- En
- Fr
- عربي
وجوه وحكايات
بين ”صباح الخير“ من أثير الإذاعة و”يسعد مساكم“ من شاشة التلفزيون، أرسى أبو ملحم وأم ملحم مساحة من الودّ؛ كم نحتاج إليها اليوم، وكم نشتاق إلى ذلك الزمن العابق بقيم الألفة والتسامح والتعاون التي يسهم في بثها بين الناس فن أصيل نظيف!
أديب حداد الذي اشتهر بشخصية أبو ملحم، وزوجته سلوى حداد (أم ملحم) هما من الشخصيات البارزة التي حفرت عميقًا في عالم الفن والتمثيل والدراما والمسرح اللبناني وتركت أثرًا كبيرًا. بدأت شهرتهما معًا في العام 1969، عندما قدّما مسلسل «ملح وسكر» على شاشة «تلفزيون لبنان» الذي حقَّق نجاحًا كبيرًا. وتميَّزت شخصيتاهما في هذا المسلسل بالأداء الفريد في حل المشكلات الاجتماعية من خلال مقاربتهما لواقع العلاقات الأُسرية، ما رفع من نسبة المتابعين الذين كانوا ينتظرون برامجهما أسبوعيًا.
رحلة في عمر الزمن
وُلد أديب إبراهيم حداد في عاليه، في شباط 1912. بعد أن درس في تلك المدينة، زاول التعليم في «الجامعة الوطنية» بين العامين 1932 و1939، وانتقل بعدها للعمل مع أخويه في الأردن بين 1941 و1943.
في العام 1938، بدأت موهبة أديب حداد الشعرية تتبلور وراح ينظم الزجل كتابة ويرتجله أحيانًا، فكانت فاتحة هذا العهد الجديد فكاهة «فروج دحروج» التي نُشرت في عدد «بلبل الأرز» الصادر في 17 كانون الثاني 1938. انصرف بعدها إلى الفن المسرحي مشاركًا في تمثيل روايات بالعامية، كان يكتبها أحد شعراء الزجل في حينه وليم صعب في الفترة بين 1935 و1943، وهي: «علي بك الأسعد»، «الأجنحة المتكسرة»، «يوسف بك كرم»، «ابن الفن»، «عمر بن الخطاب»، و«فجر الاستقلال».
بين العامين 1942 و1945 كتب بالعامية: «الحب في الضيعة»، «الحما والكنة»، «خالتي القومية»، و«ليلى بنت الجبل»، التي مُثّلت مرات عديدة.
في هذه الأثناء، كانت سلوى فارس الحاج تدرّس في الجامعة الوطنية في عاليه، وفي معاهد أخرى، قبل أن تلتقي أديب حداد في المدرسة الأرثوذكسية في عاليه حيث تعارفا وتحابّا وتزوجا في العام 1941، ورُزقا ثلاثة أولاد: زياد، دنيا وراغدة.
يقول الشاعر وليم صعب في مقدمته لكتاب «زجليات أبو ملحم»: «كان موظفًا في شركة «الشل» في العام 1952 عندما تقدّم إلى «محطة الشرق الأدنى» ليقدم برنامج «جولات الميكروفون»، فأبدع في وصفه وتمثيله. وفي العام 1958 تعاقدت معه محطة «الإذاعة اللبنانية» ليقدم برنامج «صباح الخير» مرتين في الأسبوع، وقد بلغت حلقاته الثلاثمئة والتسعين. كما قدَّم فيها أيضًا برنامج «الدنيا صور» الذي امتدَّ إلى مئتي حلقة. وفي العام 1959 استدعته شركة تلفزيون لبنان «القنال 7» ليقدم برنامج «أبو ملحم» الذي استمرّ فيه حتى العام 1965 مسجّلًا مئتين وخمسين حلقة.»
بعد ذلك، انتقل «أبو ملحم» إلى تقديم برنامج «يسعد مساكم»، وكان يقدم في الوقت نفسه من حين إلى آخر برنامج «الجندي» بناءً على عقد أبرمه مع الجيش اللبناني.
تعاون الثنائي في عديدٍ من الأعمال التلفزيونية والمسرحية مثل مسرحية «الحب في الضيعة»، و«آخر لحظة»، ومسلسل «يسعد مساكم» (1967) و«أبو ملحم» (1969)، فتركا بصمة في برامج تلفزيون لبنان الثقافية منها والفنية كما في الإبداع الشعبي، واستوطنا ذاكرة اللبنانيين ووجدانهم.
