السلفية الجهادية ..... أو الفرقة الناجية

السلفية الجهادية ..... أو الفرقة الناجية
إعداد: د. عبد الغني عماد
أكاديمي وباحث في الشؤون الإسلامية

يرافق مصطلح السلفية الكثير من الغموض من حيث دلالاته المعرفية أو بيان نشأته والتطورات التي داخلته. وكما هو الحال مع الكثير من المصطلحات التي يزداد غموضها كلما أصبحت شائعة ومتداولة بين فرقاء مختلفين، أصبح مصطلح السلفية مجال تجاذب ونقاش زاد من غموضه وتعقيداته تشابك المسائل السياسية والعقائدية والمعرفية في هذا المجال وتداخلها.

السلفية لغة، نسبة إلى السلف أو الجماعة المتقدمين، كما في "لسان العرب" لابن منظور. أما المفهوم الإسلامي الشائع للسلفية والمستقر نسبياً فهو الاتجاه الذي يدعو إلى الإقتداء بالسلف الصالح واتخاذهم قدوة ونموذجاً في الحاضر. والسلف الصالح هم أهل القرون الثلاثة الأولى من عمر الأمة الإسلامية، عملاً بقول النبي (ص): "خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم يجيء أقوام تسبق شهادة أحدهم يمينه, ويمينه شهادته".

هذا المفهوم العام والشائع للسلفية ينطبق على أغلب المسلمين، فهم جميعاً سلفيون بهذا المعنى, إلا أن التطور التاريخي ساهم في توليد سلفيات متعددة تختلف في ما تتبنَّاه من قضايا وأولويات، وتتباين في درجة التسلف أو شدّته في العبادات وفي المعاملات، في المقاصد وفي الوسائل.

 

في البعد التاريخي للسلفية:

من الضروري الغوص في التاريخ من أجل فهم السلفية كتيار وعقيدة. وقبل إلقاء نظرة على القرن الثامن عشر وقراءة محمد بن عبد الوهاب والتجربة السلفية المعاصرة، لا بد من العودة إلى القرن التاسع مع الإمام أحمد بن حنبل الذي اضطلع بدور مهم في صناعة الأحداث في بغداد في الربع الأول من ذلك القرن، حيث كان يشدِّد أكثر من غيره على العودة كلياً إلى النص والسير على خطى السلف الصالح، رغبة منه في تطبيق النموذج الذي نشأ في المدينة مع النبي (ص). ومع أن نموذج "المدينة"، وهو شكل مقتطع من التاريخ الحقيقي الذي شهد صراعات وحروباً بعد انقضاء سنوات قليلة على وفاة صاحب النموذج، تمثل في أن ثلاثة من الخلفاء الراشدين قضوا اغتيالاً، وأن حروباً وفتناً نشبت حتى بين الصحابة، وسادها الكثير من الاحتجاجات والسجالات المتبادلة حول شرعية كل واحد منهم، ما دفع بابن حنبل إلى السعي لتهدئة واستيعاب تلك المواجهات وآثارها والعداوات التي انقسم المسلمون حولها باكراً، فعمد، لذلك، إلى التخفيف من أحكامه على من ضلّ خلال الفتنة الأولى ساعياً إلى رأب الصدع وتحقيق أوسع إجماع داخل الأمة حول الحقيقة الواحدة للدين، ولكي يتم تجنب أي صراعات مستقبلية نصح بعدم الاحتكام إلى "الرأي" الذي قالت به المذاهب الفقهية الأخرى، وأن تكون قراءة القرآن حرفية متجنِّبة أي تأويل مجازي، وخاض في سبيل ذلك مواجهات فكرية وفقهية عديدة.

 

الحلقة الوسطى بين ابن حنبل وابن عبد الوهاب يمثلها ابن تيمية (ت 1328)، الفقيه الحنبلي السلفي الذي عاش أيضاً فترة عصبية مرّ بها الإسلام تمثلت بالغزو المغولي، ونهب بغداد وسقوط الخلافة، في وقت كان فيه الخطر الصليبي ما زال ماثلاً في الأذهان. تلك الحالة ولَّدت إحساساً شعر معه المسلمون أن دينهم مهدَّد حتى في وجوده. وقد صرف ابن تيمية حياته بما أوتي من جهد وصبر لرصد أي ثغرة تمس نقاوة العقيدة وصفاءها، فتصدَّى لكل ما صادفه من انعكاسات للفلسفة اليونانية ومؤثراتها على الإسلام، وساجل المذاهب الباطنية معتبراً أنها من البدع بسبب ما توليه من أهمية للتأويل, وأنكر مفهوم وحدة الوجود التي قال بها الصوفيون ومارسوها بعدما رأى فيهم خطراً أشد من المسيحيين على دين قائم على عقيدة التوحيد. وألَّف كتاباً صار مرجعاً لكل السلفيين, هدفه تنقية الرسالة المحمدية من كل شائبة، حمل عنوان "السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية"، وهو كتاب صغير الحجم كبير التأثير، ما يزال يطبع حتى الآن, ما يدل على مدى الانتشار الذي يحظى به، وهو يتناول علاقة الأمير برعيته في ظل الشريعة، ويشدِّد على تطبيق الحدود بشكل حرفي، لكنه يولي موضوع الجهاد اهتماماً مميزاً ويساوي بينه والصلاة، حتى ليبدو أنه يضعه فوق الأركان الشرعية الأربعة (الشهادة والصوم والزكاة والحج). فالدين جذعه الصلاة وتاجه الجهاد. وهو بذلك يجعل محاربة الكفّار أحدى وظيفتي وليّ الأمر، حيث الأولى تتمثل بتكريس طاقته لخدمة الدين بتأمين انتصار الفضيلة داخل الأمة من خلال إقامة الحدود, والأخرى خوض الجهاد المقدس خارج دار الإسلام. وهو بذلك يريد أن يحقق الإسلام أكبر نجاح ممكن سياسياً ودينياً. وبذلك يصبح السياسي والديني شيئاً واحداً لا يمكن تقسيمه إلى قسمين منفصلين. فالسلطة التي لا تهتم للشأن الديني، والدين الذي لا يهتم إلا لذاته متخلياً عن القوة والعظمة, مكتفياً بالتقوى والخشوع، يخسر في الحالتين وينتهي الإثنان إلى الفشل والخراب, وتلك هي حال المسيحية واليهودية اللتين أصيبتا بهذا المرض الذي منعهما من إقامة الصرح الديني. هكذا تحوَّل ابن تيمية من فقيه إلى مجاهد يحثّ على الجهاد في العقيدة، وهو ما يعمل الأصوليون والسلفيون المعاصرون على إحيائه(1).

