فنون تشكيلية

بول غيراغوسيان ومغامرة اللون
إعداد: د. هيام كيروز
كاتبة وباحثة

كالروح التي تحلّق خارج الجسد، تغادر لوحة الفنان المبدع الإطار الذي تسكنه وترتفع عالية، مجنّحة، خفيفة، عارية من الزمن، نابضة في المكان أثرًا مضيئًا، يترك الحواس في حالة التلقّي والإشباع، من خلال الانطباع اللامتناهي الذي تتركه.

هكذا لوحات الفنان بول غيراغوسيان، رقيقة وشديدة الكثافة، تطلّ من غياب بلغ الواحد والثلاثين غروبًا دافئًا. نظرة تطلّ من الزمن الذي بلا زمن، مكتملة بالعناصر التي تمتلكها شجرة متجذّرة في التراب، تمتدّ أغصانها لتلامس النور وتتّحد مع جوهر الوجود.

صحيح أنّ المعاناة تنتج أفكارًا، والأفكار تنتج أشكالًا، إلّا أنّ المعاناة مع لوحات بول غيراغوسيان، أصبحت وجودًا مرئيًّا، ملوّنًا، تُطرب له العين ويخدم الفكرة. وجودٌ ارتبط بالمؤثّرات التي حفرتها في الذاكرة أحداث راكمت القهر: فإثر الإبادة الجماعيّة التي تعرّض لها الأرمن (بدأت في العام 1915)، وقضت على كثيرٍ من أقربائه، هرب مانويل غيراغوسيان (الذي كان يعزف الموسيقى ويتمتّع بصوت شجيّ) برفقة زوجته إلى القدس، حيث ولد ابنهما بول في 25/12/1926، فوضعته أمّه في مدرسة داخليّة تحت رعاية راهبات المحبّة الفرنسيات في القدس، بين الأربع والسبع سنوات من العمر، وهناك ظهرت موهبته الفطريّة في الرسم، وهو يقول في هذا السياق: «كنت أعتقد أنّه أمر طبيعي أن أرسم شأن كل الأولاد من عمري، وإحساسي بالتميّـز يعود إلى طلبهم مني الرسم على الطائرات الورقيّة التي كنت أعدّها لهم، وأفرح بتحليق الألوان والرسومات التي تختلف من طائرة ورقيّة إلى أخرى». بين السابعة والتاسعة من العمر، غذّى نزوعه الفطري إلى الرسم بالتهام الكتب المتعلّقة بالفنون ومنها الفن الياباني والمنمنمات، وتاريخ الفنون والرسامين الكلاسيكيين الكبار، والحضارات القديمة بما فيها الحضارة الفرعونية، وذلك في دير الآباء الساليزيين الإيطاليين حيث كانوا يطلبون منه «رسم موسوليني وصور القدّيسين»، وحيث أعطاه المسؤول عن المكتبة كتابًا عن حياة الرسّام Van Gogh لقراءته والتعرّف إلى فنّه. وفي المكان نفسه صقل غيراغوسيان موهبته بالتدرّب على الرسم على الزجاج على أيدي الرهبان.

 

في حارات القدس

ترعرع غيراغوسيان في حارات القدس وأزقّتها وبين بساتين الزيتون، والكنائس والأديرة. وفي أيام العطلة الصيفيّة كان يعمل في محل لتصليح أعطال السيارات تحصيلًا للرزق، وكان يأتي بفضلات جلود السيارات المخصّصة للمقاعد، ويرسم عليها بالطبشور لأنّه لم يكن يملك النقود لشراء قماش الرسم، ما تسبّب بطرده من العمل. فلجأ إلى رسم الوجوه Portrait، بطريقة مغايرة للرسم التقليدي، من خلال خطوط رشيقة، سلسة، تحمل رؤيته لدلالات تلك الوجوه، وإيحاءات تفاصيلها، وذلك لقاء خمسة قروش، غالبًا لم يكن يحظى بها. كان شغفه بالرسم يلاحقه حتى ساعة متأخّرة من الليل، فيرسم على ضوء المصباح ما يمنعه من النوم، ولم تنجح محاولات أمّه في ثنيه عن ذلك الشغف الذي استحوذ على حواسه، ما دفعها إلى تمزيق رسوماته وحرقها وكسر المصباح، إلّا أنّه اشترى في اليوم التالي عدّة مصابيح حرصًا على حماية هوايته، وتابع الرسم بالخفية.

