- En
- Fr
- عربي
أسماء لامعة
لوحة تقتفي أثر الطفولة
كان على الشعر أن يتراجع ليولد الرسم
قائد أوركسترا الألوان، مبدعة ريشته في رسم الخطوط والألوان المعبّرة عن الحالات الإنسانية، والطبيعة بفصولها المختلفة. إنه الفنان الذي قلبت مدريد مفاهيم فنه رأساً على عقب. حسن جوني ابن زقاق البلاط وجدرانها الرملية وسطوح القرميد وأشجار المانيوليا، ريشة تفرّدت في جيلها.
«فراقيات» الطفولة ودندنات فيروز
ولد الرسام حسن جوني في بيروت - محلة زقاق البلاط العام 1942 في أسرة مؤلفة من ثمانية أولاد هو الثالث فيها والبكر بين الصبيان، لذا فإن شعوره بالأبوة رافقه منذ الصغر. والده عبد الكريم جوني (سكّاف)، ووالدته فاطمة إبراهيم (ربة منزل). ورث عن والده الطيبة والتسامح، وعن والدته الحساسية المفرطة وحبها للشعر، حيث كانت من ذوّاقة الشعر الزجلي.
في السادسة من عمره عثر حسن جوني على دفتر يحوي أشكالاً نباتية تستخدمها أخته الكبرى في الخياطة والتطريز، فأشعرته الخطوط والألوان بغبطة عارمة، وعرف حينها أنه سيصبح رساماً. بعد عامين، أهداه زوج عمته أقلاماً يحتوي رصاصها على ثلاثة ألوان، فسحره ذلك أكثر، وكان عند الإنتهاء من كتابة وظائفه المدرسية، يلجأ إلى الرسم الذي وجد فيه لغة غير محكية يتقنها، عكس اللغات الأخرى، وكأنه يلاقي الأبجدية بالألوان والخطوط. ولأن الرسم قد يشغله عن المدرسة، استسلم لتأثير الشعر و«الفراقيات» التي اعتاد سماعها من زجّالين كانوا أصدقاء لوالده، وإلى دندنات فيروز، جارته المقيمة في بيت ملاصق لبيتهم. قرأ المنفلوطي وجبران، وكتب الشعر ونشر بعض القصائد في جريدة «الطيار»، التي كان يصدرها نسيب المتني، ويقول: «شعرت بأن هناك توأمين في رأسي، كان على الشعر أن يتراجع ليولد الرسم».
في سن الثامنة بدأ يرسم الوجوه والأشخاص وليس الطبيعة، لأن الإنسان بالنسبة إلى جوني يشكّل أفضل حالات التعبير الإنسانية، الفرح والحزن والتعب والشقاء والوجع، وهو الذي نشأ في بيئة فقيرة، لم تتح له سوى الكفاح من أجل تأمين لقمة العيش ومحاربة المرض والشعور بأنه ينتمي الى سلالة إنسانية تتألم وتتوجع، كما شعر أنه صاحب رسالة إنسانية بشرية، بغية استنهاض عطف الإنسان لأخيه الإنسان.
أما بيروت ذات الجدران الرملية وسطوح القرميد وأشجار المانيوليا فعلّمته كيف يكون مثل هؤلاء الناس يتنفّس ندى وعطراً، احتضنته طفلاً ومراهقاً، وهي اليوم تحتضنه رساماً، يتقاسمان الخبز، المر والحلو، لذلك يرسم اليوم بيروت في وجوهها المتعددة تكريماً لعمر جميل جمعهما.
تثقيف الحواس والمخيّلة
تلقى الرسام حسن جوني علومه الإبتدائية في كتاب السيدة يسر دمشقية، ومن ثم في الكلية العاملية، حيث تعرّف هناك على أستاذيه الفنانين جان خليفة وناظم إيراني، وتخرّج منها حائزاً شهادة البكالوريا القسم الأول.
صديق يكبره سناً هو أمين سعد الملقب بـ«الأخضر العربي» عرّفه على الفنان رشيد وهبي الذي نصحه بالإنتساب الى الأكاديمية اللبنانية للفنون الجميلة (ALBA)، فنال سنة 1964 دبلوماًَ في الرسم والتصوير، أعقبته منحة من وزارة التربية الوطنية والفنون الجميلة قادته إلى مدريد - إسبانيا حيث أنجز سنة 1970 البكالوريا القسم الثاني. ليحصل من ثم على لقب أستاذ بالرسم والتصوير من الأكاديمية الملكية العليا المركزية للفنون الجميلة - سان فرنانديز مدريد.
