- En
- Fr
- عربي
قواعد أميركا والحلف الأطلسي حول روسيا: بين تقبل السلطة وتذمر المعارضة
إبتداءً من يوم الإثنين الواقع فيه 29 نيسان عام 2004 أصبح عدد أعضاء الحلف الأطلسي 26 عضواً، بعد أن انضمّت إليه سبع دول جديدة هي بلغاريا ورومانيا وسلوفاكيا وسلوفينيا وجمهوريات البلطيق السوفياتية الثلاث سابقاً لاتفيا ولتوانيا وإستونيا. وهكذا باتت موجة تمدّد الحلف الثانية حقيقة واقعة. وفيما كانت تعلن عضوية هذه الدول في الحلف كان وزير الخارجية الروسي الجديد سرغي لافروف يحضر اجتماعات المجلس الرّوسي الأطلسي ويعلن أن روسيا لا تبدي فرحتها بما يجري، إلا أنّها لا تريد أن تجعل من هذا الأمر فاجعة.
وفي اليوم نفسه صرّح الناطق الرسمي باسم وزارة الخارجية الروسية بأنّ "توسيع رقعة الحلف الأطلسي يمسّ دون ريب مصالح روسيا السياسية والعسكرية، وإلى حدٍّ ما الإقتصادية. وهذا يضطرّنا إلى النظر إليه بكل جدّية".[1]
ألجدير بالذِّكر أنّ حكّام روسيا المعاصرة، وأوّلهم آخر أمين عام للحزب الشيوعي السوفياتي وأوّل رئيس للإتحاد السوفياتي، ميخائيل غورباتشوف، ومن بعده الرئيس الروسي الأول بوريس يلتسين، دأبوا على تأكيد أن روسيا اليوم لا أعداء جديّين لها، وأنّ أيّ حروب كبرى لن تقوم بعد الآن. فغورباتشوف رحّب خلال دعوته إلى عملية التغيير الشهيرة باسم "البيريسترويكا"، بالنظام العالمي الجديد، من دون أن يكشف النقاب طبعاً عن حيثياته ومضمونه، ثم عمد إلى حلّ حلف وارسو بعد لقائه في يالطا عام 1989 بالرئيس الأميركي رونالد ريغان، وإلى الموافقة على توحيد شطري ألمانيا وترحيل القوات السوفياتية من أوروبا الشرقية... ولم يكن لديه من شروط غير "التمنّي" على الأطلسي أن يحلّ نفسه بعد حلّ حلف وارسو
أمّا الرئيس الروسي يلتسين فكان يصرّح بأن حروب روسيا ستكون فقط محلّية(!!) فالكلّ، بعرفه، راضٍ عنها ولا ينوي إيذاءها في شيء. وهذا يعني منطقياً أن صواريخها غير المدمَّرة بعد، بموجب اتفاقيات تقليص الأسلحة الاستراتيجية، لا بدّ أن تكون موجّهة إلى اللاهدف. ولعلّ هذا الأمر كان وراء نيّة السلطات الروسية، وفقاً للمبدأ العسكري المعلن في حينه، تقليص وحدات الصواريخ الاستراتيجية حتى عشر فرق فقط مع حلول العام 2007 أو العام 2008.
وما دام ليس ثمّة من أعداء يتربّصون بروسيا شرّاً، فأي حاجة إذن إلى العِلم العسكري أو إلى الإنضباط؟ وهل للمرء أن يعجب إن تهبطُ معنويّات الجيش الروسي إلى حدّ أن قبضةً من رجال العصابات الشيشانيين "دوّخته" كل هذه السنوات العشر ونيّف التي مرّت منذ بدء الحرب الشيشانية، وروّعت روسيا، الجزء الأساسي المتبقي من حطام الاتحاد السوفياتي ومن عظمته؟ علماً أنّ ستالين كان قبض في خلال أسبوعين، زمنَ الحرب العالمية الثانية، على كل "الثوّار" الشيشانيين آنذاك، ولم تخسر قوّاته سوى جندي واحد.
وما دام بعض قادة العالم الكبار الذين يزورون روسيا بين الفينة والفينة يكيلون لها المديح على مسيرتها الديموقراطية، ويغدقون عليها الكلام المعسول عن السلام والصداقة، فإنه يحقّ والحال هذه للمرء أن يتساءل: لماذا إذن تقترب قوّاتهم من حدودها يوماً بعد يوم من كل جانب محكِمةً الطّوق حول خناقها أكثر فأكثر؟
الحلف الأطلسي يتقدّم من جهة الغرب
كان تمدّد الحلف الأطلسي شرقاً على حساب بلدان الكتلة السوفياتية سابقاً الخطوةَ الأبرز والدراما الرئيسيةَ فيما القرنُ العشرون يقترب من نهايته. فأمام أعين أبناء البشرية بات يجري سيناريو مصيري يتبدّل النظام السياسي الأوروبي برمّته، ويكتسب الأمن الأوروبي حلّة جديدة، ويصبح التنبّؤ بمنحى تطوّر الأوضاع أكثر صعوبة.
ففي 12 و13 كانون الأول عام 1997 نظرت دورة الإتحاد الأوروبي في لوكسمبورغ في مسألة بدء التفاوض لقبول 11 عضواً جديداً في الحلف الأطلسي.
وفي 16 من الشهر نفسه تمّ في بروكسل توقيع محاضر انضمام بولندا وتشيكيا والمجر إلى الحلف.
وفي 4 كانون الثاني عام 1998 بدأ تطبيق قواعد جديدة لدخول مواطني بلدان رابطة الدول المستقلّة التي لم توقّع معاهدة استعادة المهاجرين غير الشرعيين إلى بولندا.
وفي 10 شباط من العام نفسه صرّح وزراء خارجية بولندا وتشيكيا والمجر بأن بلدانهم مستعدة لتقديم الدعم السياسي والعسكري إلى الولايات المتحدة في حال استخدامها القوّة العسكرية ضدّ العراق، وهو ما حصل بالفعل بعد مضي 5 سنوات تقريباً.
وفي 2 نيسان 2004 إنضمّت إلى الحلف دفعة جديدة من البلدان التي وقفت في الطابور لدخوله قبل سبع سنوات تقريباً، ليصبح عدد المنضمّين إليه منذ عام 1997 سبعة بلدان. والحبل على الجرّار!!
لقد بيّنت أحداث البلقان (إعتداء بلدان الأطلسي على يوغوسلافيا) أنّ الموافقة العجولة للقيادة الروسية في السنوات الأولى من عهد إصلاحات يلتسين الديموقراطية الرأسمالية، على توسيع رقعة الحلف الأطلسي شرقاً، لم تزد الحلف المذكور إلا نهَماً للتوسّع، سواء بالحسنى أو بالحديد والنار (يقول المثل الروسي "إن تُعطِ الشيطان إصبعَك أخذَ يدَك كلّها!"). وهذا ما كاد يسدّ كلّ منافذ الصبر على الروس، ويعزّز، قبل أن يصل الرئيس بوتين إلى سدّة الحكم، إحتمالات التأزّم في العلاقات الروسيةالأميركية والروسيةالأطلسية، واحتمالات التواجه القاسي، و"تجميد" التعاون، ناهيك بما جرّته هذه الأحداث من ويلات إنسانية ومن خسائر اقتصادية وسياسية على أوروبا الطامحة إلى التوحّد والإزدهار.
وإذا ما غصنا في العمق وجدنا أن لروسيا والحلف الأطلسي من المصالح المتباينة ما يجعل من الصعب استمرار أسباب الودّ بينهما. فالكثير من الدلائل يؤكّد أن الهدف الاستراتيجي الرئيسي لأميركا والأطلسي هو منع روسيا أو أيٍّ من الجمهوريّات السوفياتية سابقاً من أن تصبح ذات يوم ذاك المنافس الجغراستراتيجي الذي كانه الإتّحاد السوفياتي، ومن أن تمتلك قدرات عسكرية هجومية ضخمة واستقلالاً اقتصادياً. فالحلف إياه شكّله الأميركيون والأوروبيون ضدّ الإتحاد السوفياتي بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية وابتداء "الحرب الباردة" بحجّة الدفاع عن أوروبا من مزيد من زحف الشيوعيّة والإتحاد السوفياتي غرباً. ولذا تأمّل الروس، بعد أن اختفى الإتحاد السوفياتي عن الخارطة، وبعد أن انتهت "الحرب الباردة" بين الشرق والغرب، أن يغيّر الحلف ما في نفسه بحيث يصبح حلفاً سياسياً أكثر منه عسكرياً، ما دام لا يشاء أن يحلّ نفسه كما حلّ حلف وارسو نفسه. غير أن أملهم كان خلّبياً، فواصل الحلف الغربي تقدّمه نحو الحدود الروسية.
وهكذا تجد روسيا اليوم نفسها مهدّدة. ويذهب بعض المحلّلين الروس من أوساط اليسار بعيداً إلى حدّ الإعتقاد أن ثمّة "خطراً في أن تنزلق روسيا من وضعها الحالي كشبه مستعمرة، من حالتها الإنتقالية هذه التي لا يمكن أن تدوم إلى الأبد، إلى وضع المستعمرة الكاملة، فلا تبقى موجودة كدولة واحدة موحّدة. فروسيا اليوم هي أضخم منتج للغاز والنفط في العالم (سبقت السعودية العام الماضي على صعيد إنتاج النفط)، وباطن أرضها لا يزال ملكاً للدولة، بينما المطلوب أن يصبح ملكاً للقطاع الخاص، وهذا يعني في النهاية أن يصبح ملكاً لكبرى الاحتكارات الغربية وأغناها، وإنّ المسألة الرئيسية في روسيا وإحدى المسائل الأساسية في السياسة الدولية، هي مسألة السيطرة على ثروات باطن الأرض الروسية، أي السيطرة على روسيا"[2].
ولأجل الشروع في إتمام هذه المهمّة حاول الأميركيون، عبر استغلال أزمة كوسوفو وغيرها، بثّ حياة جديدة في الحلف الغربي والإبقاء على هيكليّته السابقة أطول مدّة ممكنة، وجعله الأداة الرئيسية للحفاظ على الأمن في أوروبا (والعالم أيضاً)، وحرمان روسيا من أيّ نفوذ في أوروبا الشرقية بعد السيطرة على هذا الجزء من القارّة الأوروبية. وهم إذ ضمّوا اليوم إلى الحلف بلدان أوروبا الشرقية وجمهوريّات البلطيق السوفياتية الثلاث سابقاً التي كانت لفترة خمسين عاماً تقريبا خاضعة للنفوذ السوفياتي، ووقفت لسنوات في طابور اللاّهثين للإنضمام إلى الحلف، فإنّهم بذلك ضربوا عصفورين بحجر واحد: أولاً، عزّزوا نفوذهم بفضل ضمّ هذه الكثرة من الأصوات الجديدة المخلصة لهم في قلب الحلف، في مواجهة دول الحلف الأوروبية الكبيرة كألمانيا وفرنسا اللتين تشكّلان نواة الإتحاد الأوروبي، واللتين عارضتا الحرب الأميركية على العراق وباتتا لا تصغيان إلى "كلمة" أميركا كثيراً في ما يخصّ الشؤون الأوروبية. ومعلوم أن الأوروبيين أخذوا يفكّرون مؤخراً وهذا ما أكّده تصريح لرئيس الوزراء الإيطالي برلوسكوني في استمالة روسيا إلى الحلف لأجل موازنة الوجود الأميركي فيه والخروج من دوّامة الهيمنة الأميركية على الأوروبيين بالحجّة القديمة، حجّة الذّود عنهم من هيمنة الشيوعية. وثانياً، بات بإمكان الأميركيين استخدام أراضي هذه الدول القريبة من الحدود الروسية لأجل محاصرة روسيا إذا ما نهضت يوماً من كبْوتَها الحالية وعادت إلى عادتها القديمة في التطلّع نحو دور لها كدولة عظمى تاريخياً.
وعلى الرغم من أن حرب العراق الأخيرة في العام 2003 دقّت إسفيناً في جسم الحلف الغربي، فإن الحلف الأطلسي لا يزال يسعى إلى الحفاظ على ما تبقّى من أسباب توحّده وتثبيت تفوّقه في مجال القوّات التقليدية في أوروبا (تبلغ نسبة التفوّق حاليا 3:1 وبعد التوسيع ستصبح 4:1 لصالح الحلف المذكور)، وإلى الإستيلاء على سوق الأسلحة الأوروبية (سيكون على الحلف أن يعيد تسليح جيوش أعضائه الجدد بصورة مكثّفة)، وإلى إضعاف المواقع الجغراسياسية لروسيا.
أما روسيا هي الأخرى فرغباتها بقيت أضغاث أحلام. فأين صار ما طمح إليه القادة الروس منذ عهد البيريسترويكا من أهداف مثل إقامة حلف استراتيجي مع البلدان الأوروبية )أوروبا الكبرى الموحّدة أو "البيت الأوروبي المشترك" كما درج غورباتشوف على تسميته)، والمشاركة الكاملة (على قدم المساواة مع بلدان الغرب الأخرى( في نظام الأمن الأوروبي الجماعي، وتحويل الحلف الأطلسي من منظمة عسكرية إلى حلف سياسي، بحيث يصبح، مع منظّمة الأمن والتعاون في أوروبا، بنية جديدة قاعديّة للأمن الأوروبي، وتنفيذ بلدان الحلف الأطلسي للإلتزامات التي أخذتها على عاتقها (بعد موافقة الاتحاد السوفياتي على توحيد شطريّ ألمانيا) في شأن عدم توسيع الحلف على حساب دول معاهدة وارسو سابقاً. ومن الجدير بالذكر هنا أن ألمانيا بعد استعادتها وحدتها، كانت أعلنت أنها لا تنوي الإنضمام إلى الحلف الأطلسي بعد حلّ حلف وارسو.
إن روسيا لم تفلح حقاً في التوصّل إلى أيّ من هذه الأهداف. وقد حال دون ذلك الإملاء الغربي في مسألة كيفيّة ترتيب البيت الأوروبي سياسياً وعسكرياً، وتبعية النخبة الحاكمة في روسيا للغرب.
وإننا لنشهد الآن تقدّم الحلف الأطلسي حثيثاً نحو الحدود الروسية بمباركة مسبقة من القادة الروس. ولم يغيّر في الأمر شيئاً ما كثر الحديث عنه في الماضي من "شراكة في سبيل السلام" ومن التزام بعدم توسيع رقعة مسؤوليات الحلف الأطلسي، كما لم يغيّر في الأمر ما صدر في حينه من اعتراضات خجولة على هذا التقدّم، ومن تصريحات "دونكيشوتيّة" للمبعوث الرئاسي إلى البلقان، رئيس الوزراء سابقاً، فيكتور تشرنوميردين، زعم فيها أن القوّات الروسية التي سترسل إلى كوسوفو "لن تكون في أية حال من الأحوال تحت إمرة قوّات الأطلسي". فالبطولة هنا جاءت متأخرة جداً. والتقدّم إياه تمّ وإن جاء ثمنه إنفاقا عسكرياً باهظا تمثّل في صواريخ وقذائف انصبّت بالألوف على يوغوسلافيا، وميزانيات عسكرية نهمة باتت تتحمّل قسطاً كبيراً منها بلدان أوروبا الشرقية المنضمّة حديثاً إلى الحلف.
إن كل شيء خاضع للهدف الرئيس مرحلياً ألا وهو السيطرة على أوروبا الشرقية، وتأكيد ما تطمع فيه الولايات المتحدة من زعامة غير محدودة على العالم بغية تغييره وتحويره ليصبح على صورتها ومثالها، وليصبح العالم كله هذه المرّة إمبراطورية أميركية. وبهذا يتحقّق لها ما لم تتمكّن منه في ظل احتكارها للسلاح النووي (بعد الحرب العالمية الثانية مباشرة).
لقد بقي الروس غير مدركين تماماً لما سيؤول إليه مستقبل روسيا في ظلّ توسيع رقعة الحلف الأطلسي، حتى جاء مؤتمر مدريد في 8 تموز 1997 الذي ضمّ قادة بلدان الحلف الأطلسي، واتخذ قراراً بدعوة بولندا والمجر وتشيكيا للإنضمام إلى عضوية الحلف، على الرّغم من اعتراض روسيا المتكرر. ولقد أصبحت هذه الدول الثلاث كاملة العضوية، كما انضمت إلى الحلف في أواخر آذار من العام الجاري سبع دول أخرى ليصبح عدد أعضاء الحلف اليوم 26 عضواً بدلا من16. وتنتظر في الطابور دول أخرى مثل أوكرانيا (يقال إن انضمامها قد يحصل قرابة العام 2010). ووعد الرئيس الأميركي السابق كلينتون والأمين العام للحلف الأطلسي سولانا آنذاك بـ"إبقاء الباب مفتوحاً" أمام الطامحين الآخرين لدخول الحلف.
