- En
- Fr
- عربي
لبنان الجميل
تزخر بلدة راشيا الوادي الخاشعة عند أقدام جبل حرمون، بالمواقع التراثية والتاريخية والدينية القديمة جدًا التي يؤُمها الزوار من لبنان والعالم قاطبة، وهي تُشكّل وجهة سياحية تنتظر من يستكشف كنوزها الدهرية. راشيا الوادي ليست بلدة تراث وتاريخ فحسب، فالزائر المتجوِّل في أزقّتها القديمة وبين بيوتها التراثية يفتنه جمال طبيعتها الأخَّاذ، ويدهشه كرم أهلها وطيب أخلاقهم وأصالتهم المختمرة من عنفوان الجبل ورحابة السهل. وهم يشهدون لعمق إيمانهم بلبنان، وقد تجسَّد في لقائهم حول وحدته على مرّ الزمن.
تعني كلمة راشيا في السريانية «القمة» نسبةً إلى موقعها الجغرافي المنحدر من هضبة عالية. ودُعيت براشيا الوادي نسبة إلى «وادي التيم» وتمييزًا لها عن جارتها راشيا الفخار. ويُحتمل أن يكون الاسم لفظة آرامية مركَّبة من مقطعين «راش – أيا» ويعني «رأس أيا»، و«أيا» هو إله المطر والعواصف عند البابليين، وللتسمية هذه علاقة أكيدة بتاريخ حرمون.
الموقع والامتداد
تبعد بلدة راشـيا الوادي مسـافة 50 كلم عن زحلة و85 كلم عن بيروت، وترتفع عن سطح البحر ما بين 850 م و1650 م، وتحتضن تنوعًا بيئيًا وتراثيًا عابقًا بروعة الطبيعة في لبـنان. تصل إليها عن طريق شـتورا-المصنع متجهًا نحو الجنوب لمسافة 27 كلم أو عن طريق مرجعيون - حاصبيا متجهًا شمالًا شرقًا لمسافة 33 كلم. يبلغ عدد سكانها المقيمين زهاء 8500 نسمة، ويرقى إنشاء مجلس بلديتها إلى العام 1860 ويتألف من 15 عضوًا، وفيها 5 مخاتير.
هي المركز الإداري لقضاء راشيا الذي يضم 26 بلدة وقرية، حيث تحاذي حدود راشيا الإدارية تسع بلدات، فيها مكاتب القائمقامية ومحكمة ودائرة نفوس ومكتب بريد وهاتف وفصيلة درك ومركز للخدمات الإنمائية ومستشفى حكومي ومركز للدفاع المدني ومركز للصليب الأحمر اللبناني وقيادة موقع راشيا التابع للجيش اللبناني.
قلعة راشيا والإرث الوطني
تشتهر راشيا الوادي بقلعتها التي عُرفت باسم «قلعة الاستقلال» أو «حصن 22 تشرين الثاني» واكتسبت رمزيتها التاريخية والوطنية كشاهدٍ على صمود الشعب اللبناني وتجذّره في أرضه. ويعود تاريخ بنائها إلى القرن الحادي عشر حين اهتم الصليبيون ببناء برج في راشيا الوادي على ارتفاع 1400 متر عن سطح البحر لحماية قوافل التجار ومواكب الحجاج والمسافرين عبر وادي التيم من دمشق إلى القدس في فلسطين. بالإضافة إلى أبنية وآثار تعود إلى العام 1370، حين تولّى الأمير أبو بكر شهاب ولاية حاصبيا إذ كان يأتي برفقة زوجته وابنته إلى راشيا للصيد والقنص، وقد بنى له منزلًا داخل القلعة. كما بنى الشهابيون مدخل القلعة والسور والقناطر من الجهة الجنوبية الغربية.
من ناحية ثانية، شهدت قلعة راشيا أحداثًا مهمة أبرزها المعركة الشهيرة في 22 تشرين الثاني 1925 حين اقتحم مقاتلون من الثورة السورية الكبرى بقيادة سلطان باشا الأطرش أسوار القلعة لتحريرها من الحامية الفرنسية وسقط نتيجة ذلك عديدٌ من الشهداء من أبناء راشيا والجوار.