بعد شهر على وجوده في مدريد، وجد حسن جوني نفسه في متحف البرادو أمام لوحة «حائكات النسيج» لفيلاسكيز الذي تأثر به كثيراً، تأمّلها وقال لنفسه: «لن أعود إلى لبنان إن لم أرسم بكفاءة فيلاسكيز». كان ذلك الوعد بداية رحلة طويلة في تثقيف الحواس والمخيّلة.
أعادت مدريد ترتيب أعصابه وحواسه، ونظّفت وجدانه وذهنه. والأهم أنها سحبته من منطقة العاطفة الى التأمل الفلسفي والإدراك العميق، وعلّمته أن اللوحة عمارة داخلية عميقة لا مساحات لونية فحسب. في مدريد اختلفت المعايير، أوقفته أمام حقيقة ذاته والأمور. فهو كان يعيش في لبنان في وهم جهنمي، رومانسي فوضوي، بينما الواقع هو سيّد الحياة في مدريد، التي تعلّم فيها أصول الرسم والتصوير وفلسفة علم الجمال وقراءة الواقع على ضوء المنطق الجدلي للتاريخ، كما اطلع على الشعر ومعطيات الوجدان وسلامة الرؤى وعدم الدخول في الفوضى الكونية كجزء مخرّب، بل كإنسان يناقض الفوضى ويسعى إلى إنقاذ زمان خرابها.
يعتبر الرسام جوني أن الفن رسالة مثل الدين، وليس عملاً غوغائياً فوضوياً، بل إنه يصوّب مداه نحو قيم الحق والخير والجمال ويقول: «داخل العقل قوى كامنة تدفع الإنسان للحدّ من حيوانيته الى إنسانيته، ومن ناسوته إلى لاهوته، بينما في الوجدان يعيش بشيء من الغرام والجنس والجنون المؤقت، في حين أن التعقل هو الدائم».
العمر لا يكفي لإنجاز لوحة
عقب إنهاء دراسته وتخرّجه العام 1970 عاد إلى لبنان، وبدأت مسيرة حسن جوني مرحلة تجريدية تجلّت في معرض استضافته صالة «دار الفن والأدب» التي كانت تديرها جانين ربيز، وحمل المعرض إسم «الصمت والمنفى» (1971). بعده تتالت المعارض الخاصة والبالغ عددها 25 معرضاً آخرها كان في صالة «غاليري ألوان» (2008)، بالإضافة إلى عشرات المعارض الجماعية داخل لبنان وخارجه (إسبانيا، ألمانيا، فرنسا، لندن، واشنطن، البرازيل، سويسرا، دبي، مصر وسوريا... ألخ).
بدأت نُذُر الحرب بالتجمع في سماء لبنان، وراح جوني يشتمّ رائحتها: «كنت أقول لزوجتي إنني أشمّ رائحة دم، وتحوّل ذلك إلى كوابيس تشكيلية قذفتني من التجريدية إلى التعبيرية المباشرة».
الإنعطافة الجديدة ظهرت في معرضين متتاليين العامين 1974 و1975 في غاليري Contact، ثم بدأت الحرب فعلاً، وانعطف جوني نحو تعبيرية أكثر حدّة تجلّت في ثلاثة معارض. الحرب هجّرته من بيروت إلى الجنوب، فاستسلم للطبيعة وصارت مساحات أعماله أكبر، لكن بتفاصيل وجزيئات أقل.
عاد إلى بيروت، وأنشأ في محلة رأس بيروت محترفه الخاص (1980)، الذي يمضي فيه نحو 12 ساعة من وقته يومياً. على الباب خطّ حسن جوني هذه العبارة «اختصر زيارتك، انه وقت عمل، العمر كله غير كافٍ لإنجاز لوحة»... نسأله عنها، فيقول: «أنا محكوم بزمن محدّد عليّ أن أترجم فيه كل التجارب الإجتماعية والذهنية والتعبيرية التي أعيشها وتتراكم في داخلي. الحسرة حاصلة لأن ذلك يتطلّب أعماراً عديدة لا عمراً واحداً».