 

مع محمد بن عبد الوهاب (1703-1792)، مؤسس التيار الوهابي السلفي الذي انطلق من عمق الجزيرة العربية في مسقط رأسه نجد، والذي التحق به آل سعود، انطلقت حركة تطهيرية ستسهم بعد قرنين في ولادة المملكة العربية السعودية, لكنها في البداية تعرَّضت لضربات أجهضت مشروعها على يد والي مصر محمد علي (1769 - 1849) حيث تمكَّن من طرد الوهابيين من الحجاز (1812 - 1817). كذلك فشلت محاولة أخرى لإقامة الدولة الوهابية أواسط القرن التاسع عشر. لكن مع مطلع القرن العشرين تضافرت الظروف لإعادة إحياء المشروع، وبعد ثلاثين عاماً نجحت قبيلة آل سعود الملتزمة هذه العقيدة في فرض هيمنتها على جميع القبائل ووحّدتها لتنشأ المملكة العربية السعودية العام 1932.

 

في البعد المعرفي للسلفية- الوهابية

يمكن اعتبار كتاب التوحيد لمحمد بن عبد الوهاب أول الكتابات التأسيسية الحديثة في الإلهيات الإسلامية، بعيداً عن المدوَّنات والقوالب الكلامية الجاهزة طوال عصور عديدة من تاريخ الإسلام. وقد حظي هذا الكتاب بالشهرة والانتشار والجاذبية في وقت واحد. وعلى الرغم من غياب أي تجديد جذري فيه، فهو مليء بالاستشهادات والاقتباسات التي تؤكد مرجعيته الحنبلية المتشدِّدة, حتى ليبدو معلمه أحمد بن حنبل في الواقع أكثر تسامحاً في مسألة التكفير. ويعترف ابن تيمية نفسه بأن معلمه كان متشدداً في ما يخص العبادات، ومتحرراً تماماً في ما يخص "العادات", حتى أن ابن حنبل تغاضى عن التوسل بالأولياء وزيارة القبور, وإن لم تكن الفرق الصوفية قد تشكّلت بعد في عصره.

انطلق ابن عبد الوهاب في صياغته من اعتبار عقائدي, وهو أن التوحيد أساس الإسلام, وهو يعني إفراد الله بالعبادة دون سواه. فالمجتمع يجب أن يكون حقلاً تطبيقياً لهذا التوحيد الإلهي، ويعبَّر عن ذلك من خلال التمييز والتكامل المعرفي الذي يقيمه بين فكرتي توحيد الألوهية وتوحيد الربوبية. فعلى توحيد الربوبية يترتَّب توحيد الألوهية, وبالتالي فإن القبول بتعدُّد الآلهة هو إدخال الشرك في الحياة الدينية. وبالعكس لا يمكن التسليم بتوحيد الربوبية، وفي الوقت نفسه الإيمان والولاء لغير الله, ما يعني أن توجيه جزء من العقيدة التي يدان بها لله نحو نبي أو وليّ أو حاكم سياسي ... الخ هو بمنزلة وقوع بغير وعي في الشرك والكفر. ولا يمكن تحقيق المبدأين: توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية، و تجسيد الإيمان الحقيقي بالله إلا من خلال ما يسمُّونه عقيدة  الولاء والبراء، وهما شرطان من شروط الإيمان،.ومعنى الولاء هو حب الله ورسوله والصحابة والمؤمنين الموحِّدين ونصرتهم, والبراء هو بغض من خالفهم من الكافرين والمشركين والمنافقين والمبتدعين والفسّاق, ومعاداتهم وجهادهم بالقلب واللسان. الولاء والبراء إذن من أعمال القلوب، لكن يجب أن تظهر مقتضياتهما على اللسان والجوارح , استناداً إلى الآية القرآنية: (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء، بعضهم أولياء بعض، ومن يتولّهم منكم فانه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين) - المائدة : 51

في الخلاصة نشهد في هذا المجال تدرّجاً في الحدة بين الحلقات الثلاث التي تبلورت خلالها العقيدة السلفية، فهي حلقات انتقلت من التساهل النسبي مع ابن حنبل إلى الانتقاد النظري الجذري من جانب ابن تيمية, وصولاً إلى استخدام العنف وهدم الأضرحة ومكافحة التصوّف والتوسل, ومنع كل الممارسات التي تسيء إلى صفاء العقيدة مع الوهابيين، بحيث لم يتبقَّ في المملكة العربية السعودية، التي تبنَّت تحت قيادة عبد العزيز بن سعود (1902 - 1953) العقيدة السلفية الوهابية, أيّ قبر من قبور الصحابة والأولياء باستثناء قبر النبي.

 

في الممارسة

يفتح مفهوم التوحيد، كما تقدِّمه الوهابية، الباب واسعاً أمام ضوابط شديدة الصرامة. فعندما تقوم العقيدة على مفهوم التوحيد بشقَّيه، كما سبق وأشرنا، فإن السلوك والممارسة ينبغي ان يتطابقا مع هذا المفهوم بشكل لا يكون فيه أي مجال أو شبهة إشراك وكفر بأي طريقة, سواء أكانت عبادة أو تقرباً أو دعاءً أو سلوكاً اجتماعياً, وهذا ما حوّل الدعوة الوهابية من خطاب ديني لاهوتي إلى أيديولوجيا تنقض الواقع وتتتبع مصادر الشبهات الشركية والكفرية فيه, وتقدم البدائل عنها.

وبحكم تركيزها على الجانب المعتقدي التوحيدي، فإن العالم ينقسم وفق هذه المنظومة بشكل ثنائي استقطابي متضاد: عالم كافر مشرك، وعالم مسلم صحيح الإيمان يمثله أهل التوحيد. وقد قادت هذه الرؤية إلى توسيع دائرة ما يعرف بمفهوم "الولاء والبراء"، وبالتالي التوسع بتكفير الآخر على ضوء ما عرف في أدبيات الوهابيين بنواقض الإسلام أو قواعد التكفير العشر الآتية:

  1. الشِّرك في عبادة الله ومن ذلك دعاء الأموات والاستغاثة بهم والذبح لهم.
  2. من جعل بينه وبين الله وسائط يدعوهم ويسألهم الشفاعة ويتوكل عليهم فقد كفر إجماعاً.
  3. من لم يكفّر المشركين أو شك في كفرهم أو صحَّح مذهبهم.
  4. من اعتقد أن هدى غير النبي (ص) أكمل من هديه أو أن حكم غيره أحسن من حكمه.
  5. من أبغض شيئاً مما جاء به الرسول (ص).
  6. من استهزأ بشيء من دين الرسول.
  7. السحر، ومنه الصرف والعطف، من فعله ومن قبله ورضي به.
  8. مظاهرة المشركين أو مناصرتهم ومعاونتهم على المسلمين.
  9. من اعتقد أن بعض الناس يسعه الخروج على شريعة محمد (ص).
  10. الإعراض عن دين الله لا يتعلَّمه ولا يعمل به(2).

