاء ليسوا فقط ممن ينضوون في عداد المؤسسات المختصة، وإنما هم مواطنون اختصاصهم النخوة والشجاعة.
أطباء، ممرضون، إعلاميون... يجابهون الخطر بشجاعة ليؤدوا واجبهم المهني والإنساني.
طيارون سجّلوا للتاريخ أنّهم اقتحموا النيران مئات المرات وهم يحلّقون في رحلات شبه إعجازية حافظت على شريان التواصل بين لبنان والخارج.
شبان وشابات يخصصون معظم أوقاتهم ومواردهم لخدمة إخوتهم. آخرون أفرغوا خزائن ثيابهم من محتوياتها وأرسلوها إلى حيث هناك مَن خرج من بيته وليس معه سوى رحمة الله وما يرتديه من ثياب.
كُهول من رجال ونساء لم يبخلوا بما استطاعت قدراتهم أن يجودوا به، خدمة وعونًا وتعاطفًا.
بلد تجتاحه الأزمات والمصائب منذ سنوات، لا موارد في مالية حكومته ولا إمكانات، لا مساعدات من الخارج ترقى إلى حجم المعاناة والحاجات فيه، يظل قادرًا على لملمة أوجاعه. من الصعب أن يحصل هذا كله في أماكن كثيرة من هذا العالم.
لكن، قبل ذلك كله وبعده، ذلك الإصرار يتدفق من عيون الصغار وأفواه الكبار، عائدون إلى أرضنا لنقيم فيها وإن كانت بيوتنا ركامًا ورمادًا. إصرار ما لبث أن تُرجم على أرض الواقع منذ الإعلان عن اقتراب موعد وقف إطلاق النار. قبل ساعات من هذا الموعد كان العدو يحاول إفراغ كل ما في أبجديته من حقد عبر تحذيرات وصواريخ وقذائف انصبّت بجنونٍ لم يشهد مثله التاريخ على بيروت وضاحيتها وصيدا وصور والبقاع والنبطية وصولًا إلى المعابر الحدودية شمالًا. زنّرت النيران بيروت وزلزلت القذائف المدمرة في المناطق مرتكبة أكبر وأبشع عملية ترويع. لكن في هذا الوقت بالذات كانت مئات السيارات تحتشد على طريق العودة في صيدا، وما أن بزغ الفجر حتى كانت أهازيج العائدين تملأ الأفق ومواكبهم تُعلن أنّ لبنان هو مقبرة لليأس ومصنع للحياة، مشهد من الصعب أيضًا أن نراه سوى في هذا البلد.
في عيون العائدين أوجاع أعمق من أن يُدرَك مداها، فما من عائلة إلا وأصابها من الحزن ما يهدّ جبالًا، لكن في العيون نفسها وهج الإيمان والأمل والإصرار على التشبُّث بأرضنا.
تلك أبجديتنا المكتنزة بتراثنا المشبع بالإنسانية الحقّة، وتلك مفرداتها النابعة من تاريخنا، بها نستطيع الصمود والنهوض والتعافي، ومعنا يتعافى الوطن، وتُدرك آلة الدمار المتوحّش أنّنا أقوى منها.
نعم، سوف نصدّر للعالم أبجدية وُلدت حروفها من معاناتنا. وسوف يكتشف العالم أنّ التجربة التي نمرّ بها هي طريق نحو أفق جديد لوطننا.
عنوان هذا الطريق هو وحدتنا في السرّاء والضرّاء.
العوافي يا وطن
يا وطنًا تقول الأغنية: ”بيقولو مات وما بيموت، وبيرجع من حجارو يعلّي بيوت، وتتزيّن صور وصيدا وبيروت“...