 

إنسان يبحث عن وجوده

في أوائل الأربعينيات من القرن الماضي، تابع دراسته في «استديو ياركون للفنون» في يافا، وبقي فيها حتى العام 1948، عام النكبة، حين أُجبرت العائلة مرّة جديدة على التهجير. «ضحكوا علينا وقالوا لنا عشرة أيام وراجعين»، ما جعله «طفلًا ضائعًا لا يعرف إلى أي جهة عليه أن يتوجّه، ولم يكن أحد ليثبتني إلى حدودٍ ما، فقد ضاع من طفولتي مليون سنة، ومهما حاولت لن أستطيع استرجاعها»، قال بحسرة، وتابع «هذا هو سبب دخولي إلى الفن، إنني إنسان يبحث عن وجوده».

استقرّت العائلة الهاربة من يافا بالباخرة، في بيروت، تحديدًا في «كامب» طراد في برج حمود حيث الوجود الأرمني الكثيف. هجر بول غيراغوسيان شاطئ أمانه، وحمل معه ذكرياته ونبض أشجار الزيتون، وقلق الانتماء وهوسه بالرسم. في لبنان تابعت طاقته الفنيّة تدفّقها، فعمل على وضع التصاوير والرسومات التوضيحيّة للكتب المدرسيّة وعلى رسم الملصقات واللافتات الإعلانيّة لدور السينما بالتعاون مع أخيه، وفي ما بعد، أخذ يعلّم الرسم في المدارس الأرمنيّة.

من خصوبة المَعيش، والتحامه ببيئته، وتأثّره بها، غرفت ريشة غيراغوسيان مادتها، ووثّقتها بالألوان الترابيّة التي تمثّل الأرض والعمل، إذ إنّه كان يرسم بالفطرة، ولم يتسنَّ له دخول أكاديميّة، يقول: «ابتدأت بالرسم منذ الصغر، علّمت نفسي بنفسي، ومن علّمني هم الناس. فأن تكون فنانًا حقيقيًّا، يعني أن تنزل إلى الشارع، أن تختلط بالناس، أن تمشي في الأسواق... كنت كالصحافي أخطف الصورة، أرسم كل ما تقع عيناي عليه، بشرًا، أمكنة، طبيعة، عتّالين (حمّالين)، بائعي خضار، امرأة حامل، طفل... ألتقطها بحسِّي الإنساني، وبعمقها الوجداني، فتذوب في اللوحة وتنصهر في الخطوط Croquis. وكانوا يطلقون عليّ لقب «فنّان العيلة» لأنّني كنت أرسم جميع الحالات العائليّة. أن تكون فنانًا حقيقيًّا يعني أن تقرأ كثيرًا وتعمل كثيرًا. على الإنسان أن يعمل ليلًا ونهارًا وأن تكون يده بمنزلة حواسه كلّها، وهو بحاجةٍ لوقت كثير كي ينضج. وعندما ينضج ويصبح قويًّا يصير مبتدئًا».

 

