- En
- Fr
- عربي
تقاليد عسكرية
هذا ما يحصل بين «أول عرس» وأول نجمة
ما يعرفه الجميع عن المدرسة الحربية أنها «مصنع الرجال» الذي يرفد الوطن بالقادة والأبطال.
ما يعرفه أهالي التلامذة الضباط، أن أبناءهم يخضعون في المدرسة لتدريب مكثّف وتدريب منهك طوال ثلاث سنوات حيث يكتسبون الى جانب العلوم العسكرية والثقافة العامة، فن القيادة والدفاع عن الوطن والمواطن.
يبقى ما لا تعرفه الغالبية عن المدرسة الحربية، وهو تفرّدها بتقاليد خاصة وعادات مميّزة وذكريات طيّبة يحملها الضباط المتخرجون حتى نهاية خدمتهم العسكرية.
من بين هذه التقاليد «عريس السجن» و«حفلة المئة يوم» و«العراب» وغيرها من العادات المخبأة داخل جدران المدرسة، والتي كشفها لنا عدد من تلامذة ضباط السنة الثالثة قبيل أيام من تخرّجهم ضباطاً في الخدمة الفعلية.
عريس السجن «يتهنى»
عند الإعلان عن زفاف ما غالباً ما يقال «فلان سيدخل القفص الذهبي». في المدرسة الحربية يختلف هذا التقليد نوعاً ما، فعريس المدرسة يدخل «القفص الحديدي» والأسوأ أنه يدخله مجرّداً من جميع امتيازات العريس الحقيقي. فلا عروس جميلة بانتظاره، ولا الطعام الشهي، أو حتى الفراش الوثير... الامتياز الوحيد الذي يحظى به «عريس السجن» في المدرسة الحربية هو «الزفّة» التي تتخلّل «حفل الزفاف» وهي زفّة من نوع خاص تشارك فيها أواني المطبخ والمكانس والشراشف...
مشهد «العرس» من بدايته يرويه التلميذان الضابطان محمد حميه وسعد أبو شقرا، اللذان فازا معاً بلقب «عريس السجن» علماً أنه يعطى في العادة لشخص واحد. وقد استحقاه عن جدارة إثر خلاف بينهما في أثناء تنفيذ رماية في الأسبوع الثالث من التحاقهما بالمدرسة الحربية.
«عريس السجن» هو أول تلميذ في الدورة يفتتح السجن إثر قيامه بأولى المخالفات على صعيد دورته. وبما أن عاداتنا الشرقية تقضي بتكريم العريس، فقد درجت العادة في المدرسة الحربية على الإحتفال «بعريس السجن» عبر عرس فولكلوري فريد من نوعه يشارك فيه رفاق المحتفى به في مشهد حافل بالهرج والمرج.
يبدأ العرس بتحضير العريس حيث يقوم رفاقه بإلباسه ثوبه الخاص المؤلف من شراشف ومناشف بيضاء، ويرتدي رفاقه بدورهم اللباس اللائق بالعرس وهو «الشرشف الأبيض المكوي». ثم يُرفع العريس على الأكتاف حيث يطوف به زملاؤه في جميع أرجاء المدرسة، على وقع الأنغام الموسيقية المنبعثة من «قرقعة» الخوذ العسكرية، و«طرطقة» أواني المطبخ، وحفيف المكانس التي تتلوّى بعضها على البعض الآخر, ولا ننسى الأغاني والرقص والأناشيد التي يرتجلها الرفاق تكريماً للعريس وتقديراً له!
بعد الإكتفاء من الإحتفال الصاخب، تختتم «الزفّة»، حيث يكون العريس قد نال قسطه من التبجيل، فيُفتح له الباب الحديدي ويدخل السجن، ويترك فيه وحيداً، فيما يودّعه الرفاق بالزغاريد والأناشيد.
