- En
- Fr
- عربي
المؤسسات الصغيرة والمتوسطة: أفكار للنهوض
تختلف التعاريف وتتناقض التفسيرات, احياناً, حول ماهية “المؤسسات الصغيرة والمتوسطة” وطبيعتها وتوزعها, لكن ثمة شبه توافق غالباً بين الدارسين على اهمية دور هذه المؤسسات ليس على المستوى الاقتصادي فحسب, بل على المستويات السياسية والاجتماعية العامة ايضاً. وقد استمرت هذه القناعة غالبة في السنوات الاخيرة على رغم تنامي منطق الوحدات الكبيرة في ظل نظام العولمة المفتوحة مع ما فرضه ذلك من اعادة نظر واسعة في مفاهيم العمل والانتاج والتوزيع في الاقتصاد العالمي.
وفي لبنان تنطوي هذه المسألة على مضامين متميزة. فالمفهوم مختلف والمشاكل والهواجس خاصة, اما الافكار المرتبطة باحتمالات (وحاجات) النهوض فهي, ايضاً, تنطلق من معطيات لبنانية محددة.
- اولاً: المفهوم, الحجم والدور
ثمة مفاهيم عدة, اذن, مختلفة واحياناً متعارضة, لتسمية “المؤسسات الصغيرة والمتوسطة, لكن كل المفاهيم اتفقت على الطبيعة “الصغيرة” و”المتوسطة” للمؤسسات مع الاشارة الى ان هذين التعبيرين يتحملان, هما ايضاً, احتمالات تفسير عدة.
1- في المفهوم
انطلق التناقض في تحديد مفهوم “المؤسسات الصغيرة والمتوسطة” من اختلاف المواقع التي تستند اليها المفاهيم. والمعروف ان ثمة مواقع عدة متداولة ابرزها ما يتصل بما يمكن ان يسمى “الاختصاص”, او ما يرتبط ببعض عناصر التحليل والتصنيف. وبكلام آخر فان التحديد القانوني للمؤسسات ليس بالضرورة, تحديد الاقتصادي او الاجتماعي او السياسي او الاداري, كما ان العوامل التي تستند اليها هذه كلها تختلف, بشكل جذري احياناً, عن العوامل التي تحكم طبيعة فهم وتحديد سواهم.
اما عناصر التحليل فيمكن ان يكون كل منها, نظرياً على الاقل, صالحاً. وهكذا فان هناك من يصنف المؤسسات, حجماً, بحسب رساميلها وموجوداتها, وهناك من يفضل عنصر عدد العمال, او من يختار كمية الانتاج, او حجم الاعمال, او من يميل الى طبيعة العلاقات القانونية والشخصية والادارية داخل المؤسسة الخ...([1]). وعلى رغم ان كل هذه العناصر, وبالتالي المفاهيم, موجودة جميعها في شتى المجتمعات فان دولاً عدة ركزت على تصنيف دون آخر فبرز, مثلاً, مؤشر الموجودات الثابتة(Immobilisations) في التحديد الايطالي والياباني والايرلندي, ومؤشر حجم الميزانية(Bilan) في التحديد البلجيكي, ومؤشر عناصر الانتاج, بعضها او كلها, في التحديد البريطاني([2]). واتجه التعريف المتداول على نطاق واسع فرنسياً والذي تبنته “الكونفيديرالية العامة للمؤسسات الصغيرة والمتوسطة” (CGPME) , الى اعتبار ان المؤسسات الصغيرة والمتوسطة “هي تلك التي يتولى فيها قادتها “شخصياً ومباشرة” المسؤوليات المالية والاجتماعية والتقنية والمعنوية مهما كانت الطبيعة القانونية للمؤسسة”. ويحلو لبعض مسؤولي الكونفيديرالية الفرنسية ان يفرقوا بين “رب العمل الاداري”(Patronat de management) الذي يتولى المسؤولية القيادية في مؤسسة كبرى يكون فيها بمثابة الموظف لا الشريك, و”رب العمل الفعلي”(Patronat réel) الذي يقوم, عادة, على رأس المؤسسة الصغيرة فيراهن بها, ومعها, بكل ماله ومعلوماته وعلاقاته ومستقبله, فاذا به, هو, المؤسسة([3]). من هنا نشأت ايضاً, وتطورت فكرة “المؤسسة العائلية” او المؤسسة ذات البعد الانساني حيث الموظفون اذا كان ثمة من موظفين هم من “اهل البيت” حتى ولو لم ينتموا سلالة نسبية الى عائلة صاحب المؤسسة.
وعلى رغم تعدد العناصر والاعتبارات, بل تعارضها احياناً, فان توجهاً ينمو منذ سنوات يدعو الى التركيز على عنصرين اثنين في تحديد المؤسسات الصغيرة والمتوسطة. العنصر الاول يتلخص في الدور القيادي المباشر لصاحب العمل في المؤسسة, والعنصر الثاني ينحصر في عدد العمال في هذه المؤسسة. لكن مسألة عدد العمال تختلف من دولة الى اخرى, اذ تكون المؤسسة “صغيرة”, مثلاً, عندما يقل عدد عمالها عن خمسين ومتوسطة عندما يقل عن خمسماية, وقد اخذت الدول الاوروبية الغربية بهذه الحدود او بما يقرب منها, لكن دولاً اخرى, ولا سيما منها الدول النامية, اخذت, عموماً, بأرقام اقل ارتفاعاً.
وفي لبنان لا حدود ثابتة لتصنيف المؤسسات, لكن ينظر عادة الى تلك الصغيرة على انها التي تضم اقل من خمسة عمال, والمتوسطة اقل من خمسين عاملاً. لكن ثمة مقاييس تعتمد, احياناً, مستوى عشرة عمال ومئة عامل. وفي كلا الحالتين يبقى حجم المؤسسات اللبنانية هو اياه تقريباً باعتبار ان هذه المؤسسات هي, في غالبيتها الساحقة, صغيرة جداً بل وفردية.
2 الحجم والتوزّع
تمثل المؤسسات الصغيرة والمتوسطة, من حيث عددها على الاقل, الشريحة الواسعة, واحياناً شبه الكاسحة, في شتى المجتمعات بما فيها تلك الصناعية المتطورة. وتؤلف المؤسسات الفردية او شبه الفردية القسم الاكبر من هذه المجموعة دائماً , كما الحال, على سبيل المثال في فرنسا.
اما في لبنان فان الاحصاء الرسمي الذي نفذته ادارة الاحصاء المركزي في 1996([4]) اشار الى وجود 198436 مؤسسة سنتذاك القسم الاكبر منها (88%) صغيرة جداً (اقل من خمسة عمال) كما يستدل من الجدول رقم 1 المرفق.