وتشاء المصادفة أن يكون يوم 22 تشرين الثاني 1943 اليوم الذي شهد تاريخ بزوغ فجر استقلال لبنان. ففي ذلك اليوم، شهدت قلعة راشيا خروج كل من الرئيس بشارة الخوري والرئيس رياض الصلح ووزير الخارجية والأشغال العامة سليم تقلا ونائب لبنان الشمالي عبد الحميد كرامي ووزير التموين والتجارة والصناعة عادل عسيران ووزير الداخلية كميل شمعون، بعد اعتقالهم من قبل السلطات الفرنسية لمدة 11 يومًا كردٍّ على تحركاتهم الاستقلالية، واحتجازهم في غرف منفردة لا تزال قائمة حتى اليوم.
بعد جلاء القوات الفرنسية عن لبنان في العام 1946، تمركزت في القلعة قوات من الدرك اللبناني وبعض الإدارات الرسمية، ثم تسلّمها الجيش اللبناني في 1 أيلول 1964 وما زالت في عهدته حتى اليوم . وقد أُدرجت القلعة مؤخرًا في لائحة الأماكن السياحية في لبنان بعد تدشين درج الاستقلال وإعادة تأهيلها وإنارتها وبات السيّاح يقصدونها من لبنان وخارجه.
تزامن تاريخ إعادة تدشين قلعة راشيا الأثرية مع ذكرى اغتيال الرئيس رياض الصلح في 16 تموز، وذلك بعد إعادة تأهيلها لتستقبل متحف الاستقلال. كذلك تم تدشين درج الاستقلال المستحدث والذي يربط الأسواق التراثية بالقلعة، في احتفال تخلّله عرضٌ ثلاثي الأبعاد على جدران القلعة يحاكي تاريخها.
سوق راشيا الأثري
يقع سوق راشيا الأثري وسط البلدة وهو محاط بقرابة 36 بناءً قديمًا، وأرضه مرصوفة بالحجارة بشكل هندسي متقن ويبلغ طوله مئتين وخمسين مترًا، ويعود تاريخه إلى القرن السابع عشر. وقد رصفه المعلم الشويري شكري عبد الأحد تحت إشراف السلطات الفرنسية في العام 1927، وأعادت وزارة السياحة ترميمه وإنارته في العام 1997، ويصنّف اليوم كواحدٍ من الأسواق التراثية في منطقة البقاع.
بيوت مكلَّلة بالقرميد الأحمر
يظهر جليًا التراث العمراني في راشيا الوادي من خلال بيوتها القديمة المبنية بالحجر والمكلَّلة بالقرميد الأحمر. فالبلدة ما زالت تحافظ على شكلها التراثي الجميل، ومعظم بيوتها التي يفوق عددها الثلاثمئة منزل قرميدية السطح، ولبعضها علّية إضافية تدعى «طيارة» ولواجهتها الرئيسة أشكال هندسية مميزة بالقناطر الحجرية. ومن الخارج هي مربّعة بصورة عامة، يعلو مداخلها عند الباب «عتبة كبيرة» تحت قنطرة نصف دائرية محاطة بدائرتين من اليمين ومن الشمال فوق الباب الرئيس المحاط بنافذتين عن يمينه وشماله أيضًا. ولها شرفات معلّقة على نوعين: إما على طريقة «المندلون»، أي إنّ ركيزة الشرفة من الحجر، وإما معلّقة على جسر حديدي، وتتزيَّن بدرابزين حديدي واقٍ على شكل نبال تنتهي كل نبلة بزهرة اللوتس أو بقنطرة على شكل كوفي.
أما من الداخل فالمنزل يتوسَّطه بهو كبير يسمى «الليوان» وتتفرّع منه أربع غرف أو ست وأحيانًا ثمانٍ، وتسمّى الواحدة منها «المربَّع». وتتميز هذه المنازل بارتفاع سقفها الذي يصل إلى أربعة أمتار ونصف، وهي غالبًا ما تنتصب وسط حديقة.
تزخر بلدة راشيا الوادي الرابضة عند أقدام جبل حرمون أو جبل الشيخ، بالمواقع الدينية القديمة جدًا التي يؤُمها المؤمنون من الطوائف كافة. وهي بذلك تقدّم مثالًا رائعًا للقاء بين مختلف أبنائها، وعناقًا أبديًا بين خلواتها وكنائسها.
حِرَف نادرة ومونة بلدية
لا يمكن أن تزور منطقة راشيا ولا تسأل عن «مونتها»، فهي تشتهر بمنتوجاتها من عسل ودبس عنب وزيت زيتون وحبوب وألبان وأجبان، بالإضافة إلى الصناعات الغذائية التي ازدهرت مؤخرًا.
كما تمتاز راشيا بحرفتين نادرتين، الأولى هي صناعة الفضة، وصناعة المدافئ (الصوبيات) التي تطوّرت وباتت تعتبر صناعة مميزة.
