- En
- Fr
- عربي
قضايا إقليمية
لقد أعادت ثورة المعلومات والاتصالات صياغة عالمنا بما يفترض تشكيل عقلية جديدة للتعامل مع الواقع المستجد، فالعالم يعيش تغيرًا نوعيًا في جميع أوجه الحياة: في الاقتصاد والسياسة والثقافة والعلاقات الاجتماعية. وهذه التحولات فرضها زخم الثورة التكنولوجية في مجال المعلومات والاتصالات التي تتخذ طابعًا كونيًا حوّل العالم إلى قرية صغيرة. واللافت أنه ما أن ولج تاريخ الإنسانية الألفية الجديدة حتى بدأ التداخل بين وسائل الإعلام يأخذ منحى متسارعًا، وانتقل عصرنا إلى مرحلة الوسائط المتعددة التي لا يتوقف انشطارها. وقد صار عالمنا المترامي الأطراف بمثابة قرية مألوفة، لكن في الوقت نفسه فتحت جبهات للصراع لا تقل خطورة عن الصراعات العسكرية والاقتصادية والدبلوماسية، بل إنها تتفوق عليها في معظم الأحيان، لأنها تمسّ كل هذه المجالات، بعد أن أصبحت المعلومة وفاعلية الاتصال وسعة قنوات المعرفة، أسلحة جديدة يمكن أن تحسم النزاع لمصلحة من يجيدها ويسيطر عليها.
ثورة الاتصالات
أتاحت هذه الآفاق الجديدة المنبثقة عن ثورة الاتصالات والمعلومات نوعًا جديدًا وخطيرًا من أنواع التجسس هو التجسس الإلكتروني الذي أدركت إسرائيل كغيرها من الدول أهميته وسعت جاهدة للتفوق فيه. وقد أثبتت العقود الماضية أن مشروع الاحتلال الإسرائيلي لا يستهدف فلسطين وحدها، بل الأمة العربية كلّها، وجودًا وقيمًا وأعرافًا، ولذلك امتدت في السنوات الأخيرة أذرع المؤسسات الأمنية الإسرائيلية وشبكاتها التجسسية إلى أقصى حد ممكن في هذه الدول. وفي هذا السياق دفع الكشف عن عمليات التنصت الواسعة التي قامت بها وكالة الأمن القومي الأميركية على حلفاء للولايات المتحدة، معلقين وكتّابًا إسرائيليين، إلى تسليط الأضواء على الدور الذي تقوم به «الوحدة 8200» التي تعدّ ذراع التنصت الإسرائيلي الأساسي، ويقودها ضابط برتبة عميد. وكانت هذه الوحدة قد تأسست منذ عقود ضمن جهاز الاستخبارات العسكرية «أمان»، الذي يعتبر أكبر الأجهزة الاستخبارية الصهيونية، وكان من أهدافها المساهمة في تقديم رؤية استخبارية إلكترونية تتكامل مع المعلومات التي توفرها المصادر البشرية من العملاء على الأرض. وتعتمد الوحدة على ثلاثة أشكال من العمل الاستخباري وهي: الرصد والتنصت، التصوير، والتشويش. ويعتبر التنصت على أجهزة الاتصال السلكية واللاسلكية من المهمات الأساسية للوحدة. فالهواتف الأرضية والنقالة، وأجهزة اللاسلكي يتم التنصت عليها بشكل دائم.