والآن تحقّق ما كان مفترضاً أن يتحقق. فالأمور "مَشَت" بدون روسيا ورغم أنفها. وبدلا من "أوروبا الكبرى الموحّدة"، شهدنا بداية وقوع روسيا فريسة عزلة عسكرية وسياسية وتهديد لمصالحها القومية، وتقسيم جديد لأوروبا إلى قسمين قد يحمل خطر تجدّد "الحرب الباردة".
ولكم زعَم القادة الروس أنهم سوف يعارضون بقوّة وحزم توسيع رقعة الحلف الأطلسي على حساب الجمهوريّات السوفياتية سابقاً، وأن روسيا ستعيد النظر جذريّا في موقفها من اتفاقية الشراكة مع بلدان الحلف. لكن اعتراضاتهم الخجولة جاءت كلها متأخرة ولم تعط شيئا. فزمام المبادرة كان دوماً في يديّ أميركا. وها هو الرئيس الأميركي السابق كلينتون يصرّح دون مواربة أو ديبلوماسية قائلاً: "إن الحلف الأطلسي سيقرّر بنفسه من هم الذين سيقبلهم بين ظهرانيه ومن هم الذين سيرفضهم. ولن تكون هناك أيّة عقبات في وجه انضمام جمهوريّات البلطيق إلى الحلف". وكانت الحرب على الطالبان في أفغانستان لاحقاً خير ذريعة لدخول الأميركيين والأوروبيين إلى جمهوريّات الإتحاد السوفياتي السابق الجنوبية.
أمّا في شأن تصريحات القادة الروس، حيث زعموا أكثر من مرّة أنهم سيتّخذون تدابير جوابية عسكرية الطابع، فهي لم تكن لتخيف أحداً، واعتبرت مجرد وهم وسراب وذرّ للرماد في العيون، وروسيا على ما كانت عليه من حال مزرية. فالتدابير العسكرية الجوابية كانت غير قابلة أصلاً لأن توضع موضع التنفيذ إذ إنّ الجيش الروسي دخل مرحلة انحطاط شديد تكشّفت عنها خاصة حرب الشيشان الأولى. والرئيس الروسي يلتسين نفسه قال في تلك الحرب: "القلب يتفطر على رؤية الجنود الجائعين"(!) كما لم ينفع روسيا اعتماد نهج الشراكة الإستراتيجية مع الولايات المتحدة في وقف زحف الحلف الأطلسي نحو الحدود الروسية.
الى جانب هذا كانت واشنطن تراهن على الأوجه العسكرية لتمدّد الحلف الأطلسي شرقاً إذ يتمّ استيعاب البلدان المنضمّة حديثاً الى الحلف في منظّمته العسكرية عبر استيعاب واستخدام البنية التحتية في جمهوريّات البلطيق لنشر قواعد هناك لسلاح الطيران الأميركي المزوّد بأدقّ الوسائل إصابةً للأهداف. ونظراً لانهيار السلاح الروسي المضاد للصواريخ عملياً، سيكون بوسع الأميركيين أن يتصرّفوا طبقاً للسيناريو "العراقي" أوائل التسعينات أو "اليوغوسلافي" أواخرها، وأن يهاجموا بالطائرات، دون أيّ رادع، أية منشآت في الشطر الأوروبي من روسيا، ومن ضمنها منشآت القوّات النووية الإستراتيجية، أي أنّ الطيران التكتيكي للحلف الأطلسي يكتسب حيال روسيا خاصيّة السلاح الإستراتيجي.
ترحيب رسمي و"شعبي"!
إنّ كلّ ما خفيَ واستتر بدايةً، ظهر أخيراً. فقد باتت معلومة بعد حين خطط نقل أضخم قاعدة جويّة أميركية في أوروبا من مدينة فرانكفورت الألمانية إلى مدينة بيالا بودلياسكا البولندية الواقعة فقط على بعد 30 كيلومتراً من مدينة برست البيلوروسية. ويفترض أن تضحي نقطة الإرتكاز الرئيسية للقوّات الأميركية في بولندا. ويعتزم نقل وحدات جوّية أميركية من قاعدة رامشتاين الألمانية إلى قاعدةٍ في مينسك مازوفتسكي الواقعة على بعد يزيد قليلا عن 100 كلم. عن الحدود البيلوروسية. ومن المقرّر أن تصبح قاعدة بوفيدز في بولندا القاعدة الجوية الأميركية الثالثة هناك. أما القوّات البريّة ووحدات المدرّعات الأميركية فسوف ترابط في جنوب غرب بولندا في منطقة سفنتوشوفا حيث كانت ترابط في التسعينيات وحدات مجموعة القوّات السوفياتية الشمالية.
ولم تعمّ الفرحة العاملات المحليات فحسب، بل عمّت السلطات المحلية أيضا. فقد صرّح عمدة مدينة بيالا بودلياسكا هنريك خميل قائلا: "يمكن للأميركيين منذ اليوم أن يأتوا إلى بيالا بودلياسكا للإقامة هنا"([3]). وتقدّمت سلطات مدن مثل جاغان وجاري وبورنوسولينوفو من وزارة الدفاع البولندية مباشرة بطلب إقامة قواعد عسكرية أميركية في أراضيها.
أما سلطات وارسو الرسمية ففضّلت التريّثَ والصمت ونفي الأنباء التي ظهرت حول نقل القواعد الأميركية إلى بلادها، إلى أن كتبت مجلة "فبروست" البولندية تقول إن محادثات سرّية كانت تجري حول هذا الأمر بين سلطات بولندا والولايات المتحدة "منذ زمن بعيد". وقد أيّد وزيرا الدفاع والخارجية في كلي البلدين هذه الخطط. وأعيرت مسائل إقامة قواعد عسكرية أميركية في بولندا اهتماماً جديداً، مثلاً إبّان زيارة الرئيس البولندي ألكسندر كفاشنفسكي لواشنطن عام 2002، وكذلك في كانون الثاني من العام 2003 عندما زار الولايات المتحدة رئيس الوزراء البولندي ليشيك ميلر. وفي العشرين من شباط عام 2003 إبّان زيارة رئيس الحكومة الروسية ميخائيل كاسيانوف بولندا، تطرّق الصحافيون لموضوع القواعد الأميركية. وقد أجاب كاسيانوف آنذاك مندهشاً في مدينة لودزي خلال المؤتمر الصحافي قائلاً: "أنا لا أرى حججاً يمكنكم كبولنديين شعباً وقيادة سوقها لتبرير هذا. فأيّ تهديد لبولندا أو للحلف الأطلسي صدر عنّا؟". وفضّل رئيس الوزراء البولندي الذي كان حاضراً المؤتمر الصحافي، التزام الصمت حيال هذا الكلام. وفي هذا الوقت كان مجلس النواب البولندي يدخل تعديلات على عجلة من أمره في قانون وجود قوّات أجنبية في البلاد وتحرّكها، مسِّهلاً الإجراءات اللازمة لمثل هذا الوجود تسهيلاً جذرياً. وحين كان الرئيس الأميركي جورج بوش متوجّهاً إلى احتفالات الذكرى الـ300 لقيام مدينة سان بطرسبورغ، من ضمن جمهرة الرؤساء الذين دعاهم الرئيس الروسي بوتين خلال ولايته الرئاسية الأولى، عرّج على مدينة كراكوف البولندية حيث ناقش مع كفاشنفسكي، ليس فقط قضايا إسهام بولندا في احتلال العراق ورسم نهج مشترك في شأن إسقاط الرئيس البيلوروسي لوكاشنكو، بل أيضاً مسائل القواعد العسكرية. وقد وافقت وارسو بكل طيبة خاطر على أن تكون مروِّجةً رئيسية للمصالح الأميركية في أيّ مكان يطلب فيه منها ذلك. وأكّدت استعدادها لاستقبال قوّات أميركية وأطلسية على أراضيها، وإذا استدعى الأمر، استقبال عناصر من نظام الدفاع الأميركي المضاد للصواريخ أيضا. وأوضح مستشار الأمين العام للحلف الأطلسي لشؤون أوروبا الوسطى والشرقية كريس دونللي الذي كان يزور موسكو في الوقت نفسه أنّ أيّ "قلق" ينتاب روسيا في هذا الشأن لن يؤخذ في الحسبان.
ومع ذلك أفاد وزير الخارجية الروسي آنذاك إيغور إيفانوف بارتياح، إثر جلسة المجلس الروسي الأطلسي في مدريد، تعليقاً على عزم الولايات المتحدة نقل قواعدها العسكرية من ألمانيا إلى بولندا، قائلاً: "نحن تسلّمنا تأكيدات تقول إنّ توسيع رقعة الحلف الأطلسي لن يقوّض نظام الإستقرار العسكري في أوروبا. فدول الحلف سوف تبدي التحفّظ اللازم. ولذا أعتقد أن من الواجب عدم الإتكال على ما يرد من أنباء في الصحف، بل يجب تصديق تصريحات الناطقين الرسميين باسم الحلف فقط، أعني الولايات المتحدة، في هذه الحال"([4]). فكم يا ترى مدى صحّة هذه التأكيدات؟
لقد جاء صراحة في مذكرة منشورة تحت عنوان "نظرة شاملة إلى حالة القوّات المسلّحة الأميركية وآفاق تطويرها" صيغت بإشراف وزير الدفاع الأميركي دونالد رمسفيلد، إن مصالح الولايات المتحدة كدولة عظمى تنسحب على كل مناطق العالم. وصرّح النائب الأول لوزير الدفاع بول وولفوفيتز: "نحن في صدد صياغة مواقف أساسية من وجودنا عسكرياً في كل أصقاع الأرض"([5])، مسلّطاً بذلك الضوء على تحرّك القوّات الأميركية في الآتي من الزمن. ويؤكّد الأميركيون أن أيًّا من القواعد التي يشغلونها في الخارج "ليست مثالية" لجهة معالجة المعضلات الجديدة التي تواجه جيش الولايات المتحدة. ومن هنا ما نراه من نقل للقواعد كي تصبح قريبة من "مسارح العمليّات القتالية المحتملة". وإذا ما أخذنا في الحسبان أن 112 ألف فوج ترابط في أوروبا دون غيرها، 80 بالمائة منها في ألمانيا، أمكننا أن نتصوّر كم ستكون ضخمة عمليّة نقل القوّات والمعدّات التي ستحصل. ويستنتج المراقبون أن هذا "سيكون أضخم عملية نقلٍ لوحدات عسكرية أميركية في الخارج بعد الحرب العالمية الثانية"([6]). وستكون هذه القواعد قريبة من الحدود الغربية لروسيا وبيلوروسيا. فبماذا يفكّر في ظلّ هذا الوضع، يا ترى، رئيسا هاتين الدولتين والقائدان الأعليان لقوّاتهما المسلحة؟ لوكاشنكو يدقّ نواقيس الخطر، لكنّه لا يجد أذناً صاغية لدى بوتين الذي يتابع سياسة غورباتشوف ويلتسين في تجاهل خطر التوسّع الأميركي والأطلسي، وقد انعكس هذا الموقف على مستوى الدعم والتأييد الذي بات يلقاه من مرؤوسيه في فترة من الفترات.
لقد اعتبر الروس في حينه تمدّد الحلف الأطلسي شرقاً بفضل انضمام بلدان معاهدة وارسو سابقاً إلى هذا الحلف في البداية، ثم انضمام جمهوريات الإتحاد السوفياتي السابقة هذه المرّة، واحدة من خطايا النظام الحالي في روسيا حيال الوطن، إلى جانب الخطايا المرتكبة على الصعيد الإقتصادي. والأنباء المتحدّثة عن خطط لنقل الوحدة العسكرية الأميركية المرابطة في ألمانيا إلى الشرق، أي إلى أراضي بولندا وبلدان البلطيق السوفياتية سابقاً، أوردتها في السنوات الأخيرة وسائل الإعلام الأجنبية ومعها وسائل الإعلام الروسية والبيلوروسية. وبات معلوماً أن جهات من هيئة الأركان العامّة الروسية كانت من قبل أيضا تأتي إلى الرئيس الروسي وتحذّره من مغبّة ما يجري، ولكنها لم تكن تسمع منه أيّ جواب جادّ حول الموضوع. وها هو القائد الأعلى للقوات الأطلسية المرابطة في أوروبا الجنرال الأميركي جيمس جونز يصرّح بأنّ القواعد الأميركية سوف تنقل شرقاً، وأن "الحلف الأطلسي سيبدأ قريباً جداً نقل قواته من أوروبا الغربية إلى أوروبا الشرقية"([7]). ولا تضير البنتاغون آفاق وضع قوّاته عند أبواب روسيا بالذات. فقد لفت البروفسور إليوت كوهين، أستاذ الدراسات الاستراتيجية في جامعة هوبكنز، إلى أن "أميركا دولة عسكرية ذات جبروت، وأن الروس هزموا في "الحرب الباردة"، فأي اعتراضات يمكن أن تصدر عنهم إذاً، وهم المهزومون؟"[8]
هنا إذاً بيت القصيد. فالقيادة الروسية لم تعد حتى تعترض على اقتراب قوّات أجنبية من حدودها، بينما يحتجّ البيلوروس بقوّة على بروز هذا الخطر الداهم.
جمهوريّات البلطيق و"الميثاق الأمني"
ينظر الغرب إلى جمهوريّات البلطيق السوفياتية سابقاً (إستونيا ولاتفيا) ولتوانيا نظرته إلى منطلق استراتيجي لتوسّعه المقبل على حساب روسيا. ولعل هذا هو ما فكّر به، قبل أي شيء آخر، الرئيس الأميركي السابق كلينتون ومعه رؤساء جمهوريّات البلطيق الثلاث في بداية العام 1998 عندما راحوا يرفضون بازدراء اقتراح روسيا ضمانات أمنيّة، فوقّعوا ما سمّي "ميثاق الشراكة في مجال الأمن". فالرئيس الأميركي في مسعى منه آنذاك لـ"تطييب خاطر" شركائه الجدد، أعلن أن "الحلف الأطلسي سوف يتمدّد وأنّ أحداً من خارج الحلف لا يحقّ له ولن يحق له أن يعترض".
فمن يمكن أن يكون يا ترى هذا الآتي "من خارج الحلف" ليقول إنّه سيستخدم "حقّ النقض" غير روسيا؟ علماً بأن "همروجة" تقسيم الإتحاد السوفياتي آنذاك إلى دول "مستقلّة" تحت كنف الولايات المتّحدة وبرعايتها كانت قد شارفت على الإنتهاء، ولم يبق غيرُ بيلوروسيا ثابتاً على سعيه إلى الإتحاد مع روسيا، مع انها هي أيضا قلّما آمنت بأنّ ساكني الكرملين راغبون وقادرون على الدفاع عن مصالح الشعبين الشقيقين.
وكان من شأن عقد هذا "الميثاق" أن يتيح، ليس فقط طرد روسيا من البلطيق (حتى ذاك التاريخ كانت قد فرّت من تلقائها من هناك)، بل أيضا "شرعنة" هذا الطرد. فآنذاك كانت "الخصخصة السياسية" تجري على قدم وساق في كل جمهوريّات البلطيق الثلاث. ففي البنى الرئاسية والحكومية والوزارية وغيرها من البنى ذات الشأن في هذه الجمهوريّات الثلاث، راح أجانب، وعلى رأسهم مواطنون من الولايات المتحدة من أصل بلطيقي، يلعبون الدور الرئيس فيها منذ الأيام الأولى لنيلها "الإستقلال". ثم حلّ دور "استيراد" الرؤساء أيضاً لهذه الجمهوريّات من وراء المحيط، فتبّوأ مركز الرئاسة في لتوانيا آنذاك المواطن الأميركي من أصل لتواني فالداس أدامكوس، وتبوّأته في لاتفيا الكندية من أصل لاتفي فيكه فرايبرغ (يبدو أن هذه كانت حال الإدارة المؤقّتة في العراق مثلاً بعد الاحتلال الأميركي لهذا البلد). غير أن الأميركيين راحوا يستولون على المواقع الأساسية في وزارات الدفاع والأمن والاستخبارات في هذه البلدان.
وفيما تحتفي لاتفيا واستونيا اليوم بأعوان النازيّة السابقين من جماعات الـ"إس.إس" زمن الحرب العالمية الثانية كـ "أبطال قوميين"، وتقيمان لهم النّصب التذكارية، يستقبل الغرب بالترحاب هاتين الجمهوريّتين في الإتحاد الأوروبي وفي الحلف الأطلسي. وربما لا يجد صانعو القرار في الغرب بالترحاب اليوم غضاضة في ذلك. فهم يسعون وراء الأهداف ذاتها التي كان يسعى إليها النازيّون، وراء الهيمنة على العالم، ولكن بوسائل أخرى يسمّونها "حضارية".