التقاط جمالية اللحظة

بهذه الروحيّة كان بول غيراغوسيان يلتقط جماليّة اللحظة في العالم الذي يمرّ أمامه وداخله، يعيد تشكيل المدينة ومعالمها، يتتبّع مناخاتها، يوميات ناسها، طقوسهم، أحزانهم والأفراح. يقتنص بالريشة اللحظات الساخنة في أوج تفاعلها، معتمدًا على قدرته على عكس الحالة الداخليّة لشخوصه، وعلى سبر أعماقها واكتشاف ما خفي من معانيها. وإذ تخلو ريشته من النبرات اللونيّة المتعدّدة، وتموج بالألوان الترابيّة، فذلك خدمة لفكرته، التي تعانق الجذور في الأرض، وتشعّ بمعالجة بارعة للظلّ والنور في لوحات أطفال يلعبون، يعبرون الشارع راكضين، أو ممسكين بأيدي أمهاتهم، أو يمسحون الأحذية. وفي لوحات الحمّالين العاطلين عن العمل، مفترشين الأرصفة بانتظار حفنة من القروش، لفقراء يسكن الفراغ عيونهم وتطويه أجسادهم المشلوحة في زوايا الطرقات. رسومات توثيقيّة، تجسّد الواقع بأسلوب يتناغم مع الألوان المائيّة مزجًا بين الذات والموضوع، تندرج تحت عناوين: «الأزمة» La Crise 1948، «في السوق» Au Marché 1951، «رحيل» Départ 1957، «دورة الحياة» Le Cycle de la Vie 1955.

ذات يوم، كان بول غيراغوسيان يرسم في بيته المطلّ على الشارع العام، وصودف مرور الناقد الفنّي والشاعر صلاح ستيتيه الذي دفعه الفضول إلى الدخول وبرفقته أحد الفنانين. أُعجب ستيتيه بموهبة غيراغوسيان المفعمة بالحسّ الجمالي، وبأسلوبه الرشيق والشفاف، فقدّمه إلى «صالون جمعيّة الفنانين اللبنانيين للرسم والنحت» في مقر منظمة الأونسكو، لعرض أعماله على نطاق واسع، والتعرّف إلى فنانين كبار أمثال عمر الأنسي، قيصر الجميّل والفنان الفرنسي جورج سير وغيرهم.

 

قوة البناء والمسحة الشاعرية

قوّة البناء المدهشة التي طبعت روح اللوحة، والمسحة الشاعريّة المفعمة بالرؤى التي تلفّها وتمنحها عمقها الوجداني، والخصوصيّة النابعة من صميم المعاناة، كلّها مجتمعة شكّلت عناصر رفعت أعمال بول غيراغوسيان إلى مستويات فنيّة رهيفة الإحساس بالإنسان والمكان معًا، ما مكّنه من الفوز بجائزة فلورنسا Prix de Florence من المركز الثقافي الإيطالي في بيروت (1956)، حصل بنتيجتها على منحة من الحكومة الإيطاليّة لمتابعة عمله في تلك الأكاديميّة Accademia di belli Arti di Firenze. في فلورنسا، تمكّن من الاطّلاع عن كثب على أعمال فناني عصر النهضة الذين استهوته أعمالهم مذ كان طفلًا، أمثال رافاييل ومايكل أنجلو وليوناردو دا فنشي وغيرهم، وأُتيح له التشبّع من الوعي الجمالي والحضاري. هناك أقام معرضه الأول خارج لبنان في فلورنسا في إيطاليا والذي تناول الموضوعات نفسها، إنّما مع منحها فسحة لمزيد من الاتساع، حيث اللون على ضآلته ليس للعَين فحسب، بل لكل الحواس، وحيث اللوحة نتاج مخيّلة مغامرة تظهر العناصر كلّها وتتجاوزها في فعل الخلق الذي يشير إلى عمق الانتماء وإلى تبنّي الفن كوجه آخر للحياة، فنال إعجاب الفنانين والنقّاد.

في العام 1962، نال منحة من الحكومة الفرنسيّة للدراسة في «محترفات الأساتذة في باريس» Les Ateliers des maîtres de Paris، وأقام معرضًا في غاليري موف Mouffe، معتمدًا في تلك المرحلة على تكثيف اللون، وبلورة مواضيع لوحاته المستلهمة من روح العائلة، إذ إنّه بعد زواجه في العام 1952، دخلت إلى رسوماته نفحة أكثر ارتباطًا بالحياة العائليّة، وأكثر تداخلًا مع الألوان الزاهية، زاخرة بفرح الحياة، تبرز فيها معاني الحب والأمومة والعائلة، وتتآلف مع غبطته بالمرحلة الجديدة في حياته، بيت دافئ وزوجة وأولاد: «الزواج» Le Couple، «الحب» L’Amour ، «الرفاق» Les Compagnons، «الأمومة» La Maternité  1962، «المجموعة» Le Groupe 1963. بعدها صار يعلّم الرسم في كليّة الفنون الجميلة في الجامعة اللبنانيّة وفي جامعات خاصّة منها ALBA.