الجدول رقم 1
توزع المؤسسات اللبنانية (1996) حسب عدد العمال والمحافظات
٭ المصدر : ادارة الاحصاء المركزي, الاحصاء الشامل للسكان والمساكن, بيروت, 1997
وللتأكيد على وزن المؤسسات الصغيرة جداً يشير الاحصاء, ايضاً, الى ان 86.4% من المجموع العام مؤسسات فردية (171379) . وثمة 4.5% (8925 مؤسسة) شركات تضامن اوتوصية و3.3% (6641) شركات محدودة المسؤولية و1.1 % (2089) شركات مغفلة.
وتتوزع المؤسسات, بحسب الاحصاء نفسه, بشكل غير متناسق بين القطاعات, اذ ينتمي القسم الاكبر منها الى القطاع التجاري (48%) ولا سيما تجارة المفرق (41.8% من المجموع العام). وثمة 12.95% مؤسسات صناعية و7.58% مؤسسات زراعية (اضافة الى 0.44% لصيد السمك).
وتنتمي المؤسسات الاخرى الى القطاعات الخدماتية والادارية العامة المختلفة بما فيها الفنادق والمطاعم (5.13%) والتعليم (0.28%) والنقل والانشطة المساعدة (0.8%) والصحة والعمل الاجتماعي (4.21%) وخدمات الافراد (3.72%) والانشطة الترفيهية والثقافية والرياضية (1.07%)...
وقد حصل تغيير جدي في صورة المؤسسة اللبنانية منذ 1996 وحتى اليوم . وقد نشأ هذا التغيير عن عوامل ومعطيات عدة ابرزها اقفال ألوف بل عشرات الوف المؤسسات الصغيرة, في السنوات الاخيرة ونشوء او تحول العديد من المؤسسات الاخرى علماً ان “الميكرو مؤسسات” تتصف بحساسية مفرطة ازاء الازمات (الامنية, السياسية, الاقتصادية المختلفة) وتكون, غالباً, واقفة امام عتبة الاقفال حتى لدى تأسيسها, لأسباب تتصل بظروف قيامها وبطرق عملها. وفي هذا المجال قدّرت دراسة فرنسية رصينة([5]) ان مؤسسة صغيرة من كل اثنتين تغيب (نتيجة الاقفال النهائي او الدمج) بعد اقل من خمس سنوات على نشوئها, وقد انخفض متوسط عمر المؤسسات الصغيرة في فرنسا نفسها من نحو 25 سنة في 1960 الى 15 سنة في 1990.
وبالعودة الى لبنان , يمكن التكهن استنادا” الى معطيات متقاطعة ان عدد المؤسسات اللبنانية يبقى اليوم , وبالمقارنة مع 1996, هو اياه تقريباً او ربما زاد, فعلياً, بعض الشيء.
من هذه المعطيات تقديرات وردت في دراسة اعدت في اطار لجنة القضايا الاقتصادية في المجلس الاقتصادي والاجتماعي([6]), ومنها, ايضاً, استنتاجات مختلفة من خلال دراسة “العمالة والهجرة”, التي اعدت في اطار جامعة القديس يوسف([7]), وقد ورد فيها, خصوصاً, ان نحو 87 الف ناشط فقدوا وظائفهم في السنوات الاخيرة, وقد ارتفع عدد العاطلين عن العمل الى نحو 160 الف ناشط (11.5%). ومن المعطيات ايضاً تلك الناشئة عن نشاط ملحوظ قامت به مؤسسات داعمة مختلفة, دولية ومحلية (منظمات امم متحدة, منظمات غير حكومية او حكومية مختلفة ,” كفالات “ ...) وأدت الى قيام مؤسسات عديدة (فردية, نظامية او غير نظامية, او كبرى مختلفة)([8]).
واستناداً الى كل هذه المعطيات, وسواها, يمكن الافتراض انه, منذ 1996 وحتى اليوم, سقطت بفعل الافلاس او الدمج او الهجرة او سوى ذلك, كتلة من المؤسسات, ونشأت, بفعل الدعم المختلف والتسهيلات, وبفعل محاولة الانطلاق, كتلة اخرى مشابهة او اهم بقليل. ويقدر حجم هذه الكتلة, او تلك, بما بين 60 و80 الف مؤسسة. ويعود الفارق في التقدير الى عدة اعتبارات منها غياب الاحصاءات الرسمية او الدقيقة والدور الكبير للمؤسسات غير النظامية والهامشية وهي مؤسسات تتحرك بسرعة ملحوظة([9]) نشوءاً وحركة وإقفالاً, والى بعض المفاهيم المختلفة في تحديد وفهم (واحصاء) المؤسسات. وتلتقي هذه الاعتبارات مع حدود معطيات الدراسة التي اعدت في اطار المجلس الاقتصادي, والتي قدرت عدد المؤسسات الصغيرة والمتوسطة في آخر 2002 بنحو 165785 مؤسسة([10]). وعلى رغم الفارق الذي يمكن ان يبدو مع نتائج احصاء 1996 (نحو 198 الف مؤسسة) فإن التقديرين قريبين باعتبار ان دراسة المجلس الاقتصادي استثنت عيادات الاطباء ومكاتب المحامين والمؤسسات الكبرى والادارات العامة ومكاتب الهيئات الدولية وقطاعات تفصيلية وردت في احصاء 1996 ومنها, مثلاً, صيادي الاسماك. وتبقى النتيجة, عموماً, قريبة بعض الشيء: كتلة متغيرة سلباً (اقفالاً او دمجاً) او ايجاباً (خلق مؤسسات جديدة) تتراوح بين 60 و80 الف وحدة في كل اتجاه مع ميل الى التحسن في العدد النهائي ربما بلغ نحو 10- 15 الف مؤسسة.
وتوزعت المؤسسات, بحسب عدد العمال, وحسب دراسة المجلس الاقتصادي كالآتي:
الجدول رقم 2
توزع المؤسسات الصغيرة والمتوسطة في 2002
٭ المصدر : المجلس الاقتصادي والاجتماعي , “المؤسسات الصغيرة والمتوسطة بين الواقع
والتطلعات “, بيروت 2002.
وينتمي القسم الاكبر من هذه المؤسسات الى القطاع التجاري (100708 مؤسسات او 60.7% من المجموع), ويتوزع الباقي على الصناعة (25095 او 15.1%), وخدمات الافراد (12205 او 7.4%) ,والسياحة والفنادق والمطاعم (7719 او 4.7%), والزراعة (6799 او 4.1%), والصحة والتأمين (4364 او 2.6%), والبناء والعقارات (3817 او 2.3%) وسواها من القطاعات (5024 او 3%).