وليس في كل هذا ما يدهش. فالموقع الجغرافي لبلدان البلطيق يتيح للغرب السيطرة بقوّة، ليس فقط على كل المداخل إلى روسيا من الشمال الغربي، بل أيضاً على كل مخارجها إلى أوروبا عبر بحر البلطيق. ولا يمكن اعتبار قواعد روسيا في محافظة كالينينغراد وقاعدتها البحرية في مدينة بلطييسك (بيلاو) قواعد عسكرية حقيقية ما دام الوصول إليها مرهوناً بطلب إذن من لتوانيا. وعن أيّ أسطول بلطيقروسي يمكن التحدّث إذا كان ممكناً في أيّ لحظة "احتجازه" في خليجي كالينينغراد وفنلندا. وستكون أكثر وهماً الآمالُ المعقودة على إمكان التحرّك بحراً بحرّية عبر الخليج الفنلندي الضيّق قريباً من فنلندا وإستونيا المزروعة أراضيهما بقواعد الحلف الأطلسي، إذا ما قورنت بإمكانات التحرّك برّاً. وهكذا يمكن القول إن لروسيا الآن بوسفورها ودردنيلها في الشمال الغربي أيضاً بعد الجنوب الغربي. وإذا أخذنا في الحسبان كون أسطول الشمال قد حشِر إلى ما تحت الجليد بفضل نشاط الحلف الأطلسي، ولا سيّما نشاط النرويج في هذه المنطقة، أمكن الإستنتاج بأنّ روسيا قد أُبعدت اليوم عن البحار عملياً. ولا داعي لأن تعتبر جديًّا مثابة مخرج على البحر، القواعد البحرية البعيدة كل البعد في الشرق الأقصى والتي يتحكّم بها من خلال "الديجنتير" رجل الغرب بامتياز، مدير "مؤسسة الطاقة الكهربائية في عموم روسيا" أناتولي تشوبايص وشركاؤه.
وفي عودة إلى منطقة البلطيق، يجب التذكير بأنّ روسيا إبّان العهد السوفياتي، بل خلال كل سنوات وجود الإمبراطورية الروسية في البلطيق، أنشأت مرافيء وقواعد حربية بحرية ممتازة في تالين وريغا ولييباي، ومطارات عسكرية فريدة من نوعها قادرة على استقبال طائرات نقل وقاذفات قنابل ضخمة جداً، بل حتى مكوّكات فضائية. وهنا في وسط أوروبا الشمالية عملياً قامت محطات رصد يمكنها رصد الطائرات وهي في طور إقلاعها من أيّ مطار في السويد. وكانت نقاط المرابطة ومستودعات الذخيرة، ومن ضمنها الذخيرة النوويّة، المجهّزة خير تجهيز، تتيح إنجاز أيّ مهمّة من المهمّات في أسرع وقت ممكن. وإلى جانب حقول التدريب، كانت هناك معاهد تدريس مثل مدرستي كهرباء الميكانيك وهندسة اللاسلكي في لييباي، ومركز إعداد الاختصاصيين الأجانب في علوم البحر. فالهند مثلاً لم تكن تشتري من الإتحاد السوفياتي غوّاصة وحسب، بل كانت تدرّب عليها أيضا طواقم بحّارتها هنا بالذات.
وأنّى لروسيا الآن أن تملك منشأة عسكرية مثل مركز بالديس للتدريس في إستونيا الذي كان يعدّ بحّارة الغواصات الذريّة لأسطولي المحيط الهاديء وبحر الشمال. فلإعادة إنشاء مركز كهذا اليوم، لا تكفي أي موازنة روسيّة، ولا أي اعتمادات كالتي تخصّصها الدوما الروسية للجيش والأسطول.
ولكن أسطول البلطيق لم يكن كناية عن منشآت متنوّعة في جمهوريّات البلطيق السوفياتية وحسب، بل كان أيضاً طائرات ترابط في منطقة موغيليوف ببيلوروسيا وفي منطقة بسكوف بروسيا. وها إنّ كل هذا الآن ذهب مع الريح. وقد صرّح السياسي البارز يفغيني بريماكوف آنذاك قائلاً: "لقد خرجنا من البلطيق دون أن نخلّف وراءنا شيئاً. وإنّي واثق من أنّ سكان روسيا سيكون صعباً عليهم أن "يهضموا" مسألة أنّ ما أنشأناه وخلّفناه في بلدان البلطيق من بنية تحتيّة سوف تستخدمه قوات مسلّحة أخرى".[9]
كلّ شيء بات متروكاً ومهجوراً
على أنقاض مركز التدريس الذي كان يتعلّم فيه بحّارة الأسطول السوفياتي، أنشيء اليوم، مثلاً، مركز تدريس مشترك لبلدان البلطيق، ومدرسة غطّاسين يدرّس فيهما خبراء أميركيون واسكندينافيون. وها هي شركة "لوكهيد مارتن" تركّب في مطار عسكري بُني في العهد السوفياتي عند قرية أودرينا محطة رادار عصرية جداً للرصد الجوي من طراز 117TPS. وهذا النوع من الرادارات قادر على التقاط أهداف جويّة صغيرة جداً وسريعة التحليق، ومن بينها رؤوس الصواريخ من شتّى الأنواع في المجال المحيط بالأرض على بعد 1000 كلم. وارتفاع 20 كلم. وأكثر، كما أنه قادر على رصد المعدّات العسكرية في البحر والبر، وهو ما يجعله منشأة استراتيجية فعلاً.
غير أن أوّل رادار من هذا الطراز بدأ تشغيله في 21 نيسان من هذا العام في شمال غرب إستونيا بمنطقة كولافر. هذا الرادار يرصد الأجسام المتحرّكة عن بعدٍ يصل إلى 450 كلم. وعلى ارتفاع 30 كلم. وهذا يعني أنّ كل منطقة بسكوف Pskov الروسية حيث ترابط فرقة الإنزال الجوي الـ,76 وحيث مطارات النقل العسكري الجوّي التي تخدم الفوجين 110 و334 في بسكوف وفوج الطيران بعيد المدى 840 في سونتسِه حيث قاذفات القنابل بعيدة المدى "توبوليف22 إم3" باتت تحت رقابته. وتحت هذه الرقابة المشدّدة أيضاً فوج الطيران الروسي الـ722 في سمورافيوفو المجهّز بقاذفات القنابل الجبهية "سوخوي24 إم".
وتقام في جمهوريّات البلطيق السوفياتية سابقاً، منظومة موحدة من محطّات الرصد الراداري والراديوإلكتروني للأراضي المحاذية وللمجال الجوّي والفضائي لجزء كبير من روسيا وبيلوروسيا. والمنشأة المركزية في مشروع "شبكة البلطيق" (BaltNet) الذي رسمه اختصاصيّو الحلف الأطلسي في العام ,1996 هي ما يسمى "المركز الإقليمي للرصد والتنسيق الجوّيين" الواقع في بلدة كرملا بجمهوريّة لتوانيا. ويعمل في المركز اختصاصيون من هذه الجمهوريّات الثلاث، غير أنّ الخبراء الأميركيين والأطلسيين يلعبون هنا الدور الأساس. واستورِد الجزء الأساسي من المعدّات والأجهزة من الولايات المتحدة، لكن تركيبها وضبطها وتدريب العاملين على تشغيلها كان من نصيب الخبراء النرويجيين ذوي الخبرة في مجال تشغيل هذا النوع من أنظمة رصد المجال الجوّي في محافظة فينمارك المحاذية لروسيا. وليس صعباً على المرء أن يفترض أن مشاكل لن تعترض ضمّ "شبكة البلطيق" إلى الشبكة المتكاملة للمراقبة الجويّة وللتحذير المبكّر العائدة للحلف، وعبرها إلى منظومة "إيشيلون" التجسّسية الأميركية الشاملة التي مركزها في منفيس هيل (بريطانيا) بعد ضمّ بلدان البلطيق الثلاثة رسميّاً هذه المرّة إلى الحلف الأطلسي.
وبحسب خطط نقل قواعد الحلف الأطلسي من أوروبا الغربية إلى بولندا ولاتفيا وإستونيا، يريد البنتاغون أن يقيم في جمهوريّات البلطيق وحدها حوالى الثلاثين من قواعده وقواعد الحلف الأطلسي. وكانت أوساط الولايات المتحدة والحلف قد رسمت في العام 1993 خطط قتال ميدانية في البلطيق، كانت إحداها مهيّأة للتنفيذ "في حال هجوم روسيا على لتوانيا". فالحلف الأطلسي اعتبر مذذاك أن الحرب على روسيا وبيلورسيا ممكنة في ظلّ حياد أوكرانيا. ورأى أن "الأمر لن يصل إلى الحرب النووية، وأنّه سيحرز النصر بعد 89 يوماً من القتال".[10]
وثمّة خطط تتداولها السويد "الحيادية دائماً وأبداً". فوفقاً لإحدى هذه الخطط، بحسب زعم جريدة "زفترا" الروسية، "قد ينشأ على قاعدة صعوبات إقتصادية، نزاع بين لاتفيا وروسيا، فتدخل القوات الروسية ريغا حيث تبدأ المعارك. ويمكن للقوّات السويدية والدانمركية نظراً قربها من الحدود اللاتفية أن تكون الأولى في ساحة المعركة. ولكن لنفترض أن جمهوريّات البلطيق قد انضمّت إلى الحلف الأطلسي، وأن أزمة نشأت في بيلوروسيا، فهرعت روسيا لتعيد الأمن إلى نصابه مطالبة لتوانيا بأن تفتح سككها الحديدية أمام روسيا. فلن يكون من تلك إلاّ أن ترفض وتلجأ إلى مساعدة الحلف الأطلسي"..([11]) وهلمَّ جرّا.
وهناك أيضاً أفكار وخطط مماثلة حول كيفية الإستفادة من الحلف الأطلسي ما أمكن، في رؤوس محللي وجنرالات جمهوريّات البلطيق. وتنشط في هذه البلدان كما في السابق قوى معيّنة طامعة بأراضٍ شاسعة في الدول المجاورة. فاللتوانيون يطالبون بأراضٍ في بيلوروسيا وبولندا، وهو ما تدلّ عليه الخريطة المعروفة التي وافق عليها أحد أقسام الحكومة اللتوانية. ولا يبقى جانباً الإستونيون الذين يعلنون حقهم في مدن روسية عريقة. وعلى الرغم من أن لاتفيا تخلّت رسميا لأكثر من ستّ سنوات خلت عن أيّة مطامع إقليمية حيال روسيا، فإن وزيرة خارجية هذا البلد صرّحت بالأمس أن "قضية أبرينه لا تزال مفتوحة". لكن أبرينه ليست بالنسبة إلى الروس سوى مدينة بيتالوفو الروسية.
الحلف الأطلسي وملدافيا
إن فكرة إنشاء حاجز واقٍ حول روسيا ليست بالجديدة. فثعبان الحلف الأطلسي يزيد شيئا فشيئا من حلقات الضغط حولها مكتسحاً المناطق الواحدة تلو الأخرى في أوروبا الشرقية وبلدان رابطة الدول المستقلّة. ووجود قوّات روسية في جمهوريّة بريدنستروفييه المعلنة استقلالها من جانب واحد عن مولدافيا، يقلّص من إمكان قيام الحلف الأطلسي بالمناورات بحرّية في الجناح الجنوبي ويدفع موجة عدم الإستقرار من أبخازيا إلى القرم والشيشان. فهذه القوّات المرابطة في بردنستروفييه تكمل "حدوة" النفوذ الروسي في منطقة البحر الأسود، غربها ووسطها وشرقها (قاعدة سيفاستوبول وبقايا القوّات في جورجيا). ولذا ليس مستغرباً أن يجمح الحلف في رغبته اقتلاع روسيا من مرتكز بريدنستروفييه الهامّ استراتيجياً (من هنا العبارة التي صدرت "عفواً" عن الرئيس الأميركي السابق بيل كلينتون حول أن بريدنستروفييه منطقة مصالح جغراسياسية أميركية).
ويبدو أنّ الأميركيين قرّروا نهائياً أين يجب أن ينشر خلال السنوات العشر المقبلة الجناح الجنوبي الشرقي للحلف الأطلسي. والرهان هنا كان على رومانيا. فرومانيا بالذات، وليس بلغاريا، هي خير من يؤمِّن السيطرة الأطلسية في غرب البحر الأسود. ويمكن الزعم بدرجة عالية من الثقة، حسب رأي أحد المعلّقين الروس([12])، بأنّ رومانيا سوف تنضّم بعد قبولها في الحلف الأطلسي، إلى الإتحاد الأوروبي أيضاً "لتضحي معبراً أساسياً لقوّات الحلف في المنطقة". وقد بيّن بيع ترسانات الأسلحة الرومانية، السوفياتية الصنع، على المكشوف، إبتداءً من العام 2000، أنّ مسألة قبول رومانيا في الحلف الأطلسي باتت منذ ذلك الحين مسألة محسومة. فبيع رومانيا هذه الأسلحة السوفياتية يمنة ويسرة، بيّن أن رومانيا تستعد للإنتقال إلى مواصفات ومقاييس الحلف الأطلسي في مجال الأسلحة. وقد نظّف المكان في مصب نهر الدانوب لبناء قواعد عسكرية ضخمة للحلف. في ظلّ هذه الظروف، وقد آن الأوان لتقسيم منطقة النفوذ بين الحلف وأوكرانيا الموالية للغرب، يضحي الوجود الروسي في بريدنستروفييه مثابة الحسكة العالقة في البلعوم الأطلسي.
إلاّ أن الوقت لا يرحم، والحلف الأطلسي بحاجة ماسّة إلى الوقت. فخطط تقديم المساعدة الإقتصادية إلى الدول الإرتكازية ونشر قوّات على مراحل في المنطقة قد أعدّت منذ زمن بعيد. غير أنّ الأمر الأهمّ هو بدء تغيّر المناخ السياسي في روسيا بسرعة. فالرئيس الجديد الآتي إلى الكرملين بعد يلتسين أخذ يتفوّه أكثر فأكثر بكلام عن المصالح القوميّة الروسيّة... ومن هنا لا بدّ من ترتيب الأمور في بريدنستروفييه لصالح الحلف الأطلسي خلال سنتين أو ثلاثٍ لا أكثر.
وجاء الهجوم الدعائي والسياسي على جمهورية بريدنستروفييه من قبل مولدافيا آنذاك مفاجئاً بعد أن بقيت هذه صامتة مدّة ثماني سنوات، كأنّ في فمها ماء، ومعها ربيبتها رومانيا.
وبدأ الحديث عن انضمام ملدافيا مستقبلاً إلى رومانيا، وعن أنّ "أراضي تفوق حتى أراضي بريدنستروفييه ستنضمّ إلى رومانيا، إلاّ أنّ هذا سيتوقّف على ما سيؤول إليه اتفاق أوكرانيا ورومانيا".[13]
وفي مجلس الشيوخ الروماني أيضاً راحت تتصاعد أصوات تقول إن الحدود بين الغرب والشرق يجب أن تمرّ شرقيّ نهر الدنيستر، ترافقها دعوات في وسائل الإعلام المولدافية إلى التخلّص من "الإنفصاليين في بريدنستروفييه" بمعونة الغرب.
وصرّح رئيس مجلس الشيوخ الروماني بأنه "من الضروري وأد مصدر الإرهاب الدولي ونزعة الإنفصال المتمثّلين بجمهوريّة الدنيستر التي نشأت في أراضي ملدافيا بمعونة المجتمع الدولي".
على خلفية هذه التصريحات والدعوات تكاثرت الأحاديث حول تدريبات مشتركة بين الحرس الوطني الملدافي ووحدات الحلف الأطلسي في نطاق برنامج "الشراكة باسم السلام". وقد بلغ عدد هذه التدريبات المشتركة في بلد منضمّ إلى رابطة الدول المستقلة "موالٍ لروسيا"، حسبما كان يقال، أكثر من مائة في السنة.
في آسيا الوسطى والقوقاز
بعد انهيار الإتحاد السوفياتي وبروز دول مستقلّة جديدة في منطقة آسيا الوسطى، بدأت الإدارة الأميركية تعمل للدخول سياسياً واقتصادياً وعسكرياً إلى هذه المنطقة. وكان مفترضاً أن تصبح منطقة ما يسمّى "بلقان أوراسيا" بؤرة ينتشر منها عدم الاستقرار في أرجاء العالم، وهو ما يبرّر هذا الدخول الأميركي بقوّة إلى هناك. ولكن هذه الدول، وإن أبدت في معظمها بناءً على "كارت بلانش" روسي، استعداداً لقبول قوّات أميركية في أراضيها خلال الحملة الأميركية على أفغانستان باسم مكافحة الإرهاب الدولي، فإن الولايات المتحدة، حسب ما يعتقد المحلّل الأرمني من كرباخ المتخصّص في الجغرافيا السياسية إيغور مراديان([14])، "وجدت سعياً قوياً لدى هذه الدول إلى الإستقلال، ليس فقط عن روسيا وعن الدول الأسيوية المجاورة، بل أيضاً عن الولايات المتحدة والمجتمع الغربي". فخلافاً لما هو حاصل في عشرات الدول في "العالم الثالث"، لم تعثر الولايات المتحدة على وسائل تأثير فعّالة في بلدان آسيا الوسطى، حتى من خلال المساعدات الإقتصادية أو المشاركة في تسوية النزاعات أو من خلال حقوق الإنسان والدفاع عن الحريات. فهناك تجتمع عوامل مثل التقاليد الثقافية والدينية العريقة والتعصّب الإتني والقومي ونمط السلوك الإمبراطوري الموروث عن الذهنيّة السوفياتية ووجود مطامح جغراسياسية. وإذا كانت المستعمرات السابقة بعد انهيار الأنظمة الاستعمارية تبقى عادة بعد تحرّرها، مرتبطة ارتباطاً سياسياً واقتصادياً، أو على الأقل ثقافياً، بمستعمريها السابقين (الكومنولث البريطاني أو الفرنكوفونية مثلاً)، فإن الدول المستقلّة الجديدة في شرق أوروبا وأوراسيا (أي المجال السوفياتي سابقا) تفضّل التنويع في وجهات ارتباطها.