ظاهرة «عريس السجن» مميزة وطريفة، وقد كانت بالنسبة الى العريسين التلميذين حمية وأبو شقرا فريدة من نوعها إذ جمعتهما في سجن واحد لمدة خمسة أيام اكتسبا خلال تجربة «العيش المشترك» هذه, صداقة دامت طوال الدورة. فصحّ بهما المثل القائل «ما إلك صاحب، إلا بعد عَلْقة».
حفلة المئة يوم: «فشّة خلق»؟
سمّيت بحفلة «المئة يوم» لأنها تسبق حفل التخرّج بمئة يوم، وقد كان الأجدى تسميتها حفلة «فش الخلق» وذلك أنها تشكّل فسحة حرية وسط ضغوطات التدريب والدروس.
عن هذه الحفلة يروي التلميذ الضابط حسن حمزة:
حفلة المئة يوم مخصّصة لطلاب السنة الثالثة وهي عبارة عن حفل عشاء يشارك فيه قائد المدرسة الحربية والضباط المدرّبون، ويتخلّله برنامج ترفيهي أجمل ما فيه اللقطات الضاحكة حيث يقلّد التلامذة المدربين في جوّ من الطرافة والمرح. ويرد المدربون بدورهم على تعليقات التلامذة الظريفة بضحكة من القلب وتصفيق حاد يملأ أرجاء القاعة.
في أثناء الحفل، ولدى استمتاع تلامذة السنة الثالثة بشرب نخب الأيام الباقية في المدرسة، «يستمتع» طلاب السنة الثانية «باجتياح غرفهم» والعبث بخزائنهم و«خربطة» أغراضهم الخاصة وذلك من باب «الأخذ بالثأر» والإنتقام من الأوامر والعقوبات التي ألحقوها بهم في السابق.
المعموديات
من المياه الى النار: «موت فحياة»
المعمودية كما نفهمها هي «موت فحياة»، شعور يدركه تماماً التلامذة الضباط في المدرسة الحربية كلما خضعوا لمعمودية. ففي كل مرة يذوقون طعماً مختلفاً من العذاب، وكلما اجتازوا مرحلة «على خير»، يتلذّذون بطعم الحياة من جديد، بعد اكتسابهم مزيداً من الإرادة والقدرة الجسدية والذهنية التي تؤهلهم لاختبار صعوبات أكبر بثبات أقوى وعزيمة أمتن.
معموديات المدرسة الحربية بمختلف أشكالها يشرحها التلميذ الضابط سامر أبو شقرا:
يخضع تلامذة السنة الأولى في الأيام الأخيرة من فترة التنشئة لأنواع مختلفة من المعموديات يختبرون خلالها قدرتهم على الصمود ومواجهة الصعاب، والتكيّف مع مختلف الظروف.
نبدأ بمعمودية الماء حيث يجتمع تلامذة السنة الأولى في باحة الملعب «للإستمتاع» برذاذ المياه الباردة تصفعهم بعنف لدى انبعاثها بضغط قوي من أفواه خراطيم المياه. وبدلاً من الإختباء وحماية أنفسهم يقوم التلامذة بالغناء وتلاوة الشعارات.
بعد النجاة من «الغارة المائية» يتعلّم التلامذة درساً وهو الإعتياد على القساوة والصمود في مواجهة الظروف القاهرة.
معمودية النوم، تبدأ في نهاية يوم منهك من التمارين القاسية (ركض وسواعد وغيرها)، فيخرج التلامذة ليلاً الى ملعب المدرسة مع أمتعتهم وأغراضهم، وينامون في العراء حتى صباح اليوم التالي.
حفلة النوم هذه لا تشمل بالطبع الفراش الوثير، ولا مكيّف الهواء، ولا الأغطية الحريرية...
عدا عن ذلك، يتمّ دمج ثياب التلامذة بطريقة عشوائية، ويطلب منهم أن يلبسوها «على علاّتها»، فيخرجون في نهاية المطاف بمظهر مضحك يذكّرنا بليلة «عيد البربارة»!