وفق هذا الفهم لا يمكن اعتبار كل الحركات الإسلامية سلفية, فالمعايير التي تضعها السلفية الوهابية شديدة الصرامة، ومثال على ذلك أن حسن البنّا في تعريفه للإخوان المسلمين يقول إنها "طريقة سلفية وطريقة صوفية ودعوى إصلاحية"، ويجمع بين متناقضات حسب القراءة السلفية المتشددة, فاعتباره الاستشفاع بالأولياء ليس من المسائل الاعتقادية بل من المسائل الفرعية, أمر يتناقض كلياً مع ما يتشدَّد السلفيون الوهابيون في مكافحته باعتباره كفراً، وهم يصفون أهل الصوفية وأتباعهم بالقبوريين.

 

السلفي والأصولي

لا يميِّز البعض بين السلفية والأصولية، وهذا خطأ معرفي ومنهجي، فالسلفية في دعوتها الأصلية، كما سبقت الإشارة، قامت على تطهير المجتمع من البدع والعادات والتقاليد المخالفة للشريعة، كزيارة المقابر والإيمان بالأولياء والسحر والتنجيم والتعاويذ والتصوُّف الشعبي وتقديس الموتى ... وبهذا المعنى لا تبدو السلفية مذهباً شبيهاً بالمذاهب الإسلامية القديمة، بقدر ما تبدو كفرقة حنبلية جديدة، على الرغم من أنها تدعو إلى تجاوز كل المذاهب الإسلامية التي سبقتها والعودة إلى الاجتهاد اعتماداً على الكتاب والسنّة فحسب.

في المقابل نشأت الأصولية في بيئة مختلفة، فهي ظهرت في مجتمعات مدنية متقدِّمة (مصر وبلاد المشرق العربي), وفي ظل ظروف وتحديات بالغة التعقيد (سقوط الخلافة ونكبة فلسطين والاستعمار الأجنبي). ورداً على هذا الخطر دعوا إلى مقاومة التحديث وتقويض الدولة الوطنية, مؤسسين لخطاب يتحدث عن الأمة الإسلامية والدولة الإسلامية(3).

الأصولية بهذا المعنى خطاب إسلامي مؤدلج يقدِّم منظومة أفكار تنطلق من الحاضر إلى المستقبل، وذلك على خلاف السلفية التي تنظر إلى الحاضر لتخليصه من شوائب الماضي وممارساته، متَّخذة من سيرة السلف الصالح ومعتقداته وممارساته عقيدة لتطهير الدين من جاهلية الماضي ووثنيته, في حين تعتبر الأصولية أن المجتمع الإسلامي القديم قد زال وحلّ محله التحديث والتخريب والكفر والطاغوت, وعلينا أن نتصدَّى لذلك كله لإقامة المجتمع الإسلامي الأصيل على أنقاض المجتمع القائم الملوّث.

 

ولادة السلفية الجهادية (الفرقة الناجية)

لا شكَّ في أن البيئة الفقهية للسلفية المدرسية الوهابية التي تحوَّلت إلى سلطة في شبه الجزيرة العربية والتي فيها ولدت عقيدة الولاء والبراء، تختلف عن البيئة الفقهية الإسلامية الأزهرية في مصر التي ولدت فيها حركة الأخوان المسلمين، والتي منها نبتت وخرجت نظرية الحاكمية الإلهية. وكلاهما يختلفان عن البيئة الهندية حيث كان أبو الأعلى المودودي يرى أن التحديات التي تواجه المسلمين هناك تتمثل في قهر الأغلبية الهندوسية، وحملات التغريب وتذويب الهوية والشخصية الإسلامية، والاستعمار الإنكليزي، إنه مناخ الحصار الذي يعيش فيه "الفقيه المسلم" بين مطرقة الاضطهاد الاستعماري وسندان الأغلبية الهندوسية الرافعة لشعار السيادة للأمة والدولة الديمقراطية. وهذه الشعارات إذا ما طبِّقت كان يرى أنها ستحوّل المسلمين الهنود إلى أقليات وجاليات مقهورة ومغلوبة.

في ظل هذا المناخ أنتج المودودي مفهوم الجاهلية الجديدة و"الحاكمية الإلهية"(4)، وعلى وقع الصدام مع ثورة 23 تموز/يوليو وجمال عبد الناصر، وداخل السجون المصرية انقسم الإخوان المسلمون بين وسطية حسن الهضيبي التي عبّر عنها في كتابه "دعاة لا قضاة"، وبين جذرية سيِّد قطب التي عبّر عنها في كتابه الذي أصبح أكثر الكتب شهرة بين الأصوليين "معالم في الطريق", والذي وظّف فيه مفاهيم المودودي كسلاح معرفي وعقائدي لإسقاط ثورة 23 تموز/يوليو، والانقلاب على حكم جمال عبد الناصر. وعلى أرض الجزيرة العربية التي شهدت عصر النبوّة قامت الوهابية والسلفية المدرسية لتقاوم أشكال الوثنية والانحراف التي بدأت فعلاً في التسرّب إلى عقيدة التوحيد وقواعد التعبّد.

 

والحقيقة أن مختلف التيارات والحركات الإسلامية التي بدأت بالظهور منذ السبعينيات من القرن الماضي والتي تبنّت العنف المسلح (من "الجهاد" إلى "الجماعة الإسلامية" إلى "التكفير والهجرة" وغيرها .....) بقيت تتجنَّب الدخول في المسائل الاعتقادية والفقهية والخلافية التي أثارتها السلفية الوهابية, إلا مسالة واحدة ناقشت فيها بعمق وهي قضية تكفير الحاكم الذي لا يحكم بما أنزل الله، وهي فكرة للسلفية المدرسية فيها قراءة تتعلق بمفهوم طاعة أولي الأمر، حيث تضع شروطاً قاسية للخروج على الحاكم ومنها إعلانه الصريح برفض الشريعة والحكم بما أنزل الله، فضلاً عن نقاط خلافية فقهية تتعلَّق بمصطلحات الجاهلية الجديدة وحاكمية الله وبعض القضايا الفقهية الفرعية التي يشدِّد عليها الوهابيون في الممارسة والسلوك. والواقع أن السلفية المصرية, القطبية الجذور, والتي تبنَّت العنف، كانت أكثر تسيّساً وأقل تفقهاً, في حين كانت السلفية المدرسية الوهابية على العكس من ذلك أقل تسيّساً وأكثر تركيزاً على المسائل الفقهية والعقائدية.