فخلال الفترة غير المديدة من وجود هذه الدول مستقلّة، حاولت الولايات المتحدة مرتين أو ثلاثاً تثبيت وجودها العسكري تثبيتا جذرياً في آسيا الوسطى، غير أن كل هذه الخطط إما أعيد النظر فيها، وإما صحّحت تصحيحاً شديداً. فقد اتّضح أن الوجود العسكري الأميركي في هذه المناطق أمر معقّد للغاية ومكلّف جداً وغير مبرّر سياسياً ولا اقتصاديا. حتى أن الولايات المتحدة لم تقدّم المعونة اللائقة لحليفها الأهم، تركيا، في مسألة تغلغله في منطقة آسيا الوسطى. وإلى جانب هذا تنظر كل دول آسيا الوسطى عملياً إلى التشارك مع الولايات المتحدة كأحد توجّهاتها ذات الأولوية في سياساتها الخارجية، وهي عملياً منفتحة على التعاون معها لا سيما في الميدان الإقتصادي. أمّا في ميدان الدفاع والأمن العام، فإنّ الولايات المتحدة والمجموعة الغربية لم تعرض على هذه الدول حتى الآن بديلاً أمنيا واقعياً. فعلاقات التعاون وحدها من دون وجود مبنيّ على معاهدات، ومن دون إمكان وجود ميداني للقوّات الأميركية، لا يمكن أن ينظر إليه كضمانة أمنية من قبل كل دول المنطقة عملياً.
ويعتقد مراديان([15]) أن أهميّة هذه المناطق تدنّت بالنسبة إلى الولايات المتحدة، على الرغم من بعض الوجود العسكري الأميركي المحلّي فيها، إذ ليس لديها هناك إلاّ هدف واحد هو استخراج ونقل موارد الطاقة. ويرى مراديان أنّ استقرار هذه المناطق يعالج بكل بساطة في ظل التعاون مع روسيا تحديداً، ومن دون بذل جهد خاص. ويضيف: "لا بدّ من أن نلفت إلى أنّ هذه المناطق ليست مذكورة عملّياً في المبدأ الاستراتيجي الذي أقرّه جورج بوش في أيلول عام 2002 (بخلاف مبدأ العام 1999) إلاّ بالإرتباط بقضايا الطّاقة دون غيرها".
ممّا سبق ذكره يبدو أنّ الأميركيين لا يرون في المرحلة الحاليّة ضرورة تركيز القوى على تلك المنطقة. ويبدو أن تكتيكهم في محاصرة روسيا من الجنوب يكمن في "استيعاب" العراق أولاً، على أن تكون المرحلةُ التالية هي إيرانَ وسوريا المدرجتين على قائمة "داعمي الإرهاب"، وعلى قائمة "محور الشر". ولهذا نراهم يتركون حالياً بعض النفوذ العسكري للروس يأخذ مجراه في الجمهوريّات السوفياتية الجنوبية سابقاً، من خلال معاهدة الأمن الجماعي، وبعض القواعد الروسية التي بدأت "تحاشرها" القواعد الأميركية والأوروبية شيئاً فشيئاً هناك.
بين حبّ قوي وحبّ أقوى
التكتيك شيء والنهج الإستراتيجي شيء آخر. فقد أوضحت الولايات المتحدة (ومعها الحلف الأطلسي) غير مرّة أنها تنوي التغلغل في بلدان رابطة الدول المستقلّة السوفياتية سابقاً والبقاء فيها طويلاً طويلاً، وإذا أمكن، إلى الأبد. ولذا يبدو مثابة صرخة في وادٍ، كلام وزير الخارجية الروسي السابق إيغور إيفانوف من أنّ على مجلس الأمن الدولي أن يضع "أطراً زمنية" لوجود الولايات المتحدة عسكرياً في آسيا الوسطى. ولقد تجاهل "مكافحو الإرهاب" هذا التصريح مثلما تجاهلوا غيره. ولم يبق للرئيس الروسي فلاديمير بوتين، لحفظ ماء الوجه، سوى القول إن بلدان الرابطة المستقلّة حرّة في أن تقرّر بنفسها من الذي تسمح له، بدخول أراضيها ومن الذي لا تسمح له. مع أن بلاده التي لا تزال تزوّد كل هذه البلدان بالكثير من أسباب البقاء، تصبح أكثر فأكثر غير مرغوب فيها.
... وفي قرقيزيا
في أواسط تموز عام 2002 قُدِّم إلى الجمهور في قرغيزيا الرئيس الجديد للقاعدة العسكرية القائمة في مطار العاصمة القرغيزية مناس منذ نصف عام، الجنرال جورج باتريك، رئيس أركان الحرس الوطني الجوّي لولاية كارولينا الجنوبية، والمشارك في عملية "عاصفة الصحراء" في الشرق الأوسط. وقد اعتبر هذا التبديل في القيادة مثابةَ شاهد على خطط الوحدة العسكرية الأطلسية بعيدة الأمد، وهي البقاء طويلاً في أسيا الوسطى.
في البداية كان مفترضاً أن تكون قاعدة غانسي الجويّة (هذا الإسم أطلق عليها تكريماً لذكرى أحد الإطفائيين الذين سقطوا خلال عمليات الإنقاذ في تفجير المركز التجاري العالمي في نيويورك) موقع مرابطة مؤقّتاً لن تتعدّى فترة وجوده فترة إجراء العملية المناهضة للإرهاب في أفغانستان والمسمّاة بـ"الحريّة التي لا تقهر". وكان الأميركيون يخطّطون لإنهائها خلال بضعة أسابيع. غير أنه تبيّن لاحقا أنّ الأميركيين جاؤوا إلى أفغانستان ليبقوا فيها طويلاً أيضاً. فإرهابيو "الطالبان" و"القاعدة" سيتطلّب القضاء عليهم الكثير من الجهد والوقت.
ولفت المحلّلون السياسيون في قرغيزيا آنذاك إلى أنّ الصين كمنافس جغراسياسي جدّي للولايات المتحدة، تصبح سهلة المنال هي الأخرى من مطار مناس. ورأى بعضهم أنّ محاربة الطالبان ليست بالنسبة إلى الأميركيين سوى حجة لنصب قواعدهم العسكرية على مقربة مباشرة من حدود الصين.
وفي الوقت نفسه كثّف الروس تحرّكاتهم في المنطقة، فكانت زيارة وزير الدفاع الروسي سرغي إيفانوف لبشكك في حزيران عام 2002 حيث وقّع معاهدات في شأن تمديد فترة بقاء المنشآت العسكرية الروسية في قرغيزيا بين 7 سنوات و15 سنة. من هذه المنشآت مثلاً مركز الإتصال بعيد المدى التابع للقوات البحرّية الروسية، وحقل اختبار الطوربيدات عند بحيرة إيصيككول. وفي سياق محادثات غير رسميّة صرّح العسكريون القادمون من موسكو بأنهم لا ينوون الخروج من آسيا الوسطى، وأنهم سوف يدافعون عن مصالحهم فيها بكل الوسائل الممكنة. وأكّد هذا الكلام إسهام العسكريين الروس في إعادة تأهيل منظومة الدفاع الجوّي القرغيزية. وقد اشترت القوات المسلّحة القرغيزية من روسيا في حزيران عام 2002 فقط، معدّات عسكرية شتى لتحديث راداراتها بقيمة تفوق الأربعة ملايين روبل (الروبل يساوي تقريبا جزءاً من ثلاثين من الدولار)، على أن تزوّد بمعدات أخرى بالقيمة نفسها تقريباً لإعادة تأهيل منصّات الصواريخ، وكذلك لنصب منصّات صواريخ عصرية من طراز "إس300" في قرغيزيا.
وهناك أيضا قوّات الردّ السريع الجماعية التابعة لرابطة الدول المستقلّة التي بدأ نشرها إثر زيارة سرغي إيفانوف إلى مطار عسكري بمدينة كانط. وتقع هذه المدينة أيضا في ضواحي بيشكك على بعد 15 كلم. من العاصمة، وتشكّل الطائرات العسكرية الروسية أساس الفصيل الجوّي التابع لهذه القوات.
وفي نهاية أيلول عام 2003 وقّع الرئيسان الروسي فلاديمير بوتين والقرغيزي عسكر أكايف، في جوّ إحتفالي في الكرملين، إتفاقية حول إقامة "أوّل قاعدة عسكرية روسية في أراضي دولة أجنبية"([16]). وسوف يرابط في قاعدة "كانط" الجويّة هذه ما يزيد على 10 طائرات ومروحيّات قتالية وتدريبية (!!). وقد شحذ أكايف قريحته ليعلن أن "هذه القاعدة ستكون قلعة الكفاح ضد الأخطار والتحدّيات المستجدّة، وستتيح لبلدينا ضمان الإستقرار". كما أنّ هذه القاعدة ستصبح الميناء الجوّي الرئيسي في آسيا الوسطى لقوّات الرد السريع المشتركة التابعة لمنظّمة معاهدة الأمن الجماعي التي تضمّ إلى قرغيزيا كلاً من أرمينيا وبيلوروسيا وروسيا وكازاخستان وطاجيكستان.
في الوقت نفسه نجد أن قاعدة "غانسي" الواقعة في مطار مناس بمحاذاة العاصمة القرغيزية بيشكك، تنشط للسنة الثالثة على التوالي على بعد كيلومترين من قاعدة "كانط". وفيها، بحسب المعطيات الرسمية، ما يقرب من 1500 عسكري أميركي وإيطالي ودانمركي وهولندي وكوري جنوبي. وقد أبرم البرلمان القرغيزي مؤخّراً إتفاقية حكومية مع النمسا والدانمرك وكندا وتركيا وفرنسا حول مرابطة عسكريين من هذه البلدان أيضا هناك.
وأعلِن أنّ تعداد مجموعة ما يسمّى بالقوّات الدّولية المناهضة للإرهاب في قرغيزيا سيبلغ مع مرّ الزمن 34 آلاف جندي يقومون بخدمة ما يقارب الـ40 طائرة حربية. وتقول معطيات غير رسمية أنّ ما يقرب من 3 آلاف عسكري أجنبي موجودون هناك منذ زمن بعيد، وأنّ بضع عشرات من الطائرات الهجومية الأميركية "آ10" والمقاتلات الفرنسية "ميراج2000" ترابط هناك منذ بدء الحرب في أفغانستان. وفي بداية أيار وقّع المسؤولون في قاعدة مناس العسكرية عقداً مع الحكومة القرغيزية يقضي باستئجار قطعة أرض إضافية لوضع المعدّات العسكرية التابعة للقوات الأجنبية عليها. وعلى الرغم من احتجاجات الفلاحين، حصل هؤلاء على قرابة 300 هكتار من الأرض شمال المطار حيث شرع الأميركيون في الحال ببناء منشآت خصّص لها مبلغ أربعين مليون دولار.
وهكذا يتكوّن وضع ذو مفارقات، إذ أنه في بلد واحد وفي مدينة واحدة تقريباً تقام قاعدتان جويتان تتبعان حلفين عسكريين وسياسيين مختلفين، بل في الكثير من الأمور متنافسين.
وقد ردّ الساسة المحليّون هذا الأمر إلى البراغماتية التي يتحلّى بها قادة هذه الجمهورية. فقرغيزيا حسب قولهم بلد ضعيف. وهجمات فصائل المتطرّفين الإسلاميين عليها صيف عامي 2000 و2001 أظهرت أنه سيكون صعباً عليها كثيراً (من دون مساعدة خارجية) أن تحمي حدودها، وأن وجود الأميركيين فيها يفترض أن يؤمّن هذا الغطاء.
وليس ممكناً للمرء أن يتجاهل أيضا المنافع الإقتصادية من هذا. فقد صرّح نائب رئيس الوزراء القرغيزي جومارت أوتوربايف آنذاك([17]) بأنّ الضيوف الأميركيين أدخلوا خلال نصف السنة الفائت إلى اقتصاد البلاد 35 مليون دولار. هذا فيما موازنة البلد السنوية تبلغ 250 مليون دولار لا غير، وفيما لم يعط مجمع استخراج الذهب القرغيزي الكندي الضخم "كومتور" البلاد خلال عشر سنوات على بدئه العمل إلا 56 مليون دولار.
ولكن أيًّا يكن تفسير السياسيين لهذا الوضع، يمكن القول بالتأكيد إنّ قرغيزيا أضحت حقل تصادم لمصالح الدول الكبرى، وإنّ بيشكك تجد نفسها، بفعل ظروف موضوعية، مضطرّة إلى الموافقة على التعاون مع كل من هو قادر على مدّ يد العون لها، أكان هذا بالمال أو بالسلاح أو عوناً معنوياً.
وهي غالبا ما تجد نفسها في موقف حرج. فتوقيع قرغيزيا معاهدة الأمن الجماعي لبلدان رابطة الدول المستقلة، يمنعها مثلاً من أن تقيم في أراضيها قواعد عسكرية لدول أخرى غير منضمّة إلى معاهدة الأمن الجماعي. ولذا حصل معسكر غانسي الأميركي على صفة البعثة الديبلوماسية الخاصة. وفي بيشكك اليوم مركزان اثنان لمناهضة الإرهاب، أحدهما أنشأته منظّمة شنغهاي للتعاون، والثاني أنشأته بلدان معاهدة الأمن الجماعي التابعة لرابطة الدول المستقلّة. ويمكن إيراد أكثر من مثل على الموقف الحرج الذي تجد قرغيزيا نفسها فيه.
ولعل هذه الدولة ستبقى مستقبلاً "تصادق الجميع" لأن ليست لديها لا القوّة ولا الموارد التي تمكّنها من الوقوف موقفاً أكثر استقلالية.
هذا هو إذن عسكر أكايف حليف روسيا وشريكها في معاهدة الأمن الجماعي، الذي يخال من يسمعه وهو يتكلّم بالروسية بعيد توقيع المعاهدة مع الرئيس الروسي فللاديمير بوتين، أنه يكّن الحبّ الأقوى لروسيا.
الحلف الأطلسي وطاجيكستان
الصحف الروسية الموالية للسلطة تنشر جوّا يشي بأن ثمة حبّاً أقوى من هذا تهبّ رياحه من طاجيكستان "البلد الأوحد في المنطقة الذي لم يغيّر من أولوياته الجغراسياسية خلال السنوات العشر الأخيرة" حسب زعمها. غير أن الحقائق تؤكّد ما هو خلاف ذلك. فمعلوم أنّ القطاع الأخطر من الحدود الأفغانيةالطاجيكية، والذي يؤمّن فعلاً وجود هذا البلد على الخارطة السياسية، تحميه الفرقة الروسية.201 بيد أن هيئة أركان هذه الفرقة اضطرّت مع بعض الوحدات، "بإصرار" من السلطات الطاجيكية، إلى مغادرة منطقة وسط العاصمة دوشانبه إلى الضواحي، علماً أنها كانت في كانون الأول من عام ,1992 حين اشتدّ سعار الحرب الأهلية في طاجيكستان، تؤمّن عمل الحكومة وتحمي الرئيس الطاجيكي إمام علي رحمونوف في كنفها.
فهل نسي الجميل مسؤولو هذا البلد؟ من المرجّح أنهم الآن يعوّلون على حماية أخرى أضمن. فقد ورد مؤخّراً نبأ يقول أنّ الولايات المتحدة بدأت في وسط العاصمة إيّاه الذي غادرته القوّات الروسية، بناء سفارة لها بقيمة 63 مليون دولار. وخصّص الأميركيون أيضاً مليوني دولار لترميم مطار دوشانبه، ومليونين آخرين لترميم مطار عسكري في منطقة كولاب. ويرفد إقلاعُ وهبوط كل طائرة "هركولس" أميركية أو طائرة "ميراج" فرنسية موازنةَ هذا البلد بـ57 آلاف دولار أميركي. فأيّ حبّ يمكن أن يقوى على هذه الإغراءات التي تُدفَع عداً ونقداً؟
وليس صدفة هنا أن تقترح دو شانبه على روسيا دفع بدل إيجار "وجود عسكرييها" في هذه الجمهوريّة، وإن كان هذا الإيجار غير منصوص عليه في معاهدة الأمن الجماعي. وحتى الإبقاء على منشآت عسكرية روسية أخرى مثل محطّة المراقبة الفضائية "نوريك"، باتت سلطات دوشانبه الرسميّة تربطه بإعفاء دوشانبه من سداد دينها لروسيا البالغ 300 مليون دولار. والحبل على الجرّار.