 

يولد الفنان مع كل لوحة من جديد

عمليّة الرسم هي بحث مستمرّ يتطوّر، ليس عن طريق الإنتاج والممارسة فحسب، بل بضخّ مفاهيم جديدة في اللوحة، وبتحميلها التجربة الذاتيّة للفنان وفلسفته وآراءه وتطلّعاته، بذلك تكون «ولادة اللوحة» حدثًا وإضافة يغنيان الوجود. في هذا السياق، يولد الفنان مع كل لوحة تولد، بل لا يتوقّف عن الولادة مرّات ومرّات في مسار طبيعي مرافق للواقع الذي يدور كالفصول على ذاته. لهذا يظلّ الفنان طفلًا. وإذا كان هذا الكلام يفي الرسّام حقّه، فإنّه ينطبق على بول غيراغوسيان المسكون بهاجس البحث وبتطوير الصيغ التي دأب على ابتكارها، والتي عمّقها بالدراسة وبالانفتاح على الاتّجاهات والمدارس الفنيّة العالميّة كافة، وعلى التفاعل معها بوعي بلور أسلوبه الشخصي وكرّس رؤية جديدة للواقع بأحداثه المتنوّعة، مطلقًا العنان لواقعه الداخلي، تفصح عنه الإشراقات اللونيّة، تختزله وتؤبّده، محاكيًا ما قاله الشاعر أوكتافيو بات: «إنّ للفن القدرة على إضفاء القداسة على الأشياء ومنحها نوعًا من الأبديّة». ولعلّ لوحة «دير الزور» التي رسمها وعرضها في العام 1965 في الذكرى الخمسين للمجزرة الأرمنيّة في صحراء دير الزور، تتطابق مع ما قصده الشاعر أوكتافيو بات، فقد نجح غيراغوسيان في إعطاء اللوحة زمنها الأبدي، في ولادة جديدة لحدث مضى، وفي ابتكار فنّي مدهش للذاكرة، حيث تتشابك الألوان بتسارع ديناميكي، وتأخذك إلى زمن الإبادة والنكبة والمأساة وأسلاك الحدود وكل ما حفظه من قصص سمعها من أمه، ما وضع اللوحة في خانة الواقعية التجريدية.

لأنّ للفنان رسالةً إنسانيّة يوصلها للعالم بتقديم أعمال طليعيّة تعطي الأحداث أبعادًا ومفاهيم جديدة، رسم غيراغوسيان في العام 1966 بالحبر الصيني لوحتين بعنوان «أوقفوا العدوان في فيتنام»، بطلب من «لجنة نصرة فيتنام في لبنان». وفي العام 1969 تلقّى من دائرة الشؤون الثقافيّة في وزارة الخارجيّة الأميركيّة، دعوة لزيارة المؤسسات الفنيّة والثقافيّة في أميركا، فلبّى الدعوة بعد سنة، واستُقبِل استقبالًا رسميًّا، وأُقيم معرض لأعماله خلال أسبوعين قيل له خلاله «إنه لامتياز أن تكون ضيف الشعب الأميركي».

إنّه قدر لوحات الفنانين المبدعين أن تسهم في نزع الحدود بين الثقافات المختلفة والمغلقة وتفتّحها على الكوني.