لكن التطوُّر الذي ساهم في بروز السلفية الجهادية كتيار جديد، نتج عن امتزاج عناصر أساسية من المنظومة الوهابية السلفية بعناصر أساسية من المنظومة الأصولية القطبية الأكثر تسيّساً. حدث هذا الأمر على عدة مراحل، أولاها كان عندما استقبلت السعودية الآلاف من كوادر الإخوان المسلمين المصريين والسوريين وغيرهم من الهاربين من أنظمتهم ووفَّرت لهم الملاذ الآمن، حيث نجح هؤلاء في تبوؤ مراكز مهمة في المنظومة التعليمية والتربوية السعودية. وفي عملية التواصل هذه بين ضفتي البحر الأحمر التي بلغت أوجها في العهد الناصري ثم الساداتي، الذي فتح أبواباً واسعة لهؤلاء بهدف ضرب الاتجاهات الناصرية واليسارية، وذهب هو ضحية لهم في النهاية. في عملية التواصل هذه حدث نوع من التوافق والتكيُّف بين المدرستين، ونتج عنها بداية ما يعرف بـ "الاتجاه السلفي السروري" نسبة إلى محمد سرور بن نايف زين العابدين الذي مزج السلفية الوهابية بالقطبية الأصولية.

كان الرجل قريباً من عصام العطَّار، الإخواني الدمشقي المعروف، ثم تحوَّل عنه إلى مروان حديد قائد "كتائب محمد"، والإخواني السوري (الذي واجه النظام السوري بشدة). كان محمد سرور يرى أن ما ينقص السلفية هو أن تكون مسيّسة وثورية، ووجد أن فكر سيِّد قطب يتكفَّل بهذه المهمة. وقد تأثر بآرائه جهيمان العتيبي، القائد العسكري للمجموعة التي احتلَّت الحرم المكّي العام 1979، والذي كان يعتبر حكم آل سعود وإمامتهم باطلة.

إرتكزت عملية التوفيق والتكيُّف بين طرفي المعادلة الجديدة (الوهابي-القطبي) على ترسيخ عقيدة "الولاء والبراء" وتشريعها بعد إعادة إنتاجها وتشكيلها، فحلَّت محل فكرة الحاكمية التي اتكأ عليها طويلاً التيار القطبي الأصولي.

 

وحيث أن فكرة الحاكمية ملوَّثة بشبهة الخوارج التي رفعوها شعاراً لهم في أثناء "الفتنة الكبرى" في وجه الإمام علي، وحيث أن المنظومة الفكرية التي طرحها سيد قطب، منظّر الحاكمية، تحتوي على قابلية كبيرة لتقبل عقيدة "الولاء والبراء"، خصوصاً لجهة تفسيراته وتأويلاته للعلاقة مع الآخر غير المسلم. وأخيراً حيث أن السعودية تطبِّق الشريعة وتتبنَّى الإسلام منهجاً للحياة ونظاماً للحكم، ولا مجال للمزايدة في هذا المجال، لذلك كله وجد الطرفان، ولأسباب عقائدية وعملانية، ضرورة استبدال فكرة الحاكمية,التي بقيت كمضمون, بعقيدة "الولاء والبراء"، التي تؤدي إلى المفاصلة مع مجتمع الجاهلية: فالولاء كل الولاء للإسلام، والبراءة من المشركين وغير المسلمين. ولا يكتمل إسلام المرء عندهم إلا باعتناق هذه العقيدة التي نجحوا في إدخالها في صميم المناهج الدراسية، بل أصبحت عماد هذه المناهج، وتمَّ زرعها وترسيخها في عقول الناشئة بعمومياتها وتفصيلاتها.

أدَّت عملية المزاوجة بين مفهوم الحاكمية وعقيدة "الولاء والبراء", بين المنظومة الفكرية القطبية والمنظومة الفقهية الوهابية، إلى ديناميكية حركية وفكرية تمثلت في شحن الموقف من "الآخر" مسلماً أو غير مسلم، بمضامين عقيدية، فضلاً عن المحتوى السياسي، والموقف من الحاكم المسلم الذي لا يقيم حكم الله ولا يطبق شريعته. وقد نشأ عن هذه المزاوجة تيار فكري جديد وتيار حركي جديد، الأول عبَّرت عنه كما سبق وقدَّمنا, مجموعة من المفكِّرين من دعاة السلفية الجهادية النظرية، ومنها مجموعة من الكتّاب والدعاة حازوا شهرة واسعة، وبنتيجة هذا المزج أو المثاقفة خرج ما يعرف بتيار الصحوة في السعودية الذي استقطب مجموعة واسعة من الشباب المتديِّن أمثال الدكتور عوض القرني وسلمان العودة وسفر الحوالي وناصر العمر ومحسن العواجي وسعد الفقيه ومحمد المسعري وناصر الفهد وعلي الخضير.

أما التيَّار الحركي الجديد فقد اتجه نحو المزيد من التبلور، بتأثير العشرات من الدعاة الجدد، لهذا التيار الجديد في مصر والسودان والكويت والأردن وسوريا وغيرها. وقد نتج عن عملية المزج هذه المزيد من "تحنبل" الإخوان – نسبة إلى ابن حنبل -  "وتوهّب" القطبيين – نسبة إلى سيِّد قطب - , و"قطبنة" تيار الصحوة الوهابي وتسيّسه, وسار بعض أوجه هذا التيار باتجاه "الطلبنة" – نسبة إلى حركة طالبان الأفغانية - حتى قبل ظهور هذه الحركة في أفغانستان وتسلّمها زمام الحكم.

 

أفغانستان ولقاء الأصوليين بالسلفيين

الأمر استغرق حتى أوائل الثمانينيات كي تتحقَّق عملية الربط الثانية والأكثر خطورة التي تمَّت على الأرض التي شهدت حرب أفغانستان ضد السوفيات "الشيوعيين الكفار", ما أطلق موجات "جهادية" إسلامية تمَّت برعاية أميركية ومباركة بل مشاركة وتمويل من دول إسلامية عديدة كانت السعودية محوراً مركزياً فيها. الربط الأكثر خطورة، إذاً، تمَّ في إطار الجهاد الأفغاني وفي الجو نفسه الذي نشر فيه أبو الأعلى المودودي عقيدته عبر المدارس الدينية التي ترعرعت فيها حركة طالبان داخل بلاده باكستان. من هذا الربط المزدوج نشأ حكم طالبان في أفغانستان، وجاء إعلان الجبهة الإسلامية العالمية لجهاد اليهود والصليبيين وتنظيم القاعدة, ترجمة واضحة لعقيدة "الولاء والبراء" الممزوجة بالتنظير القطبي-التكفيري. وقد تمثل هذا التيار الجديد بالسلفي الوهابي السعودي أسامة بن لادن، والأصولي القطبي المصري أيمن الظواهري، وقبله بعبد الله عزام الإخواني الفلسطيني الذي تأثَّر به أسامة بن لادن كثيراً وكان له تأثير مميَّز على كل "الأفغان العرب", في تحالف يمثل بشكل لافت امتزاج تيارين على "أرض الجهاد" العام 1998, وهي جبهة أعلنت ان الخطر الداهم على الإسلام ليس في الأنظمة القريبة، وإنما في التحالف الصهيوني – الأميركي, وأن الفريضة الراهنة هي المواجهة مع أميركا واليهود وحلفائهما، وليست المواجهة مع الحكام.

