مئوية

”النبيّ“ لجبران خليل جبران ­ريادة كونيّة في صياغة مفاهيم الإنسان والحياة
إعداد: د. هيام كيروز
كاتبة وباحثة

إذ تحلّ مئويّة كتاب ”النبيّ “ للفيلسوف اللبناني جبران خليل جبران، فإننا نطلّ على الحدث الفاعل في تاريخ الأدب والفكر والفلسفة، إثباتًا لأهميّة الكتاب كرسالة إنسانيّة شاملة، ولقدرته المستمرّة على التجدّد ظاهرةً وفعلًا. فبعد مرور مئة عام على صدوره (1923)، وبعد ترجمته إلى مئة وثلاث عشرة لغة (113)، يثبت كتاب ”النبيّ “ رسوخه العميق في وجدان الأجيال المتعاقبة، ببعده الوجودي السامي، والرنين الإنشادي الذي يواكب مواضيعه. تلك المواضيع تتّكئ على الحيّزين المكاني والزماني، والمتكلِّم والمُخاطَب، وعلى جدلية المحاور التي تتأسّس عبر السموّ، حيث الواقع هو الحجاب والظلّ، فيما الخطاب هو الرشد والغد والأمل والتسامي، بغية التوحّد في الواحد المطلق واستعلاء الروح.

 

عناوين الكتاب تتعانق في نسق متناغم وتآلف، وتعلو محاور تندغم في بعضها وتتحوّل إلى سمفونيّة تشي بفلسفة جبران خليل جبران التي تقوم على جدليّة تقف فيها الذات الجبرانيّة مقابل ذات الإنسان والدهر. فتستنبط الحقائق، وتفلسف الظواهر والمشاعر، وردًّا على تحدّيات السلام التي طُرحَت على مشارف العشرينيات من القرن الماضي، تنقض العالم المادّي المرعب، الذي لا يروّضه سوى الجميل المدهش، وتطرح بديلًا له في علم تخييلي ينطوي على قوّة المناجاة والروحانية، وينهض على علاقة ائتلافية بين الخير والشر، والحرية والعبودية، والحب والكراهية، والحياة والموت.

 

دعوة إلى حياة أنقى وأسمى

احتفاءً بمئويّة كتاب «النبي» الخالد، ومواكبة للافتتان العالمي به، قامت عدّة جامعات ولجان في لبنان والعالم، بمبادرات ونشاطات تليق بالمناسبة. وفي هذا الصدد يقول مدير متحف جبران جوزف جعجع: «نتاج جبران خليل جبران بكامله مفعم بالرؤيا والفلسفة العميقة والتصوّف. لكن، كأي فنان، ثمة محطّة تكون الأسمى.. جبران خليل جبران أعطى ذاته في هذا الكتاب، وسكب في صفحاته رؤياه للإنسان في شموليّـته، فيما هو وراء كل دين أو عِرْق أو انتماء. «النبي» دعوة إلى حياة أنقى وأسمى. هو دعوة للعبور إلى الجوهر، وللعودة إلى الصفاء، وإلى الارتواء بينابيع القيم الإنسانيّة، ما جعله يشعّ في الكون، ويبقى نضِرًا بعد مئة عام على صدوره في شهر أيلول 1923».

ووفق جعجع، بدأ الاستعداد لمئويّة كتاب «النبي» في العام 2019، إلّا أنّ الأزمات المتتالية وجائحة كورونا عرقلت العمل، إلى أن استعادت لجنة متحف جبران نشاطها. وكانت اللجنة قد تعاونت مع السفارة البلغاريّة التي وضعت آلية لحفظ الكتب في المتحف، وتواصلت مع جميع الجهات المعنية والجامعات في لبنان والخارج لإحياء هذا الحدث المهيب، من حيث إعداد البرامج والمواضيع وتنظيم المعارض.