انتسب كعضو الى جمعية الفنانين التشكيليين العام 1964، كما شغل منصب رئيس قسم الفنون الجميلة في معهد الفنون الجميلة - الجامعة اللبنانية طوال ثمانية عشر عاماً.
العام 1967 تزوج من السيدة نجاح درغام (مجازة في الأب العربي، وربة منزل)، ورزقا ثلاثة أولاد، هالة (مجازة بإدارة الأعمال، متزوجة)، مي (مجازة بالكومبيوتر، متزوجة) وعلي (مجاز بإدارة الأعمال، عازب).
قائد الأوركسترا
في مدريد تعلم كيف يكون مؤلفاً موسيقياً، وقائد أوركسترا، عازفوه وآلاته خطوط وألوان، تتكامل على سطح اللوحة لتشكّل سمفونية مرئية، كما تتداخل أصوات العازفين لتأدية سمفونية سمعية.
يركّز جوني في رسمه على الإنسان في حالاته النفسية كافة من ضياع وملل وحزن وكآبة وظلم وفرح وعشق...، لأنه محور هذا الكون وحامل تعقيداته وتقلباته ومآسيه، فهو الذي بنى لنفسه أقل مما بناه لغيره، ويعيش لسواه أكثر مما يعيش لنفسه.
جذبته المقاهي وثرثرات روّادها المخلوطة بدخان السجائر. لعل مرحلة المقاهي والمشاهد المدينية التي واظبت على الحضور في أعماله بين العامين 1983 و1986، أسهمت أكثر من غيرها في ترسيخ توقيعه، وخلق نبرته التشكيلية التي أفردت له مكاناً على حدة بين رسّامي جيله.
ما تزال المدينة مادة خصبة وحاضرة بكثافة في معارضه، وهي تحية إلى بيروت التي يحب رسم ماضيها أكثر من حاضرها. لماذا؟ يقول «إن بيروت الحالية شبيهة بامرأة أسيء إلى جمالها فبات مصطنعاً ومصبوغاً، وما نراه اليوم، هو بقايا جمالها السابق. هناك لعنة وتراجيديا تحكمان المدينة بمقدار ما هي محكومة باستثنائيتها وجمالها. الحروب والأزمات المتواصلة أطاحت طمأنينته حيال صورة المدينة المهددة دوماً: «اللوحة هي محاولة للقبض على المكان أو المشهد قبل تغيّره أو زواله». ثم يعترف: «الإبداع بحاجة إلى التأمل لا إلى الرعب. حين تشتد الأزمات أعود الى زقاق البلاط. أتأمل الأماكن والزوايا والروائح القديمة، باحثاً عن حسن جوني الطفل، وعن بيروت الطفلة».
عمل حسن جوني على نفسه كثيراً كي يصبح هو ولوحته شيئاً واحداً. ويقول إن على الرسام بتّ هوية لوحته مبكراً، ويرى أن العالمية تنطلق من المحلية، وأن الإبداع لا يتم بالنسخ بل بهضم التجارب الأخرى، وبتحويلها إلى إنجاز شخصي. لهذا لم تتسرب الموضة إلى أعماله. الحداثة بالنسبة إليه هي «الهوية والأصالة المتجذّرة في اللوحة، أي أن تحدث اللوحة رجّة حديثة في وعي المتلقي حتى لو كانت منجزة بعيداً عن الإثارات التي يدعى أنها حديثة».
يأسف جوني على حال الشبان الذين يركبون موجة الموضات السائدة، غافلين عن اكتساب هوية أصيلة، فضلاً عن نسخ بعض الرسامين لتجارب غربية معروفة، مشبهاً الأمر بالوباء: «الموجات السائدة تصيب الرسامين ذوي الموهبة المشبوهة مثلما تنتشر أنفلونزا الخنازير أو الطيور في الأجساد ذات المناعة الضعيفة».
حوار بين الرسام ولوحته
لا يحتاج زوّار معرض حسن جوني الى وقت طويل، كي يدركوا أنهم أمام رسام ذي نبرة تشكيلية خاصة.