 

وقد أطلق وزير الداخلية السعودي الأمير نايف بن عبد العزيز تصريحات مثيرة في هذا الصدد، أثارت تداعيات ونقاشاً واسعاً في الأوساط السعودية، إذ أعلن مسؤولية الإخوان المسلمين عن معظم ما يعانيه العالم الإسلامي من عنف وتطرُّف، قائلاً إن الإخوان هم أصل البلاء ومصدر كل المشكلات، وأنهم تآمروا على المملكة وكانوا ناكري جميل بعدما وفَّرت لهم المأوى والملاذ(5). كذلك، وبعد تصاعد أعمال العنف داخل المملكة، صرَّح المستشار القضائي بوزارة العدل وعضو مجلس الشورى الشيخ عبد المحسن العبيكان بأن فكر الأخوان المسلمين هو السبب في نشوء عدد من الجماعات المسلحة والإرهابية في عدد من الدول العربية ومنها السعودية، معتبراً ان تركيز الجماعة على الفكر السياسي وإهماله الدعوة وتوعية المنتسبين إليه دينياً هو أصل البلاء. كذلك يقول العبيكان إن الحكم بالقوانين والأنظمة الوضعية غير مخرج من الملة ولا يكفِّر من يعمل به، شريطة أن لا يعتقد بأنه أحسن أو أفضل من حكم الله، معتبراً أن فكرة الحاكمية تعود بجذورها إلى فكر الخوارج(6). ويعبر الأمير نايف والشيخ العبيكان عن التيار السلفي المدرسي ويتلمَّسان خطورة المزاوجة بين هذا التيار وأفكار المدرسة الإخوانية بصيغتها القطبية. وقد وصلت السلفية الجهادية في صياغتها الجديدة إثر التفاعل بين التيارين الوهابي والسلفي والقطبي والإخواني إلى معادلة تمثل "مثلث الصراع" النظري المعرفي والعملي الجهادي وهي: كفرانية النظم، وجاهلية المجتمع، والجهاد سبيلاً للتغيير. ولتأصيل هذا المثلث عمد منظِّروها إلى توجيه المباحث الكلامية القديمة كافة توجيهاً عملياً من خلال توظيف المرجعيات العقائدية والفقهية كافة لإقامة برهانهم النقلي والعقلي على ذلك وفق آليات التأصيل الإسلامي المعروفة.

 

أ- كفرانية النُظـــم

أصدر أيمن الظواهري كتابه: "الولاء والبراء، عقيدة منقولة وواقع مفقود" الذي يعتبر فيه أن معاداة الكافرين، التي هي ركن الإيمان بالله، لا تتم إلا بالكفر بالطاغوت، وأن التفريط في هذا الركن هو الثغرة التي ينفذ منها أعداء الإسلام، رافضاً الدعوات الرامية إلى إخلاء الميدان أمام أعداء الأمة المسلمة، مؤكداً أن "أي مسلم حريص على انتصار الإسلام لا يمكن أن يقبل أي نداء لإيقاف الجهاد أو تعطيله... ومن أعظم صور الجهاد العيني في هذا الزمان جهاد الحكام المرتدين الحاكمين بغير شريعة الإسلام الموالين لليهود والنصارى"(7). وكان سبق هذا الكتاب ما نشره أيضا تحت عنوان:"بيان كفر الحكام الحاكمين بغير شريعة الإسلام ووجوب جهادهم"، وكتاب آخر بعنوان "الحوار مع الطواغيت مقبرة الدعوة والدعاة" ويقول فيه ما نصه: "أما كونهم كفارًا أو مرتدين فلقوله تعالى: "ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرونوذلك لأن ما يفعله هؤلاء الحكام هو نفسه صورة الآية وسبب نزولها، وهو تعطيل حكم الشريعة الإلهية واختراع حكم جديد وجعله تشريعاً ملزماً الناس". ويستشهد لتدعيم وجهة نظره بتفسير ابن كثير لآية: "أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكماً لقوم يؤمنون" الذي يعتبر أهل الجاهلية هم الذين يحكمون بالضلالات" بما يضعونه بآرائهم وأهوائهم, وكما كان يحكم به التتار من السياسات المحلية المأخوذة عن ملكهم جنكيز خان الذي وضع لهم الياسق .... فمن فعل ذلك فهو كافر يجب قتاله حتى يرجع إلى حكم الله ورسوله"(8), وهي خلاصة الفتوى التي خرج بها ابن تيمية وتبناها كل الأصوليين والسلفيين في ما بعد.

 

ب- جاهلية المجتمعات

هو مفهوم تأسيسي يستخدم للحكم على نموذج الدول الإسلامية القائمة في عالم اليوم. ومفهوم جاهلية المجتمعات عند السلفية الجهادية دخل في المنظومة العقدية والفقهية كحكم شرعي يرمى به الأفراد والجماعات فضلاً عن المجتمعات والدول، بل العصر والحياة. وإذا كان المودودي أول من استخدم هذا المصطلح، وسيد قطب أول من وظَّفه في منظومة فكرية متكاملة، فإن التيار السلفي الجهادي قد قام بتأصيل هذا المفهوم عملانياً، وإن كان بعض رموزه يتردد في إطلاق وصف الجاهلية على عموم المجتمع، لكنه عملياً يخلص إلى نتيجة أخطر من حيث تحميل الناس واجب "البراءة من الحكام الكافرين وأعوانهم، والبراءة من قوانينهم الوضعية بما فيها الاشتراكية والديموقراطية وسائر كفرهم، وإظهار العداوة لهم، وهذا يكون بكشف كفرهم للناس وتسفيه رأيهم ودينهم الكفري، وحضّ الناس على عداوتهم وكراهيتهم وقتالهم حتى يكون الدين كله لله". وكل ما تقدَّم لا يصح به القلب أو الخفاء، بل يجب أن يكون ظاهراً معلنًا، وإلا فقد ناقض التوحيد، وهو ما تذهب إليه جماعة الجهاد المصرية وزعيمها أيمن الظواهري الذي أصدر كتاباً يرد على الشيخ ناصر الألباني أحد أبرز علماء السلفية المدرسية الوهابية وأسماه "الرد على شبهة خطيرة للشيخ الألباني بشأن السكوت عن الحكام المرتدين".