وتناقش حالياً فكرة "إعادة إخضاع" الفرقة الروسية 201 ذاتها في بعض "الحالات الاستثنائية" للقيادة الطاجيكية. لعلّ أحداً في الولايات المتحدة لا يمكنه أن يتصوّر أن يُجعل جنود قاعدة أميركية في كوريا الجنوبية أو اليابان أو حتى أوروبا في ظل "ظرف" ما، تحت قيادة وإمرة السلطات في هذه البلدان...
قواعد في أوزبكستان
وليست البلدان الأخرى في آسيا الوسطى بعيدة هي أيضا عن الرغبة في إعطاء الأوامر للعسكريين الروس. ولكن ربما من حسن حظ الروس أنهم ليسوا موجودين فيها. فالموجودون هناك هم الأميركيون. فالآن ترابط في أوزبكستان داخل قاعدة خان أباد الجويّة الواقعة على بعد 500 كلم. من طشقند، وحدة من العسكريين الأميركيين يبلغ تعدادها 1500 جندي. وهناك قاعدة أميركية أيضا في كوكايت. وفي مدينة ترمز الشهيرة توجد قاعدة عسكرية جويّة للألمان. وبوسع الطائرات الفرنسية أيضا أن تحط في مطارات أوزبكستان العسكرية.
تعاونٌ أطلسي مع كازاخستان
تنجرّ كازاخستان أكثر فأكثر إلى دائرة المصالح الإستراتيجية الأميركية والأطلسية. فمن مطاراتها العسكرية، انطلقت طائرات عسكرية أميركية. وسيزوّد الأميركيون أستانا الآن، وفقاً لخطّة تعاون ثنائي خمسية، بخمس مروحيّات من طراز "نيسو 2" وبطائرات نقل عسكرية من طراز "إس130" وبسفن تصل حمولتها إلى 1000 طن، وذلك ليبيّنوا لروسيا بمزيد من الإقناع أنهم ينافسونها على بحر قزوين الغني بالنفط. وتبدي الخارجية الأميركية استعداداً لتخصيص 200 ألف دولار لكازاخستان كي تتلف "الفائض" من البنادق السوفياتية الصنع، بحجّة الخوف من أن يقع هذا الفائض في أيدي إرهابيين مفترضين!! حتى الساذج يعرف أن الهدف الأساسي من هذا "الاهتمام" الذي تبديه الولايات المتحدة حيال كازاخستان ما هو إلاّ لجرّها إلى التعاون معها في مجال شراء المعدّات العسكرية لتبيعها معدّات أميركية.
أما تركمانيا فلم تسمح لا للولايات المتحدة ولا لحلفائها الغربيين بإقامة القواعد فيها. ولذا لا يبقى للحلف الغربي إلاّ أن يمتعض من "سياسة التركمان باشي" مثلما فعل قبله الساسة الروس وأن يعرب عن "قلقه العميق" جرّاء وضع حقوق الإنسان في هذا البلد.
القوقاز من جديد
إن فزّاعة الإرهاب الدولي التي باتت الولايات المتحدة تلوِّح بها عالياً (أين من هذا نابوليون وجيشه المؤلّف من 500 ألف نفر، وأين هتلر وجيشه اللّجب الذي لا يقهر؟) قد أتاحت للأميركيين فرض اقتسام العالم مجدّداً، إقتساماً سافراً وفرض مشيئتهم على معظمه. وكان من نتيجة ذلك أن فقدت موسكو، مواقعها في آسيا الوسطى وفي جنوب القوقاز حيث طالما طالبها "الأحبّة الجورجيون" منذ عهد الرئيس الجورجي إدوارد شيفاردنادزه المخلوع "حبيّاً" على الطريقة الأميركية بواسطة "ثورة مخملية" فوقيّة جاءت بحكّام جورجيا الحاليين (المطلوبين أميركياً)، وذلك على رغم اتفاقيات اسطنبول عام 1999، بإخراج القاعدتين الروسيّتين من باطومي وأخالكالاخي خلال 3 سنوات بدلاً من 15 سنة. فشيفاردنادزة الذي أمّن فرار الهرولة المشين للقوّات السوفياتية من أوروبا الشرقية، شاء أيضاً أن يعيد السيناريو نفسه في بلاده جورجيا. وقد أخرجت مؤخراً من هناك قاعدتان روسيتان كانتا في مدينتي غاداووتا وفازياني. وها هي واحدة منهما، استخدمتها طائرة "أواكس" أميركية (بوينغ إي767) حوّمت أكثر من ساعتين في سماء جورجيا واخترقتها إلى السماء الروسيّة دون عائق. فأعلن وزير الدفاع الروسي سرغي إيفانوف (المتخصّص أصلاً في العلوم الإنسانية) قائلا: "أنا متأكّد مائة بالمائة من أن تحليقات كهذه لا صلة لها البتّة بمكافحة الإرهاب. هذا أستطيع أن أقوله كمحترف، ولكوني أعلم لأي غرض تستخدم أصلاً هذه الطائرات"([18]). ولعله "كمحترف" يعرف أيضا لأي غرض يستخدم شعار "مكافحة الإرهاب".
وعلاوة على التحليقات التجسسية، ها هم الأميركيون يباشرون إعادة تأهيل مدارج الإقلاع والهبوط في المطارات العسكرية القديمة الواقعة في المناطق الجورجية المحاذية لروسيا.
رسميو أذربيجان وقواعد الأطلسي
"من شأن قواعد عسكرية للحلف الأطلسي في القوقاز أن تخفّف من غلواء الدول التي تحاول بلبلة الوضع في المنطقة". هكذا صرّح في لقاء بنائب قائد القوات المسلّحة الأميركية في أوروبا الجنرال كارلتون فولفورد، وزير الدفاع الأذري صفر أبييف في 26 آذار عام.2001
ولفت أبييف إلى أنّ يريفان تمارس ضغوطاً على باكو من خلال احتلالها خمس الأراضي الأذرّية، فتشكّل هناك "مجموعات من القوى المعادية لا سيطرة لها عليها". وقد أعجبت فكرة نصب قواعد للحلف الأطلسي في القوقاز الجنرال فولفورد فأعلن أنه "من الواجب التفكير مليًّا في الأمر".
غير أن هناك بالطبع المعارضة الإسلامية التي ترفض وجود الحلف الأطلسي في القوقاز. فقد اتّهم أحد زعماء المعارضة الإسلامية في أذربيجان ماهر جوادوف حكم علييف، في ردّ على أسئلة جريدة "زفترا" القوميّة اليسارية الروسية([19]) حول ما إذا كان بوسع المعارضة الإسلامية أن تعيق تقدّم الحلف الأطلسي في القوقاز، باقتراح نقل القاعدة العسكرية في أنجرلك (تركيا) إلى أذربيجان لأجل بدء احتلال أميركي لأذربيجان ذات الأهمية الجغراسياسية. ذلك أنّ مثل هذا الاحتلال يتيح للحلف الأطلسي أن يتدخّل في الأوضاع في القوقاز ويستولي على حقول النفط في قزوين ويمارس نفوذه على بلدان آسيا الوسطى كلها، وأخيراً لا آخراً أن يهدّد جمهورية إيران الإسلامية. ومن الواضح تماما أن الحلف الأطلسي في شخص الولايات المتحدة وتركيا، ومعهما أيضا إسرائيل التي كان ينسّق الأميركيون والأتراك تحرّكاتهم معها، حريص على امتلاك مثل هذا المعبر، بينما يصرِّح رسميو أذربيجان بأنّ "البلد بحاجة إلى حلفاء أقوياء"، وهم في الحقيقة يريدون استخدام أذربيجان ضد خصمي الغرب الجغراسياسيين إيران وروسيا، وليسوا أبداً في وارد حلّ مشكلة ناغورني كرباخ كما يحاولون أن يصوّروا الأمر. فكلّ همّهم هو تثبيت أقدامهم في القوقاز لأجل المجيء مستقبلاً بـ"قوّات سلام" والسيطرة عسكرياً على كل المنطقة.
بين التحذير الكلامي والقبول الفعلي
سبق أن ذكرنا في بداية هذا البحث كيف أنّ القادة الروس دأبوا، منذ بدء التحوّلات الديموقراطية المتبنّية كل الطروحات الغربية من "اقتصاد السوق" (النظام الاقتصادي الحرّ) إلى "محاربة الإرهاب" مؤخّراً، على التراجع شيئاً فشيئاً أمام هجوم الغرب سياسياً و"قواعديّاً" في اتجاه بلادهم، وكيف أنّ معارضتهم لهذا الهجوم كانت دائماً خجولة وغير جديّة. ولم يحد عن هذا النهج عموماً الرئيس الروسي الحالي فلاديمير بوتين، على الرغم من إبرازه أكثر من سابقيه لمصالح الدولة الروسية أو لما سمّاه أحدهم ب"الفكرة الوطنية العامة". وهنا لا بدّ من القول إن عهد الرئيس الحالي بات يتميّز ببدء استقرار نظام الرأسمالية الروسية وبدء تبلور مصالحها في الداخل والخارج أكثر فأكثر، وتعارض هذه المصالح مع مصالح الطبقات السياسية والإقتصادية الحاكمة في البلدان الأخرى. غير أن هذه الرأسمالية لم يصلب عودها بعد كما يجب ولم ينبت نابها الذي يمكن لها أن تبرزه في مواجهة الزحف الأطلسي صوبها. ولربما كمن في هذا بالذات السكوت السلطوي الروسي الذي يخالطه بعض الاعتراض والتحفّظ الخجول على تقدّم الحلف الأطلسي شرقاً.
في هذا الموضوع كتب يوري بردختشييف عام 1997 في صحيفة "زفترا" المعارضة تحت عنوان "فعل موافقة"([20]): "في 19 أيار حذّر يلتسين من أنّ موسكو ستعيد النظر في علاقتها بالحلف الأطلسي إذا ما اتخذ الحلف مستقبلاً، قراراً يقضي بقبول جمهوريّات الإتحاد السوفياتي السابق في قوامه. وفي 31 أيار أقرّ لقاء وزراء خارجية الدول الأعضاء في الحلف الأطلسي في البرتغال قبول خمسة طامحين جدداً من بلدان أوروبا الشرقية لدخول الحلف. وكان توقيع الميثاق الأساسي حول العلاقات والتعاون والأمن المتبادل في باريس بين روسيا والحلف قد حصل، على الرغم من شكوك معظم الساسة والعسكريين والمحلّلين الروس من مختلف الإتجاهات السياسية في ضرورة توقيعه. فهو، بحسب اعتقادهم، غير واضح الإلتزامات وغير محدّد الإصطلاحات (كالقول مثلا بـ"قوّات قتالية ذات شأن") وغير معروفة عواقبه السياسية والديبلوماسية بالنسبة إلى شبكة المعاهدات الدولية القائمة (كمثل معاهدة القوّات والأسلحة التقليدية في أوروبا) إلخ. ومن المعلوم أن الرئيس الروسي بوريس يلتسين كان المحرّك الأساسي لعملية الإسراع في توقيع ميثاق الناتو، وإن بادر وزير الخارجية يفغيني بريماكوف إلى إدخال تعديلات وإضافات إلى هذا الميثاق المسمّى بالوثيقة الأساسية، ولو على مستوى الكلمات التي تمنح روسيا ضمانات تجاه احتمال محاصرة الحلف لروسيا محاصرة تامّة.
ورأى بردختشييف أن لا وزيرة الخارجية الأميركية مادلين أولبرايت يومها ولا الرئيس كلينتون نفسه، اعترفا بأنّ هذه الوثيقة تلزم الحلف بألاّ يتوسّع شرقا. فقد أعلن كلينتون آنذاك أن الميثاق "يعطي روسيا حق أن يكون لها صوت، ولكنه لا يعطيها الحق في نقض ما لا يعجبها". وأعلنت أولبرايت أنّ توسيع رقعة الحلف سوف يتم حسب الخطة، وأن الأعضاء الجدد لن يكونوا آخر الغيث، وأن أيّ بـــلد أوروبي لن يُرفض له حقُّه في أن تُطرح مسألة ترشيحه لدخول الحلف مستقبلاً على بساط البحث. وهكذا عنى الميثاق المذكور موافقة روسيا (مواربةً) على قبول أعضاء جدد في الناتو وعلى نشر وحدات تابعة لهذا الحلف عند حدودها مباشرة (عدد القوّات في ظل وسائل النقل الحديثة السريعة ليس بذي بال)، وموافقتها على ألاّ تكون لها منطقة مصالح خاصة بها في أوروبا الشرقية، وموافقتها أخيراً على ترك ونسيان كل مكاسبها في الحرب العالمية الثانية التي دفعت ثمنها أرواح أكثر من 20 مليوناً من أبنائها. وشبّه كاتب المقالة هذا بنصح أحدهم مازحاً "ماذا على المرأة أن تفعل إذا كانت تُغتَصب وليس بوسعها أن تقاوم مغتصبها؟ "عليها أن تهدّيء من روعها وتستمتع". ولعل هذا، حسب قوله، هو ما فعلته روسيا مقابل وعود بديون رخيصة، ومقابل عضوية في منظّمة التجارة العالمية، وفي نادي باريس للدائنين، وفي "السبعة الكبار" إلى ما هنالك. وبعد التوقيع مباشرة صرّح يلتسين بأن "كل الرؤوس النووية الموجّهة صوب بلدان الناتو سوف تُنزع منذ اليوم من المناوبة القتالية". وهذا كان يعني في الواقع تفكيك شبكات تصويب للصواريخ البالستية عابرة القارّات معقّدة غاية التعقيد.
ويعتقد الكثيرون في روسيا وخارجها أن الأمور أخذت تتغيّر في عهد الرئيس فلاديمير بوتين الذي حلّ خلفاً للرئيس يلتسين، وهو المعروف بأنه رجل "الدولة الروسية القوي" (الشيوعيون والقوميّون اتهموه في هذا المجال بسرقة شعاراتهم). فهل الأمر كذلك حقاً؟
لقد صرّح الرئيس بوتين في كانون الأول عام 2001، وهو في زيارة لبريطانيا، ربما في محاولة "للهروب إلى الأمام" (عملاً بالمثل القائل: اليد التي لا تستطيع كسرها قبّلها وادعِ عليها بالكسر)، بإمكان انضمام روسيا إلى الناتو، وبأنّ البنية الجديدة للعلاقات بين روسيا والناتو "تعطي إمكانية نادرة هي إمكانية تغيير الوضع في العالم تغييراً جذرياً". ولعلّه وجد في هذه الخطوة الردَّ على تقدّم الحلف الأطلسي نحو بلاده. ومعلوم أن ستالين نفسه في 31 آذار عام ,1954 أي بعد خمس سنوات تقريبا على قيام الحلف، طرح فكرة انضمام الإتحاد السوفياتي إلى الحلف الأطلسي واعتبرت فكرته آنذاك أمراً غير معقول. ولعلّ هذه الفكرة التي يطرحها بوتين اليوم بعد مضي خمسين عاماً، لن تجد هي أيضا آذاناً صاغية لدى الأميركيين المهيمنين على الحلف، لأن "الحلف لا يتّسع لدول كبيرة ذات مطامح كبيرة أيضاً مثل روسيا"، حسبما قال السياسي المعروف رئيس لجنة الخارجية في الدوما السابقة وأحد زعماء كتلة "رودينا" (الوطن) حالياً دميتري روغوزين في برنامج "الغريزة الأساس" الذي تقدّمه القناة الروسية الأولى.[21]
وقال الناطق الرسمي باسم وزارة الخارجية الروسية ألكسندر ياكوفنكو تعليقاً على تصريح وزير حماية الإقليم في لتوانيا ليناس لينكيافيتشوس الذي كان دعا إلى إنشاء قواعد عسكرية للحلف الأطلسي في أراضي لتوانيا أو الدول المجاورة في البلطيق بعد انضمامها إلى الحلف، إنّ الإنتساب انتساباً كاملاً إلى الحلف سيفرض تنفيذ التعهّدات والإلتزامات التي أخذها الحلف على عاتقه لدى توقيع الميثاق الأساسي حول العلاقات والتعاون والأمن المتبادل في باريس وصدور إعلان روما، ألا وهي الإمساك عن نشر قوّات قتالية إضافية ذات شأن نشراً دائماً في أراضي الأعضاء الجدد في الحلف. وقال إنّ هذا الإلتزام السياسي ذا الطابع الأساسي في علاقة روسيا بالحلف كان ينفَّذ حتى اللحظة([22]). وكان إعلان روما هذا قد فُسِّر على أنّه تخلٍّ روسي عن اعتراضها بالأمس على إمكان انضمام أيٍّ من دول الكتلة السوفياتية سابقاً إلى أيّة أحلاف عسكرية غربية. إلاّ أن نائب وزير الخارجية الروسي فلاديمير تشيجوف صرّح للبرنامج التلفزيوني الذي أشرنا إليه بأنّ 3 دول فقط من أصل ثلاثين دولة أبرمت حتى الآن هذا التعهّد الذي ثبّتته لاحقاً، اتفاقية اسطنبول عام.1999 وفي الوقت نفسه شكِّل المجلس الروسيالأطلسي الذي علّقت عليه موسكو من الآمال أكثر ممّا علّقته على ما سمّي مجلس الـ 191 الذي كان شكِّل عام.1997 ومع ذلك لم تحصل روسيا على حقّ النقض حيال ما يقوم به الحلف الأطلسي من أعمال لا يستشيرها بشأنها. واعتبرت مكافحة الإرهاب وتقليص الأسلحة والتغلّب على الأزمات، المهام الرئيسة للمجلس المذكور.
