- En
- Fr
- عربي
الفرنكفونية في لبنان والعالم العربي: مشروع حوار بين الثقافات
في اللفظة والمفهوم
تشير لفظة “الفرنكفونية” في المعجم الى النطق باللغة الفرنسية. الا ان هذا المعنى فيه من التبسيط ما يجعله غير صالح للدلالة على مضمون اللفظة كما يتجسد في الواقع والممارسة. ذلك ان المكانة التي تحتلها اللغة الفرنسية والدور الذي تلعبه في اماكن تواجدها على مساحة الكرة الأرضية يختلف من بلد لآخر. فهي لغة أمّ في فرنسا وكندا وجزء من سويسرا وفي بلجيكا, وهي لغة رسمية في بعض بلدان أفريقيا حيث دخلت مع الاستعمار الفرنسي وتجذرت لتصبح لغة تواصل بين القبائل التي لا تملك الا لغات محكية شديدة التنوع والاختلاف؛ وهي لغة أجنبية في بعض بلدان العالم العربي, سوريا مثلا, ولغة ثانية تتفتح الى جانب العربية بانسجام كما في المغرب, أو تدخل في علاقة صدامية معها كما في الجزائر. أما في لبنان فتبدو المسألة أكثر تعقيداً. وذلك يعود لعدة أسباب منها ان حرية التعليم قد حتمت تنوعا في مناهج التعليم بين المؤسسات التربوية المختلفة, اضافةً الى تفاوت في المستوى بين المدارس الرسمية والخاصة. فمن جهة, هناك أغلبية ساحقة من المدارس تعتمد اللغة الفرنسية كلغة ثانية وكلغة تعليم, بينما تُعتمد اللغة الانكليزية في عدد محدود نسبياً من المدارس. ومن جهة أخرى, تولي المدارس الخاصة عناية ملحوظة باللغة الفرنسية لا تتوفر غالبا في المدارس الرسمية. وقد نتج عن ذلك شيىء من الفوضى في تحديد دور اللغة الفرنسية ومكانتها. فهي لغة ثانية لفئة من اللبنانيين, وهي لغة أجنبية أولى لفئة أخرى, ولغة أجنبية ثانية لفريق ثالث. الى هذا العامل المتعلق بالنظام التعليمي, هناك عامل اجتماعي يحدد العلاقة باللغة الفرنسية. فلطالما بقيت هذه اللغة امتيازاً لطبقة ميسورة أو لطائفة يسهل عليها ارسال أبنائها الى مدارس الإرساليات الأجنبية, فأصبحت بذلك عنصر تمايز طبقي مما جعلها موضوع رفض من قبل الحركات الطلابية المطالبة بالتعريب في الستينات, من جهة, ولغة تمايز فرضت نفسها في بعض الصالونات البيروتية, من جهة أخرى. كذلك يختلف استعمال اللغة الفرنسية بين المناطق؛ فهي مثلا لغة أمّ في بعض الجبل وفي بعض أحياء العاصمة, بينما تبقى لغة أجنبية في عكار والهرمل والجنوب. واذا أضفنا الى ذلك البعد الإيديولوجي الذي ارتبط باستعمال الفرنسية في بعض الأوساط إبّان الانتداب الفرنسي, والذي يقترن برفض العروبة وبالتبعية لفرنسا عاصمة الكاثوليكية, لتبين لنا مدى الإشكالات المرتبطة باستعمال هذه اللغة وبدلالة لفظة الفرنكفونية. كما يتضح مما تقدم ان المعنى المعجمي لهذه اللفظة لا يصلح للتعبير عن التوجه الذي على أساسه تشكلت المنظمات الفرنكفونية المختلفة وهي قد انطلقت تباعا منذ الستينات. ويُعتبر الرئيس السنغالي ليوبولد سيدار سنغور, وهو شاعر باللغة الفرنسية, الرجل المؤسس لمفهوم الفرنكفونية بمعناه الحديث كما حدده في مؤتمر القمة الفرنكفونية المنعقد في بانغي سنة 1962 حيث قال: “الفرنكفونية ثقافة تتجاوز مجرد النطق باللغة الفرنسية لتصبح وسيلة تعتمدها الشعوب الناطقة بهذه اللغة لتشارك في صنع ثقافة انسانية ترتكز على مجموعة من القيم المشتركة”. وتتلخص هذه القيم بالعدالة والحرية والمساواة التي قامت عليها الثورة الفرنسية والتي شكلت جوهر الفكر الفرنسي منذ القرن الثامن عشر. ولعل الأهم في هذا التعريف هو الفصل بين السياسة والثقافة. فقد يكون الإيمان بالقيم التي تحملها اللغة الفرنسية هو نفسه ما يحمل الى العداء لفرنسا ولسياستها, كما حصل في الجزائر حيث رفع لواء الثورة على المستعمر الفرنسي جيل من الكتاب الذين نهلوا العلم في المدارس الفرنسية, وتأثروا بمثقفي فرنسا من أدباء وفلاسفة, وعبروا عن عدائهم لسياستها الاستعمارية بلغة المستعمر نفسها. تقودنا هذه المفارقة الى الإشارة الى الفجوة التي تكبر حينا وتتقلص حينا آخر بين ما يبنيه الفكر وما يمارسه أهل السياسة وأصحاب القرار.