 

العالم يحتفي بجبران

في العام 2023 وبدعم وتمويل من جامعة البلمند، وبالتعاون مع المغتربين اللبنانيين، الذين ساهموا بالكلفة العالية لنقل اللوحات الفنيّة الأصليّة، نظّمت اللجنة معرضًا في مبنى الأمم المتّحدة في نيويورك ضمّ 23 لوحة نسبة إلى العام 2023، إضافة إلى عشر مخطوطات بخط يد جبران. قامت عدّة وسائل إعلام لبنانيّة وأميركيّة وكنديّة وأوروبيّة بتغطية هذا الحدث الذي نال صدًى واسعًا واستمرّ لمدة ستة أيام. إذ فتح المعرض أبوابه في الأيام الثلاثة الأولى للجالية اللبنانيّة وللأميركيين، وثلاثة أيام للبعثات الدبلوماسيّة المعتمدة في الأمم المتّحدة. وتخلّل الاحتفال قراءات من «النبي»  باللغات الصينيّة والروسيّة والفرنسيّة والإسبانيّة والهنديّة والإنكليزيّة... وبعد أقل من شهر أقامت اللجنة في متحف الرسم Drawing Center في نيويورك معرضًا آخر في آذار ونيسان وأيار 2023 ضمّ حوالي 110 لوحات لجبران خليل جبران موجودة في المتاحف الأميركيّة، بالإضافة إلى مخطوطات وترجمات لكتاب «النبي»، وأُلقيت خلاله عدّة محاضرات حول الكتاب، وجرى التمديد له حتى شهر أيلول نظرًا إلى الإقبال الكثيف. وأُقيمت معارض مماثلة في فرنسا وبلغاريا في كانون الأول 2023. وفي الشهر نفسه، أُقيمت ندوة في جامعة صوفيا في بلغاريا خُتمت بترجمة الكتاب إلى اللغة البلغاريّة. كما شاركت لجنة متحف جبران في سلسلة نشاطات في بيروت ودبي وسيدني وملبورن وساو باولو.

 

نشاطات في لبنان

في بيروت، تمّ النشاط الأول بالتعاون مع الجامعة اللبنانيّة الأميركيّة LAU، من خلال «مركز التراث اللبناني» حيث نُظِّم مؤتمر عالمي شارك فيه محاضرون من عدّة جامعات في لبنان، ومن بلغاريا وأميركا وبلجيكا في حضور عدّة سفراء، نوقشت خلال المؤتمر أعمال جبران خليل جبران، خصوصًا كتاب «النبي»، كما أحيا مركز التراث المناسَبة في الجامعة إياها، من خلال ترجمة عصرية لكتاب «النبي» قام بها الشاعر هنري زغيب، حيث المفردات تنطلق من تحوّلات اللغة، في مقاربة أبسط للمعنى، وأعمق للرموز. كما أصدر المركز عددًا خاصًا خارج الترقيم لمجلة «مرايا التراث» تضم محاضرات المؤتمر المذكور. مع الإشارة إلى أن زغيب حاضَرَ في عدّة جامعات في أستراليا داعيًا أفراد الجالية اللبنانية إلى التمسّك بوطن جبران خليل جبران. كما نظّمت جامعة سيدة اللويزة NDU في شهر نيسان 2024 مؤتمرًا ليومين بالتعاون مع مركز الكرسي الرسولي للبابا بندكتوس السادس عشر للثقافة والتعاليم الدينيّة والفلسفيّة. اليوم الأول في مبنى الجامعة، واليوم الثاني في فندق Le Nôtre في الأرز، شارك فيه محاضرون لبنانيون، وسفراء خمس دول، وأُعطيت لكل سفير مدّة عشر دقائق للتحدّث عن جبران خليل جبران وقراءة نص من «النبي»  بلغة بلاده. واستُعرضت الترجمات الأولى للكتاب، فلغاية وفاة جبران في العاشر من نيسان 1931، كان الكتاب قد تُرجم إلى 15 لغة، أهمّها الترجمة الأولى باللغة الألمانيّة في العام 1931 تليها الترجمة الصينيّة.

