وجهة نظر

كيم جونغ أون يهزّ شباك أوكرانيا، ترامب: ”الأمر لي!“
إعداد: جورج علم
كاتب ومحلّل سياسي

تمدَّد نحو أوكرانيا، لم يعد زعيم كوريا الشمالية كيم جونغ أون يتنزّه في حديقته المزروعة بالصواريخ من كلّ نوع وصنف، وقد تعب، وما زال يتعب، في تحديثها وترشيقها، بل خرج قاصدًا منتجعات البحر الأسود يتبختر على ضفاف البراكين المشتعلة ما بين كورسك الروسية، وتضاريس أوكرانيا ”الأوروبية“. المشوار مكلف، كونه يمضي على حافة التوازنات الدوليّة الكبرى، وأي ”دعسة ناقصة“ قد تدفع بصاحبها نحو المهاوي السحيقة، وعندها لا ينفع الندم، ولا حبال الأمان الروسية، في الحدّ من الخسائر.

 

يُقال بأنّ كيم جونغ أون منخرط في ورشة صنع التاريخ، لكن المصداقيّة مشوّشة، وإن كان ولعًا في ترتيب اليوم التالي في بلاده، ضمانًا لاستمرارية مديدة، هانئة، ومبجّلة يعهدها في ابنته كيم جو إي التي ترجّح وكالة الاستخبارات الكورية الجنوبية أن تكون خليفة والدها في الحكم. لكنّ الوالد يحيط عائلته بسريّة تامة، فلا يُعرف عنها إلّا قليل بعد أن أخفى زواجه من ري سول جو، فترة من الزمن، ولم تظهر للعلن إلّا في العام 2012.

 

استمراريّة مصفّحة بالأسرار

يقول فيدور تيرتسكيف، الباحث في سياسات كوريا الشمالية في جامعة كوكمين في سيول، إنّ وسائل الإعلام في كوريا الشمالية لا تذكر اسمها، ولا سنّها، وإن كانت تعترف بأنّها ابنة كيم جونغ أون، ولكن لا شيء يُعرف عنها غير ذلك، على الأقل في العلن، ويُرجّح أن يكون عمرها أكثر من 10 سنوات.

اصطحب كيم جونغ أون ابنته المدلّلة في تشرين الثاني 2022 إلى مجمّع الصواريخ لمشاهدة تجارب صاروخية، وبدأت في الظهور إلى جانبه منذ ذلك الحين في المناسبات العسكرية، وغير العسكرية.

ففي كانون الأول حضرا إطلاق صاروخ «هواسيونغ 18» الباليستي، العابر للقارات، ذي الوقود الصلب، وهو الصاروخ الأكثر تطورًا في البلاد. كما حضرت معه أيضًا إطلاق قمر التجسّس الصناعي «ماليغيونغ 1»، الذي تزعم كوريا الشمالية أنّه يُتيح لكيم جونغ أون نظرة على البيت الأبيض.

ولاحظ مراقبون للشأن الكوري الشمالي، أنّ كيم جو إي أصبح يُشار إليها بلقب «المحترمة» بدلًا من «المحبوبة»، وهو لقب يُضاف إلى أسماء الشخصيات المبجّلة في كوريا الشمالية، وهو ما حدث مع والدها كيم جونغ أون الذي لم يكن يُشار إليه بعبارة «الرفيق المحترم» إلّا بعدما حسم أمر تولّيه سدّة الحكم.

 

6 تشرين الثاني 2024

ذهب الزعيم الكوري الشمالي إلى كورسك الروسية، ليشارك صديقه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بزرع الانتصارات في سهول القمح، والذرة الأوكرانية، ودوّار الشمس الذي يدور مع كلّ شمس أطلسية.