يعود تاريخ حِرفة الفضة الفنية إلى القرن السابع عشر إبّان عهد الشهابيين الذين كانوا يعتمدون على حِرفيّي راشيا لتأمين زينة نسائهم من حلي وأقراط وقلادات وزنانير وعقود وخواتم بالإضافة إلى أعنَّة الخيل وسنابكها. وقد ازدهرت هذه الحِرفة واتّسع تسويق إنتاجها ليشمل جبل العرب ومدينة حلب حيث ما زالت القلائد والصلبان منتشرة في كنائس الساحل السوري لتشهد على براعة الحِرَفي الريشاني. وينتشر في سوق راشيا الأثري اليوم عدد من المشاغل الحِرَفية لصناعة الفضة التي يتم تصريف إنتاجها وبيعها إما مباشرة في المشغل أو بواسطة بيت المحترف اللبناني في بيروت.
أما صناعة المدافئ (الصوبيات) على الحطب أو المازوت، فيعود تاريخها إلى العام 1937. وتطوّرت لتأخذ موقعها إلى جانب الإنتاج الحِرَفي حيث يتفنَّن أصحابها في تشكيل مدافئ ذات مظهر خارجي مستوحى من التراث المعماري للبيوت الريشانية، وتعتبر قطعًا فنية مميزة تستضيفها البيوت خلال فصل الشتاء إلى جانب وظيفتها الأساسية في التدفئة.
مواسم خير
تحتل زراعة الكرمة مكانة أساسية في الإنتاج الزراعي في راشيا منذ مئات السنين، وتشهد على ذلك آثار عشرات المعاصر القديمة بين الكروم حيث لم يكن الإنتاج لغايات تجارية وحسب بل تأمينًا لحاجات غذائية معيشية تبدأ بالاستهلاك المباشر (عنب المائدة) الذي يتحوّل إذا ما جُفِّفَ إلى زبيب وإذا ما عُصِرَ وتمّت تنقيته من المواد الحمضية وطُبِخَ على نار قوية إلى دبس للتحلية. ومن أنواع العنب المنتج من كروم راشيا: السلطي والفضي والسرعيني والحلواني والسوري، وأشهرها الشموطي المخصَّص لإنتاج دبس العنب المضروب أو السائل الذي كان وما زال، مادة طبيعية أساسية للحصول على السكريات الصحية على مدار السنة.
وتشكّل سفوح حرمون والمناطق الحرجية في راشيا مراعي طبيعية واسعة للنحل الذي يجني من زهور حرمون ونباتاتها وبخاصةٍ زهرة الشنديب، أجود أنواع العسل الصيفي الذي يضاهي في جودته مثيله الأوروبي من ناحية نوعية المراعي وارتفاعها التي تصل إلى حدود قمم حرمون، بعيدًا عن كل أشكال التلوث. كما ينتج النحّالون في راشيا مادة «الهلام الملكي» التي تعتبر مادة طبية ذات ميزات فريدة.
خلال زيارة راشيا الوادي يستطيع السائح أن يستريح في رحاب الحديقة العامة عند مدخل راشيا وأن يتذوَّق أشهى المأكولات اللبنانية في عدد من مطاعم البلدة. وبمناسبة عيد الرب في السادس من آب، وهو يوم تقليدي له رمزيته الروحانية والسياحية، تنظم البلدية بالتعاون مع الجمعيات الأهلية رحلة إلى قمة حرمون تبدأ ليلًا وتنتهي فجرًا ويشارك فيها الزائرون القادمون من لبنان وبلاد الاغتراب، وتنطلق من نقطة في مزرعة الفاقعة وصولًا إلى قمة حرمون (على علو 2814 م) في مسيرة تستغرق حوالي ست ساعات برفقة دليل متخصّص، لمشاهدة أجمل منظر لغروب الشمس أو شروقها. كما تشهد البلدة في فصل الصيف مهرجانات قلعة الاستقلال وتتضمّن مهرجان الشعر الزجلي وألعابًا نارية ونشاطات موسيقية وثقافية تعكس جهود أبنائها الحريصين على إظهار صورتها الحضارية.
الزيارة إلى راشيا الوادي تختصر حكاية وطن، جذوره تضرب عميقًا في التاريخ وخلوده يتحقق بلقاء أبنائه مهما اختلفت عقائدهم. وتبقى راشيا الوادي سطرًا في هذه الحكاية وواحة من واحات لبنان الجميل.