واللافت, بحسب هذا الاحصاء, ان القسم الاكبر من المؤسسات الصغيرة والمتوسطة (75750 او 45.69% من عدد المؤسسات الحالية) حديث السن وهو نشأ بين 1997 و2002([11]) بما يعكس, مرة اخرى, حركة المؤسسات الصغيرة, سلباً وايجاباً, على مر السنوات وفي العقد الاخير تحديداً. وثمة 3.61% فقط من المؤسسات (5982 مؤسسة) بدأت الانتاج قبل 1970, و 7.35% (12178 مؤسسة) بين 1971 و1980 و 18.96% (31438 مؤسسة) بين 1991 و1996.
اما على المستوى القانوني فان الغالبية الساحقة من المؤسسات هي مؤسسات فردية (86.6% او 143562 مؤسسة) او شبه فردية كمؤسسة التضامن (11051 مؤسسة او 6.67% من المجموع) او مؤسسات التوصية البسيطة (2296 او 1.38%). وقلة من المؤسسات هي شركات محدودة المسؤولية ( 6773 او 4.09%) او مغفلة (1097 او 0.66%).
ويقدر عدد العاملين في هذه المؤسسات بمن فيهم اصحاب العمل بنحو 650 الف عامل (408489 اجراء) اي ما يمثل نحو 5560% من قوة العمل, لكن دور هذه المؤسسات في الناتج القومي يبقى محدوداً (نحو 40%) اذ قدرت القيم المضافة في هذه المؤسسات بنحو 6.7 مليارات دولار فقط, وقدرت الاعباء الاجرية لديها بنحو 1.88 مليار وحجم الانتاج ب16.24 ملياراً([12]).
وتعكس هذه المعطيات مجموعة من العناصر المترابطة حيناً والمتناقضة حيناً آخر. فمن جهة ثمة غير اشارة, لجهة الحجم والعدد على الاقل, للدور الذي يمكن ان تؤديه المؤسسات الصغيرة والمتوسطة على المستوى الاقتصادي والاجتماعي الوطني, ومن جهة اخرى ثمة غير اشارة بل اشارات الى الهزال القانوني والاداري والانتاجي لهذه المؤسسات, بما يقلل من دورها ويعرقل من احتمالات النهوض بها.
ويمكن ان تتبين هذه العناصر من خلال مراجعة الملفات والمشاكل التي تواجه هذه المؤسسات والتي تعوق نموها وتطورها.
ثانياً: الملفات والمشاكل
تضج حالة المؤسسات الصغيرة والمتوسطة بكم هائل من الملفات والقضايا والمشاكل, لكن ابرز هذه القضايا والمشاكل يظل يندرج تحت ثلاثة عناوين رئيسية هي هذه العامة او تلك المتعلقة بشؤون الانتاج او التصريف.
1 - ملفات عامة
على رغم كونها عامة, غير مباشرة, وغير محددة, عادة, فإن القضايا والملفات العامة تشكل ضغطاً قوياً على مشروع المؤسسة الصغيرة والمتوسطة منذ قيامه وحتى تصفيته.
ويحلو لبعض المسؤولين في المؤسسات, ولا سيما منها المؤسسات الصناعية, ان يحدد المشكلة العامة الاولى بما يسمى مشكلة الثقة او مشكلة القناعة. وقد ردد بعض هؤلاء مراراً ان هذه المشكلة تتلخص بعدم ثقة المسؤولين في الادارة العامة بجدوى هذه المؤسسات, وهي مشكلة تنسحب تصرفات غير داعمة أو, حتى, مؤذية لها([13]).
وفي مقابل “عدم القناعة” العامة يتصرف اصحاب المؤسسات الفردية, خصوصاً, وبنسبة كبيرة, بقدر واسع من الارتجال والخفة. فمؤسستهم غالباً ما تكون ردة فعل (من ترك وظيفة, او من ضعف اجر, او من نجاح نسبي لقريب او صديق ) اكثر منها فعل عقلاني, او تكون محطة انتظار اكثر منها نظرة سليمة الى واقع السوق ومستقبله, او تكون طريقاً الى انفاق المال المتجمع من سفر او تعويض اكثر منها حسن توظيف واستغلال لهذا المال في وقت لا يكون التعامل مع المصارف امراً مرغوباً به او سهلاً او جذاباً لدى صغار المتعاملين.
والواضح ان هذه النماذج من التصرفات الفردية وسواها الكثير تقف غالباً وراء نشأة المؤسسات الفردية كما تقف وراء انهيارها لاحقاً. وواضح, تحديداً, ان غالبية المؤسسات الفردية (وبالتالي الغالبية الساحقة من المؤسسات الصغيرة والمتوسطة) نشأت بعد ازمة عمل (بطالة...) او بعد حالة أمنية او سياسية او اقتصادية محددة (تهجير, هجرة, انتقال, عودة من سفر...), كما ان هذه المؤسسات غالباً ما قامت بسرعة وبدون ملف مكتمل بدليل ان قسماً كبيراً منها بقي, حتى الآن, هامشياً غير منتظم.
ومرة بعد, فان شكل التأسيس هذا يحمل في طياته غالباً بذور الفشل لاحقاً مما يفسر انهيار العديد من المؤسسات الصغيرة بعد وقت قصير على قيامها.
ومن الاسباب الاخرى وربما الرئيسية للهزال, وبالتالي الفشل, الارتفاع الكبير, غير المبرر, بل القياسي لعدد المؤسسات في لبنان الى عدد السكان. وفي مقارنة بسيطة يتبين ان الاسر اللبنانية مدعوة الى التعامل مع (وخدمة) عدد متزايد من المؤسسات وبمعدل 4 أسر, تقريباً, للمؤسسة الواحدة وهو معدل قليل جداً, وغير كاف, لضمان استمرار المؤسسات ونموها.
وتنعكس الفردية, ايضاً, قدراً كبيراً من الارتجال, واحياناً, قدراً من عدم الأهلية والكفاءة, وهي ظاهرة تتعمق عندما يكون صاحب المؤسسة, ومديرها, مدعواً الى القيام بكل الاعمال بدءاً بالنشاطات المباشرة اليدوية الى تلك الفكرية والمالية والفنية مروراً بالتعامل مع الاسواق والموردين والزبائن.
لكن هذه الصورة تحمل, في الوقت نفسه, ايجابيات. فاذا كانت المؤسسات الصغيرة “متروكة” لامرها, رسمياً وادارياً, فانها ترتاح, احياناً, الى هذه الحال فتتحرك بحرية, دون ضغوط ضريبية او ادارية اخرى مختلفة, كما انها, في ظل الممارسة غير الوظيفية الصارمة, تشتغل دون الخضوع لمنطق الاجر والتقديمات والدوام. وتساعدها صورتها العائلية او الفردية على “الالتزام المطلق” بضرورات استمرارها فيقدم العاملون فيها كل جهد ممكن, بمرونة كاملة, لضمان نمو هذه المؤسسة.