الأربعاء، 6 تشرين الثاني 2024، كان تاريخًا لافتًا إذ كشف مسؤولان أميركيان لوكالة «رويترز» عن أنّ قوات كوريّة شماليّة شاركت في أعمال قتالية في منطقة كورسك الروسية في الأيام الماضية، وللمرّة الأولى. وأكّد أحد المسؤولَين الذي طلب عدم ذكره بالاسم: «إنهم شاركوا في القتال في الرابع من تشرين الثاني». ولم يذكر المسؤولان ما إذا كانت هناك أي خسائر بشرية في صفوف القوات الكورية الشمالية، ولم يقدّما مزيدًا من التفاصيل بشأن القتال.

وأفاد الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، في الخامس من تشرين الثاني، بأنّ المعارك الأولى بين الجيش الأوكراني وقوات كوريا الشمالية، «تفتح صفحة جديدة من عدم الاستقرار في العالم».

وقال وزير الدفاع الأوكراني رستم آومبروف، «إن اشتباكًا صغيرًا» حدث. وأكّد في مقابلة مع التلفزيون الكوري الجنوبي، أنّ هذا الاشتباك الأول مع قوات كوريا الشمالية، هو تصعيد واضح في الصراع الذي بدأ عندما غزت روسيا أوكرانيا في العام 2022.

وقالت وزارة الدفاع الأميركية (البنتاغون) إنّ هناك ما لا يقلّ عن 10 آلاف جندي كوري شمالي في كورسك الروسية، مضيفة أنّ ما بين 11 و12 ألف جندي موجودون في روسيا.

 

ما تريدون.. وما نريد

بالتزامن مع التأكيدات الأميركية – الأوروبية أنّ كوريا الشمالية أرسلت آلاف الجنود لدعم روسيا في حربها على أوكرانيا، أرسلت بيونغ يانغ وزيرة خارجيتها تشوي سون هوي إلى موسكو، حيث قابلت الرئيس فلاديمير بوتين، وأجرت محادثات مع نظيرها الروسي سيرغي لافروف. وفي جلسة مغلقة عقدها البرلمان الكوري الجنوبي، قالت وكالة المخابرات الكورية الجنوبية، إنّ تشوي شاركت في مناقشات رفيعة المستوى بشأن إرسال قوات إضافيّة إلى روسيا، والتفاوض على ما ستحصل عليه بلادها مقابل ذلك.

وجاء الكشف عن زيارة تشوي لروسيا بعد ساعات من إعلان وزارة الدفاع الأميركية أنّ كوريا الشمالية أرسلت نحو 10 آلاف جندي إلى روسيا، وأنّه من المتوقَّع وصول هذه القوات إلى ساحات القتال في أوكرانيا في غضون الأسابيع القليلة المقبلة. وقالت المتحدثة باسم البنتاغون سابرينا سينغ، «إن بعض هؤلاء الجنود انتقلوا بالفعل إلى مسافة قريبة من أوكرانيا. ويعتقد أنّهم يتوجّهون إلى إقليم كورسك الحدودي حيث تكافح روسيا في التصدّي لتوغُّل أوكراني».

وانضم حلف شمال الأطلسي (الناتو) إلى الولايات المتحدة الأميركية وكوريا الجنوبية وأوكرانيا في تأكيد إرسال كوريا الشمالية قوات إلى روسيا، مؤكدًا: «إنّ وحدات عسكريّة تابعة لبيونغ يانغ تمّ نشرها في منطقة كورسك الروسية على الحدود مع أوكرانيا». وأعرب زعماء كوريا الجنوبية، ودول غربيّة عن قلقهم من أنّ تدخّل كوريا الشمالية يمكن أن يساعد في إطالة أمد الحرب في أوكرانيا، وأنّ موسكو قد تقدّم التكنولوجيا لبيونغ يانغ مقابل ذلك، ما قد يزيد التهديد الذي يشكّله برنامج الأسلحة النووية والصاروخية لكوريا الشمالية.