معمودية الأكل، لها تقاليدها الخاصة وهي تبدأ بنزول التلامذة الى المطعم مرتدين الشراشف البيضاء (وذلك طبعاً من باب الأناقة المفرطة).
يبدأ حفل الطعام بأن يوضع أمام كل تلميذ صحن كبير يحتوي على ليمونة أو بيضة بقشرها، ويجبر على تناولها بأكملها واضعاً يديه خلف ظهره. فيبدأ الصراع مع «الطبق الشهي» الذي ينتهي بفوز التلامذة فتكون المكافأة كوباً من الشاي المملّح!
معمودية الغاز، وهي الأصعب والأقسى. وتقضي بمرور التلامذة في أنفاق ضيقة تُرمى فيها قنابل الغاز المسيّلة للدموع، وعلى التلميذ أن يجتازها حتى النهاية ضمن أجواء من الخوف وعدم الرؤية.
ينتظر التلامذة داخل الأنفاق ضباط يرتدون أقنعة واقية، يدلّونهم على الطريق، ولكنهم في الوقت عينه يحاولون عرقلتهم. وخلال هذه المعمودية يستنشق التلامذة الغاز الذي يؤثر على تنفّسهم، فيكون في انتظارهم صهريج ماء في الخارج، لتنظيفهم من آثار الغاز. بالإضافة الى أنهم يركضون ساعتين بعد هذا النشاط لتنقية الرئتين من الغاز.
عند العودة من المأذونية الأولى، تأتي معمودية النار، حيث يعيش التلميذ جو المعركة الحقيقية, فيجبر على تخطي حواجز وسلالم، ألغام وعبوات يضعها فوج الهندسة، دواليب مشتعلة وغيرها. وهنا يختبر كل تلميذ قدرته على تخطّي الصعاب والخوف.
تمارين السير: هل من نهاية؟
تعب وعرق وصراع بين جسد منهك وطريق لا تبدو له نهاية. هذا هو العنوان الرئيس لتمارين السير التي ينفّذها تلامذة المدرسة الحربية. أما التفاصيل فيرويها تلميذا السنة الثالثة الياس البلعة وفريد خليل:
تمارين السير هي نشاطات توضع في مناهج المدرسة الحربية. تبدأ مع التلميذ منذ دخوله السنة الأولى وتستمر حتى نهاية السنة الثالثة.
نخضع لتمارين سير متعددة المسافات، يفصل في ما بينها ثلاثة تمارين أساسية في كل عام. وتتدرّج تمارين السير ما بين 8 و75 كلم. يقرّر مكان هذه التدريبات المدرّب، فلا أماكن ثابتة متعارف عليها. ويكون الهدف منها تقوية الإرادة والتحمّل والصبر والقدرة على مواجهة الصعوبات.
خلال التمرين، نحمل على ظهرنا حوالى 15 كلغ من عتاد وثياب وحاجيات.
يسير في المقدمة أربعة كشافين يعيّنهم المدربون. فإذا كان التمرين مشتركاً بين السنوات الثلاث، يكون الكشافون من السنة الثالثة. أما إذا كان لكل سنة على حدة، يكونون من السنة نفسها.
يحمل الكشاف أسلحة حماية، يؤمّن الطرق أمام رفاقه. يختاره عادة المدرب حسب قدرته على متابعة التمرين الى الآخر، ومعرفته بالطريق التي يسلكونها.
خلال تمارين السير، بعضنا يتعب ويتلكأ فنساعده ونحمل معه أغراضه، ونصل أحياناً الى حدّ حمل الشخص نفسه (كما في تمارين دورة المغاوير). في تمرين المخيم الآخير (السنة الثالثة)، تملّك التعب بعض الأشخاص الى حدّ النوم خلال السير، ساندناهم ودفعناهم الى المتابعة.