وإذا كانت الفرنكفونية قاسما مشتركا بين الشعوب الناطقة باللغة الفرنسية, ووسيلة تواصل حضاري بينها على اختلاف الثقافات واللغات الأمّ فهي تأخذ في عصر العولمة أهمية كبيرة شرط أن تغتني ببعد سياسي واقتصادي يقوم على التعاون المتبادل مما يجعل من مجموعة الدول الفرنكفونية قوة تحد من تسلط وهيمنة قطب واحد يتحكم بمقادير العالم. وهذا ما عبرت عنه “وثيقة الفرنكفونية” التي تأسست عليها الوكالة الفرنكفونية للتعاون الثقافي والتكنولوجي في آذار 1970, وقد جاء فيها: “تهدف الفرنكفونية الى إرساء ونشر قيم الديموقراطية, والى السعي لتجنب الصراعات والى تعزيز سلطة دولة القانون وحماية حقوق الإنسان؛ كما تعمل على تفعيل الحوار بين الثقافات والحضارات وعلى تقارب الشعوب وتعريفها بعضها بالبعض الآخر وتدعيم التعاون بينها عن طريق مبادرات متعددة الأطراف تهدف الى تشجيع النمو الاقتصادي. تحترم الفرنكفونية سيادة الدول ولغاتها وثقافاتها وتلتزم الحياد الكامل في المسائل السياسية الداخلية”.
الفرنكفونية في لبنان
يعود تاريخ اللغة الفرنسية في لبنان الى القرن الثامن عشر حيث بدأ انتشار مدارس الإرساليات الأجنبية في بيروت والجبل خصوصاً. وقد ساهمت هذه المدارس في اعداد نخبة ثقافية كان لها أن تلعب دورا كبيرا على الساحة السياسية في نهاية القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين. في هذه الفترة كانت الامبراطورية العثمانية قد بدأت بالتفكك بينما الغرب ينتظر الفرصة المؤاتية لينقض على “الجسم المريض” كما هو معروف. وقد انتبهت الى هذه الحقيقة نخبة من المثقفين اللبنانيين الذين استقروا في فرنسا هربا من الحكم العثماني فراحوا ينادون بالاستقلال عن الدولة العثمانية ويطلبون الدعم والمساعدة من فرنسا “حامية الحريات” ووريثة عصر الأنوار. في عداد هذه النخبة كتاب وشعراء احتفظوا بمكانة بارزة في تاريخ الأدب اللبناني المكتوب بالفرنسية, نذكر منهم شكري غانم ونجيب عازوري الذي كان من أوائل المبشرين بفكرة القومية العربية في كتابه المنشور بالفرنسية سنة 1905 تحت عنوان “يقظة الأمة العربية”. أما شكري غانم فقد اشتهر الى جانب كتاباته السياسية والشعرية بمسرحية قدمها على مسرح الأوديون في باريس سنة 1910 لقيت نجاحا كبيرا واعتبرت بمثابة بيان ثوري عربي لما تضمنته من دعوة للشعوب العربية كي تنتفض على السلطة العثمانية وتحصل على الاستقلال. تحمل المسرحية اسم بطل المعلقة الشهير “عنتر” عنوانا لها, وقد جعل الكاتب من عبلة رمزا للحرية المنشودة وجسد في شخصية عنتر تمرد الشعب العربي واستعداده للتضحية والموت في سبيلها. كانت الكتابة باللغة الفرنسية في هذه المرحلة وسيلة للتعبير عن الفكر القومي وللدفاع عن حق العرب بالاستقلال والسيادة. لكن مع سقوط الامبراطورية العثمانية وفي ظل عهد الانتداب طرأ تحول جذري على هذا الواقع تحت تأثير الظروف السياسية. فقد كان للثورة العربية الكبرى أثرها السلبي في نفوس بعض اللبنانيين الذين استشعروا خوفا من هيمنة عروبة حمل لواءها جيش الشريف حسين القادم من الحجاز, فانحازوا الى فرنسا وانكفأوا على خصوصيتهم مؤكدين على تمايز لبنان واختلافه عن محيطه العربي. وعندما أعلنت دولة لبنان الكبير سنة 1920 تبلورت هذه