واذا كانت هذه الصورة الاخيرة تمثل عنصراً ايجابياً في حياة المؤسسة الصغيرة, فان فعاليتها تبقى, عموماً, محدودة امام المشاكل الرصينة والجدية ومنها, مثلاً, المشاكل العائدة للانتاج بكل مقوماته.
2 - مشاكل الانتاج
ينظر الى مشاكل الانتاج, عموماً, على انها, مع مشاكل التسويق والاطار العام, احدى ثلاث عائلات رئيسية ضاغطة على نشاط المؤسسات الصغيرة والمتوسطة. وتبرز في طليعة مشاكل الانتاج تلك المرتبطة باكلاف عناصر الانتاج ولا سيما منها كلفة الرأسمال.
وعلى رغم ان الموجودات الثابتة للمؤسسات الصغيرة والمتوسطة تعتمد, اساساً, وفي الجزء الاكبر منها في اسوأ الحالات, على الامكانات الفردية لصاحب المؤسسة, فإن هذه المؤسسات راحت تلجأ وبشكل متزايد مؤخراً, وبفعل ضغوط الازمة الاقتصادية الاجتماعية, او بفعل الحاجة الى التطور والتحديث, او سوى ذلك, الى مصادر تمويل خارجية. وقد ادى ذلك, في ظل ارتفاع كلفة المال, وفي ظل اشتداد الضغوط الاقتصادية المختلفة, الى ارتفاع حاد في ديون المؤسسات وهي مسألة ضاعفت من الاخطار والتهديدات عليها.
وقدرت الدراسة التي وضعت مؤخراً في اطار جهد المجلس الاقتصادي والاجتماعي ([14]) ان تكون ديون المؤسسات بنهاية العام 2002 الماضي في حدود 5.56 مليار دولار منها 3.176 مليارات للمصارف والمؤسسات المالية و2.385 مليار للموردين.
وقد ارتفع حجم الديون بسرعة خلال السنوات الاخيرة إنما بشكل محتمل نظرياً لعدة اسباب منها ان نسبة هذه الديون الى الموجودات الثابتة (13.6 مليار دولار) تظل, على رغم نمو سريع وخطر , في دائرة السيطرة المبدئية اذ تمثل نحو 40.8% , ومنها ان المؤسسات ما زالت تحدث آلاتها وثمة حاجة كبرى الى عملية تحديث واسعة ? ويفترض ان قسماً كبيراً من التمويل الخارجي (والديون) ذهبت الى هذه العملية. وقدرت قيمة التجهيزات التي اشترتها المؤسسات عام 2001 فقط بنحو 682.1 مليون دولار او ما يمثل, ولعام واحد, 12.3% من حجم الديون المحققة.
ومن الاسباب ايضاً ان للمؤسسات ديوناً واسعة ايضاً في السوق. وتقدر تلك الديون بنحو 2.59 مليارات دولار منها 2.016 مليارات على الزبائن ونحو 564 مليون دولار على الدولة. بحيث ان الديون الصافية تبلغ, بذلك, ونظرياً, 3.44 مليار دولار علماً ان جزءاً غير يسير مبدئياً من ديون المؤسسات هي على مؤسسات اخرى ويأتي احتساب النتيجة, بالتالي, متضمناً عمليات مكررة.
واذا كان حجم الدين لم يبلغ, حتى الآن, درجة الخطر الفعلي نظرياً مجدداً فان المؤسسات تستعد فعلاً, للوقوف امام هذا الخطر قريباً. ويضاعف في ضغط هذا الاحتمال ثلاثة امور مترابطة ينطوي كل منها على حرج كبير, وبالتالي على انعكاسات سلبية واسعة. الامر الاول هو ما راح يسمى “فخ السيولة”(Trappe de Liquidité) , وقد تناولته ادبيات اقتصادية عدة, بعضها اصلاحي, في مراحل الحدة والركود والازمات في القرن الماضي خصوصاً([15]). وملخص القضية هو هذا الاثر السيئ لانحباس السيولة ومضاعفاته على حركة النشاط. هذه المسألة الخطرة تظهر بشكل حاد في اقتصاد المؤسسات اللبنانية اليوم حيث السيولة, المحاصرة اساساً من القطاع العام, والمضغوطة باستمرار, لا تجد منفذاً الى آلة الانتاج في المؤسسات, وحيث يؤدي انحباس الدين في مكان ما الى عرقلة مضاعفة, وديون, في مكان آخر, داخل المؤسسات, وبحيث يتحول كل قرش (محبوس) الى قروش وحيث تتراكم مشكلة الديون, في حلقة مفرغة, لا تجد بداية لحلها.
اما الامر الثاني فهو هذه السرعة القياسية في نمو الدين, ولعل خطورة الدين هي مرة أخرى أيضاً في سرعة نموه, وانعكاساته, وليس في حجمه وطبيعته. واذا صح هذا المنطق فان ثمة حاجة الى ملاقاة هذه المسألة باقصى التأهب لان وتيرة ارتفاع الدين يمكن, منطقياً, ان تمضي ارتفاعاً وتفتح الباب على احتمالات سلبية, اقلها حالات الافلاس الواسع.
اما الامر الثالث فهو معدلات الفوائد المدينة المفرطة في الارتفاع. ويقدر ان يكون متوسط الفائدة للمؤسسات على التسليفات بالدولار قد بلغ في نهاية العام الماضي نحو 13.7% اي ما يزيد نحو 60% عن المردود الوسطي للاستثمار في قسم كبير من المشاريع الصغيرة([16]). ويزيد من هذه المستويات هوامش الربح والكلفة العالية على الفوائد في المصارف والتي تبلغ, لدى احتساب هامش الفائدة بين دائنة ومدينة, مستوى قياسياً عالمياً, اضافة الى استمرار تصنيف لبنان (ومؤسساته) في درجة عالية من الخطورة([17]).
وعلى رغم قساوة مستويات الفائدة في اجهزة الإقراض الكلاسيكية (المصارف ...), فان امكانيات التسليف من هذه الاجهزة غير سهلة دائماً على رغم نجاح ولو جزئي لتجربة “كفالات” في هذا المجال, علماً ان جهاز تدوير الاموال (المصارف) في لبنان ليس معداً, اساساً, لمثل هذه الوظيفة المحددة. ويزيد في الحرج ان المؤسسات الاخرى, الدولية, المحلية, الاهلية وغير الاهلية, المفترضة داعمة للمشاريع الصغيرة, “ولا تبغي الربح”, نظرياً, تطلب غالباً, فوائد عالية جداً, بل أعلى من فوائد المصارف وقد تصل أحياناً كفائدة فعلية الى اكثر من مئة بالمئة سنوياً, إضافة الى ان شروط الاقراض من هذه المؤسسات مجحفة او صعبة عموماً([18]).