• بماذا يختلف تمرين السير المشترك عن الخاص؟
يفيدنا المتدربان أن تمرين السير المشترك أصعب بالنسبة الى تلامذة السنتين الأولى والثانية لأنهم يضطرون الى التزام نمط سير السنة الثالثة، فالجميع يسير وراءها وحسب سرعتها. كما أن تلميذ السنة الثالثة، يقوم بالتمرين المشترك وكل تفكيره يتركّز على أنه آخر تمرين قبل التخرّج، ففي نهايته نصل الى خط النهاية. ونحن مثلاً كان معنا طبل ودربكة واحتفلنا في آخر الطريق ونسينا تعبنا. أما بقية التلامذة فيسيرون وهم يعلمون أن أمامهم الكثير بعد من التمارين.
العرّاب و«الفليون»
يعرّف العرّاب «بالأب الروحي»، ما يعني أن مسؤوليته تجاه « فليونه» هي مسؤولية الأب تجاه إبنه.
إنطلاقاً من هذه الفكرة، تبنّت المدرسة الحربية تقليد «العرّاب» الذي يسند الى الطلاب القدامى دور الأب والراعي للتلامذة الجدد.
عن العرّاب ودوره في المدرسة الحربية يشرح التلميذ الضابط شربل اسكندر:
هو أول شخص يقابله المدني القادم الى المدرسة في السنة الأولى. يوجّهه الى الأماكن المخصّصة للنوم والأكل والدروس... ويرشده الى حيث يجب أن يتسلّم الأغراض العسكرية.
العرّاب هو تلميذ ضابط في السنة الثالثة، يختاره مدرّب السنة وقائد المدرسة ليكون مسؤولاً عن أحد القادمين الجدد. ويكون التوزيع عشوائياً، مختلطاً، كي يندمج التلامذة فيتعرفوا الى ميزة الجيش الذي لا يصبغ بلون أو دين أو طائفة أو انتماء. يتسلّم العرّاب مسؤوليات أساسية مع «فليونه» لإعداده جسدياً ومعنوياً. فالمدني غير معتاد على القساوة ويمكن أن يكون مدللاً عند أهله، وهنا دور عرّابه لإرشاده الى كيفية التصرّف في الحياة العسكرية وخلال الوجود في المدرسة الحربية.
يدافع العرّاب عن «فليونه» في حال وقوع سوء تفاهم مع التلامذة الآخرين. ويتدخّل ليقوّي معنوياته ومنعه من الإستسلام أو الإنسحاب. كما يعلّمه، إنطلاقاً من خبرته الخاصة، كل نشاط جديد، ويكون عوناً له عندما يطلب المساعدة. الأهم أن العرّاب يدرك أخطاء فليونه ويصحّحها إنطلاقاً من تجاربه الشخصية.
الجدير بالذكر أن كل تميذ يصل الى السنة الثالثة يصبح عرّاباً لتلميذ من السنة الأولى.
مخالفات... فعقوبات
الخطأ في المدرسة الحربية ممنوع، وعقوبته تتدرّج من الملاحظة الشفوية الى العقوبة الجسدية، أو الدخول الى السجن.
عن العقوبات وأنواعها وأهدافها يشرح التلميذ الضابط قاسم أحمد:
العقوبة جزء من برنامج المدرسة الحربية. الهدف منها تعليمي، لذا فهي ليست إنتقاماً ولا ردة فعل تجاه عمل ما. تهدف العقوبة الى جعل التلامذة يتمرّسون على حقّ الإمرة من جهة، وإفهامهم من جهة أخرى أنهم حين يتخرّجون لن يملكوا مطلق الصلاحية، بل سيكونون مقيّدين بأنظمة وقوانين تحاسبهم ضمن مبدأ المكافأة والعقاب.