النزعة وعبرت عن نفسها في “المجلة الفينيقية” التي كان يصدرها بالفرنسية الشاعر شارل قرم أحد منظري القومية الفينيقية. وقد تحلق حوله عدد من الشعراء والأدباء ممن توسلوا الفرنسية ليتغنوا بالانتماء الى فينيقيا كبديل عن الهوية العربية. ولا يتسع المجال هنا لإبراز المغالطات التاريخية التي وقع فيها هؤلاء, إنما القصد تبيان التحول الذي طرأ على مدلول الكتابة باللغة الفرنسية وعلى مفهوم الفرنكفونية التي اقترنت مذذاك بالتبعية لفرنسا خاصة وللغرب عامة, وبالعداء للعروبة والإسلام. وقد استمر هذا الخلل بالعلاقة مع اللغة الفرنسية في أوساط واسعة عقودا عديدة ما بعد الاستقلال, ونتج عنه أزمة ثقة بالكاتب اللبناني الفرنكفوني عبرت عنها الشاعرة ناديا تويني حيث تقول: “السؤال المطروح علينا دوما نحن الذين يكتبون الشعر باللغة الفرنسية في بلد ينتمي الى العالم العربي الفسيح الممتد من الخليج الى المحيط ويعتمد العربية لغة رسمية, هو التالي: هل أنتم شعراء لبنانيون حقا أم أنتم شعراء أجانب؟ وهو سؤال ذات بعد ثقافي وسياسي في آن. نحن متهمون بأننا نتاح جيل ترعرع تحت الاستعمار الفرنسي وبأننا صنيعة مدارس الإرساليات الأجنبية... لكننا نجيب على كل هذه التهم بأن اعتمادنا الفرنسية كلغة ابداع يعبر عن اختيار واعٍ وحر, وأنه لا يعني قطعاً رفضنا لهويتنا اللبنانية والعربية, بل على العكس من ذلك, فنحن نسعى الى بلورة هذه الهوية والى التأكيد عليها وتفعيلها عن طريق التعبير عنها باللغة الفرنسية التي تؤمن لها وسيلة لتعرّف عن نفسها أمام الشعوب التي يجمعها عشق الكلمات ذاتها والتي تدخل في علاقة أخذ وعطاء هي في الواقع الغاية العميقة من كل ثقافة”. ناديا تويني تنتمي الى جيل من الكتاب والشعراء والمفكرين الذين وإن توسلوا الفرنسية لغة ابداع يفخرون بانتمائهم الى الثقافة العربية الأمّ, والذين استطاعوا أن يحققوا في أدبهم وتجاربهم الإبداعية المختلفة ذاك اللقاء الخصب والواعد بين الشرق والغرب فغدوا سفراء لبنان والعروبة الى العالم. إن روايات كاتبة كأندره شديد تتجذر في أرض مصر ولبنان وتكتمل بالتوق الى شمولية إنسانية تتخطى الحواجز بين البشر. أليس “الآخر أياً كان انتماؤه, كما تقول الكاتبة, اقرب الى الذات مما يظن حتى ولو كان غريباً”؟ أما أمين معلوف فقد استحق جائزة غونكور إثر صدور روايته صخرة طانيوس” الملتصقة بتاريخ المجتمع اللبناني في القرن التاسع عشر والتي اعتبرت تتويجاً لأعماله الروائية السابقة “ليون الأفريقي”, “سمرقند”, “قرن بعد بياتريس”, و”حديقة الأنوار” التي تدور أحداث معظمها في الشرق. ويقدم غسان فواز في روايته “الأنوات المتطايرة للحروب الضائعة” برهاناً على خطأ مقولة سائدة تجعل الكتابة الفرنسية مقترنة بالانتماء الى فئة اجتماعية أو الى طائفة أو الى ايديولوجيا معينة؛ فالكاتب يساري, عروبي النزعة, ومن المنتصرين للقضية الفلطينسية. كل ذلك يشير الى انعتاق مفهوم الفرنكفونية منذ السبعينيات من الأطر الضيقة التي طالما اختزلته, مما يفتح أمام اللغة الفرنسية مجالاً أوسع ويخولها من أن تطال جمهورا أكبر فيصبح دورها أكثر فاعلية في رفد الثقافة العربية وإغنائها. وقد انعكس هذا التغيير إيجاباً على الانتاج الأدبي باللغة الفرنسية