وكانت روسيا ردّت بلسان الناطق الرسمي باسم الخارجية ياكوفنكو على تصريحات وزير الخارجية اللتواني لين لينكيفيتش حول أن لتوانيا ستعمل كل ما من شأنه أن يتيح إقامة قاعدة للناتو في أراضيها خلال السنوات المقبلة، وحذّرت من تخطّي الجانب القانوني للمسألة.
ومن جهة أخرى أكّد وزير الدفاع اللاتفي غيرت فالديس كريستوفسكيس([23]) أنّ "لاتفيا منفتحة على الحوار حول نشر قواعد عسكرية للحلف الأطلسي في أراضيها"، غير أن روسيا معترضة وتزعم أن لا أساس قانونيا يعتمد عليه أعضاء الحلف الجدد لفعل ذلك.
أمّا في شأن قواعد آسيا الوسطى، فصرّح وزير الدفاع الروسي سرغي إيفانوف في مؤتمر صحافي عقده إثر انتهاء لقائه بوزراء دفاع الحلف الأطلسي في كولورادو سبرنغز، بأنّ روسيا وافقت على وجود قواعد عسكرية أجنبية في أوزبكستان وقرغيزيا فقط لفترة القيام بالعملية المناهضة للإرهاب في أفغانستان لا أكثر([24]). وقال إنّ هذا يتّفق وما أقرّته الأمم المتحدة في هذا الشأن.
وقال إيفانوف إن قواعد الحلف الأطلسي أنشئت بناء على موافقة الأمم المتحدة. وقد وافقت روسيا آنذاك على ضرورة مثل هذه القواعد على ألاّ يتعدّى وجودها الفترة اللاّزمة لاستتباب الإستقرار نهائياً في أفغانستان.
الخروج من القواعد في كوبا وفيتنام
من "إنجازات" الرئيس الروسي الحالي على صعيد التخلّي عن المطامح الجغراسياسية لروسيا بعد قراره السير في نهج "مكافحة الإرهاب" الأميركي بعد أحداث أيلول عام 2001، وإقراره بـ"شرعية" الوجود العسكري الأميركي في جمهوريات آسيا الوسطى والقوقاز، كان إغلاق قاعدة لوردِس في كوبا وقاعدة كمران في فيتنام "لعدم الحاجة إليهما"، ما دام هذا ينجم منطقياً عن مبدأ "التخلّي عن الأيديولوجيا في السياسة الخارجية الروسية" والتمسّك بالشراكة مع أميركا. ويقول الباحث في الإقتصاد، مدير معهد قضايا العولمة ميخائيل دلياغين في وصفه لقاعدة لوردِس([25]) "لقد تخلّوا عن "سوبر قاعدة"، يُرى منها ويُسمَع كل ما يجري في أراضي الولايات المتحدة، وكيف تحلّق الطائرات والصواريخ وماذا يقال في بورصة نيويورك. إنها ثروة لا تقدّر بثمن لمن يريد انتهاج سياسة قوية. ولكن ليس لبوتين سياسة خاصة، ليس له استراتيجيته، ليس له فريقه، وليس له جهاز استخبارات".
معارضة "من أهل البيت"
كان الموقف من هذه الدراما كلّها متبايناً تباين المصالح والأهواء. فالبعض راح يقول أن لا شيء يدعو إلى القلق. والبعض الآخر كان يسرّ لما يجري ويهلّل له. قادة الكرملين كانوا في البداية من المرحبّين بـ"توسيع" رقعة الحلف الأطلسي، وانضمّوا إلى مشروع "الشراكة باسم السلام"([26])، ووقّعوا "الوثيقة الأساسية"([27]) بشأن التعاون مع الحلف الأطلسي في باريس، ثم حين "راحت السكرة وأتت الفكرة" دبّ فيهم الهلع وأخذوا يعارضون بما بقي في حوزتهم من أوراق المعارضة القليلة. ووقف الكثير من المنظّمات الشعبية الأوروبية ضدّ هذا "التوسيع" فدانوه ودانوا الولايات المتحدة على "تدخّلها في الشؤون الأوروبية".
أمّا في الولايات المتحدة نفسها فاختلف الرأي. فإدارة الرئيس كلينتون بدت عنيدة في مسعاها إلى الهدف، ولأجله راحت تعمل جاهدة على إزالة "آثار يالطا". غير أن ثمة أميركيين كثراً ما كانوا يريدون للحلف الأطلسي أن يتمدّد شرقاً. فقد توجّهت، مثلاً، مجموعة كبيرة من الأميركيين البارزين (50 شخصية) بكتاب مفتوح إلى الرئيس كلينتون اعتبرت فيه السياسة الأميركية الرامية إلى توسيع الحلف الأطلسي شرقاً خطأ تاريخياً. ورأى هؤلاء أن التمدّد نحو الشرق سوف يضعف أمن الحلف، ويخلّ بالإستقرار في أوروبا، ويثير في روسيا مقاومة في وجه تطبيق معاهدتي "ستارت2" و"ستارت3"، وأن هذه السياسة المحفوفة بالمخاطر والعواقب الوخيمة يجب أن يتمّ التخلّي عنها.
وكان من بين من وقفوا ضد جموح واشنطن، شخصيات سياسية واجتماعية أميركية بارزة مثل رئيس "محفل الحريّة الرابع" ديفيد كارترايت، ونائب رئيس مكتب السلام الدولي كارل فايس، ومدير مجلس الأمن الإعلامي البريطاني الأميركي دانييل بلايش وآخرون (ما مجموعه 10 شخصيات). وقد أعلنوا موقفهم هذا في جلسة حول "مائدة مستديرة" عقدوها في موسكو في 10 حزيران.1997 وقالوا إن تمدّد الحلف الأطلسي شرقاً ليس إلا توسّعاً صريحاً لا لبس فيه، من شأنه ان يسيء إلى العلاقات الروسية الأميركية، وأن يقّوض استقرار الوضع في أوروبا. وأضافوا إن الرئيس كلينتون مستعجل جداً للسير في هذا النهج التوسّعي الخارجي، وإنه لأجل هذا وقّع "الوثيقة الأساسية" بين روسيا والحلف الأطلسي، وذلك دون أن يسألوا شعوب بلدان الحلف رأيها في الموضوع، ودون أن يبلّغوا به الرأي العام الأميركي العريض.
وبالمناسبة، ينبغي التذكير بأنّ هذا التمدّد يفترض أن يكلّف دافعي الضرائب في بولندا والمجر وتشيكيا، بحسب تقديرات وزارة الدفاع الأميركية، بين 27 و35 مليار دولار، وربما أكثر.
واعتقد رسل أميركا المسالمة آنذاك أنّ عملية تمدّد الحلف الأطلسي نحو الشرق ما يزال ممكناً وقفها، ولو في مراحل لاحقة، إذا ما تمّ إقناع السلطة التشريعية والرأي العام في أوروبا الغربية بالضرر الذي سينجم عن تقدّم القوّات والمعدّات العسكرية التابعة للحلف نحو الحدود الروسية، واقتراح بديل معقول لهذه العملية المشبعة بروح العسكرة و"الحرب الباردة". وأعربوا عن دهشتهم من كون الروس لا يردّون على ما يجري الردَّ المناسب، فلا يدافعون كما ينبغي عن مصالحهم. أفيعقل أن يشعروا بالراحة والأمان إذا ما باتت دبّابات الحلف الأطلسي وصواريخه على مقربة من ديارهم؟
المعارضة البيلوروسية
في ظل ممالأة الحلف الأطلسي من قبل القادة الروس، تبدو جمهورية بيلوروسيا شبه وحيدة في مواجهة زحفه بجديّة، لا سيما أنّ الغرب يعتبر الرئيس البيلوروسي ألكسندر لوكاشنكو "دكتاتوراً" غير مرغوب فيه. إنّ تمدّد الحلف الأطلسي شرقاً والحرب التي شنّها على يوغوسلافيا، اضطرّا بيلوروسيا إلى المزيد من التعاون الوثيق مع روسيا في مجال التقنيّات العسكرية([28]). وبما أن بيلوروسيا هي أصلاً شريكة لروسيا في برنامج "التسلّح لأعوام 20012005" فقد نشأت ضرورة لتوحيد نظاميّ الطلبيات العسكرية. وبدأت بيلوروسيا مع روسيا عملية تحديث لوسائل الدفاع الجوّي إذ أنّ كل منصّات الصواريخ المضادّة بما في ذلك صواريخ "إس300" هي بحاجة إليها.
ولكنّ العديد من المراقبين يرى أن روسيا إذ تغادر آسيا والقوقاز، لا تعمل أيّ شيء لحماية حدودها الغربية عسكرياً أو سياسياً او ديبلوماسياً، وأنها تقدّم هنا أيضاً التنازل تلو التنازل من أجل "علاقات التشارك الجديدة" مع الغرب عامة، والولايات المتحدة خاصة. فالقواعد الأميركية والأطلسية تقترب أكثر فأكثر من حدود روسيا الغربية. وهي تنهج في كل مناسبة حيال بيلوروسيا، (الحاجز الوحيد المتبقي بينها وبين قوّات الحلف الغربي) سياسة مؤيّدة للحرب الإعلامية والنفسية التي يخوضها الغرب ضد هذه الجمهورية، بل سياسة اقتصادية ضاغطة عليها أيضاً، كما جرى قطع الغاز الروسي عنها مؤخراً بحجّة عدم قبولها بزيادة سعره.
عشية الذكرى الأخيرة لبدء ما درج الروس على تسميته "الحرب الوطنية العظمى" (بدء هجوم جيش هتلر على الإتحاد السوفياتي إبّان الحرب العالمية الثانية) زار الرئيس البيلوروسي ألكسندر لوكاشنكو إحدى الوحدات العسكرية المرابطة في منطقة برست Brest (حيث قلعة برست الشهيرة) التي تلقّت أولى ضربات جيوش الفاشية الألمانية. وصرّح ردًّا على سؤال حول احتمال انتقال القواعد العسكرية الأميركية من ألمانيا إلى بولندا قريباً من الحدود الروسية، بأنّ بيلوروسيا تنظر إلى هذا الأمر نظرتها إلى "خطر داهم على أمن البلاد القومي... وبأنّها ستكون مضطرّة إذا ما اتخذت الولايات المتحدة مثل هذا القرار، إلى الرّد بالمثل" مضيفاً قوله: "سوف نضع كل شيء تحت رقابة شديدة، وسوف نعير كل شيء يحصل في أراضي بولندا اهتمامنا. وهذه النقاط لن نراقبها وحسب، بل سنصوّب عليها أسلحتنا".[29]
لكن هيهات أن تكون بيلوروسيا قادرة وحدها على مواجهة الحلف الأطلسي. فإثر انهيار الإتحاد السوفياتي، لم ترد إلى هذه الجمهورية أيّ أسلحة جديدة عملياً. فأحدث طائراتها عمرها يزيد على العشر سنوات. وودباباتها الـ"تي72" تعود إلى ثمانينات القرن المنصرم. ولا عجب في أن يستطيع أن يخرق دروعها، ليس المدفع الأميركي "أبرامس إم 2" من عيار 120 ملم فقط، بل أيضا مدفع دبابة إسرائيلية من عيار 105 ملم. وعمر أنظمة الدفاع الجوّي عندها يزيد على العقدين من السنين. ولكن على الرغم من كل هذا يبقى الجيش البيلوروسي اليوم واحداً من أقوى جيوش بلدان رابطة الدول المستقلّة وأكثرها جاهزية للقتال. وربما لهذا السبّب أثارت تصريحات لوكاشنكو هذا الكمّ من التعليقات في الغرب. ولم تبق جانباً صحف المعارضة البيلوروسية ووسائل الإعلام الأخرى الروسية. فهي سارعت إلى إعلان أن "لوكاشنكو يهدّد بالويل والثبور لأجل أغراضه الشخصية"، وأنّ "أيّ قرارات رسمية حول تغيير مواقع القوات الأميركية لم تتّخذ لا في واشنطن ولا في وارسو"، وأنّ كلّ ما ورد حول هذا الموضوع إن هو إلاّ "أقاويل" صحافية".[30]
وكانت وزارة الخارجية البولندية قد أصدرت بياناً صحافياً، إستكمل لاحقاً بتصريح صادر عن السفارة البولندية في بيلوروسيا وجاء فيه: "إن مسألة نقل قواعد أو وحدات أو بنى تحتية عسكرية من أراضي أوروبا الغربية إلى بولندا لم يتم التطرّق إليها يوماً في الإتفاقيات الثنائية البولنديةالأميركية، ولم تقدّم أيّ طلبات في هذا الشأن، كما لم تكن طلبات كهذه موضع عمل أو دراسة من قبل حكومة جمهورية بولندا".
فهل هذا الكلام صحيح حقاً، أم أنّ وراء الأكمة ما وراءها؟ المعروف أنّه عندما تبدأ عملية النقل وتتحرّك كل هذه الآلة الحديدية نحو الشرق، فإنّ "قدّ المراجل" سيجيء ساعتئذ متأخراً.
وهذا بعض مما قاله الرئيس البيلوروسي ألكسندر لوكاشنكو خلال لقائه بممثّلي وسائل الإعلام في الأقاليم الروسية "بالأمس، عندما كنت في برِست، سألني مدير المحمية الوطنية "بيلوفجسكايا بوشا" الكائنة على مقربة من الحدود مع بولندا، أن آتي إلى هناك على جناح السرعة لأن ثمّة مشكلة تتعلّق بالأمن. وقد عرض عليَّ وقائع ووثائق وصوراً تدلّ على أنّ هناك زنوجاً أميركيين مدجّجين بالسلاح على الحدود البولنديةالبيلوروسية. وتساءل عمّا يفعله هؤلاء قريباً من الحدود البيلوروسية البولندية. وتبيّن الصور وجود نقاط تعقّب ومراقبة حديثة جداً كل 25 أو 30 أو 50 كيلومترا هي عبارة عن أعمدة ترتفع فوق الأشجار، وهذا دون إخفاء المعدّات الإلكترونية المختلفة التي يمكنها استكشاف كل أراضي بيلوروسيا. وليس بيلوروسيا فقط... نحن نرد، بالطبع، ولسوف نرد بالمثل، لأنّهم تحت ستار الكلام عن الإنضمام إلى الحلف الأطلسي والإتحاد الأوروبي يفعلون فعلتهم ويمرّرون ما يريدون، فيما نحن نكتفي بالكلام وحسب...".
لستّين سنة خلت إستقرت القوّات الهتلرية في المناطق نفسها التي يخطّط قادة الولايات المتحدة والحلف الأطلسي لنقل القواعد والقوّات إليها. وكان ثمّة من حاول إقناع الاتحاد السوفياتي آنذاك بأن ليس في هذا ما يخيف فالقوّات الألمانية "تستجمّ" وحسب، استعداداً للهجوم على بريطانيا أو حتى على الولايات المتحدة (من السهل مقارنة ذلك بحجج اليوم حول أن القواعد الأميركية والأطلسية يجب أن تكون قريبة من منطقة الشرق الأوسط غير المستقرة وأن تستعدّ للهجوم على سوريا أو إيران أو حتى على كوريا الشمالية). وقد أجبر الروس آنذاك على دفع ثمن عدم التبصّر دماراً هائلا لبلادهم وإزهاقاً لأرواح عشرات الملايين من أبنائهم. فهل يعقل ألاّ يتعلموا اليوم من دروس الماضي القاسية؟
المعارضة الروسية
لئن راحت الأوساط الرسمية في الغرب، (ومعها بعض المسؤولين الروس) تسوّق الحجج وتقول من الكلام الجميل ما لا يقنع المجتمع الروسي بأن زحف الأطلسي باتجاه الحدود الروسية لا يحمل الخطر على المصالح الوطنية الروسية، فالروس لم يسمعوا في الحقيقة إلاّ عبارات جوفاء عن "الشراكة في ظل التكافؤ" و"تساوي روسيا والحلف الأطلسي" و"الارتقاء إلى مستوى أمني أرفع" و"إقامة أوروبا كبرى موحّدة" إلى ما هنالك من كليشيهات خادعة تكاد لا تصدَّق لأنها لا ترتبط بأيّة التزامات ملموسة. وهم ما كانوا ليروا فيها سوى مجرد وعود ونوايا وتأكيدات سياسية ضبابية ليس ما يدعمها حقوقياً أو على الأرض.