في المدرسة الحربية نوعان من العقوبات، الأول يفرضه المدربون على التلامذة، والثاني يفرضه تلامذة السنة الأعلى على رفاقهم في السنوات التي تليهم في إطار التمرّس على السلطة. تتدرّج العقوبة من الملاحظة الى التأنيب الشفهي، وآخر الدواء الكي، وهو عقوبة بزّة الميدان، حيث يقضي المعاقب فترة تراوح ما بين الربع ساعة الى ثلثها في عقوبة جسدية متعبة ينفّذ خلالها السواعد، والجذع، وتمرين سير البطة، وقد تصل العقوبة الى حدّ حجز المأذونية أو حتى السجن.
من أبرز المخالفات التي تقود الى العقاب في المدرسة الحربية، ضبط الممنوعات «كالهاتف الخلوي» أو ال«MP3»، وهذه عقوبتها السجن. في حين أن الحركة في أثناء التمارين والدروس تؤدي الى حجز المأذونية، وكذلك الأمر بالنسبة الى النظافة الشخصية، فوجود الغبار على الأمتعة أو الخزائن يعني الحجز في نهاية الأسبوع. أما عدم تأدية التحية فمخالفة تراوح عقوبتها ما بين تأنيب التلميذ شفوياً، الى تنفيذه بزة الميدان وهو يحمل حقيبة الظهر.
المخيم التدريبي: التضامن والأخوة
ما بين حلاوة ممارسة السلطة، ومرارة التدريب تحت أشعة شمس تموز الحارقة، تمضي الأيام العشرة للمخيم التدريبي الذي تقيمه المدرسة في نهاية كل عام، ويمضي في ختامه تلامذة السنة الثالثة في طريق جديد يقودهم الى عالم الضباط في الخدمة الفعلية. عن ميزات المخيم التدريبي يتحدث التلميذ الضابط إيلي أبي فاضل:
هو آخر نشاط تدريبي في روزنامة العام في المدرسة الحربية، يشارك فيه تلامذة السنوات الثلاث، المقسّمين الى حضائر بإمرة طلاب السنة الثالثة. يقام هذا النشاط في أوائل تموز، فيبدأ بالتمركز في حقل التدريب، وينتهي بعد عشرة أيام بتمرين سير للسنوات الثلاث مقسّم على الشكل الآتي: 100 كلم للسنة الثالثة، 75 كلم للسنة الثانية، و60 كلم للسنة الأولى. لكن الحماس غالباً ما يدفع تلامذة السنة الأولى الى متابعة السير حتى بلوغ المسافة المطلوبة من تلامذة السنة الثانية.
في هذا المخيم ينفّذ التلامذة دروساً عملية لكل ما تعلّموه نظرياً من دروس في الدفاع والهجوم الى التوجّه وحفظ الأمن وفرائض المدافعة، الخ... وفي اليوم الأخير ينفّذ التلامذة رمايات في مختلف الإختصاصات، من مدفعية وهندسة (للسنة الثالثة) الى سلاح 12.7 كلم وسلاح 106 ملم (للسنة الثانية) ورماية بالقاذف المضاد للدروع (للسنة الأولى).
أجمل ما في المخيم تبلور فكرة الأخوة والتضامن من خلال مساعدة التلامذة بعضهم البعض الآخر على الصمود في مواجهة التمارين القاسية كالتآلف مع الطبيعة في أرض جافة، أو السير مع حقيبة ظهر وسلاح تحت أشعة الشمس الحارقة. وفي نهاية المطاف لا يبقى من المخيم التدريبي سوى ذكرياته الجميلة، التي يختزنها التلميذ في ذاكرته مع باقي ذكريات السنوات الثلاث، ليرجع اليها كلما تقدّم به العمر واشتاق الى «رعونة الشباب» واندفاعه وحماسه!
من سنة الى سنة
ما بين السنة الأولى والسنة الثالثة في المدرسة الحربية خطوات لا بد من اجتيازها، ومراحل يجب تخطيها تدريجاً. كل مرحلة تختلف عن سابقتها وتتميز بخصوصيتها وتقاليدها.