سواء على ساحة الكتابة المسرحية أو الروائية أو الشعرية. فقد شهدت بيروت حركة مسرحية مهمة قام بها شبان ناشطون معظمهم من طلاب المعهد المسرحي في “مدرسة الآداب العليا” والذين لمعت أسماؤهم فيما بعد بينهم غبريال بستاني وجلال خوري وروجيه عساف وجانماري مشاقة؛ معظمهم كان من المنتمين للفكر اليساري ومن المدافعين عن قضية العرب الأساس, أي القضية الفلسطينية. فعلى إثر هزيمة العرب وسقوط القدس سنة 1967 قدم غبريال بستاني على خشبة مسرح بيروت مسرحية لقيت نجاحا باهرا لما فيها من تعبير صادق عن الزلزال الذي أحدثته النكسة في أوساط المثقفين وعن الأزمة الفكرية والعقائدية التي نتجت عنها بعد أن سقطت الآمال الكبيرة التي غذتها الأنظمة؛ تحمل المسرحية عنوان “علاء الدين في الذاكرة” ولعلها كانت إيذاناً بولادة الكفاح المسلح الفلسطيني, إذ أن بطلها يعلن في المشهد الختامي اختياره السلاح كوسيلة وحيدة للخلاص. لا شك أن هذا المناخ يختلف اختلافا جذرياً عن ذلك الذي يسود في مسرح جورج شحادة, مؤسس المسرح اللبناني باللغة الفرنسية في الخمسينيات؛ وذلك يعود الى اختلاف الخلفية الإيديولوجية بين المؤسس والجيل اللآحق, ولعل في ذلك ما يفسر أن شحادة, على الرغم من تشجيعه الكبير للمعهد المسرحي في “مدرسة الآداب العليا” التي تولى رئاستها لفترة من الزمن, لم يكن يرغب في أن يقوم طلاب المعهد وخريجوه في اخراج مسرحياته, بل على العكس كان يدفعهم باتجاه الكتاب الطليعيين في فرنسا, بيكيت وأداموف وإيونيسكو. وإذا كانت الحركة المسرحية باللغة الفرنسية قد بلغت أوجها في السبعينيات, فقد اضمحلت خلال الحرب اللبنانية حيث انتقل عدد من الكتاب الى فرنسا فاستقروا فيها وأنتجوا دون أن يأخذوا حظهم من الاهتمام بسبب موقف لامبالٍ في أكثر الأحيان من النقد الفرنسي إزاء ما ينتجه غير الفرنسيين, لكن هذه مسألة سنعود إليها لاحقاً. في المقابل, نلاحظ في الفترة الأخيرة نجاحاً يحصده كتاب شباب في كندا, أمثال وجدي معوض وعبله فرهود.
وإذا كانت الحرب غير مؤاتية للإنتاج المسرحي, فإنها على العكس قد أخصبت الكتابة الروائية والشعرية. فقد شهدت ساحة الرواية منذ الثمانينيات إنتاجاً غزيراً باللغة الفرنسية وبرزت أسماء عدة بينها فينوس خوريغاتا, إيفلين عقاد, ليلى بركات, ديزيريه عزيز, ألكسندر نجار, أمين معلوف, غسان فواز, جاكلين مسابكي. قاسم مشترك يجمع هؤلاء الكتاب: رفض الحرب, إعادة النظر بالواقع اللبناني, والإيمان بالإنسان كقيمة أساسية وبدور المثقف كداعية حوار ولقاء بين الشعوب والثقافات المختلفة. هذا في المضمون, أما من حيث الشكل فمن الملاحظ أن غالبية الروايات تبتعد عن ما يعرف في فرنسا ب”الرواية الحديثة” حيث يتعامل الروائي مع الشخصيات كمجرد دمى يفرغها من بعدها السيكولوجي في محاولة للتعبير عن هشاشة الوجود الإنساني. ولعل ذلك يعود الى أثر الثقافة العربية التي تؤكد على البعد الروحاني للكائن البشري فتحميه من السقوط في العبثية. غير أن نشاط الحركة الروائية في الثمانينيات لا يمنعنا من تسليط الضوء على أحد رواد القصة اللبنانية بالفرنسية في الخمسينيات, هو فرج الله حايك كاتب غزير الانتاج متجذر في الريف اللبناني الذي خصّه بثلاثية شهيرة تحت عنوان “أبناء الأرض”.