وبحسب وكالة «أسوشيتد برس»، فإن «كوريا الشمالية قد تتلقى مساعدات روسيّة في مجال الفضاء، والاستطلاع الفضائي». وأضافت الوكالة: «إنّ كوريا الشمالية قد تحصل على مكوّنات متقدمة من روسيا في الوقت الذي تستعد فيه لإطلاق قمر صناعي آخر للاستطلاع العسكري بعد محاولة فاشلة في أيار الماضي».

 

قلق.. وحبس أنفاس

شارك الرئيس الكوري الجنوبي يون سوك يول في مكالمة هاتفيّة مع رئيسة مفوضية الاتحاد الأوروبي آورسولا فون دير لاين، والأمين العام لحلف شمال الأطلسي مارك روته، تقييمات الاستخبارات الكورية الجنوبية بشأن إمكان «نشر قوات من كوريا الشمالية على جبهات القتال بسرعةٍ أكبر مما كان متوقعًا». ودعا يون إلى «تنسيق أوثق مع الحكومات الأوروبية يستهدف رصد وضع التبادلات غير القانونية بين بيونغ يانغ وموسكو».

وقال في اجتماع لمجلس الوزراء في العاصمة سيول: «إنّ التواطؤ العسكري غير القانوني بين روسيا وكوريا الشمالية يشكّل تهديدًا أمنيًا كبيرًا للمجتمع الدولي، وأمرًا خطيرًا يمكن أن يُلحق الضرر بأمننا، وينبغي أن ندرس بدقّةٍ جميع الاحتمالات، وأن نستعدّ عبر إجراءات مضادة».

وإذ أعلن الرئيس الأميركي جو بايدن «أنّ إرسال كوريا الشمالية آلاف الجنود إلى روسيا يشكّل تطورًا خطيرًا جدًا»، أكّدت الولايات المتحدة أنّها عبّرت للصين عن قلقها إزاء نشر جنود كوريّين شماليّين في روسيا.

وقال المتحدث باسم وزارة الخارجيّة الأميركية ماثيو ميلر، إنّ واشنطن أوضحت للصين «إنّنا نشعر بقلقٍ إزاء هذا الأمر، وإنّها يجب أن تشعر بقلق إزاء هذا العمل المزعزع للاستقرار من جانب جارتَيها روسيا وكوريا الشمالية».

من جهته أعلن الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلنسكي «أنّ نحو 12 ألف جندي كوري شمالي موجودون في روسيا لتلقّي التدريب، متوقّعًا رؤيتهم في مرحلة لاحقة في ساحة المعركة في أوكرانيا».

وحذّر الأمين العام لحلف شمال الأطلسي من تعزيز التعاون بين موسكو وبيونغ يانغ، وقال إنّ بإمكانه التأكيد بأنّه تمّ إرسال وحدات عسكرية كورية شمالية إلى منطقة كورسك في غرب روسيا، محذّرًا من أنّ ذلك «يشكّل تصعيدًا خطيرًا». وقال: «إنّ تعميق التعاون العسكري بين روسيا وكوريا الشمالية يشكّل تهديدًا لأمن منطقتي المحيطين الهندي والهادئ وأوروبا والأطلسي».

وأكّدت رئيسة المفوضيّة الأوروبيّة أورسولا فون دير لاين «أنّ إرسال جنود كوريّين شماليّين للمرة الأولى لدعم الحرب الروسية يشكّل منعطفًا خطيرًا». وقالت: «إنّه تصعيد خطير، وتهديد للسلام العالمي».

 

الجنرال الكوري الشمالي

نقلت صحيفة «تيلغراف» عن أجهزة الاستخبارات في كييف، أنّ الزعيم الكوري الشمالي قد أرسل «جنرالًا موثوقًا به من القوات الخاصة إلى روسيا لقيادة قوات بيونغ يانغ في أوكرانيا». والجنرال هو كيم يونغ بوك، نائب قائد الجيش الكوري الشمالي، ومحارب قديم في القوات الخاصة، وغالبًا ما يتمّ تصويره وهو يقف إلى جانب كيم جونغ أون مبتسمًا، ويدوّن ملاحظاته.