عن الفوارق بين السنوات الأولى والثانية والثالثة، يتحدث التلميذ الضابط محمد شمعون:
منذ دخوله الى المدرسة الحربية، يبدأ التلميذ بالتحضير جسدياً وفكرياً للإنتقال من الحياة المدنية والإنخراط في الحياة العسكرية.
من الناحية الجسدية، يخضع لتمارين رياضية وقتالية صعبة تنمّي قدراته الجسدية وقدرته على التحمّل. لا يحظى خلال السنة الأولى بالإستراحة، العمل متواصل وتنقلاته لا تتم إلا رياضياً. تبدأ السنة الأولى بمرحلة توجيهية يتعرّف فيها التلميذ الى الصح والخطأ، ومن بعدها يُحاسَب على كل خطأ يرتكبه، إما من قبل الضابط المسؤول أو تلامذة السنوات الأعلى (الثانية والثالثة)، وطبعاً وفقاً لأوامر قيادة المدرسة وتوجيهاتها.
أما من الناحية الفكرية، فلا يحق لتلميذ السنة الأولى بالمناقشة، فهو ينفّذ كل أمر يوجَّه اليه من دون الدخول في حوار، يتعرّف على القوانين والأنظمة، إنه في المرحلة التحضيرية الضرورية لانتقاله من المرحلة المدنية الى المرحلة العسكرية.
في السنة الثانية، يغيّر التلميذ شارته، يتغيّر هندامه وتختلف طريقة التعامل معه. ففي هذه المرحلة يستطيع إقامة حوار مع تلميذ السنة الثانية، يعبّر عن شخصيته وآرائه وإنما ضمن الحدود التي ترسيها القوانين. تنقلاته تكون طبيعية، يستريح وقت الإستراحة، ويعمل في الوقت المخصص للعمل. وهذا الأمر يسمح ببناء علاقات أكثر وأعمق مع رفاقه.
في ما خص التراتبية، تلميذ السنة الأولى هو دائماً مرؤوس من الأعلى منه ومن الضباط. أما تلامذة السنة الثانية فيبقون مرؤوسين، ولكنهم يصبحون رؤساء للسنة الأولى. هذا الأمر يقوي شخصيتهم فيتعودون على المسؤولية.
تأدية التحية للرئيس واجب، سواء كان هذا الرئيس ضابطاً أم تلميذاً في إحدى السنتين الثانية أو الثالثة. من هنا يكون على التلميذ في السنة الأولى أن يلصق يده برأسه، فأينما تحرّك يمكن أن يلتقي برئيس له؛ وأكثر العقوبات تأتي على خلفية هذا الأمر بالذات. أما الهدف من التشدّد هنا، فهو تعويد التلامذة الضباط على احترام رؤسائهم.
تبقى الإشارة الى أهمية ساحة الشرف في المدرسة الحربية. ففيها العلم والنصب التذكاري للشهداء، واحتراماً للرمزين ممنوع التنقل في الساحة إلا بالخطوة الرياضية، وهذا ما يسري على الجميع أياً كانت رتبتهم.
حفل التخرّج: اليوم المشهود
حكايا المدرسة الحربية لا تنتهي، ولكنها جميعها تختتم بنهاية واحدة سعيدة هي يوم التخرّج. يوم يقف التلامذة الضباط قلباً واحداً وروحاً واحدة متعهّدين الولاء للوطن. فيخلع كل منهم ثوب التلمذة ويرتدي حلّة الإحتراف إستعداداً لدخول معترك الحياة العملية بعودٍ صلب وخطى ثابتة.
يوم التخرّج، يوم اللقاء مع «الفرحة»، هذه الفرحة التي انتظرها الأهالي والأصدقاء، ثلاث سنوات هي الأطول في تاريخ التلامذة.