إذا كان فن الرواية وفن المسرح حديثي العهد في تاريخ الكتابة الأدبية باللغة الفرنسية في لبنان, فإن بدايات الكتابة الشعرية تعود الى أواخر القرن التاسع عشر. فالعرب ميالون بطبعهم الى الشعر بل لعله فطرة لديهم. لقد كتب اللبنانيون بالفرنسية أحاسيسهم الذاتية ومشاعرهم الوطنية وصاغوها في قصائد بقيت حتى الستينيات تستلهم شعراء الكلاسيكية أو الرومنطيقية في فرنسا. ولربما بقيت قيمة النتاج الشعري باللغة الفرنسية طيلة النصف الأول من القرن العشرين (ما خلا بعض الاستثناءات) محض تاريخية إذا ما اعتبرنا أن الشعر هو إعادة خلق للواقع, وأنه يقدم للقارىء عالما مغايرا لذلك الذي تقع عليه عينه, عالما يرى بالحدس فلا يكاد يُلمح حتي يختفي من جديد باعثاً متعة التخيل والاكتشاف. كان يجب انتظار الخمسينيات لتحمل الى الشعر رياح التغيير. وإذا كان جورج شحادة هو الوجه الأكثر تألقاً بين رواد الحداثة الشعرية بالفرنسية, غير أنه لا يجب أن ننسى شاعراً كفؤاد أبي زيد الذي اعتمد قصيدة النثر منذ الأربعينيات, أو كفؤاد غبريال نفاع الذي انتهج الشعر درب كشف عن الحقيقة المختفية كالسر في الأعماق. ويمكن القول أن الكتابة الشعرية الحديثة باللغة الفرنسية تقع بمجملها في تيارين: الأول هو ما يعرف بشعر التجربة, ونجده في أعمال ناديا تويني, وفينوس خوريغاتا وأندره شديد. أما الثاني فتغلب عليه النزعة الفكرية, وتصبح فيه اللغة ذاتها مادة القصيدة. الى هذا التيار ينتمي شعر صلاح ستيتية وفؤاد غبريال نفاع وجاد حاتم. وعلى الرغم من غزارة الانتاج الأدبي باللغة الفرنسية فهو لا يزال يفتقد الى جمهور عريض؛ لذلك يقتصر انتشاره على بعض الأوساط. من جهة أخرى, يصطدم هذا النتاج بمشكلة ضعف انتشاره في فرنسا فهو لا يطال إلا جمهور من المهتمين يصغر حجمه أو يكبر تبعاً للظروف الثقافية والسياسيسة. فمن الملاحظ مثلاً أن الاهتمام بالأدب اللبناني في فرنسا قد تزايد في العقدين الأخيرين بسبب رغبة القارىء الفرنسي في معرفة ما يجري على الساحة اللبنانية وفي فهم هذا المجتمع الذي تمزقه الحرب الأهلية التي طغت صورتها في وسائل الإعلام الغربية. تقودنا هذه الملاحظة الى طرح مشكلة الأدب الفرنكفوني بشكل عام وموقعه من الثقافة الفرنسية. لقد بقي هذا الأدب سواء كان نتاجا إفريقيا أو عربيا طيلة عقود عديدة هامشيا, وإذا حظي باهتمام ما فذلك باعتباره مرآة تعكس واقعا سياسيا أو اجتماعيا أو اتنولوجيا يسعى المهتمون في فرنسا لمعرفته, وليس لقيمته الفنية. وربما يفسر ذلك الإقبال الكبير نسبيا على ترجمة الرواية اللبنانية في فترة الحرب مما أتاح لبعض الروائيين ممن ليسوا بالضرورة الأفضل على المستوى الإبداعي فرصة الانتشار لدى القارىء الفرنسي. ولا تزال النظرة الفرنسية الى الانتاج الفرنكفوني خاصة في جنوب الكرة الأرضية, نظرة فوقية, بينما يختلف الأمر عندما يتعلق بالنتاج الكندي أو السويسري أو الروسي مثلاً. دليلنا على ذلك أن كتّاباً ك سيوران, وأداموف, وإيونيسكو, وناتالي ساروت وكلهم غير فرنسيين قد كُرسوا كأعلام في تاريخ الأدب الفرنسي, بينما يبقى آخرون كبار من بلدان المشرق العربي, وعلى الرغم من الجوائز الأدبية التي تشهد لبراعتهم, في موقع الطارىء والغريب. لكن هذا الواقع قد بدأ يتغير في العقد الأخير من القرن العشرين حيث تشكلت قناعة لدى أهل السياسة والثقافة في فرنسا بأن مستقبل هذا البلد وثقافته مرتبط بما يمكن أن تقدمه الثقافة الفرنكفونية على مساحة انتشارها الواسعة المتنوعة. لم تعد اليوم العلاقة بين الثقافة الفرنسية والثقافات الفرنكفونية الأخرى علاقة المركز بالأطراف, بل تكاملية تقوم على الاحترام المتبادل. وقد نجد في صدور “مختارات من الأدب الفرنسي” التي جمعها جان دورمسون ونشرتها دار غاليمار العام المنصرم شاهدا على هذا التحول حيث تضمنت نصوصا لأعلام كبار من بلدان الفرنكفونية بعضهم لبنانيون برزت أسماؤهم جنباً الى جنب مع كتاب فرنسيين لإسهامهم جميعا في بناء ثقافة التنوع ضمن الوحدة.