ووصفت أوكرانيا، وفق بيان للأمم المتحدة، الجنرال «بأنّه الضابط الكوري الشمالي الأقدم الذي يتمّ إرساله إلى روسيا». ووصفت التحالف العسكري بين موسكو وبيونغ يانغ بأنّه «تهديد لأوروبا، وشبه الجزيرة الكورية، وجيرانها، وما وراءها». والجنرال كيم هو جندي محترف، وهو أيضًا عضو في اللجنة المركزيّة لحزب العمال الكوري التي تصادق على أوامر كيم جونغ أون.

 

لا تمثّل تهديدًا حقيقيًا

مع وصول الجنرال الكوري الشمالي الكبير إلى الميدان، اكتملت مواصفات الجهوزية للمواجهة، إلّا أنّ باسكال دايز بيرغون المتخصّص في شؤون الكوريتين، «لا يرى أنّ هذا التصعيد يؤدي إلى حرب عالمية». مشيرًا إلى «أن كوريا الشمالية لا تمثّل تهديدًا حقيقيًا للسلام العالمي، خصوصًا أنّ ميزانيتها العسكرية أقل بكثير من ميزانية كوريا الجنوبية». ومن جهتها، أشارت ماري دو مولين من «المركز الأوروبي للعلاقات الخارجيّة»، إلى «أنّ إرسال جنود كوريين شماليين ذوي خبرة قليلة إلى ساحة معركة أجنبيّة، لن يحدث فارقًا كبيرًا من الناحية العملياتية، لكن موسكو قد تستفيد من «بند التضامن» لدعم كوريا الشمالية في حال تصاعد التوتر مع كوريا الجنوبية حليفة الولايات المتحدة التاريخية».

 

الشراكة الاستراتيجية

تقول الحكمة «لا يؤخذ الشيء إلّا من مصادره»، ومصدر «الانفلاش» الكوري الشمالي هو «اتفاقيّة الشراكة الاستراتيجيّة» بين موسكو وبيونغ يانغ. فيوم السبت 9 تشرين الثاني 2024، نشر الكرملين مرسومًا يفيد بأنّ الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أقرّ «معاهدة الشراكة الاستراتيجية» مع كوريا الشمالية لتصبح قانونًا، وهي تتضمن بندًا «للدفاع المشترك».

أثارت المعاهدة لدى عديد من قادة دول الاتحاد الأوروبي ذكريات زمن الاتحاد السوفياتي، وتحديدًا نقطة التحوُّل التاريخية التي تمثّلت في إعطاء الزعيم السوفياتي جوزيف ستالين، وبموافقة نظيره وحليفه الصيني ماو تسي تونغ، الضوء الأخضر للرفيق كيم إيل سونغ الزعيم الكوري الشمالي، وهو جَد الرئيس الكوري الشمالي الحالي، لضرب كوريا الجنوبية، مطلع ستينيات القرن الماضي.

إنّ تحرّك الرئيس بوتين باتجاه كوريا الشمالية، وتوقيع اتفاق الشراكة معها، إن لم يكن ردًّا على موقف الولايات المتحدة، والاتحاد الأوروبي، وحلف (الناتو) من الحرب في أوكرانيا، فلعلّه بداية تحرّك للردّ على «الشراكة الأمنية» الآخذة في الترسيخ بين الولايات المتحدة واليابان وكوريا الجنوبية، والتي تحاول الدول الثلاث إضفاء الطابع المؤسسي عليها منذ اجتماع قادتها العام الماضي في منتجع كامب ديفيد.

ويتزامن تفعيل «اتفاقية الشراكة» مع تأزيم العلاقات بين الكوريتين على خلفيّة «حرب المناطيد»، وتوتير الأوضاع في مضيق تايوان بين تايبيه وبكين، والتوترات في منطقة شمال شرق آسيا، وقد تحوّلت بؤرة تصادم خطيرة بين الشرق والغرب، وهي مؤهلة لاندلاع حروب، وتفجّر أزمات تزيد الأوضاع الدوليّة توترًا.