أعمال غيراغوسيان المرتبطة بشكل وثيق بالقضايا الإنسانيّة وبقضيّة شعبه بشكل خاص، ظهرت في معارض عربيّة وعالميّة متعدّدة، لاقت الحفاوة والترحيب في الأوساط الثقافيّة والفنيّة، وتُرجمت بمنحه عدّة فرص للسفر والعمل في الخارج. ولكنّ محبّـته للبنان، وانتماءه إلى الإنسان المتجذّر في أرضه، دفعاه إلى رفض كل العروض، والبقاء في الوطن المتوغّل في التاريخ، والذي نسج معه علاقة حميمة حملها خلال حياته وفي لوحاته المكتظّة بالقامات الجليلة، الخالية من القسمات والملامح، والتي تصوغ لغتها الخاصة بإيقاعها العمودي الذي لا يخترقه فراغ لتأكيد منحى اتّحاد الجماعة. وفي ذلك إشارة رمزيّة شديدة الدلالة إلى الإنسانيّة الشاملة، حيث لا فرق بين رجل وامرأة، بين طفل وكهل ولا بين لبناني وأجنبي، فالفن يخاطب العين وليس اللسان. كما يرمز التصاق تلك القامات ببعضها إلى الحشود المهجَّرة والمقتلعة من أرضها، والتي تلتحم منعًا للتشتّت.

 

الريشة والحرب

«عندما رأيت الحرب اللبنانيّة، فهمت كل ما أخبرتني به أمي والذي كان منطبعًا كالخيال في ذاكرتي. كل المجازر، كل العنف، كل التقاتل، تحقّقت أمامي في حرب لبنان. الفنان القوي لا يترك الفن، لأنّ ثمّة ما يقوله ضدّ الحرب، وضدّ السلاح وضدّ العنف. صرختي صارت أقوى لأنّ القضيّة صارت أكبر، وهي الدفاع عن وطني وعن شعبي. عندما كنت أسافر خلال الحرب كنت أغيب لفترة قصيرة وأعود سريعًا إلى لبنان «حبيبتي المريضة» على فراش الموت، لذا يجب أن نقف إلى جانبها، ولن نسمح لها أن تموت، هذا الوقوف يتطلّب القوّة، والحرب أمدّتني بهذه القوّة. لم أكن أريد أن أرى لبنان يحترق، لبنان كزهرة الربيع الحمراء يدهسونها بالأحذية بكل وحشيّة، ثم من دهس هذه الزهرة يدّعي الإنسانيّة».

«هذه القوّة، فجّرتها على اللوحة، فجّرت الألوان، انتقلت إلى الألوان الحارة لأنّها ترمز إلى ألوان لبنان. التأليف تغيّر، التلاحم بين الناس صار أقوى، صاروا يتشبّــثون ببعضهم حتى لا يموتوا وحتى لا يموت الوطن».

 

روزنامتان للجيش

في خطٍّ موازٍ راهن بول غيراغوسيان على المؤسسة العسكريّة كدرعٍ حامٍ للوطن وكسياجٍ لكرامته، وكأساسٍ وسقف أمانٍ له، وعلى أفرادها من ضباط وعناصر، الذين بصمودهم وبسالتهم والتضحيات يصونون تاريخ لبنان وسلامه ويشقون مستقبله. «تقديرًا منه لهذه المؤسسة الجامعة، أعدّ غيراغوسيان روزنامتين للجيش: الأولى في العام 1982 بعنوان «ويبقى لبنان»، حيث توقظ ريشة الفنان البارعة التاريخ، في رسومات متنوّعة تتدفّق من الموروث التاريخي لتحكي حكاية الأرض التي وطأها الغزاة بهدف استعمارها ومن ثم تملّكها، ثم اندثار حضاراتهم وبقاء لبنان أزليًّا سرمديًّا منذ حضارة الأم التي هي الفينيقيّة الكنعانيّة، مرورًا بالعهود الفارسيّة فالإغريقيّة فالهلنستيّة فالرومانيّة فالبيزنطيّة فالأمويّة فالعباسيّة فالصليبيّة فالمملوكيّة وصولًا إلى العهد العثماني. «فتطل الذاكرة عبر هذا التاريخ لعلّها تسهم في فهم ذاتنا فتعطينا من ماضينا درسًا مفيدًا لحاضرنا ومستقبلنا». في الروزنامة الثانية في العام 1983 تحت عنوان «وأعطى لبنان»، يرسم الفنان فعل إيمان بلبنان بانتقالات رشيقة لريشة تراقص الألوان وتبحر في عالم الخلود الذي صاغته محطّات تاريخيّة من اكتشاف الأرجوان، إلى صناعة السفن، والبراعة في التجارة، وتطوير صناعة الزجاج (بدأ بها المصريون) وصولًا إلى تصدير الأبجديّة إلى العالم، ما أكسب لبنان دورًا رياديًّا في نشر المعرفة والحضارة في العالم آنذاك.