الفرنكفونية في العالم العربي
إذا كانت علاقة اللبنانيين باللغة الفرنسية بشكل عام تتسم بالانسجام بحيث تشكل هذه اللغة وما تختزنه من فكر وثقافة ورؤى للعالم رافداً للهوية الثقافية, فإن الأمر مختلف في المغرب العربي وفي الجزائر على وجه الخصوص. وذلك يعود بالطبع لأسباب تاريخية. فالوجود الفرنسي في لبنان كان مؤقتاً, ولم تكن فرنسا في نظر عدد كبير من اللبنانيين دولة محتلة, بينما عانى الجزائريون طيلة مئة وثلاثين عاماً من احتلال فعلي لأرضهم مارس خلاله المستعمر الفرنسي محاولات كثيرة لسلبهم هويتهم الثقافية ولطمس معالم شخصيتهم الوطنية, ففرض لغته على حساب اللغة العربية التي لم تصمد لولا ارتباطها بالعقيدة كونها لغة القرآن الكريم. ولعلنا نجد في ذلك تفسيراً مقنعاً لمفارقة يشهد لها الأدب الجزائري باللغة الفرنسية. فقد حاول الجيل الأول من الكتّاب أن يعبّر بالفرنسية عن سعيه لتثبيت الهوية الوطنية من خلال تصوير الحياة القبلية والعادات والتقاليد ومن خلال التعبير عن الحنين الى بساطة الحياة القروية في مواجهة إغراءات المدنية الحديثة القادمة مع المستعمر. أما الجيل الثاني فقد هيّأ بكتاباته للثورة الجزائرية الكبرى. إن رواية كاتب ياسين الشهيرة “نجمة” اعتُبرت الشرارة الأولى التي أطلقها قلم له فعل البندقية. ذلك أن كاتب ياسين وهو مؤسس الرواية الجزائرية المعاصرة “يكتب بالفرنسية ليقول أن الجزائر عربية” كما يصرّح في مقابلة صحفية, ويطلق الدعوة الى الانتفاضة ضد المستعمر. وقد بقيت العلاقة باللغة الفرنسية صدامية بعد الاستقلال حيث شهدت الجزائر حركة تعريب واسعة تعبر عن رغبة التحرر من الاستعمار الثقافي الذي فرضته اللغة الفرنسية المهيمنة. وقد نجد في نتاج الجيل الثالث من الكتّاب أثراً واضحاً لتلك العلاقة الصدامية يتجلى في الخصائص الأسلوبية نفسها حيث تطالعنا لغة قاسية فتصبح الكلمات كطلقات رشّاش ويأتي إيقاع الجمل عنيفاً, كأن الكتابة معركة وساحة قتال, بينما هي على العكس عند شاعر لبناني كصلاح ستيتية مثلاً, علاقة حب وفعل وصال مع لغة يجد فيها الكاتب مكاناً دافئاً حميماً. تبقى المرارة سمة أساس في الإنتاج الجزائري الفرنكفوني المعاصر وهي تصدر عن وعي لأزمة شعب لم يستطع أن يبني هويته المنسجمة بعد رحيل المستعمر ولم يتصالح مع الآخر “الأجنبيالفرنسي” الذي يشكّل في الوقت نفسه جزءاً من هويته فرضته حتمية التاريخ, وتهديداً لها. ولعلنا نجد في هذه الكلمات لرشيد بوجدرة شاهداً على ذلك: “بالنسبة لي, أنا الجزائري, ليست الفرنسية لغة اخترتها. بل هي التي اختارتني أو بالأحرى هي التي فرضت نفسها عليّ خلال قرون عديدة من الدم والدموع”. ولا يسهم الواقع السياسي المعاصر في الجزائر في حلّ مشكلة العلاقة مع اللغة الفرنسية, بل على العكس يبرز كعامل في تفاقمها. ففرنسا متهمة في نظر فريق من الجزائريين بتغذية النعرات الإثنية وبمحاولة تمزيق الجزائر التي وحدها بين دول المغرب العربي ترفض الانتماء الى مجموعة الدول الفرنكفونية. إلا أنه لا بدّ من الإشارة هنا الى ظاهرة الأدب النسائي في الجزائر حيث العلاقة مع اللغة أكثر إيجابية باعتبارها تتيح للأديبة التعبير بحرية عما يجب أن يبقى في حيّز الصمت إن هي كتبت باللغة الأمّ. تعلن ميساء باي في أحد كتبها: “أنا لا أجد حرجاً في التعبير عن نفسي باللغة الفرنسية. المهم بالنسبة لي أنا المرأة التي تعيش في الجزائر أن أستطيع التعبير عن نفسي, وأن أستطيع قول ما يجب أن أقوله”. أما مليكة مقدم فنراها تكتب في صحيفة لوموند: “ليست اللغة الفرنسية بالنسبة لي لغة أجنبية, لأنها لغة تختلج في جسدي, ولأن كلماتها الأليفة تفتش بلا كلل في ثنايا أفكاري وتصقل أحاسيسي. لست رهينة هذه اللغة... إنها أنا نفسي”.