يقول دانييل ستايدر، المحاضر في السياسة الدولية، ودراسات شرق آسيا في جامعة ستانفور الأميركية، «إنّها منطقة الجغرافيا السياسية المعقّدة، حيث يتواجه في هذه المنطقة مثلّث بكين - موسكو - بيونغ يانغ، مقابل مثلّث واشنطن - طوكيو - سيول». ويضيف: «أمّا زيارة الرئيس بوتين لبيونغ يانغ التي تمّ خلالها توقيع اتفاق لتشكيل شراكة استراتيجية شاملة بين البلدين المعاديَين للغرب، تتناول مجموعة من الروابط الاقتصادية، والثقافية، والتكنولوجية، إضافة، وهذا هو المهم، إلى تعهدات بالمساعدة المتبادلة في حالة العدوان على أيّ منهما».

وينظر الكوريّون الجنوبيون إلى الاتفاقيّـة الروسية – الكورية الشمالية بعين القلق، بدليل ما ورد في افتتاحية صحيفة «دونغا إلبو» اليومية الصادرة في سيول، من أنّ «كيم ونظيره بوتين يسعيان من خلال اتفاقية الشراكة بينهما إلى خلخلة الوضع الراهن باتجاه الفوضى وعدم الاستقرار».

ومثل هذا الموقف يتطابق مع موقف الأميركيّين الذي عبّر عنه مسؤول الأمن القومي الأميركي السابق فيكتور تشا بقوله: «اتفاق كيم – بوتين يمثّل أكبر تهديد للأمن القومي الأميركي منذ الحرب الكورية». ويتطابق أيضًا مع مواقف المراقبين في أوروبا، والتي عبّرت عنها مجلّة «الإيكونوميست» البريطانيّة حينما وصفت الشراكة بين موسكو وبيونغ يانغ بأنّها «محور استبدادي أنيق، وأكثر من مسلسل حب فوضوي».

 

دور الصين وإيران

في الوقت الذي لا يزال فيه عدد القوات الكورية الشمالية ومهماتها في أوكرانيا غير واضح، فإنّ كثيرًا من الخبراء يشكّكون في أنّ القوى العسكرية الكبرى مثل الصين وإيران قد تنخرط في حرب مباشرة على الجبهة الأوكرانيّة. ويقول دايز بيرغون، الباحث في العلاقات الدوليّة، إنّه «لا توجد لعبة تحالف بين قوى عظمى كما كان الحال قبل الحرب العالميّة الأولى». وأشار إلى «أنّ الصين تركّز في الأساس على تايوان، وتدعم الحرب في أوكرانيا من منظور استراتيجي، لكنّها لا تعدّها أولوية. وبالنسبة إلى إيران فإنّ أولويتها تظلّ متركّزة على الشرق الأوسط».

وترى دارسي دراودت، الباحثة في مركز «كارنيغي»، «أنّ الاشتباكات التي تخوضها القوات الكورية الشمالية في أوكرانيا يمكن أن تكسبها خبرة قتالية، وتجربة اختبار لأنظمة أسلحتها المتقدّمة، كما قد يؤدي إلى تحولات جذرية في التوازن الأمني في شبه الجزيرة الكورية».

وقالت إيزابيل فالكون، نائبة مدير مؤسسة الأبحاث الاستراتيجيّة، والمتخصّصة في السياسات الأمنيّة الروسية (إف آر إس) «إنّ الشراكة بين موسكو وبيونغ يانغ تعتبر وسيلة لإظهار أنهما ليستا معزولتين على الساحة الدوليّة». ووفق فالكون، «هناك احتمال بأن يسعى الثلاثي روسيا – الصين – إيران إلى تعزيز التعاون العسكري التقني، وهو احتمال مثير للقلق بالنسبة إلى الدول الغربية».