انطلاقًا من خيارات إنسانيّة وجوديّة مشتركة، تتقاطع في التكوين المعرفي والوجداني، وتجسيدًا لقيم الأخلاق والخير المطلق، نسج بول غيراغوسيان مع الفيلسوف اللبناني جبران خليل جبران علاقة جمالية وفكرية تمتد من السطح إلى العمق، ومن الوجه إلى الروح، ومن المحبّة إلى الفن. فرسم في العام 1981 (السنة العالميّة لجبران)، في الذكرى الخمسين لوفاته (1931) ما فوق الثلاثمئة (300) مائيّة من وحي كتابَي «النبيّ» و«المسيح ابن الإنسان»، محقّقًا هاجسه الفكري والبصري، في رسومات مائيّة Aquarelle تتمايل على إيقاعات الفصول في طبيعة لبنان الجميلة، حيث يذوب النور بالسماء والجبال والأشجار والغيم والضباب والماء، في خطوط تشفّ عن خصوصية غيراغوسيان الإبداعية.

 

الفن مغامرة

«أنا المغامرة» أجاب بول غيراغوسيان عن سؤال حول طفولته. ذلك أنّ الفنّ هو في حدّ ذاته مغامرة لا حدود لها، وسار على دروب تلك المغامرة ممارسًا أقصى أبعاد التجريب والاكتشاف، تحثّه روحه المتوثّبة التي لا حدود لتعبيرها، محافظًا بالريشة على قوة الحياة، يأسرها في الضوء واللون، وصولًا إلى اللوحة التي تخلق فضاء التجاوز والتعدّد. فلوحاته شبكة تصطاد حركيّة العالم التي تختلط فيها المأساة بالملهاة، الحزن بالفرح، الجسدي بالروحي، الانحطاط بالازدهار، وتدحض «الأكاذيب والادّعاءات حول الحضارة» على قوله.

أسفاره اللونيّة التي تتعدّد في أبعادها وأحجامها، والتي تؤكّد اختلاق لونه الخاص، حلّقت منذ الخمسينيات، معارض عديدة في لبنان، وبلدان الشرق الأوسط، وأوروبا، واليابان، والبرازيل والولايات المتّحدة الأميركية، وفسحت مساحات لرسوماته التي تهافت على اقتنائها فنانون ورجال أعمال وشخصيات من كل الفئات والأعمار، وتوالت أوسمة وجوائز تقديرًا لفنّه، ولِما أعطاه من خلاله للقضايا الإنسانيّة ما تستحق من جهد وعمل.

إن الإضاءة على المشهد التشكيلي، تعني في ما تعنيه، اهتمامًا عميقًا بالمصير الإنساني جسّده بول غيراغوسيان في لوحاته التي ما زالت حيّة بنهجها القائم على استنباط العمق المأساوي له، وتحويله إلى أبجدية تؤلّف الأشخاص وتحيلهم أشكالًا بإيحاءات لا تنتهي، في قراءة مستمرة وستظل متواصلة حتى آخر لوحة رسمها.

 

سابقة
توفي بول غيراغوسيان في بيروت في 20 - 11 - 1993 ، يومها تمنّى رئيس الجمهوريّة آنذاك، الياس الهراوي، على العائلة تأجيل مراسم وداع الفنان الكبير إلى ما بعد احتفال عيد الاستقلل في الثاني والعشرين من شهر تشرين الثاني حتى يتسنّى له تكريمه بشكلٍ رسمي، ومنحه وسام الأرز.