وتبدو العلاقة مع الثقافة واللغة الفرنسية في المغرب وفي تونس أقلّ تعقيداً وأكثر هدوءاً. وربما يعود ذلك الى أن هذين البلدين لم يعانيا كالجزائر من الاحتلال الفرنسي, وأن الحضور الفرنسي فيهما كان شبيهاً بما كان عليه في لبنان.
أما في مصر فقد دخلت اللغة الفرنسية مع حملة بونابرت عام 1798 . وقد كان لهذه الحملة إضافة الى نتائجها السياسية والعسكرية انعكاسات ثقافية واجتماعية مهمة منها تشكل نخبة ثقافية أسهمت فيما بعد في إطلاق حركة النهضة العربية. وقد أصبحت اللغة الفرنسية تحت حكم محمد علي باشا منذ أوائل القرن التاسع عشر لغة المجتمع الراقي ولغة الأعمال والإدارة وكانت تعلم في المدارس الفرنسية التي انتشرت في القاهرة والاسكندرية والاسماعيلية والتي كان لها دوراً كبيراً في اعداد النخبة الثقافية. ولعله من المفيد إيراد بعد الأرقام: ففي العام 1878 كان في مصر 5370 مدرسة “كتّاب” و37 مدرسة حكومية في مقابل 130 مدرسة أجنبية كانت تعلم باللغة الفرنسية. ولم تفقد اللغة الفرنسية مكانتها حتى في ظل الانتداب البريطاني الذي فُرض على مصر منذ العام 1882 . ولا أدلّ على ذلك من أنه من أصل مجموع الدوريات الأجنبية التي كانت تصدر في القاهرة سنة 1937 وعددها خمس وستون دورية, خمس وأربعون منها كانت باللغة الفرنسية بينما بلغ عدد الدوريات باللغة العربية مئتان. وقد عرفت مصر منذ منتصف القرن التاسع عشر حتى منتصف القرن العشرين حركة ثقافية ناشطة باللغة الفرنسية حيث بلغ عدد الكتاب الفرنكفونيون فيها في تلك الفترة 300 كاتب في شتى المجالات الفكرية والأدبية والاقتصادية والسياسية. وقد بلغ النشاط الأدبي الفرنكفوني أوجه بين 1920 و 1950 . لكن قيام الثورة سنة 1952 وجه ضربة قاسية لهذه اللغة المرتبطة بالنظام القديم فانطفأ نجم الفرنكفونية في مصر حيث أُممت المدارس الفرنسية بعد أزمة قناة السويس, وفرضت الدولة رقابة صارمة على المدارس الكاثوليكية التي لم تلبث أن أقفلت أبوابها, وتقلص تدريجياً دور اللغة الفرنسية بعد أن عُرّبت المناهج. نتيجة لذلك شهدت الخمسينيات هجرة عدد من الكتاب المصريين الى فرنسا حيث نشروا نتاجهم بالفرنسية منهم أعلام ك جورج حنين, وألبير قصري, وجان منصور. إلا أن العقدين الأخيرين من القرن العشرين شهدا تحولاً في السياسة الثقافية والتعليمية في مصر حيث أنشأت في الإسكندرية الجامعة الفرنكفونية وبدأت اللغة الفرنسية تعود تدريجياً الى مناهج التعليم المدرسي, ونشطت الحركة في أقسام اللغة الفرنسية وآدابها في جامعات القاهرة وعين شمس والإسكندرية.