 

الجهاد المسلح سبيل التغيير

إعلان جاهلية المجتمعات المعاصرة كان المقدمة في مسألة التكفير الذي طال الحكام، وكفرانية النظم كانت نقطة الانطلاق في التنظير الشرعي عند هؤلاء لخلع هؤلاء الحكام وتغيير أنظمتهم، وهذا الخلع والتغيير وفق فقه السلفية الجهادية لا يكونان إلا قتالاً. أسس لهذا الاجتهاد سيد قطب في "معالم في الطريق"، مدشّناً نهج الخروج على الحكام "أولي الأمر" مخالفاً بذلك ما عليه السلفية التاريخية والوهابية في موقفها التقليدي الداعي إلى وحدة الجماعة الإسلامية وإنكارها الخروج على الجماعة وأولي الأمر. مع السلفية الجهادية تضخم مبحث موجبات التكفير على المباحث الأخرى التي قد تطال، ضمن التنظير الفقهي، مسائل السلطة، ومنها مباحث الغصب والظلم والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والنصيحة، لأنها مباحث لا تفضي في أحكامها إلى التكفير الموجب للخروج المسلح على الحاكم، بل تبقى أحكامها في دائرة "التعزير باعتبارها معاصي وآثام".

ومن أبرز المنظِّرين للتيار السلفي الجهادي أيضاً أبو محمد المقدسي (عصام البرقاوي) الذي كان من أبرز تلاميذه في الأردن أحمد فضل نزال الخلايلة المتحدر من قبيلة بني حسن إحدى أكبر القبائل الأردنية، وهو الذي سيعرفه العالم لاحقاً باسم "أبو مصعب الزرقاوي" . اعتقل المقدسي في الأردن أكثر من مرة، لكنه استطاع من داخل السجن أن ينشر أفكاره. وخرج الزرقاوي إلى ساحات "الجهاد" من دون إذن معلمه المقدسي الذي كان يحبذ الانتظار حتى تقوى شوكة التيار، لكن الزرقاوي مع مطلع العام 2000 نجح في استقطاب غالبية المجموعات، وما يزال المقدسي يتحفظ في الحديث عن تلميذه الزرقاوي، وإن كان على سبيل المناصحة لم يوافقه على فتوى قتل الشيعة باعتبارهم من العوام، فضلاً عن المغالاة في التكفير بعد تأسيسه "قاعدة الرافدين" وتكليفه بذلك من أسامة بن لادن. تميَّز المقدسي بغزارة إنتاجه الفكري ما جعله أحد البارزين والمنظِّرين في التيار الجهادي, ففي كتابيه "ملّة إبراهيم" و"هذه عقيدتنا" تناول أساس فلسفة التوحيد التي تقضي بالإيمان بالله وحده، ورفض أي قانون وضعي أو نظام سياسي لا يحكم بالشريعة ومحاربتهما. وهو ما يبرز في كتابه "الديموقراطية دين" الذي يحمل فيه على النظام الديموقراطي، ويرفض قبول المبدأ الإصلاحي الذي يتبنَّاه الإخوان المسلمون الذين يلقِّبهم بـ "الإخوان الملتحين"، معتبراً قولهم بالانتخابات ترشيحاً واقتراعاً بمنزلة "الكفر الصراح" ويرفض منطقهم في الإصلاح من داخل النظام بل ويعتبرهم مرجئة العصر، ونقدهم نقداً عنيفاً في أكثر من رسالة له ومنها "إمتاع النظر في كشف شبهات مرجئة العصر". كما يتبنَّى أبو محمد المقدسي فكرة "المفاصلة" التي نظر لها سيد قطب في "معالم في الطريق" ويقصد بها القطيعة الكاملة مع "أنظمة الكفر"، لكنه يمزجها بالمضمون السلفي من خلال عقيدة الولاء والبراء، ويكتب في هذا المجال كيف توالي وكيف تتبرأ. وعن قتال الطاغوت، أي الحاكم بغير شرع الله، يقول إنه يشمل أيضاً أنصار الطاغوت من عناصر الجيش والأجهزة الأمنية وحتى موظفي الحكومة الذين يعملون في وزارات الدول الكافرة التي لا تحكم بشريعة الإسلام باعتبارهم "جميعاً على كفر" ولو كانوا بالهوية مسلمين(9).

إضطلع عمر محمود عثمان أبو عمر المعروف باسم "أبو قتادة الفلسطيني" بدور هام في الدعوة لهذا التيار. وهو انتسب في بداية حياته إلى جماعة التبليغ والدعوة، ثم نشط في الاتجاه الفكري السلفي في الأردن, وتقرَّب من الشيخ السلفي الشهير ناصر الدين الألباني، ثم ما لبث أن اختلف معه لتمسكه بالسلفية المدرسية. أسس بعد ذلك حركة "أهل السنة والجماعة"، سافر بعدها إلى أفغانستان، ثم استقر في بريطانيا لاجئاً العام 1995، وهناك لمع نجمه كمنظِّر سلفي جهادي وداعية حركي لعدد من الجماعات الإسلامية المقاتلة، وتحوَّل مفتياً ومفكراً لها، ولا سيما منها تلك التي في شمال أفريقيا, كالجماعة الإسلامية في كلٍ من الجزائر وليبيا. وأشرف على عدة مجلات منها "الفجر" و"المنهاج"، وهو متهم بأنه الملهم الروحي لهجمات 11 أيلول /سبتمبر 2001. فقد عثر على 18 تسجيلاً لخطبه في شقة في هامبورغ كان يقطنها ثلاثة من منفذي تلك الهجمات. وأثارت فتاواه جدلاً واسعاً في الجزائر، وقد أبيح بسببها الكثير من سفك الدماء, واستغلتها الجماعات السلفية المقاتلة لتصفية المخالفين لها. اعتقل في بريطانيا بعد هجمات 11 أيلول/ سبتمبر ثم أطلق ووضع في الإقامة الجبرية، وهو مطلوب لدى السلطات الأردنية في أكثر من قضية، أبرزها الانتماء إلى تنظيم "الإصلاح والتحدي" في قضية اتهم فيها عصام البرقاوي "أبو محمد المقدسي"(10).