اعتراض المكالمات الهاتفية
كان من أهم إنجازات هذه الوحدة التي حظيت بتغطية إعلامية كبيرة، اعتراض مكالمة هاتفية جرت بين الزعيم الراحل جمال عبد الناصر والملك الأردني الراحل حسين بن طلال في أول أيام حرب 1967. وكذلك اعتراض مكالمة هاتفية جرت بين ياسر عرفات ومسلحين تابعين لمنظمة جبهة التحرير الفلسطينية اختطفوا في العام 1985 سفينة الركاب الإيطالية أكيلي لاورو خلال ابحارها في مياه المتوسط. والأمر الذي يساعد الوحدة على أداء مهماتها بشكل تام في الساحة الفلسطينية في هذا المجال، هو أن السلطات الإسرائيلية هي التي أقامت شبكة الاتصالات في الضفة الغربية وقطاع غزة، وبالتالي فإن شبكة الاتصالات الفلسطينية ترتبط بشكل تلقائي بشبكة الاتصالات الصهيونية «بيزيك». كما أن شبكة الهاتف النقال الفلسطيني الوحيدة العاملة في الاراضي الفلسطينية والمعروفة باسم «جوال»، تعتمد أيضًا على إسرائيل في الكثير من خدماتها، فضلًا عن توقيعها على اتفاق مع شبكة «اورانج» الإسرائيلية للاتصالات. من ناحية أخرى تملك «الوحدة 8200»، في النقب أهم وأكبر قاعدة تجسس إلكترونية، تقوم بأعمال التنصت على البث الإذاعي والمكالمات الهاتفية والفاكس والبريد الإلكتروني في قارات آسيا وإفريقيا وأوروبا، بكل سهولة. ويؤكد المعلق العسكري الإسرائيلي في صحيفة «معاريف» عمير رابابورت أن الدور الذي تقوم به هذه الوحدة قد جعل من إسرائيل ثاني أكبر دولة في مجال التنصت في العالم، بعد الولايات المتحدة.
التقنيات الإلكترونية
يوضح الكاتب أن التقدم الهائل الذي حققته إسرائيل في مجال صناعة التقنيات الإلكترونية المتقدمة قد وظّف بشكل كبير في تطوير عمليات التنصت التي تقوم بها «الوحدة 8200» وتوسيعها، مشيرًا إلى دور بارز لشركات القطاع الخاص في رفدها باختراعات تعزز قدراتها التنصتيّة. وأشار رابابورت إلى أن الحواسيب المتطورة التابعة لهذه الوحدة قادرة على رصد الرسائل ذات القيمة الاستخباراتية من خلال معالجة ملايين الاتصالات ومليارات الكلمات. وفي السياق ذاته كشف تحقيق أعده المعلق العسكري يوآف ليمور في صحيفة «إسرائيل اليوم» النقاب عن أن تحولًا قد طرأ على عمل الوحدة منذ أن تفجرت ثورات ما سمي الربيع العربي. وأضاف أن «الوحدة 8200» باتت تهتم بمتابعة مواقع التواصل الاجتماعي التي يرتادها الشباب العربي لا سيما فيسبوك وتويتر، لبناء تصور بشأن التحولات الاجتماعية والسياسية والثقافية التي يمكن أن تطرأ في العالم العربي، حتى لا تتعرض إسرائيل في المستقبل للمفاجأة التي تعرضت لها مع تفجر الثورات العربية. ولفت ليمور إلى أن «الوحدة 8200» مسؤولة أيضًا عن قيادة الحرب الإلكترونية في الجيش الإسرائيلي، علاوة على قيامها بعمليات تصوير، كما أن الضباط والجنود العاملين في إطارها يتولون القيام بعمليات ميدانية خلال الحروب والعمليات العسكرية. وأوضح ليمور أن الوحدة تضم بين صفوفها ضباطًا وجنودًا يقومون بمرافقة قوات المشاة في أثناء العمليات العسكرية والحروب، حيث يتولون جمع المعلومات الاستخبارية التكتيكية من أرض المعركة. ليمور أشار أيضًا إلى أن الوحدة أدّت دورًا أساسيًا في الحرب الإلكترونية ضد المشروع النووي الإيراني، وأسهمت في تطوير فيروس «ستوكسنت»، الذي استهدف في العام 2009 المنظومات المحوسبة التي تتحكم في أجهزة الطرد المركزية المسؤولة عن تخصيب اليورانيوم في المنشآت النووية الإيرانية، ما أدى إلى تعطيلها. ودلت الوثائق الجديدة التي كشف عنها مخزن الأرشيف الرسمي الإسرائيلي بمناسبة مرور أربعين عامًا على حرب 1973، أن الوحدة كانت مسؤولة عما بات يعرف بـ«الوسائل الخاصة»، والتي تتضمن زرع أجهزة تنصت وتصوير في مكاتب ومرافق حيوية في عمق البلدان العربية، خصوصًا البلدان التي تكون في حالة عداء مع إسرائيل. و«الوحدة 8200» تعمل بشكل وثيق مع وحدة الاغتيالات والعمليات الخاصة «سييرت متكال» الأكثر نخبوية في قيادة الأركان الإسرائيلية والتي كان من أبرز قياداتها إيهود باراك ورئيس الحكومة الحالي نتنياهو.