لن تكون هناك مبالغة في القول إن المشاهد يستطيع العثور على «نبرة» حسن جوني في أية لوحة من زيتياته، حيث ثمة أسلوبية شديدة الإحتراف في وضع اللون على القماش، أو مزاج منفرد في تأليف عناصر اللوحة، أو مجرد قيمة معينة تتكرر، بلا إملال، في عمله... تشكيلية متنوعة... لكنها في النهاية تصنع مزيجاً يذكرنا به وينتمي إليه.
لنأخذ المشهد المديني كمثال حيوي في عمل حسن جوني. المقهى. سلوكيات رواد المقاهي، الطاولات والكراسي. الجريدة التي تحضر لكي تحصر معظم هؤلاء في خانة متعاطي الثقافة والشأن العام. إضافة إلى المقهى، نجد بشراً يستريحون على مقعد في كورنيش البحر، آخرين في الشارع محتمين من الشتاء بمظلات... المدينة وحياتها اليومية خيار أساسي في صنع نبرة اللوحة وتظهير خصوصيتها لدى حسن جوني. المدينة جزء من إيقاعه، إنها تمدّ مخيّلته بمواد ووضعيات واقتراحات جديدة.
حتى حين يذهب إلى الريف، يحاول جوني أن يلتقط حياة الناس هناك. الطبيعة تصطحب معها بشراً وبيوتاً وسقوف قرميد وحقولاً وحصّادين إلى لوحاته... الطبيعة هنا غير برية وغير متروكة لطبيعتها. إنها مخترقة بحيوات صغيرة تتناسب مع بيئتها. كأن حسن جوني يفتش في قلب الريف والطبيعة عن حركة البشر وتفاصيل عيشهم. كأن المتخيل المديني يعثر على نفسه هناك بطبعة ريفية مبسّطة.
ثمة سرّ ما في النوعية والخلطة، يجعل الألوان تبدو كأنها حديثة العهد على القماش. إنها تلمع وتجذب وتفيض بالإنفعال والبهجة. حسن جوني ملوّن حقيقي.
يمتاز بالثقة الكبيرة التي تجعل الحوار بين الرســام ولوحته، وبين لوحته ومشاهــدها، أمراً ممكناً وجذاباً في آن واحــد. تلك الثقة الناشئة من صداقة طويلة وحوار لا ينقطع مع اللون.
يوجّه الرسام اللبناني المخضرم حسن جوني صرخة احتجاج ثقافية ضد ما تخرّبــه السياسـة في لبنان، محذراً من أن نزع الرومانسية عن بيروت يجعلها مدينة للأشباح والخراب والإرهاب...
يعتبر جوني أن أعماله «هي صرخة إحتجاج ثقافة إبداعية على ما تخرّبه السياسة في لبنان... صرخة سلام لاستعادة بيروت الغاربة». ويقول:
«لوحاتي عن بيروت هي دفاع عن رومانسية بيروت وخوف عليها من الخراب فإذا نزعت عن المدينة رومانسيتها، تصبح مدينة للأشباح والخراب والإرهاب والموت المجاني».
ويبرز الرسام التباين بين أبنية بيروت في الخمسينيات حيث هي أبنية متلاصقة متراكمة منحنية بعضها على بعض وكأنها تعكس روح الجماعة المقيمة بداخلها، وبين العمارة الحديثة ذات الأبنية المتباعدة والنوافذ المغلقة.
ويقول جوني:
«عندما أرسم ذاك الزمن وكأني أحاول استعادة بيروت التي أحبها، لأني لم أستطع أن أستبقيها بالحجر والواقع، أحاول أن أستبقيها في اللوحة».
الجوائز والأوسمة
نال الرسام حسن جوني العديد من الجوائز والأوسمة وأبرزها الميدالية الذهبية الأولى للرسم، بينال الفنون الجميلة - اللاذقية العام 1997.
وتقديراً لفنه المميّز والراقي، دخل الرسام حسن جوني القاموس العالمي «بينيزيت» (BENEZIT) العام 2002 وأدرج إسمه بين الرسامين العالميين المبدعين. كما أن لوحاته معروضة في أهم متاحف العالم مثل المتحف الحديث في ساو باولو - البرازيل، صالة الفنانين في الكويت، المتحف العسكري في سوريا، متحف الفنون البلاستيكية في عمان - الأردن، ومتحف
سرسق في لبنان.