عن تقاليد هذا اليوم التاريخي والإستعداد له، حدثنا العقيد الركن روبير جاسر مدرّب السنة الثالثة:
تحتفل المدرسة الحربية بتقليد السيوف لتلامذة السنة الثالثة في حفل تخرّج ضخم، يحضره رئيس الجمهورية ورئيسا المجلس النيابي والحكومة، وقائد الجيش.
يبدأ التدريب لليوم المنشود قبل ثلاثة أشهر من التخرّج، وتحفل روزنامة التلامذة الضباط بالتمارين الإعدادية. يتم التشديد خلال هذه الفترة على تدريب التلامذة على السير في النظام المرصوص ممتشقين الحسام. كما يتمرنون على نشيد المدرسة الحربية ونشيد الجيش. ويحدّد المدربون أماكن وقوف المتخرجين في الملعب عند كل نشاط من تسليم الراية الى كل ما يأتي بعده.
فالاحتفال الفعلي يبدأ بتسليم بيرق المدرسة الحربية من طليع الدورة في السنة الثالثة (يرافقه الثاني والثالث) الى التلميذ الأول في السنة الثانية.
بعد تسليم البيرق، يصطف التلامذة مقابل المنصة إستعداداً لتسمية الدورة. وهنا يسأل الملازم طليع الدورة السابقة، طليع الدورة الحالية عن إسم الدورة، فيجيبه به. ويتقدّم عندها الملازم من الرئيس موجّهاً اليه السؤال التالي: «أطلب تسمية الدورة كذا...» فيجيبه الرئيس «فلتُسَمَّ دورتكم كذا». ويكون التلامذة في هذه المرحلة في حالة ركوع على الأرض. وإذ يأمر طليع الدورة رفاقه بالوقوف، تبدأ تلاوة المراسيم إسمياً، ويليها تسليم السيوف من الرئيس الى الضباط المتخرّجين.
الجدير بالذكر أن حركة تسلّم السيف وتحية الرئيس تستدعي التمرين لسبع مرات أو ثمانية من الأيام التي تسبق الإحتفال.
من تسليم السيوف الى قَسَم اليمين، حيث يتقدّم طليع الدورة في خطى موقّعة الى أمام المنصة، حاملاً سيفه في يده اليسرى، فيخلع القبعة العسكرية باليد نفسها ويمسك العلم، مؤدياً القَسَم بيمينه، فيرفع من بعده جميع أبناء الدورة أيديهم للقَسَم نفسه.
يلي قَسَم اليمين كلمة الرئيس، ومن بعدها عرض التحية، حيث تقف القوى العسكرية في صفوف منظّمة وتسير في النظام المرصوص أمام المنصة مؤدية التحية للرسميين.
في هذه الأثناء، تمر القوى العسكرية ما بين التلامذة المتخرجين (الواقفين قبالة المنصة) والرسميين في الجهة المقابلة. وعند مرور علم الجيش يوشّح المتخرّجون الحسام بحركات مدروسة ومتناسقة.
بعد مرور القوى العسكرية، يأتي دور الضباط المتخرّجين لأداء التحية. وهنا يأمرهم طليع الدورة «الى الوراء در... الى الأمام سر» فيتقدّمون الى أمام المنصة على وقع نشيد الجيش، وبرفقة عنصرين من موسيقى الجيش.
يمر الضباط المتخرّجون فرقة تلو الأخرى أمام القوى الرسمية حيث يؤدون التحية، ويتزامن مرور آخر فرقة مع انتهاء نشيد الجيش، وهي خطوة تحتاج الى كثير من التمارين في الفترة السابقة للتخرّج.
في نهاية الإحتفال، يمسك الضباط المتخرّجون بقبعاتهم العسكرية ويرمونها في الهواء، ليهرعوا بعدها الى تعليق «أول نجمة» على أكتافهم إستعداداً للصورة التذكارية.