ويعتقد أندرو يو، الباحث في معهد «بروكينغز»، «أنّ روسيا مستعدة للانخراط في سياسة الكتل، واستعادة مفهوم الحرب الباردة الجديدة عبر تشكيل جبهة من دول غير منحازة، أو مناهضة للغرب». وهو يرى «أنّ الصين التي تُعتبر الداعم الرئيسي للنظام في كوريا الشمالية، ما زالت تتبنّى موقفًا حياديًا نسبيًا تجاه الشراكة الدفاعية بين روسيا وكوريا الشمالية». فيما ترى فالكون، «أنّ بكين رغم حيادها، ترحّب بهذه التطورات، مع فكرة إنشاء مركز للأمن العسكري يتركّز حولها في آسيا».

ويعتقد يو «أنّ بكين قد تكون قلقة من أن يُضعف التقارب الكوري الشمالي – الروسي نفوذها في بيونغ يانغ، ويمنح الولايات المتحدة سببًا إضافيًا لتعزيز التحالفات العسكرية في المنطقة، بخاصة بين حلف شمال الأطلسي واليابان وكوريا الجنوبية». وتثير هذه التطورات تساؤلات عمّا إذا كان التصعيد العسكري المحتمل في آسيا قد يؤثر في الاستقرار الإقليمي، ويحفّز الغرب على تعزيز قواته وتحالفاته في المنطقة.

 

”تسونامي“ ترامب

حصل ويحصل كلّ هذا، قبل الانتخابات الأميركية، و«التسونامي» المباغتة التي حملت دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، فماذا بعدها؟

هنا تبدأ الحسابات الصعبة والمعقّدة. الرجل، شخصية قوية، مقدام، جموح، طموح، صاحب قرار لا يُرد، تربطه علاقات وديّة مع الرئيسَين الروسي والكوري الشمالي، وكانت هناك لقاءات مع كلّ منهما خلال الولاية الرئاسية السابقة.

قدّم ترامب خلال حملته الانتخابيّة خريطة طريق تقوم على لاءات ثلاث: لا للحرب في أوكرانيا، بل تسوية، وإنهاء الصراع. لا حرب في الشرق الأوسط، بل معالجة الوضع في لبنان، وإيجاد تسوية في المنطقة. ولا للهيمنة الصينية على الأسواق التجارية، والسلع، والخدمات، والرقائق الإلكترونية، بل مفاوضات تُفضي إلى احترام مصالح البلدين.

 

قالها ترامب بلهجة واضحة: ”الأمر لي“

كيف سيكون الأمر له في أوكرانيا، في الشرق الأوسط، في المحيط الصيني؟ هذا شأنه، أو ما يفترض الإجابة عنه عندما يدخل البيت الأبيض كرئيس للولايات المتحدة الأميركية في العشرين من كانون الثاني المقبل.

كان أول رئيس أميركي يعبر الحدود إلى كوريا الشمالية في حزيران 2019، وذلك بعد لقاء تاريخي جمعه مع زعيمها كيم جونغ أون في المنطقة المنزوعة السلاح ما بين الكوريتين.

وقال كيم يومها «إنّه من الرائع الاجتماع مع الرئيس ترامب». مضيفًا أنّه لم يكن يتوقّع أن يلتقي الرئيس الأميركي في هذه المنطقة. تصافح الزعيمان أمام الكاميرات قبل عقد اجتماع دام ساعة، واتّفقا على تشكيل فريقين لاستئناف المحادثات النووية. وكان الاجتماع السابق الذي عُقد في شباط من ذلك العام قد انتهى دون إحراز تقدم في الطريق إلى نزع السلاح النووي في كوريا الشمالية.

ووصف منتقدو اجتماع الزعيمين، وهو الثالث خلال سنة، بأنّه «لقاء استعراضي»، إذ يرون أنه على بيونغ يانغ إثبات أنّها جادة في التخلّص من الأسلحة النووية. وهنا يُذكر أنّ الرئيسَين الأميركيَّين السابقين جيمي كارتر وبيل كلينتون قد زارا كوريا الشمالية، لكن بعد مغادرتهما البيت الأبيض.