ولا تقف مشاكل الانتاج عند قضية الفوائد والديون التي تبقى, على رغم اهميتها, جزءاً من كل. ويشمل الكل, ايضاً, سائر عناصر الانتاج بما فيها الارض والتقنيات والطاقة واليد العاملة وسواها.
وتشغل المؤسسات الصغيرة, في قسم كبير منها, اماكن غير مكلفة. فمبانيها اما ملك (48.18% في تقديرات 2002) واما ايجار (37.39%) جزء منه قديم اي بكلفة بسيطة , اما الجديد فلا تناسب كلفته المؤسسات مما يعجّل في اقفالها. لكن الاماكن المشغولة لا تكون في كثير من الحالات مجهزة تماماً ومناسبة وثمة مؤسسات عديدة, خصوصاً منها تلك الهامشية, ما زالت تعمل “ضمن البيت” او في جزء مكمل له.
اما الطاقة فتمثل حجر عثرة اضافية امام المؤسسات, لكن هذه المشكلة تبدو محدودة في المؤسسات الفردية الصغيرة حيث الكهرباء “مجانية” احياناً بالمقارنة مع المؤسسات المتوسطة لا سيما منها المفرطة في استهلاك الطاقة كبعض الصناعات والمؤسسات السياحية وسواها . وفي هذه الحال تصبح الطاقة مشكلة اولى خصوصاً ان اسعارها في لبنان , وتحديداً الكهرباء , مرتفعة بالمقياس الاقليمي والعالمي([19]).
اما اليد العاملة فمسألة معقدة. فمن جهة تبقى الاجور المدفوعة للعمال (ومداخيل اصحاب المؤسسات) محدودة جداً وقريبة من الحدود الدنيا, ثم لا تعويضات اضافية غالباً, ومن جهة ثانية فإن الكفاءات المتوافرة في هذه المؤسسات متدنية واحياناً معدومة, والتدريب شبه رمزي, اذا توافر, ومقتصر على محاولات محلية. وتقدر الاعباء الاجرية للأجير الواحد في مجموع المؤسسات الصغيرة والمتوسطة بنحو 388 دولاراً شهرياً, وتنخفض هذه الاعباء بقوة في المؤسسات الفردية الصغيرة, وتتحسن, حتى 450 دولاراً في المؤسسات الوسطى التي توفر ضمانات دنيا .
واما الآلات فتتآكل على رغم محاولات تحديثها وتطويرها, وكانت تقديرات الاحصاء الصناعي الشامل([20]) قد اشارت, منذ نهاية العقد الماضي, الى ما يشبه الاستهلاك الشامل للمعدات.
ويؤدي كل ذلك الى تراجع حاد في انتاجية العمل وهو تراجع يبلغ حدود “ضرورة الاقفال” لدى المؤسسات الفردية الصغيرة. وقدرت دراسة المجلس الاقتصادي مؤخراً ان يبلغ متوسط الانتاج للعامل الواحد سنوياً في عينة المؤسسات الصغيرة والمتوسطة نحو 24.7 الف دولار, بينما تبلغ القيمة المضافة للعامل الواحد, سنوياً ايضا, نحو 10.2 الاف دولار كمتوسط. وينخفض هذا المتوسط الى 5.4 الاف دولار للعامل في المؤسسات الصغرى (1- 4 عمال) ويرتفع الى 18.5 الف دولار في المؤسسات المؤلفة من 50 عاملاً ويزيد. وكان متوسط انتاج العامل (الانتاج الوسطي) في المؤسسات الصناعية قد بلغ 34.6 الف دولار في 1998 ووصل هذا المعدل الى 61.8 الف دولار في المؤسسات الكبرى نسبياً, اي المؤلفة من 100 عامل ويزيد.
وتعكس هذه الحقيقة وقائع عدة لافتة اقلها الانخفاض الحاد في انتاجية المؤسسات الصغرى, وبالتالي ارتفاع كلفة الانتاج والتهديد المضاعف لاستمرار هذه المؤسسات. وتجد هذه الحقيقة ترجمة اضافية لها في مشاكل التسويق.
3 - مشاكل التسويق
رأت غالبية المؤسسات التي جرى استفتاؤها في اطار دراسة المجلس الاقتصادي والاجتماعي (60.1 % من المجموع) ان مشكلة اسواق التصريف هي اولى المشاكل التي تعترض عملها وتطورها ونموها([21]). وتتقدم هذه المشكلة, بذلك, وبفارق كبير, عن سواها من المتاعب بما فيها, الهاجس الاكبر اي مستوى الفوائد المدينة (3,8% من المؤسسات) وتحديث الآلات (6.21% من المؤسسات) واسعار الطاقة (4.72%).
وبخلاف قضية التمويل التي راحت تأخذ اهتماماً ومحاولات علاج على غير مستوى محلي ودولي, فإن قضية التسويق لم تلق, حتى الآن, اهتماماً ملحوظاً حتى ان المنظمات الدولية والادارات والهيئات التي عملت, حتى الآن, بشكل او بآخر, على توفير دعم, محدود مالياً او ادارياً للمؤسسات لم تلتفت, بشكل يذكر, الى موضوع التسويق. كذلك فإن اصحاب المؤسسات انفسهم لم يعتبروا ان ثمة طرقاً, علمية وتنظيمية وفنية, اضافة الى الوسائل “السياسية” والعامة, يجب سلوكها للتصدي لهذه المشكلة فبقيت, بالتالي, معلقة بل زادت تفاقماً.
وتنبع هذه المشكلة من مجموعة عناصر ابرزها:
أ- المستوى العالي نسبياً لاسعار المنتجات اللبنانية الناشئ عن كلفة انتاج مرتفعة وعن هامش ربح مبالغ به وعن غياب اي برامج دعم للتصدير او للانتاج. ويمكن ان تكون هذه القضية “الحشرة السوداء” الرئيسية للعديد من الملفات الاقتصادية والاجتماعية خصوصاً ان لبنان يطمح لأن يعود فيلعب دوراً متميزاً على المستوى الأقليمي.