الهواجس الإسرائيلية
إن هواجس إسرائيل وقلقها وخوفها على وجودها دفعت الدوائر السياسية والأمنية والفكرية فيها على الدوام لتأمين هذا الوجود، بمختلف الوسائل، التي من أبرزها حاليًا مجال المعلومات وصناعة الإلكترونيات وما يتعلق بهما من تجسس على دول الجوار. ويتفق معظم الخبراء على أن إسرائيل تحتل مرتبة متقدمة بين الدول المنتجة للتقنيات العسكرية والمعلوماتية، وخصوصًا الأمنية منها وذلك للأسباب الآتية:
1- الدعم الحكومي: تقدّم الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة مبالغ طائلة سنويًا لعمليات التطوير التقني لقطاع المعلومات، وتخصص 3% من ميزانيتها السنوية، للإنفاق على مجال تقنية المعلومات والبحث العلمي.
2- وجود مراكز علمية وجامعات ومعاهد تقنية متخصصة في المعلومات في إسرائيل تقوم بدور بارز في رعاية الطاقات البشرية المتفوقة في تقنية المعلومات.
3- تركيز القوات المسلحة الإسرائيلية على المعلومات الأمنية لفائدتها من حيث القيمة المعرفية في حماية الدولة، وعلى تكنولوجيا المعلومات التي توفّر لها الأمن والتجسس.
4- هجرة الكفاءات إلى إسرائيل، فمن أسباب التفوق الإسرائيلي في مجال التجسس الإلكتروني والمعلومات، أنها تعنى بالكفاءات العلمية المهاجرة إليها. وقد أدت هذه الهجرة إلى ارتفاع نسبة العلماء والمهندسين فيها، لتصل أواخر التسعينيات إلى رقم قياسي عالميًا هو 135 عالمًا أو مهندسًا لكل11 الف نسمة، وكان لهؤلاء دور بارز في تطوير الصناعة المعلوماتية.
5- اعتماد خطط مبتكرة لدعم المشاريع المعلوماتية وتفادي احتمالات الفشل، في ظل وجود عدد كبير من الشركات التي تعمل في تجارة الإنترنت. وللوصول إلى الأسواق العالمية، اختار المتخصصون الإسرائيليون في تقنية المعلومات أسلوبًا تجاريًا مبتكرًا، لدفع شركاتهم الصغيرة إلى السوق العالمية، يعتمد على تكوين تجمعات من كل الشركات الصغيرة، التي تمتلك أفكارًا، أو مشاريع معلوماتية مبتكرة، في مواسم محددة، ومشاركة هذه التجمعات في أجنحة مشتركة ضمن أكبر المعارض العالمية المتخصصة في تقنيات المعلومات، لعرض أفكارها على الشركات العالمية، وطرح فكرة رعاية المشاريع أو المشاركة في تمويلها. وقد أدى هذا الأسلوب إلى دخول معظم الشركات العالمية، العاملة في سوق تقنية المعلومات، إلى تجارة تقنية المعلومات الإسرائيلية، الأمر الذي يسهم في جلب الأموال الطائلة إلى إسرائيل ودفعها إلى مزيد من التفوق في مجال صناعة المعلومات وآليات التجسس.
إن السياسة الحالية لإسرائيل في ظل التمزق العربي وطموحها إلى الاطمئنان أكثر على واقعها الحالي ومستقبلها التوسعي، عوامل تدفعها للاستمرار في تأمين وجودها بكل ما تستطيع من طرق ووسائل سياسية واستراتيجية وتكنولوجية. وفي مقدمة هذه الطرق التجسس الإلكتروني الذي يتطور باستمرار ولا يبدو أنه سيقف عند حد معين، وهو سيبقى في المدى المنظور قاعدة عامة تقف عليها إسرائيل انطلاقًا من عدة مبررات أهمها، عدم استقرار الوضع الامني والسياسي في المنطقة ورغبة إسرائيل الملحة في أن تكون على متابعة مكثفة وحثيثة ودائمة لما يدور من حولها.