 

إن ما يميِّز السلفية الجهادية عن غيرها من السلفيات, ليس إعلانها جاهلية المجتمعات المعاصرة كلها، وليس ادعاءها كفرانية النظم التي لا تحكم بما أنزل الله، بل إعلانها الصريح أن الجهاد المسلح سبيل أوحد للتغيير. لذلك هي ترفض أي طريق آخر لإقامة نظام الخلافة الإسلامية، كالدخول في البرلمانات أو التربية والتثقيف والثورة الجماهيرية السلمية أو إشاعة الوعي الإسلامي. هذا المنهج القتالي المسلَّح كما تقرِّره غالبية رموز هذا التيار "لا حيدة عنه إلى الوسائل السلمية الأخرى لأنه حكم شرعي وقع بالنص والإجماع" كما يعبر عبد القادر بن عبد العزيز أحد أبرز منظري هذا التيار في كتابه "العمدة في إعداد العدة"، ويعتبر "أن من اجتهد مع وجود النص والإجماع في هذا المورد فقد ضل ضلالاً مبيناً، كمن يسعى لتطبيق حكم الإسلام عن طريق البرلمانات الشركيه ونحو ذلك. من قال إن العجز يمنعه عن الخروج عليهم، فنقول له إن الواجب عند العجز هو الإعداد لا مشاركتهم في برلماناتهم الشركية، فإن تحقَّق العجز وجبت الهجرة. والديموقراطية تجعل  السيادة للشعب بمعنى أن رأي أغلبية نواب الشعب هو الشرع الملزم للأمة. وهذا هو الكفر المذكور في قوله تعالى: "ولا يتخذ بعضكم بعضاً أرباباً من دون الله". فأعضاء هذه البرلمانات هم الأرباب في الآية السابقة وهذا هو عين الكفر، فمن جلس معهم وشهد كفرهم فهو مثلهم في الكفر.

 

السلفية الملتبسة : "فتح الإسلام" نموذجاً  

يتميَّز التيار السلفي الجهادي بذلك الكم الهائل من الإنتاج النظري والمنتشر بكثافة ملحوظة على مواقع الإنترنت والتي يسهل الوصول اليها من قبل الشبان المسلمين، وبالتالي أصبح هذا الفكر في متناول قطاعات واسعة من الناس وهو يركز على:

  •  شمولية الإسلام بكونه عقيدة وشريعة ونظام حياة لا تقبل التأويل، بغض النظر عن الزمان والمكان والبيئة والظروف.
  • الولاء للعقيدة وللإسلام وليس للمسلمين أو للوطن أو لأية أفكار بشرية كالاشتراكية والليبرالية والفردية والعلمانية وغيرها .
  • البراءة من الآخر المتمثل بما يسمّى أنظمة الكفر السائدة في العالم الإسلامي وفي الغرب؟
  • إعلان الجهاد ضد الطواغيت والكفار، واعتبار هذا الجهاد "فريضة عين" على كل مسلم ومسلمة يؤثم تركه، وهو لا يحتاج إلى موافقة ولي أمر قريب أو بعيد.
  • إباحة استخدام كل وسائل العنف، بما فيها العمليات الاستشهادية لقتل العدو والتنكيل به، وعدم التمييز بين المدنيين والراضين والموافقين أو الساكتين عن حكامهم الكفرة.

والواقع أن هذه الطروحات تتغذى من روح التديّن التي تسود المجتمعات الإسلامية وتستفيد من خبرة كوادر إخوانية منشقة في التنظيم والإدارة والعمل السري، كما تستند إلى جاذبية الطرح وبساطته وقوة حجته السلفية, باعتماده على الدليل النقلي أكثر من الدليل العقلي, في القضايا الفقهية والعقدية والسياسية من خلال المزج المبسط بين الحقل الديني ومفاهيمه ودلالاته والحقل السياسي بكل تعقيداته وتغيراته.

 

إلا أن تحول هذا التيار السلفي الجهادي إلى قوة تجاوزت الإمكانات التنظيمية والمادية لتنظيم القاعدة نفسه، ما كان له أن يتم، لولا السياسات الأميركية الجديدة الهادفة إلى الانفراد والهيمنة في عالم القطب الواحد والانحياز الفاضح لإسرائيل، وتبني الولايات المتحدة وإدارتها الجديدة مع جورج بوش الإبن لخطاب يقسم العالم بين محور الشر ومحور الخير، وهو خطاب يتبنى منطق أسامة بن لادن بشكل مقلوب، والذي كان أول من تحدث عن انقسام العالم إلى فسطاطين (الكفر والإيمان - الحق والباطل). وما عزَّز هذا التيار السلفي الجهادي التكفيري هو غزو العراق، حيث تحوَّلت أرضه إلى قبلة لكل الجهاديين.

في لبنان يعمل السلفيون في مجال الدعوة منذ الخمسينيات، وهم في غالبيتهم يحصرون اهتماماتهم في شؤون محاربة البدع وتصحيح العقائد، ولا علاقة لهم بما يسمى اليوم السلفية الجهادية. والواقع أن الكثير من الالتباس وقع لعدم التمييز بين هذين الاتجاهين منذ أحداث الضنية صيف العام 2000، ثم مؤخراً مع تسرب مفاهيم السلفية الجهادية إلى بعض المواقع في لبنان، ولعل أخطرها تمثل في ما حدث في مخيم نهر البارد الفلسطيني شمال لبنان، من معارك طاحنة بين الجيش اللبناني وتنظيم "فتح الإسلام"، ولا يمكن قراءة ما حدث بعيداً عن هذه الصورة. مع ذلك يصعب تصنيف هذا التنظيم كجزء عضوي من تنظيم القاعدة التي اعتادت تبني عملياتها عبر مواقع متعددة قريبة منها على شبكة الإنترنت, شأن كل العمليات التي تقوم بها في العراق أو السعودية أو المغرب أو الجزائر, حتى ولو كانت عمليات صغيرة. لذلك كان ملفتاً تجاهل تنظيم القاعدة لـ "فتح الإسلام". فهل يعني ذلك أن هذا التنظيم الحديث الولادة ليس له علاقة بالسلفية الجهادية ؟

في محاولة أولية للإجابة عن هذا السؤال، يمكن القول تكراراً إن الفكر السلفي الجهادي قد تجاوز قدرات تنظيم القاعدة على الاستيعاب والتأطير، وبالتالي يمكن القول إن الكثير من عناصر "فتح الإسلام" هم عناصر جهاديون حقيقيون تم استقطابهم وتأطيرهم واستدراجهم تحت عدة عناوين, أهمها الاستعداد للذهاب إلى أرض الجهاد في العراق, إلا أن النواة المؤسسة لهذا التنظيم، والظروف المحيطة بنشأته وانقلابه على منظمة "فتح الإنتفاضة" والإستيلاء السهل على قواعدها ومستودعاتها في مخيم نهر البارد, وتاريخ شاكر العبسي وخروجه المبكر من السجون السورية, والتحاقه السريع بـ "فتح الإنتفاضة" التي لا تخفى ارتباطاتها الإقليمية، يطرح تساؤلات عديدة عن حقيقة هذا التنظيم ودوره والمهمات التي كان مكلفاً بها, بل وأصالة انتمائه إلى الحالة السلفية الجهادية .