ب- عدم تطوير الاتفاقات التجارية الخارجية بشكل عام, بل بقاء العديد من الاتفاقات على حالها القديمة وعدم توقيع اتفاقات جديدة باستثناء قلة, وبروز ثغرات عديدة في القسم الاكبر من الاتفاقات التي تم توقيعها مؤخراً .وتصح هذه الصورة في شكل عام على غالبية - وربما كل - الاتفاقات التي جرى توقيعها, بصورة قديمة او جديدة, مع الاسواق العربية, كما مع بعض الدول الاجنبية, لكن الاتفاق مع الاتحاد الاوروبي يمكن ان يكون قد خرج عن هذا الخط دون ان يعالج, حتماً, كل حاجات المنتج اللبناني لاسباب واعتبارات مختلفة. وباختصار فإن خريطة الصادرات اللبنانية مهزوزة, قديمة, وغير مناسبة. وتتفاقم هذه المشكلة, لدى التطبيق, بممارسات وعراقيل ادارية عديدة ومشينة, وبصعوبات على ارض الواقع, وعلى ابواب التصدير, لا تجد من يتصدى لها على رغم تكرارها واستفحالها.
ج- غياب او شبه غياب لأي برامج رسمية في هذا الاتجاه ليس فقط على مستوى دعم الاسعار, بل ايضاً في مجال البحث عن اسواق او زبائن. ويقتصر الامر عموماً على محاولات تبقى احتفالية او محدودة. ولا يغطي الجهد الملحوظ الذي تقوم به بعض هيئات القطاع الخاص لتنظيم معارض او سوى ذلك, النقص الكبير في هذا المجال.
د غياب او شبه غياب لثقافة التسويق, عموماً, لدى غالبية المنتجين اللبنانيين, وعدم التزام القسم الأكبر من هؤلاء بمعايير الجودة العالمية. ويزداد ضغط هذه المشكلة عندما يدعى المصدر اللبناني للتعامل مع اسواق, كأوروبا مثلاً, باتت تفرض, بالضرورة الحتمية, عناصر انتاجية فنية وادارية و(بيئية) محددة لقبول السلع الاجنبية فيها. وعلى رغم الخطوة الايجابية لتغيير هذه الصورة في اطار برنامج دعم الصادرات الزراعية مع “ايدال” مؤخراً (وهو برنامج ما زالت بعض خطواته دون متابعة لازمة) فإن المشكلة مستمرة خصوصاً ان عديد المؤسسات الملتزمة اصول منظمة المعايير الدولية(I S O) او الباحثة عن التعامل معها ما زال محدوداً جداً او بالاحرى رمزياً.
هـ استمرار ضغط عناصر عدة مرتبطة بطبيعة تكوين وعمل المؤسسات الصغيرة اللبنانية, ومنها عدم قدرة رب العمل الفرد, المنتج المباشر شبه الوحيد, العامل المدير, على التعامل مع ملفات وقضايا واسواق ورجال بعيدين, كذلك ضعف الرؤيا التسويقية لاعتبارات مادية وفنية مختلفة.
وباختصار, فإن مشكلة التسويق تبقى ماثلة, وضاغطة, بقوة على رغم مؤشرات اخذت تظهر في السنوات الاخيرة على مستوى بعض هيئات القطاع الخاص, او على مستوى مؤسسات متوسطة وكبيرة (خلق او تطوير اقسام التسويق, والاشتراك الجدي في معارض ومؤتمرات جزء منها) او, حتى على مستوى القطاع العام. وثابت ان بعض عناصر هذه المشكلة تقف في صلب اي مشروع اصلاحي واي افكار شاملة للنهوض.
- ثالثاً : افكار للنهوض
ان “عالم المشاكل” الضاغط على المؤسسات الصغيرة والمتوسطة يفرض, بالضرورة, خصوصاً في ظل الارتباط الشديد للمجتمع اللبناني اقتصادياً واجتماعياً بهذه المؤسسات, عملاً عاجلا للنهوض بها. لكن الثابت ان اي افكار للنهوض لا تستوي ولا تؤدي الى نتائج ايجابية حاسمة اذا كانت جزئية واذا لم تندرج, بالتالي, في مشروع عام شامل للإنقاذ.
وثابت, ايضاً, ان المشروع المطلوب متشعب العناصر, لكن ابوابه الرئيسة يمكن ان تندرج تحت عناوين اساسية ابرزها ما يتصل بالاطار المؤسسي العام او بالشروط المباشرة.
1 - الاطار المؤسسي العام
يقصد بالاطار المؤسسي العام عادة ذلك الهيكل المؤسسي الرسمي او الخاص , العام او العمومي(collectif) , الماكرو اقتصادي اجتماعي المؤثر, بشكل غير مباشر اساسا” او بشكل مباشر, على عمل المؤسسات([22]).
ومن ابرز الافكار في هذا الاتجاه:
أ- على المستوى الرسمي:
- سيكولوجية سلطة رسمية تقتنع وتؤمن بجدوى المؤسسات الصغيرة والمتوسطة, وبضرورة دعم هذه المؤسسات قبل الانطلاق في رسم وتنفيذ برنامج النهوض. والواضح ان هذه الخطوة شرط ضروري, لا بد منه, لنجاح اي سياسة, دونه لا تستقيم السياسات وبه ومعه يسهل تنفيذ اي برنامج([23]).
- سياسات اقتصادية عامة ومالية ونقدية واجتماعية داعمة تفترض, بين ما تفترض, تسهيل وتكبير معدلات النمو بدءاً بانطلاق حل جدي وجذري لكارثة الدين العام وانعكاساته السلبية اقتصادياً ومعيشياً ومروراً بازالة العراقيل امام الانتاج الوطني وتأهيل البنية التحتية وعقلنة بل خفض اكلاف, وبالتالي اسعار, العديد من الخدمات العامة, (بدءاً بالطاقة, كهرباء وسواها, مروراً بالاتصالات, ووصولاً الى النقل) واعتماد سياسة ضريبية محفزة للمنشآت الصغيرة والمتوسطة وسياسات نقدية تؤمن (لا بد ان تؤمن) ان الهدف (والشرط) الرئيسي للاستقرار والنمو هو هذا الشرط (والهدف) الانتاجي, وتعمل على عدم خنق السيولة فتمضي بعيداً في رعاية عمليات التسليف المنتجة, وخطوات قانونية وتشريعية تعيد النظر بقوانين قديمة او مجحفةلا سيما قوانين المؤسسات, وسياسات اجتماعية ضامنة لحد ادنى من سلامة التوزيع واعادة اطلاق الطلب الاستهلاكي المكبوت.
ويفترض ايضاً توفير الشروط العامة لدفع المؤسسات, وممثليها, في اتجاه بناء اطار ايجابي لتنشيط الانتاج. من هذه الشروط خلق البنية المناسبة لبناء التجمعات الانتاجية المكملة لبعضها او المنسجمة(clusters) وخلق المناطق المناسبة في هذا الاتجاه كما حال silicon valley للإلكترونيات في الولايات المتحدة الاميركية ومثيلاتها المتكاثرة في دول عدة. كما يفترض توفير الاطار الضريبي لاعادة تقييم الموجودات ودمج المؤسسات وتسريع الاستهلاكات, وانتقال المؤسسات الى القطاع النظامي او تحولها الى شركات رصينة, وتنظيم شراء صكوك المديونيات وتنظيم المحاسبات...