وفي شهر كانون الأول عام 2023، أطلقت لجنة متحف جبران خلال مؤتمر صحافي عُقد في الجامعة الأميركيّة في بيروت AUB، نسخة مميّزة من كتاب «النبي» (ترجمة الأديب يوسف الخال)، إضافة إلى نشاطات يوميّة في متحف جبران في بشرّي الذي استقطب الزوّار وتلامذة المدارس، علمًا أنّ اللجنة، بالاشتراك مع الشاعر هنري زغيب، والمحامي والكاتب ألكسندر نجار ألقت عديدًا من المحاضرات في المدارس وحثّت التلامذة على قراءة أعمال جبران خليل جبران.

كما عقدت كلّيتا الحقوق والعلوم السياسيّة، والفلسفة في جامعة الكسليك USEK، حلقة حواريّة بعنوان «القوانين والشرائع لدى جبران» بمشاركة لجنة جبران الوطنيّة، وفي حضور نخبة من أهل الفكر، وطرحت خلال الحلقة جائزة لأفضل بحث حول فصل «القوانين» في كتاب «النبي»، ففاز بها طالبان، في احتفال أُقيم في شتاء العام 2023 في حضور مدير الجامعة وعدد كبير من الحقوقيين.

وكشف جوزف جعجع أنّ دولة البرازيل أصدرت طابعًا بريديًّا بمناسبة المئويّة، كما أنّ الكاتبة والرسّامة اللبنانيّة الفرنكوفونيّة زينة أبي راشد، أصدرت مؤخّرًا كتابًا باللغة الفرنسيّة حوّلت فيه «النبي» إلى قصة مصوّرة من 400 صفحة، بهدف دفع الجيل الجديد إلى اكتشاف جبران خليل جبران بطريقة مختلفة.

على أبواب المئويّة الثانية، ستستمر الدراسات والمبادرات والنشاطات حول كتاب «النبي»، لأنّ هذا الكتاب بالنسبة إلى الكثيرين مصدر إلهام رائع في اتخاذ القرارات اليومية.

 

كنت أريد أن أتأكّد...
كتب جبران خليل جبران قبل صدور كتاب «النبي » في العام 1919 :"وكأنني كنت أفكّر في وضع هذا الكتاب لمدة ألف عام ولكنّي حتى العام الماضي لم أدوّن صفحة واحدة ". وفي العام 1931 ، قبيل وفاته كتب «شَغَلَ هذا الكتاب الصغير حياتي. كنت أريد أن أتأكّد بشكل مطلق، من أنّ كل كلمة كانت حقًّا أفضل ما أستطيع تقديمه.

 

هوامش
- جبران خليل جبران، النبيّ، المئويّة 2023 ، صاغه بالعربيّة وقدم له هنري زغيب، دار سائر المشرق.
- يعرض متحف جبران في بشرّي، إضافة إلى لوحات الفيلسوف وكتبه ومخطوطاته، الترجمات الأولى لكتاب «النبي » التي بلغ عددها 11 خلال المرحلة الممتدّة من 1921 إلى 1931 أبرزها بالألمانيّة والهولنديّة والسويديّة والصينيّة والنرويجيّة.
- ظهر الكتاب باللغة العربيّة في ترجمات كثيرة لأدباء كبار أمثال يوسف الخال، ميخائيل نعيمة، ثروت عكاشة، سركون بولص وغيرهم.
- في الترجمات الغربيّة كتب الناقد الإيرلندي جورج راسل: «يبقى كتاب «النبيّ » أحد أجمل أصوات الشرق في الغرب .»
- الطبعة الأولى لكتاب «النبي »: أيلول 1923 ، الثانية آذار 1924 ، الثالثة آب 1924 ، الرابعة كانون الثاني 1925 ، وتتالت الطبعات بالعشرات وما زالت تتوالى حتى اليوم نصًّا أصليًّا وترجمات إلى معظم لغات العالم.