فقد قال الجنرال في الاحتياط والدكتور في العلوم العسكرية نيكولاي تشرفوف في هذا الصدد إن من الخطل بمكان التكلّم مثلاً عن تساوٍ وشراكة في ظلٍّ التكافؤ في ما بين روسيا والحلف الأطلسي، فيما القدرات العسكرية والإقتصادية للحلف تفوق القدرات الروسية أضعافا مضاعفة، وفيما تحرم روسيا من حقّ النّقض لدى معالجة مسائل من مثل توسيع رقعة الحلف، وبخاصة عبر ضمّ جمهوريّات سوفياتية سابقة إليه. و"الشراكة في ظل التكافؤ" يجب فهمها بفعل صدق النيّة كعلاقات تكافؤ بين دول ذات سيادة. أمّا الفهم الأميركي لـ"الشراكة في ظل التكافؤ" فهو "السير بلا اعتراض في ركاب السياسة الأميركية وتبنّي مصالح واشنطن وسياساتها وأيديولوجيتها"([31]). وأضاف قائلاً: وتبدو مخادِعة وهادفةً، إلى درجة ذرّ الرماد في الأعين، محاولات الكرملين لإظهار روسيا وكأنها "ارتقت فعلاً إلى مستوى أمني أعلى" في إطار النظام الأوروبي. فهي أصلاً لم تجد لها مكانا في هذا النظام. وما دامت روسيا غير مشاركةٍ مشارَكةً كاملة في النظام الأوروبي فإن أيّة ضمانات لأمن روسيا مقابل موافقة موسكو على تقدّم الحلف الأطلسي نحو حدودها لا وجود لها، وليس في وعود بلدان الحلف القائلة أن أيّة قوّات قتالية ذات شأن وأيّة أسلحة نووية إضافية لن تجد طريقها إلى الأراضي الجديدة التي سيشملها الحلف، ما من شأنه تهدئة خواطر الروس. وهذا ما أظهرته أحداث البلقان. فـ"تغيّر الوضع" لا يبقي للوعود على أثر. وأهل الحلف الأطلسي قالوا غير مرّة "نحن من يقرّر أنزيد من تواجدنا العسكري في الأراضي الجديدة أم لا".
أما السلاح النووي فتضخيم أهميّته أمر مقصود، حسب قول تشرفوف. فالحديث هنا هو عن السلاح النووي التكتيكي. إن دور هذا السلاح في واقع "التوسّع" الأطلسي يساوي صفراً، حسب رأيه، إذ ثمة وسائل أخرى مثل الطيران (من الحاملات والمطارات)، والصواريخ المجنّحة بعيدة المدى KRMB، والسلاح الدقيق التصويب المتوفّر بكميّات كبيرة، وكلها أسلحة تتميّز ببعد مداها، ولا حاجة لتقريبها من الحدود الروسية لتستطيع أن تنال من الهدف المطلوب.
وفيما يزعم الساسة والخبراء، من عسكريين ومدنيين، والصحافيون الغربيون، أنّ تقدّم الحلف الأطلسي نحو الحدود الروسية لا يشكّل خطراً على روسيا، وأن التجابه الذي كان سِمة زمن "الحرب الباردة" انتهى إلى غير رجعة(!) تبيّن استطلاعات الرأي أنّ أغلبية الروس لا تصدّق هذه المزاعم (بيّنت نتائج استطلاع رأي الحاضرين في البرنامج التلفزيوني المذكور سابقاً أن هذه الأغلبية تقارب الـ70 بالمائة). ولهذا طبعاً جذور تاريخية ناهيك بأحداث السنوات الأخيرة في يوغوسلافيا والعراق وفي البوسنة مؤخّراً حيث تمّ تهجير الصرب على أيدي الألبان واستكمال عملية التطهير العرقي هناك دون أن تستطيع قوّات الحلف فعل أيّ شيء.
فمن وجهة النظر الجغراسياسية (geopolitics) تبدو روسيا اليوم وكأنها انتقلت إلى القرن السابع عشر، إلى روسيا بدون أوكرانيا وبيلوروسيا وملدافيا وجمهوريات البلطيق وجمهوريات جنوب القوقاز وآسيا الوسطى. ولقد حدثت انحسارات مماثلة في الماضي القريب للأراضي الروسية (إبّان الحرب العالمية الأولى في عام 1918 بموجب معاهدة برستليتوفسك الجائرة، وإبّان الحرب العالمية الثانية في عام 1941)، ولكنها سرعان ما كانت تعوَّض بتوسّع وتمدّد جديدين.
اليوم فقدت روسيا أراضٍ وسكاناً بدون حرب. البلاشفة خرجوا من حرب "ساخنة" في "برست" عام 1918 كثمن لدخول النظام الشيوعي التاريخ والقرن العشرين، أما الديموقراطيون الروس فخرجوا من "الحرب الباردة" في مالطة كثمن لخروج تبيّن لاحقاً أنه غير مشرّف من هذه الحرب.
إن واقع كون الحلف الأطلسي يتقدّم شرقاً نحو الحدود الروسية، فيما هذه الحدود أخذت أصلاً بالتقلّص، وفيما يعتري روسيا الضعف والوهن على الرغم من انتعاشات الفترة الأخيرة من حكم بوتين بفضل ارتفاع أسعار النفط في الأسواق العالمية، وفيما روسيا بدأت مسيرة الليبرالية الرأسمالية وتحسين العلاقات مع الغرب بعد سبعين سنة تقريباً من العداء والحذر المتبادلين، فذلك من شأنه أن يبقي المواطن الروسي على شيء من الحذر واليقظة. فالأمر كان مغايراً لمّا كان على رأس روسيا قادة أقوياء أمثال نيقولاي الثاني أو ستالين أو بريجنيف. لقد كان الغرب يكنّ الاحترام لهؤلاء "الأعداء" ويتنازل لهم في أمور كثيرة. فالقوّة هي أكثر ما يقدَّر في العلاقات بين الدول حتى الآن.
واليوم انتهى التجابه بين الإتحاد السوفياتي والغرب، وانتهى الشكل التاريخي الخاص بالقرن العشرين (1914-19171991) لتجابه روسيا والغرب (أوروبا)، ولكن هذا لا يعني أن تجابهاً جديدا وبشكل جديد لن يحصل.
الجنرالات الروس
بعث عدد من الجنرالات الروس المتقاعدين رسالة إلى بوتين([32])، عندما تبّوأ للمرة الأولى سدة الرئاسة، تحدّثوا فيها عن تذمّر في بعض قطاعات الجيش. وشبّهت الصحف المعارضة بوتين إثر تصريحه آنذاك وهو في زيارة لبريطانيا، بإمكان انضمام روسيا إلى الناتو بأنه "نيوكوزيريف"، ذلك أن أندريه كوزيريف عندما كان وزيراً للخارجية في عهد يلتسين، سلّم الأميركيين عملياً كل الأوراق الروسية في السياسة الخارجية.
وجاء في الرسالة إن من المفهوم أنّ روسيا لن يقبلها الناتو بين أحضانه، ولكنّه سيقبل في صفوفه دون شك الجمهوريات السوفياتية السابقة الأخرى، ومن بينها جمهوريات البلطيق وأوكرانيا وجورجيا وأذربيجان وكازاخستان وأوزبكستان، حيث لا جيوش فعليّة ولا مشكلة عندها في الاستعاضة عن أسلحتها العاديّة بأسلحة من الناتو. واعتبر كاتبو الرسالة تصريح بوتين هذا للصحافي البريطاني تشجيعاً لهذه البلدان على الإنضمام إلى الحلف. فإذا لم تكن روسيا هي نفسها ضدّ الإنضمام إلى الناتو، فأيّ اعتراض سيكون على أيّ زعيم لبلد من الجمهوريات السوفياتية سابقاً يقرّر الإنضمام إلى الحلف؟ طالما طمح إلى هذا كلٌّ من الرئيس الأوكراني كوتشما والرئيس الجورجي السابق شيفاردنادزة (الرئيس الجديد ساكاشفيلي ليس بأقل حماساً لهذا) والرئيس الأذري السابق حيدر علييف (خلفه إبنه في الرئاسة بعد وفاته مؤخّراً).
وترى المعارضة أن هذا سيعني وقوف القوّات الأميركية على بعد بضع عشرات من الكيلومترات من روستوف، على الدون ونوفوروسيسك ومحجّ قلعة واستراخان، وانتقال بريدنستروفييه وسيفاستوبول إلى سيطرة الناتو. أما العشرون مليون روسي خارج الحدود الروسية فسوف تنهال عليهم حتماً موجة ثانية (بعد تلك التي تلت انهيار الإتحاد السوفياتي) من التطهير العرقي. ولعلّ الأمر الأفظع هو أن القوقاز حين يصبح تحت سيطرة الناتو سيرسل "جنود سلام" إلى الشيشان كما أرسل "جنود سلام" إلى كوسوفو للسهر لا على الأمن، بل على تطهير المنطقة من الصرب جميعاً، كما حدث في الآونة الأخيرة أيضاً.
وبعث عدد من الجنرالات والأميرالات السابقين مؤخّراً رسالة إلى الرئيس بوتين([33]) تحت عنوان "من المسؤول عن الإنهيار؟" جاء فيها أن الرئيس يريد الانضمام إلى الناتو، فلأجل أيّ هدف وضدّ مَن؟ فالناتو حلف سياسي وعسكري ذو مطامع عدوانية وليس بالمنظّمة الخيرية. ورأوا أن هذا مستهجن في ظل طموح الولايات المتحدة إلى الهيمنة على العالم.
وأعرب كبار العسكريين السابقين عن قلقهم جرّاء انهيار القوّات المسلحة وهبوط مستوى تجهيزها بالمعدّات والأسلحة وهبوط مستوى إعدادها قتاليّاً وميدانيّاً وقدرتها على القتال وجاهزيتها له، مستنكرين تحوّل القوّات البريّة أركاناً ووحداتٍ إلى قوّات بوليسية تحفظ الأمن داخل البلاد بدلاً من أن تدافع عن الدولة من تطاولات الأعداء الخارجيين.
وكان من بين من وقّع الرسالة، وزير الدفاع سابقاً الجنرال روديونوف، والمرشّح للرئاسة الروسية سابقاً الجنرال ماكاشوف، وغيرهما من الجنرالات والأدميرالات.
وقال الخبير في الشؤون العسكرية أنطون سوريكوف لجريدة "زفترا" حول نتائج عمل الدّوما حول موازنة وزارة الدفاع الروسيّة للعام 1998([34]) "إن الردّ على تمدّد الناتو شرقاً يجب أن يكون التوحّد مجدّداً مع بيلوروسيا والتشارك الإستراتيجي مع الصين والهند وإيران والعرب، والتعاون معهم عسكريا وتقنياً على نطاق واسع". وحول المعاهدة الروسيةالأطلسية المعقودة في 27 أيار عام 1999، قال إن يلتسين بموافقته على تمدّد الحلف الأطلسي شرقاً في هلسنكي، لم يحصل على شيء. صحيح أن كلينتون وعد بأن تنصّ الاتفاقية المقبلة على بند حول عدم نشر الحلف أسلحة نووية تكتيكية في أراضي الأعضاء الجدد، غير أن عدم وجود مثل هذه الأسلحة في زمن السلم لا يعني البتة أنها لا يمكن أن يؤتى بها إلى هناك على جناح السرعة إذا تطلّب الأمن، في ظل وجود بنية تحتيّة جاهزة لها. فقد أعلنت العاصمة الفنلندية أن الحلف الأطلسي لا ينوي استخدام البنية التحتيّة التي سبق أن أنشئت من مطارات عسكرية وقواعد بحريّة ومستودعات للأسلحة والذخيرة ومراكز للإدارة والاتصالات والمواصلات، بيد أن هذه المنشآت باتت منذ الآن تستخدمها جيوش بولندا وهنغاريا وتشيكيا. ومن الواضح أن المنشآت الواقعة في أراضي البلدان التي ستنضّم إلى الحلف في أوروبا الشرقية ستصبح حتماً تحت السيطرة الأميركية. وهذا يعني أن المعاهدة لا تعدو كونها محاولة لخداع الرأي العام الروسي.
وقال سوريكوف إن هناك أيضا مشكلة جمهوريات البلطيق. ففي هلسنكي لم تعطَ روسيا ضمانات بألاّ تنضمّ جمهوريات البلطيق هذه في أي يوم من الأيام إلى الحلف الأطلسي. ونحن لا يحق لنا أن نسمح بانضمامها إليه. ونظراً لجبروت مافيا الإعلام الروسية، من الصعب جدا اليوم التدخّل عسكرياً في لتوانيا أو لاتفيا أو إستونيا، إذ ستشنّ سريعاً حملة إرهاب معنوي ونفسي ضد الجيش مثلما حصل في الشيشان. كما أنه ليس من ضرورة لاحتلال إستونيا مثلاً. فيكفي في مرحلة أولى بلبلة الوضع هناك، كأن يتّم تشكيل إدارة موازية وتنظيم وتسليح التشكيلات الموالية لروسيا وإرسال حوالى 600700 متطوّع إليها من عداد قوّات الإنزال والقوّات الخاصة، وتخصيص ما يلزم من المال لأجل هذه الأغراض. حينئذ ستحلّ الفوضى في الجمهورية وسيبدأ إطلاق صواريخ الـسغرادس وستصبح تالين شبيهة بغروزني.
وأضاف: "إننا نرى أن الأميركيين يشكّلون طوقا وقائيّا حول روسيا من كل من أوكرانيا وجورجيا وأذربيجان وبلدان آسيا الوسطى استناداً إلى فكرة "المعبر الأوراسي"، وإن واجبنا يقضي بأن نقاوم هذا الأمر".
وقال الخبير العسكري الروسي إن إحاطة أراضي روسيا بشبكة من القواعد العسكرية الأميركية والأطلسية، وتمدّد الحلف شرقاً نحو الحدود الروسية، ونيّة أوكرانيا وغيرها من دول الرابطة المستقلّة الإنضمام إلى الحلف، كلّها أمور تتطلّب اتخاذ تدابير استراتيجية الطابع، لحماية مصالح روسيا الهامّة حيويّاً، غير أن السلطات الرسميّة والقوى السياسية الروسية ذات التوجّه الغربي ترحّب بهذا التمدّد وبهذا الحصار.
معارضة القوميين والحزب الشيوعي
تحت عنوان "لا مجال للتراجع"([35]) بعث زعيم الحزب الشيوعي الروسي والإتحاد الشعبي الوطني الروسي غينادي زوغانوف في تشرين الثاني من العام 2001 رسالة إلى الرئيس الروسي بوتين قبيل سفره في زيارة إلى الولايات المتحدة الأميركية، إتهّم فيها السلطة بأنها تسعى للعودة إلى "سياسة كوزيريف المشينة، سياسة تجاهل مصالح روسيا". ومما قاله زوغانوف في رسالته: "إن تمدّد الناتو يقلق شعبنا الذي يحسّ من خلال تجربته التاريخية بخطر اقتراب جيوش الغرب من حدودنا... والكثير منهم واثق من أن القيادة الروسية موافقة على توسّع الحلف. وهذا الرأي هو السائد خارج روسيا أيضاً. وتصريحاتك مؤخّراً في فيينا وهلسنكي اعتبرت من دون أدنى شك مثابة موافقة، لا على جرِّ لاتفيا ولتوانيا وإستونيا وحسب إلى أحضان الناتو، بل أيضا بلداناً محايدة مثل النمسا وفنلندا والسويد". وأضاف زوغانوف في رسالته إلى بوتين: "إن الرأي العام الروسي مستاء جداً من قراركم إغلاق القواعد في كل من فيتنام وكوبا، والموافقة على إنشاء قواعد أميركية في أوزبكستان وطاجيكستان. فقريباً لن يبقى لروسيا أي مؤخّرة جغراسياسية. وهذا كله فيما يستمر تدمير جيشنا وقوّاته النووية الإستراتيجية، المرتكز الرئيس لأمن روسيا" وقال: "إن قيادة بلادنا بدأت مرتين خلال السنوات الـ15 الأخيرة تنتهج بحماس سياسة أحاديّة الجانب في موالاتها لأميركا تحت شعارات من مثل "التفكير الجديد" و"الانخراط في الأسرة العالمية". غير أن كلاًّ من غورباتشوف ويلتسين عاد من هذا و"سلّته فارغة". فالغرب بعد أن حصل على أكثر ما يمكن من التنازلات، لم يقدم على أيّة خطوات تجاوب وملاقاة في وسط الطريق. والوضع الاستراتيجي لبلادنا يواصل تردّيه. وروسيا باتت اليوم تقوم بدور "العربة" في قطار تزويد البلدان الغنيّة بالموارد الطبيعية الرخيصة. أما غداً فهي ستضحي، في ظل سياسة كهذه، مثابة "قوّات خاصة لأميركا" تزوّدها بلحم المدافع لمزيد من المغامرات الدولية".