تغليب الخير على الشر
على الشرفة الصغيرة المطلّة على الطريق في أول الحي الغربي في عاليه، كان يجلس معتمرًا طربوشه التركي الجميل، ومرتديًا زيّه العربي الفضفاض، فيرسم من حوله هالة من الخير والمحبة يستشعرها كل عابر على تلك الطريق.
تفاعل مع أهل بلدته، أحبَّهم وأحبوه، إنسانًا مربيًا، مصلحًا اجتماعيًا، فنانًا راقيًا، شاعرًا زجّالًا. كان مناضلًا على طريقته، لا يتوسل في تحقيق أهدافه النضالية إلّا الطرائق الأخلاقية، ولا يعبُر إلّا المسالك الشريفة. وطنيٌّ بامتياز، همّه الوحيد تغليب الخير على الشر، واعتماد الحوار بديلًا من العنف. لذلك كانت حلقاته التلفزيونية بالأبيض والأسود لا مجال للرمادية فيها. فإما الحق وإما الباطل وغالبًا ينتصر الحق فيها عبر المصالحة والتسوية، حتى صار «أبو ملحم» برنامجًا خاصًا لا بل مدرسة في إجراء المصالحات وإنهاء النزاعات وفق ما تقتضيه المصلحة العامة، وما تؤشر إليه بوصلة الأخلاق، تساعده في ذلك أم ملحم المرأة الذكية المثقّفة والخلوقة التي كانت دائمًا البطلة الرئيسة في كل إطلالة، همّها مساعدة أبو ملحم في إصدار أحكامه، ولفت نظره لكل الألغام التي كانت تُزرع في طريقه لتلافيها، فيحقق أهدافه من دون الوقوع في المطبّات والعثرات.
أصبح أبو ملحم مدرسة ونموذجًا عند غالبية الناس الذين يهمهم بقاء الوطن بتجربته المميزة القائمة على التنوّع والحوار والعيش الواحد وقبول الآخر. عاش، هو صاحب القلب الكبير والعقل النظيف، الأيام الجميلة وأيام القسوة، فآلمته النزاعات السياسية التي دفع ثمنها مرارًا. لكنّه بقي على إيمانه بالوطن الواحد لم يتغير ولم يتبدل. وعاش مع الناس متحسسًا مشكلاتهم، يسمع أوجاعهم، يرسم طرق معالجتها في حلقات «صباح الخير» الإذاعية و«يسعد مساكم» التلفزيونية التي عندما نسمعها اليوم أو نشاهدها نكتشف أنّ لا شيء قد تغيّر. هموم الأمس هي هموم اليوم بل أصعب وأكثر تعقيدًا.
وسام الأرز الوطني ووسام البابوية الفني الفرنسي
بتاريخ 20 حزيران 1966، صدر المرسوم رقم 82 عن رئاسة الجمهورية اللبنانية بمنح أديب حداد وسام الأرز الوطني من درجة فارس، وفي مادته الأولى: «فنان أديب تميّـزت رواياته وتمثيلياته بمعالجة المشكلات الاجتماعية والأخلاقية بحكمةٍ ورويّة، فأدى بذلك عن طريق الفن، الخدمات الجُلى، في مجال التثقيف الاجتماعي والأخلاقي والتهذيبي».
كما أورد كتاب «وجه لبنان الأبيض» عن «أبو ملحم» أنّه «مُنح العام 1965 وسام البابوية الفني الفرنسي من باريس». انتُخب مرتين نقيبًا للفنانين اللبنانيين، ونال جائزة أفضل برنامج تلفزيوني، وأحرز الجائزة الأولى في مباراة زجلية، ونال الجائزة الأولى في مباراة شعرية حول الجمال. وفي 11 كانون الثاني 1987 وخلال الاحتفال بمرور أربعين يومًا على وفاته، منحته الدولة اللبنانية وسام المعارف المذهّب.
في أيلول الماضي كرَّمت مدينة عاليه أبا ملحم وأم ملحم في احتفال أُزيحت خلاله الستارة عن تمثالين برونزيين لهما من توقيع الفنانة التشكيلية غنوة رضوان، وذلك بالتعاون بين البلدية وأولاد الفنانين الراحلين وبرعاية وزارة الإعلام التي نظّمت الاحتفال.
أديب حداد باقٍ في ضمير الملايين الذين استمعوا إليه واستمتعوا بحلقاته النقدية التوجيهية وقصائده، وهو أسهم مع «أم ملحم» في نهضة الفن اللبناني. كان نصير المظلوم ورائد الثقافة والشعر الشعبي، شاهرًا سيف الحق، نادرًا نفسه حاكمًا في مملكة العدل والعنفوان والضمير بكثيرٍ من الالتزام الأخلاقي.