 

لقد انتهت معركة نهر البارد ولكن آثارها لم تنته بعد, فقد تقلص خطر "فتح الإسلام" وانتهى هذا التنظيم التكفيري كبنية وتركيبة عسكرية، ولم يعد يشكل خطراً استراتيجياً على الأمن اللبناني من وجهة نظرنا، لكنه مع ذلك يشكل خطراً أمنياً وإن كان محدوداً، حيث أن بعض خلاياه ما يزال طليقاً. ولكن الأهم أن الجهات التي "فبركت" هذه التركيبة وموّلتها وسلّحتها، والتي يمكنها أن "تفبرك" تركيبات مشابهة في ظل انقسام سياسي لبناني يشكل بيئة مناسبة لتشكيلات كثيرة.

إن تحديَّات المرحلة القادمة، تفرض تطوير أساليب مكافحة الإرهاب في لبنان, ووضع استراتيجية صلبة للأمن الوطني، وتعزيز إمكانات الأجهزة الأمنية. فما حدث أثبت، وللأسف، أن المجتمع اللبناني، على الرغم من تنوّعه وانفتاحه، ليس محصناً بما فيه الكفاية ضد التيارات التكفيرية، على الرغم من قلة عدد اللبنانيين المنضوين تحت لواء "فتح الإسلام"، وأن بعض التيارات الإسلامية ما يزال يتردد في اعتماد خطاب مناهض للسلفية الجهادية التكفيرية، ويلجأ إلى الخطاب الإنتهازي والمزدوج, وتحت شعار المقاومة والجهاد يبرر البعض لهذه التيارات، وتحت هذا الشعار نفسه يتغذى ويتربى الإرهاب والتكفير أيضًا.

 

المـــراجع

  1. لمزيد من التوسع أنظر كتابنا: "الحركات الإسلامية في لبنان، إشكالية الدين والسياسة في مجتمع متنوع", دار الطليعة, بيروت, 2006, ص263 -268.
  2. ذكرها جميعها الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب واعتمدنا في عرضها على الشيخ عبد العزيز بن باز في كتابه: "العقيدة الصحيحة ونواقض الإسلام", بيروت, مؤسسة الرسالة,1413 هـ, ص 27-28-29.
  3. د.رضوان السيد –النهار- 23/أيلول/2007 (العدد 2139) .
  4. د..عبد الغني عماد: "حاكمية الله وسلطان الفقيه, قراءة في خطاب الحركات الإسلامية المعاصرة"، دار الطليعة، بيروت، 2006.
  5. موقع الجزيرة – نت 26/12/2002.
  6. موقع ايلاف -4/5/2005 (نقلاً عن جريدة الوطن السعودية)
  7. انظر كتاب أيمن الظواهري على موقع الإنترنت WWW.METRANSPARENT .COM
  8. تفسير ابن كثير، ج 2، ص 68.
  9. انظر التحقيق عن مؤسس التيار السلفي الجهادي وعرَّاب الزرقاوي الذي خرج من رحم الفكر الوهابي وانقلب عليه، جريدة النهار 23/7/2005.
  10. جريدة النهار 12/8/2005.

The Salafite Jihadism … or the surviving faction

The researcher explains the expression of “Salafite” by quoting verses from the Holy Koran and the Prophetic Hadith and afterwards he reviewed the historic appearance of Islamic Salafism as a political current which started in the ninth century with Imam Ahmad Bin Hanbal and lasted until the days of Ibn Abdel Wahab and Ibn Tamima and stated that the tribe of Saoud which is committed by this doctrine imposed its hegemony on all the tribes in the beginning of the twentieth century and established the Kingdom of Saudi Arabia. The researcher also considers that the book of “Tawhid” which was written by Mohammad Bin Abdel Wahab was one  of the first founding books in Islamic theology and afterwards the movements of expiation became active on a doctrinal basis.

The researcher distinguishes between “Salafism” and radicalism since “Salafism” in his opinion is based on purifying society from heresies and so on while radicalism considers that the old Islamic society has vanished and was replaced by modernity and atheism and therefore it - radicalism – should confront this fact in order to establish the “old Islamic society”. Afghanistan represented the reunion between radicalism and “Salafism” based on a triple basis: the atheism of the regimes, the ignorance of society and the Jihad as a way of change.

 The most prominent theoreticians in the “Salafite-Jihadist” current was Issam El Berkawi (Abou Mohammad El Makdisi) who is the teacher of Abou Mosaab El Zarkawi. The “Salafit-Jihadist” current distinguishes itself from the other “Salafite” currents by clearly announcing that the armed Jihad is the only way of change.

On the other hand, the organization of “Fateh El Islam” is, according to the researcher, the ambiguous type of “Salafism” especially because the emergence of the organization and the history of Shaker El Absi raises questions concerning the authenticity of his association to the “Salafite-Jihadist” current.

Le salafisme jihadiste…. ou les factions survivantes

  Le chercheur donnE des explications au terme «salafisme» en se référant à des textes du Coran et des discours du prophète. Il expose ensuite l’apparition historique du salafisme islamique en tant que courant politique, en allant du 9ème siècle et l’Imam Ahmad Ben Hanbal, pour arriver à Ibn Abdel Wahab, ainsi que Ibn Tamima. Le chercheur cite que la tribu «Sa’oud» engagée à ce dogme, a imposé sa dominance sur toutes les tribus vers le début du 20ème siècle et a fondé le Royaume Saoudien arabe. Il considère que le livre «al-Tawhid» de Mohammad Ben Abdel Wahab, est un des livres fondamentaux des divinités islamiques; ensuite se sont activés les mouvements d’expiation sur une base doctrinale.

Le chercheur distingue entre le salafisme et le fondamentalisme. Selon lui, le salafisme est basé sur la purification de la société des hérésies alors que le fondamentalisme considère que l’ancienne société islamique a disparu et fut remplacée par le modernisme et l’expiation, et il doit – le fondamentalisme – par la suite affronter ces facteurs pour établir «la société islamique originaire». L’Afghanistan représente la rencontre entre les fondamentalistes et les salafites, tout en se basant sur trois facteurs: les régimes athés, la société ignorante, et le Jihad qui est le seul moyen pour le changement. Un des plus notables du courant salafite jihadique est Issam el-Barkaoui (Abou Mohammad el-Makdessi) qui était le maître de Abou Mesaab el-Zarqaoui. Le salafisme jihadique est distingué des autres courants salafites par sa déclaration claire que le Jihad armé est le moyen unique pour aboutir vers le changement.

Alors que «Fateh el-Islam» selon le chercheur, représente le salafisme équivoque, surtout que la création de l’organisation et l’histoire de Chaker el-Abssi posent des questions sur l’originalité de sa vraie appartenance au salafisme jihadique.