وقال زوغانوف إن الزعم الرسمي حول إمكان انضمام روسيا إلى الحلف الأطلسي لن يزيد عدد أصدقائنا لا في الجنوب ولا في الشرق... لقد انتظر الشعب منك نهجاً جديداً وتحوّلات منقذة للبلاد، وها أنت رحت تسير على النهج الإنزلاقي الذي سار عليه غورباتشوف ويلتسين. وإنه ليخشى أن ينتهي لقاؤك ببوش الإبن إلى مثل ما انتهى إليه لقاء غورباتشوف قبلك ببوش الأب في مالطا عام 1989 إلى خيانة جديدة لمصالح بلادنا القومية. نحن لا ندعو بالطبع إلى مواجهة مع الغرب، نحن نريد أن نعيش معه في سلام ووئام، ولكن يجب أن نكون شركاء متساوين محترمين. فلروسيا مصيرها وتاريخها وطبعها ومصالحها القومية التي ليس لزاماً أن تتطابق ومصالح الغرب".
وأصدرت الحركة الشعبية المسمّاة "روسيا بلا بوتين" بياناً في أوائل السنة الجارية([36]) جاء فيه "إن سنوات رئاسة بوتين سلسلة لا تنتهي من الخطوات الفاشلة في مجال السياسة الخارجية: خسارة القواعد العسكرية في كوبا وفي فيتنام، ظهور منشآت عسكرية للحلف الأطلسي عند حدود روسيا الغربية، في البلطيق، تسليم المواقع في آسيا الوسطى حيث استقر بقوّة العسكريون الأميركيون، فشل المبادرات الروسية في بريدنستروفييه، فرض التأشيرات للسفر من موسكو إلى كالينيغراد وهو ما سيؤدّي حتماً إلى سلخ كالينيغراد عن روسيا، إهداء ميناء كلايبيدا إلى لتوانيا، الموقف الملتبس والجبان من أحداث العراق. وهي ليست السلسلة الكاملة من هزائم روسيا في السياسة الخارجية والتي تصوّرها دعاية نظام بوتين وكأنّها انتصارات لا سابق لها".
نجم القوميين وبوتين
أسفرت الإنتخابات النيابية والرئاسية الأخيرة في روسيا عن نجاح الحزب الموالي للسلطة والداعم لبوتين، حزب "روسيا الواحدة"، وعن بقاء بوتين رئيساً لروسيا لولاية ثانية ستمتد أربع سنوات أخرى.
واعتبر المراقبون أن التيار المعبّر عن مصالح البورجوازية الوطنية الروسية هو الذي كانت له الغلبة على حساب بعض أطراف الأوليغارشيا المحسوبة على الغرب. فالرئيس الروسي، برأيها، سيحمل معه خلال الفترة الثانية من ولايته هموم رأس المال الروسي الطامح، بعد أن بلغ سنّ الرشد وانفصل عن رعاة نشأته الغربيين في بداية التسعينيات، وبعد أن تأمّنت له السيطرة والاستقرار داخل روسيا، إلى المزيد من تثبيت أقدامه اقتصاديا في الجمهوريات السوفياتية السابقة. ولعلّ هذا ما سيجعل المرحلة المقبلة مرحلة تنافس أشدّ مع الأميركيين والأوروبيين على مناطق النفوذ في المجال السوفياتي السابق. واحتجاج روسيا مع الأوروبيين (ألمانيا وفرنسا) على ضرب الولايات المتحدة لمصالحهم جميعاً في العراق خير مثال على استيقاظ وعي الطبقة الحاكمة في روسيا لمصالحها المستجدّة. ولئن كانت روسيا لم تنضج بعد لتتسع رقعة مطامحها الجغراسياسية فتشمل ما كانت عليه هذه أيام الإتحاد السوفياتي، فهي تطمح على الأقل إلى أن تقوم بدور "الدولة العظمى الإقليمية" حالياً بما ينسجم مع طرحها المعروف حول ضرورة قيام عالم متعدد الأقطاب.
ومن النماذج على محاولة روسيا استرجاع دورها ونفوذها في المجال السوفياتي السابق توسّطها مؤخراً في النزاع الجورجي الأدجاري الذي كاد أن يؤدّي إلى حرب أهلية جديدة في نطاق هذه الجمهورية كما حصل سابقاً مع أبخازيا وأوسيتيا، الجمهوريتين الداخلتين في نطاق جورجيا. إن حرباً جديدة في المنطقة المذكورة ستكون حتماً ذريعة لتدخّل الحلف الأطلسي. ونجاح المساعي السلمية الروسية بنزع فتيل الحرب سريعاً كان مثابة إبعاد للأسباب التي قد يتذرّع بها الحلف لزيادة وجوده في المنطقة.
خاتمة
من المعلوم أنه إذا كانت هناك بندقية معلّقة على جدار في مسرحية ما، فمن المفترض أن تطلق منها النار لاحقاً. والقواعد التي يزرعها الحلف الأطلسي في محيط روسيا من كل الجهات، ليست، في اعتقاد الكثيرين من المراقبين، مجرّد منصّات "مراقبة عن بعد" وحسب، بل هي على الأرجح منصّات انطلاق لطائرات وصواريخ وجيوش هذا الحلف نحو الأراضي الروسية عندما تأتي الفرصة السانحة وتكتمل فصول "المسرحية" المأساة. وثمّة من قال: التاريخ يعيد نفسه.
وعلى الرّغم من وجود قوى داخل روسيا تدعو إلى استيعاب التقدّم الغربي والأميركي نحو الحدود الروسية بالإنضمام إلى الحلف الأطلسي، وبالتعاون مع الأميركيين والأوروبيين على مكافحة الإرهاب والهجرة غير الشرعية وتجارة المخدّرات من خلال بنى تحالفية مثل المجلس الروسي الأطلسي ([37])، وعلى الرغم من أن النظام الحالي في روسيا قد يكون يرى في تقدّم الحلف الغربي نحو الحدود الروسية، ضمانة تحميه من احتمال حصول ثورات روسية جديدة تقلب الطاولة مجدّداً على أنصار الغرب والرأسمالية في بلد تعوّد على الثورات، فستضطر روسيا، عاجلاً أو آجلاً، وهي التي ينظر إليها الغرب أيضاً، أيًّا يكن النظام الإقتصادي والسياسي فيها، كخصم جغراسياسي وكبلد غني بالثروات الطبيعية، أن تواجه التقدّم الاستراتيجي للغرب نحو حدودها وثرواتها، رغم أن كلفة المواجهة ستكون أكبر كلما تأجّلت بدايتها، وذلك على خطّين متوازيين لإعادة تركيز مجالها الأمني مواجهة توسّع الأطلسي في المجال السوفياتي السابق، وإعادة بسط نفوذها في جمهوريّات الإتحاد السوفياتي سابقاً. وربما أصبح الإتحاد الروسي البيلوروسي حاجة ماسّة للمواجهة الأولى، على الرغم من مقاومة القوى الليبرالية داخل روسيا له، المقاومة المستميتة، ونواة لاتّحاد أوسع نطاقاً يخلّف "مجموعة الدول المستقلّة" التي تأكلها التناقضات واللاّفعل.
وعلى الرغم من كثرة الآراء والتكهّنات التي دفنت روسيا نهائيّا في عالم التبعيّة والتخلّف، يخيّل إلينا أنّ لديها من القوى والطاقات البشريّة والماديّة والروحيّة ما يمكّنها من استعادة دورها كأحد روافد الحضارة العالمية الأساسية.
[1] "إزفستيا. رو"، 29/3/2004
[2] دميتري ياكوشيف، جريدة "كومونيست. رو". العدد 112 في 2/2/2004
[3] 03,02,24.olska.ru
[4] زفترا، العدد 4 ,42/6/2003
[5] النجم الأحمر، 5/6/2003
[6] زفترا، العدد.43،.12/10/3002
[7] "نيزافيسيمايا غازيتا"، 20/8/2003
[8] فاسيلي بوبنوف، برافدا. رو، 7/8/2003
[9] "زفترا"، العدد 45 (520)، في 5/11/2003
[10] المصدر السابق
[11] المصدر السابق
[12] أندريه نيفيدوف. الحلف الأطلسي يجتاز نهر الدنيستر والخارجية الروسية تفرش له العبّارات سهلاً. "زفترا" العدد 47 (364)، في 21/11/.2000
[13] من تصريح لنائب البرلمان المولدافي آنذاك يوري روشكا.
[14] إيغور مراديان، أرتساخ (ناغورني قره باخ). قضايا الأمن في سياسة الولايات المتحدة في الشرق الأوسط. ARCGroup،.2003
[15] المصدر السابق.
[16] http://faststart.ru/viewnews. 30/90/21
[17] برافدا. رو. عدد 25/7/2002
[18] 3002,09,24 http://www.sakartvelo.ru/digest/newsforprint
[19] زفترا. العدد 31 (296). 3/8/.1999
[20] "زفترا" العدد 23 (184)، 9/6/.1997
[21] حوار حول ما يجب أن يكون عليه موقف الروس من مسألة تقدم الحلف الأطلسي شرقاً في برنامج "الغريزة الأساس" الذي قدمته القناة الروسية الأولى مساء 2 نيسان 2004
[22] وكالة "أورياندا" في 52 حزيران 2003
[23] وكالة Neatkariga Rita Avize في 27 حزيران 2003
[24] وكالة الأنباء القرغيزية، 10/10/2003
[25] زفترا، العدد 48(523)، في 25/11/2003
[26] وقّعت روسيا برنامج "الشراكة باسم السلام" الذي ارتكز سياسياً على مجلس الشراكة الأوروأطلسية المنضمّ إليه 46 بلداً بينها أوكرانيا وروسيا. وقد جمّدت روسيا عضويتها فيه إثر قرار الناتو التدخّل عسكرياً في كوسوفو عام 1999، غير أنها استأنفت نشاطها فيه جزئيًّا في شباط عام.2000
[27] ما سمّي "الوثيقة الأساسية حول العلاقات المتبادلة والتعاون والأمن بين الفدرالية الروسية ومنظمة حلف شمالي الأطلسي" الموقّعة في باريس في أيار عام 1997 بين الرئيس الروسي يلتسين وزعماء دول وحكومات الحلف.
[28] "زفترا"، العدد 26 (291)، في 29/6/1999
[29] جريدة "غازيتا سلونيمسكايا"، العدد 12 , 314/5/2003
[30] http://naviny.by/node.phtml?index=1534607.11.200366
2003,10,11 http://nmn.by/links/belarus.html مشروع الإنترنت التحليلي "رأينا"أسبوعية سياسية لرصد التطورات في بيلوروسيا
[31] مجلة "أبَزريفاتِل" ("مراقب")، أيار.1999 روسيا والحلف الأطلسي: حول مستقبل الأمن الأوروبي. للجنرال المتقاعد، الدكتور في العلوم العسكرية، الأستاذ في الكلية الحربية ن.تشرفوف.
[32] "زفترا"، العدد 11 (238) في 14/3/2000.
[33] "زفترا"، العدد 8 (431) في 19/2/2002.
[34] "زفترا"، العدد 18 (179)، في 5/5/1997
[35] "زفترا"، العدد 46 (415)، في 13/11/2001
[36] زفترا، 27/1/2004
[37] معلوم أن الحلف الأطلسي قرّر بعد تفجيرات الحادي عشر من أيلول عام 2001 في الولايات المتحدة إنشاء بنية لمكافحة الإرهاب، واستؤنفت بناء عليه الجهود المبذولة للتقريب بين الحلف وروسيا.
The bases of America and the Nato around Russia: Between the acceptance of the government and the complaint of the opposition.
The Americans and the other western countries considered the fall of the pact of Warsaw and the soviet union as a defeat of the eastern bloc in the cold war.
It goes without saying that the defeated party will retreat so that the victorious party will take its place. And that is what’s happening with Russia, the legitimate air of the soviet union as a geopolitical concept. In spite of its recent friendship with the west on the basis of democracy and the free market economy and the war against terrorism ect... the west keeps on getting closer to its borders from every side, sometimes on the pretext of the necessity to fight illegal emigration and the traffic of drugs, and sometimes on the pretext pf fighting terrorism in Afghanistan which in all cases does not need an excuse...
And this what throws the Russian authorities into a political dilemma cause the party which is moving towards it is a “strategic partner” and the leader of the anti-terrorism alliance which Russia joined unwillingly, while the Russian community by virtue of the will to continue, despite of being unconcerned with all the issues of the higher politics, are fearful of the gigantic western military machine approaching from its borders.
The Russian people has already offered precious victims in confronting at first the army of napoleon and then the army of Hitler and called the second world war on its land as the great national war because all the Russian people participated in this confrontation.
Since the early nine tees and until this day ten new members joined the NATO. Among these countries, 3 Baltic republics which were until recently a part of the soviet union with Russia and the NATO’s forces started to take up positions in their territory and thus the cities of Russia and its villages became very near. In the south, the Americans and the west took advantage of the war on the successors of their friends among the freedom fighters part of the “Taliban” group in Afghanistan against the soviet union and made the republics of central Asia and the Caucase a path to this part of the world and soon the path became a headquarter.
And thus, the west inherited the legacy of the “sick man” and is still strengthening its siege.
Without distinction whether it was fear from the possibility of the rise of a new regime in Russia endowed with imperial and American ambition to dominate the whole world or whether it was a forethought operation to swoop down in the future this vast country, rich in natural resources to divide it and subjugate it and appropriate its ressources and advance towards China to divide it and transform it to a colony which was the “golden dream” of the west since the nineteenth century.
In both cases the reasons of seperation after the partnership still exist especially now after the new Russian capitalism began to harden and its distinctive interests on the regional level, not to say the world level, is becoming clearly.
Les bases de l’Amérique et du pacte atlantique concernant la Russie : Entre l’acceptation du pouvoir Et le mécontentement de l’opposition
Les Américains et les autres états de l’Ouest ont considéré l’effondrement du pacte de Varsovie et de l’Union Soviétique comme étant le résultat de défaite du camp de l’Est lors de la « guerre froide ». C’est évident que le parti défait se replie pour que le parti vainqueur occupe sa place. C’est le cas de la Russie, considérée l’héritier légitime de l’Union Soviétique comme étant un concept géo-politique. Malgré son amitié récente avec l’Ouest, basée sur la démocratie, l’économie du marché, la lutte contre le terrorisme etc.… cet Ouest n’arrête de s’approcher de ses frontières de tous côtés, tantôt sous prétexte de la nécessité de lutter contre l’émigration illégitime et le trafic de la drogue, et tantard sous prétexte de combattre le terrorisme en Afghanistan. En tous cas il n’a pas besoin de prétexte… Ce fait pousse les autorités russes à tomber dans une dédale politique : le progresseur est un « partenaire stratégique » et le chef du camp anti-terroriste que la Russie trouva bon de le joindre. Alors que la société russe afin de continuer, elle qui n’est pas concernée par toutes les affaires de cette « politique suprême », craint le progrès de la machine militaire géante de l’Ouest de ses frontières. La société russe avait offert des victimes chers lors d’une confrontation avec l’armée de Napoléon, et d’une autre avec celle de Hitler. Elle a nommé la 2ème Guerre Mondiale qui a eu lieu sur son territoire la « Grande Guerre Nationale » car tout le peuple a participé à ce défi.
Depuis le début des années 90, et jusqu’aujourd’hui, 10 nouveaux membres ont rejoint l’OTAN dont 3 républiques dans la mer Baltique faisant partie jusqu’à une date récente de l’Union Soviétique avec la Russie. Des forces de l’OTAN et leurs équipements ont commencé à stationner dans leurs territoires, elles sont alors devenues si près des villes et villages de la Russie. Au sud, le américains et les pays de l’Ouest ont profité de la guerre menée contre les héritiers, leurs amis, les lutteurs contre l’Union Soviétique, « les Talibans » en Afghanistan, et ont pris les républiques de l’Asie centrale et du Kokaz un passage pour eux. Peu à peu ce passage est devenu un siège. C’est alors que l’Ouest a hérité l’héritage de « l’homme malade » qui était encore sous l’embargo.
Il n’y avait pas de différence si ce fait était le fruit de la peur de l’éventualité de l’établissement d’un nouveau régime en Russie avec des ambitions impériales et géo-politiques se contredisant avec l’ambition américaine ou s’il était une opération bien étudiée afin d’attaquer plus tard ce pays très vaste et riche en sources naturelles afin de le diviser et s’emparer de ses sources et duquel, progresser vers la Chine pour la diviser et la transformer en colonie, c’était le rêve doré de l’Ouest, depuis au moins le 19ème siècle.
Dans les deux cas, les raisons de divergence après la participation existent encore notamment maintenant où le capitalisme russe moderne se renforce, et ses intérêts distingués au niveau régional et mondial commence à s’éclaircir.