والمفارقة أنّ «قمّة هانوي» التي جمعت ترامب - كيم، قد انتهت فجأة من دون تحقيق تقدّم في ملف نزع السلاح النووي الكوري الشمالي، وأصرّ ترامب على أنّه يتعيّن على كوريا الشمالية تفكيك ترسانتها النووية قبل رفع العقوبات الاقتصاديّة عنها.

لكن ترامب الذي هدّد كوريا الشمالية ذات مرّة «بالنار والغضب»، تحدّث بلهجة أكثر تصالحيّة في ما بعد، واصفًا كيم أنّه «رجل ذكي جدًّا،» وأنّه «يتوقع كثيرًا من الأشياء الجيدة من بيونغ يانغ».

لم تمضِ «قمة هانوي» كما هو مخطَّط لها، فمع انهيار المفاوضات حول برنامج كوريا الشمالية النووي، غادر ترامب الاجتماع قائلًا للصحافة: «أحيانًا عليك أن تنسحب».

ويقول ماثيو بوتنغر، أبرز الخبراء في شؤون آسيا في مجلس الأمن القومي الأميركي خلال عهد ترامب، «إنّ الرئيس عرض على كيم إيصاله إلى بيته على متن الطائرة الرئاسيّة (Air Force One)»، فالرئيس كان يعرف أنّ كيم وصل إلى القمّة في رحلة بالقطار استغرقت أيامًا، ومرّت عبر الصين وصولًا إلى هانوي، فقال له: «أستطيع أن أوصلك إلى موطنك في غضون ساعتين إذا أردت»... لكن كيم رفض.

وكان عرض التوصيل إلى البيت واحدًا بين عديد من المفاجآت في العلاقة الوثيقة غير المتوقعة بين الرجلين، والتي بدأت بسنغافورة عندما عقد الرئيس ترامب، كما قال مستشار الأمن القومي السابق جون بولتون، اجتماعًا مع الزعيم الكوري، خرج بعده ليقول «إن لديه صديقًا حميمًا جديدًا». وهنا قام ترامب، وفق بولتون، بلفتة أخرى صعقت فريقه عندما وافق على طلب كيم بإلغاء المناورات العسكرية المشتركة بين الولايات المتحدة وكوريا الجنوبية.

وقال بولتون لـ «بي بي سي»: اشتكى كيم جونغ أون، كما فعل في مرّات كثيرة في السابق، من المناورات المشتركة الكبيرة بين قوات كوريا الجنوبية، وقوات أميركية، والتي تجري في شبه الجزيرة الكورية منذ ما يزيد عن 60 عامًا. ويضيف بولتون: قال ترامب بشكلٍ غير متوقع «أنا سألغي الألعاب الحربيّة، (كما وصفها) لا حاجة لها، فهي مكلفة جدًّا، وسنجعلك سعيدًا».

يتابع: «لم أستطع أن أصدّق ما سمعت. وكنا أنا ووزير الخارجية مايك بومبيو، ورئيس موظفي البيت الأبيض جون كيلي، جالسين هناك في الغرفة مع ترامب ولم يستشرنا في هذا الأمر. لقد جاء الأمر ببساطةٍ من دماغ ترامب. لقد كان خطأ غير مقصود، وكان تنازلًا لم نحصل على شيء في مقابله».

حصل هذا خلال ولاية الرئيس ترامب السابقة. ماذا سيحصل في ولايته الجديدة؟!...

يقول دبلوماسي عربي متابع: «لقد ذهب كيم جونغ أون إلى الملعب الأوكراني ورمى رميته الأولى في شباك كورسك، فأحدث توترًا في القارة الصفراء، وترك بلبلة واسعة في المجتمع الدولي، وفجأة تصفر صفارة ترامب الآتي على صهوة حصان أبيض من غبار المعركة الانتخابية، ليقول «كفى... الأمر لي!»