- ب : على المستوى العمومي والخاص
- خلق جهاز تمثيلي, على شكل اتحاد, او تعاونيات ربما, ينطق باسم هذه المؤسسات ويعبر عن مصالحها ويدافع عنها.
- تنفيذ المشروع الملح لدمج المؤسسات الراغبة, وتوفير حوافز عدة في هذا الاتجاه. ويمكن مثلاً, تصور انشاء صندوق لتمويل مشاريع الدمج بفوائد مخفضة وربما انشاء شركة قابضة, يمكن ان تكون مختلطة بين القطاعين العام والخاص, وربما ايضاً بمساعدة ومشاركة اجنبية, اوروبية مثلاً, تساعد على انتقال المؤسسات الى مرتبة القدرة على المنافسة في الاسواق الخارجية وتاهيل اجهزتها الانتاجية والادارية([24]).
- رعاية الانتقال الى النظامية للمؤسسات الهامشية الراغبة وفق شروط سهلة ومحفزة, وتوفير اطار على شكل ادارة, او جهاز خاص, للمؤسسات الاكثر صغراً والهامشية وتلك التي تديرها او تشرف عليها نساء.
- خلق حاضنات اعمال(Business Incubator) في اطار الهيئات التمثيلية للمؤسسات الصغيرة والمتوسطة وربما بالتعاون مع (او في اطار) مؤسسات التعليم العالي الوطنية. وتتولى هذه الحاضنات, وكما بات معروفاً, تأمين خدمات ادارية ومكتبية وفنية ومالية وتسويقية مختلفة وضرورية للمؤسسات الصغيرة.
- الاسهام في تنظيم وادارة عمل التجمعات الانتاجية(Clusters) المنتظرة ورعاية وتسهيل اتصالاتها مع الخارج خصوصاً في مجالات التمويل والتسويق والخدمات الفنية والاخرى المختلفة.
وتترافق هذه السياسات العامة مع خطوات محددة تستهدف الملفات الحارة والعناصر المباشرة لعمل المؤسسات.
2- عناصر مباشرة حارة
ثمة قضايا وملفات عدة حارة هي على رغم كونها, جزئية لكنها تتحول عامة. ابرز عناوينها كما بات معروفاً ودون الخوض في التفاصيل:
أ- قضية التمويل
وهذه مسألة اولى تكراراً تفترض, نظراً لحجمها ولتشعباتها, تعاوناً وهياكل تنظيمية بين القطاعين العام والخاص. اما اهم الخطوات المطلوبة في هذا المجال فتتمثل اولاً, في حل قضية الديون العالقة (لدى الدولة او لدى المصارف او بين المؤسسات) خصوصاً بالنسبة للمؤسسات المستمرة في الانتاج والقادرة على زيادته. ومرة بعد ثمة مشاريع عدة, بعضها مكتمل وحظي, على ما يبدو, بنقاش بين بعض اهل المؤسسات واطراف في السلطتين النقدية والمالية, ويفترض, بالتالي, ان يأخذ طريقاً الى النور برعاية رسمية باعتبار ان الدولة الخزينة ومصرف لبنان يفترض ان تتحمل, كما المصارف, بالضرورة, وكما المؤسسات اكلاف هذا المشروع([25]). وينص المشروع, ايضا, على جدولة الديون بفوائد (مخفضة) مدعومة وعلى توفير تسهيلات اضافية تشغيلية وعلى شروط محددة للتنفيذ.
والى هذه الخطوة الملحة ثمة خطوات مالية ايضاً واجبة منها تفعيل برنامج دعم فوائد القروض للصناعة والحرف والسياحة والزراعة والتكنولوجيا الذي, على رغم نجاحه([26]), بدا, من خلال التنفيذ, ان ثمة ثغرات فيه لا بد ان تعالج, منها رفع سقف الاقتراض (من 300 الى 500 مليون مثلاً) وخفض دعم الفوائد (الى 4% مثلاً) وتوسيع نطاق التعريف به وتليين شروط الافادة منه وربما شموله المؤسسات القائمة وبعض وجوه النفقات التشغيلية الى النفقات التجهيزية.
ومن الخطوات ايضاً خلق صناديق مالية تساهم في تحمل مخاطر الاستثمارات الجديدة, وانشاء برنامج دائم لدعم الصادرات, وحمايتها وضمانها, على غرار البرامج الرصينة المعروفة في العديد من دول العالم, وتقوية واعادة تنظيم برامج الاقراض التي تتولاها هيئات ومنظمات اهلية وغير رسمية اخرى محلية واجنبية.
ومن الخطوات ايضاً وايضاً اقرار التشريعات المطلوبة لتمكين المصارف (التجارية, اساساً, اذن غير المعدة شكلاً وادوات) من الاسهام في تمويل المؤسسات بشروط مناسبة. كما يفترض تعديل التشريعات المكبلة لعمليات التسليف خصوصاً لجهة ما تفرضه من رهونات ومعاملات ادارية طويلة ومضنية, ويفترض ايضاً تسهيل انشاء مؤسسة خاصة, على شكل صندوق, متخصص بتمويل المؤسسات الصغيرة والاكثر صغراً.
ويفترض ايضاً بناء تصور محاسبي جديد للمؤسسات الصغيرة والمتوسطة يضمن الشفافية كما يضمن تحول المؤسسات الصغيرة الى اخرى (شركات ربما) رصينة. ولا بد ان تترافق هذه المهمة المحاسبية مع أخرى مكملة تتضمن اعادة تخمين موجودات المؤسسات, وفق المنطق العالمي الجديد, بشروط ضريبية مشجعة.
وفي كل الحالات يفترض ربط التسهيلات المالية بشروط (سياسية اقتصادية اجتماعية لا شخصية ولا ادارية) تنطوي على توفير ضمانات اجتماعية للعاملين وعلى تحديث وتطوير المؤسسات.
ب- : التسويق والادارة
- اعادة النظر, عبر ورشة شاملة سريعة, بكل الاتفاقات التجارية بدءاً بتلك المعقودة مع الدول العربية الشقيقة التي يفترض اعادة صياغتها هي ايضاً و.. اولاً وصولاً الى رسم اتفاقات جديدة, ولو محدودة في مرحلة اولى, مع دول ومناطق تشكل مواقع جاذبة للبنانيين وانتاجهم وفي طليعتها الدول التي تحظى بانتشار ونفوذ لبنانيين.
- توظيف مجموعات الانتشار اللبناني في العالم في اتجاه صحيح (ولو لهذا الغرض ) لتسهيل تسويق الانتاج اللبناني, علماً ان العديد من المنتوجات اللبنانية مطلوب بقوة خارجاً لاعتبارات تتصل بالتقاليد.
- الحرص بكل الحزم المطلوب على اعادة صياغة شروط الجودة والنوعية للبضائع اللبنانية خصوصاً ان هذه الشروط باتت لازمة لترويج السلع في الاسواق الخارجية, كما انها ضمانة للصورة الجيدة التي يفترض ان يحميها (ويستعيدها) الانتاج اللبناني.
- اعتماد سياسة متعددة الاطراف ترمي الى تشجيع العمل والانتاج في قطاعات تنطوي على قيم مضافة عالية ويمكن ان يكون لبنان ناجحاً فيها من مثل قطاعات الالكترونيات اوقطاع صناعات الادوية والاغذية الطبية وصناعة المعرفة وسواها .
- تطوير مشروع “الشراكة والتعاقد من الباطن”(B S T P L ) الذي نشأ مؤخراً, بمساعدةONUDI , لتزويد المؤسسات اللبنانية بخدمات ارشادية وتشجيع التعاقد والشراكة بينها وبين مؤسسات دولية.
- معالجة المسألة الحيوية الاخرى المتمثلة في تمكين المؤسسات الصغيرة اللبنانية من الوصول الى المعلومات والتعامل مع معطيات السوق والتقنيات الجديدة واستكشاف امكانات التطوير والتوسع. ويمكن في هذا المجال تصور عدة خطوات منها قيام بنوك معلومات في مراكز عدة وتدريب اصحاب المؤسسات على التقنيات الجديدة وفتح صفحات الكترونية متخصصة...
- تعزيز القناعة بضرورة خفض هامش الارباح وبالتالي الاسعار للسلع اللبنانية لجعلها تكتسب صفة تنافسية هي بأمس الحاجة اليها.
- اعتماد برامج تأهيل وتطوير للآجهزة الانتاجية لمواكبة التحديث وللضغط ايضا في اتجاه خفض كلفة الانتاج.
[1] انظر في هذا المجال الكتاب الصادر عن (مجموعة كتاب( Institut d’Etudes bancaires et financiers ,Les PME et leur financement ,ed Berger-Levrault ,Paris ,1990
[2] BIZAGUET (Armand),-Les petites et moyennes enterprises-ed PUF,collection Que Sais-je?Numero 2642,Paris,1993
[3] المرجع في (2) ص 12
[4] ادارة الأحصاء المركزي، التعداد المشامل للمؤسسات والمباني 1996
[5] INSEE, Etude dirigee par Henri VIENNET, nov.1995
[6] المؤسسات الصغيرة والمتوسطة.(دراسة منشورة على نطاق محدود)،كانون الأول 2002
[7] دراسة باشراف روبير كسباريان، بيروت، 2002
[8] قدرت دراسة اعدها برنامج الأمم المتحدة الأنمائي وصندوق الأمم المتحدة الأنمائي للمرأة(بيروت،2002)عدد القروض المالية الممنوحة من قبل المؤسسات الأهلية للمشاريع الصغيرة، وخلال السنوات الخمس الأخيرة، بنحو 54 الف قرض
[9] تفيد تقديرات ان حجم القطاع الهامشي في لبنان يصل الى 45% من حجم العامة و40% من حجم النشاط الأقتصادي.انظر في هذا الشأن غسان الشلوق،"القطاع الهامشي:المفهوم، مقاربة للتجربة اللبنانية وقراءة في الأيجابيات والسلبيات"،مجلة الأقتصاد اللبناني والعربي،غرفة التجارة والصناعة والزراعة في بيروت،آذار 2002
[10] المرجع في (6) ص 11 وما يليها
[11] المرجع في (6) ص, 13
[12] المرجع في (6) ص 29
[13] هذه الموقف عبر عنها الصناعيون،تحديداً وممثلوالقطاع الزراعي، ايضاً،في مناسبات عدة. يمكن، مثلاً، مراجعة البيانات المتكررة لجمعية الصناعيين واوراق المؤتمر الصناعي العام، بيروت 2001
[14] المرجع في (6) ص 23 والملاحق
[15] ثمة مراجع عدة في هذا المجال، يمكن ، تحديداً ، العودة الى J.Keynes في كتابة المفصلي او، ايضاً، Generale D.Patinkin (La monnaie, L interet et les prix) اوLa Theorie M.Friedman
[16] متوسط محتسب من دراسة بالعينة على قروض المؤسسات. انظر في هذا الشأن بشارة حنا وغسان الشلوق في "المؤشرات الجدرية لبرامج المشاريع الصغيرة في لبنان"، برنامج الأمم المتحدة الأنمائي للمرأة،بيروت، ,2002
[17] بلغ تصنيف لبنان في "المؤشرالمركب المخاطر" (Composte risk rating) الذي يضعه البنك الدولي 56,8 نقطة في كانون الأول 2001 وهو مستوى متدن جداً. راجع في هذا المجال تقرير البنك الدولي World development indicators لعام 2002ص 285
[18] يمكن مراجعة هذاه الشروظ في "دليل المؤسسات الأقراضية" الذي وضعته وزارة الشؤون الأجتماعية بالتعاون مع الأتحاد الأوروبي وصندوق الأمم المتحدة الأنمائي للمرأة، بيروت، ايار, 2001
[19] تركز ادبيات جمعية الصناعيين اللبنانيين على اعتبار الطاقة مشكلة اولى. انظر في هذا المجال وثائق المؤتمر الصناعي الشامل، بيروت 2001
[20] وزارة الصناعة،1998
[21] المرجع السابق ص 27
[22] يمكن في الأطار مراجعة تقرير " الظروف العامة لحفز خلق الوظائف في المنشات الصغيرة والمتوسطة " المقدم الى مؤتمر العمل الدولي ، الدورة 85، جنيف 1997
[23] "المؤشرات الجندرية لبرامج المشاريع...، مرجع سابق، ص 79 وما يليها
[24] ثمة مشروع محدد، مكتمل،في هذا الشأن جرى درسه وصياغة بنوده في اطار اللجنة الأقتصادية للمجلس الأقتصادي والأجتماعي. يمكن مراجعة هذا المشروع في وثائق اللجنة والملس (بيروت، 2002)
[25] هذا المشروع، بصيغته المحددة، وضع في اطار اللجنة الأقتصادية في المجلس الأقتصادي والأجتماعي (بيروت 2002) بعد التشاور مع اصحاب الشأن
[26] بلغ حجم القروض التي استفادت من هذا البرنامج منذ اقراره،في 1997، وحتى نهاية 2002 نحو 100 مليار ليرة لبنانية