يتضح مما تقدم أن الحضور الفرنكفوني متفاوت بين دول العالم العربي وأنه قد خضع لتحولات كثيرة نسبة الى الحيز الذي احتلته اللغة الفرنسية عبر الفترات المتلاحقة في مجالات التعليم والانتاج الثقافي. لكن الفرنكفونية بمعناها الجديد تتجاوز مجرد استعمال اللغة الفرنسية لتعبر عن قناعة راسخة بضرورة الحوار والتفاعل بين الثقافات المختلفة للشعوب التي تنطق بهذه اللغة, من أجل التوصل الى إقامة تعاون حقيقي فيما بينها. كيف تكون الفرنكفونية ثقافة حوار في العالم العربي؟
الفرنكفونية الجديدة: ثقافة حوار
أستعير من الوزير غسان سلامة جملة وردت في كلمة ألقاها في إحدى المناسبات الثقافية يرى فيها أن “الحوار شكل من أشكال الصراع, ذلك أن الحوار يتطلب أولاً أن نعترف بالآخر وهذا صراع مميت مع الذات لكي نعترف به”. قد تصلح هذه الجملة لتختصر إشكالية العلاقات الثقافية بين فرنسا وبعض العالم العربي ماضياً وحاضراً. إذ لطالما بقيت صورتها مقترنة بصورة الآخر أي الأجنبي الذي يهدد الهوية. من جهة ثانية, لطالما كانت النظرة الفرنسية الى العالم العربي استعلائية, استعمارية, يطغى عليها طابع الاستشراق بمعناه السلبي أي وضع العالم العربي في مرتبة دونية كونه ينتمي للشرق أي كونه نقيضا جذريا للغرب في سياق المنطق الاستشراقي التقليدي. إلا أن الثلث الأخير من القرن العشرين يشهد تحولاً متبادلاً في نظرة كل من الشرق والغرب الى الآخر تظهر معالمه في الإنتاج الثقافي. لم يعد المثقف الفرنكفوني مثلاً في العالم العربي ضحية تهمة الاستلاب للغرب, لأنه يتجذر في ثقافته الأصلية لينطلق منها الى العالمية بواسطة اللغة الفرنسية. ولم تعد هذه اللغة لغة الآخر الغريب, لأنها أخضعت لاستعمالات جديدة تتطلبها الذات التي تعبر عن هويتها الخاصة من خلالها. بمعنى آخر, لم يعد الآخر خارج الذات في موقع الغريب أو العدو, بل استقبلته هذه الذات المحّصنة بالقدر الكافي الذي يسمح لها إقامة علاقة التفاعل الحقيقي مع هوية غيرية. وذلك لا يكون إلا حصيلة وعي كبير وقدرة على إقامة المسافة مع الذات لوضعها موضع التساؤل فتتجاوز نفسها وتتحرر من القوالب الضيقة التي تأسرها. والواقع أن المفهوم الجديد للفرنكفونية الذي تجاوز فكرة هيمنة الثقافة الفرنسية ليترك للثقافات الأخرى حيزاً هاماً في صنع ثقافة التنوع والوحدة هو نتيجة وعي مزدوج. فمن جهة, أدركت فرنسا في عصر التفوق الأميركي على كل الصعد الاقتصادية والتقنية والسياسية, أنه لا بد لها كي تحتل موقعا في ملعب السياسة العالمية من الدعم الذي يمكن أن ترفدها به الدول والشعوب التي تنطق بلغتها؛ ذلك أن اللغة المشتركة صالحة لتشكل لبنة أساسية تقوم عليها علاقات متميزة, شرط التخلي عن منطق الاستعلاء. ومن جهة أخرى, تعي الشعوب التي تنتمي لمنظمة الدول الفرنكفونية, في جنوب الكرة الأرضية, أنها في ظل عالمية أحادية لا تستطيع أن تصمد أمام خطر الهيمنة دون دعم ومساندة قوة كبيرة في العالم, بل دون التعاون المتميز فيما بينها جميعاً وعلى مختلف الصعد. فالدول والشعوب الفرنكفونية تواجه على مستويات مختلفة الخطر نفسه: تسلط ثقافة واحدة تفرض نفسها بفعل التفوق الاقتصادي والتكنولوجي. لكن للتعاون شروط أهمها الاحترام المتبادل, والحق في الخصوصية والاختلاف. ولعل الدور المناط باللغة الفرنسية اليوم أكثر من أي وقت مضى هو بلورة هذا الاختلاف والتأكيد على هذه الخصوصية التي تغني الحوار وترفد الثقافات المختلفة بروافد تخصبها. إن اللغة الفرنسية كوسيلة تعبير مشتركة بين الإفريقي والعربي, على سبيل المثال, تمكن كل واحد منهما من التعرف على الآخر الذي يظنه غريباً شديد الاختلاف فيكتشف أنه يلتقي معه في كثير من التطلعات والهواجس بل والعادات والتقاليد. لا تختلف البيئة الاجتماعية التقليدية في الكونغو, كما تتمرأى في أعمال الروائي هنري لوبس مثلاً عن مثيلاتها في البلاد العربية: الأهمية ذاتها للعائلة كنواة أساسية للمجتمع, الميل نفسه الى المحافظة التي غالباً ما تتم على حساب المرأة وتمنعها من تحقيق ذاتها ككيان مستقل, النظرة نفسها للحضارة الغربية وأثرها في زعزعة البنية الاجتماعية وتهديد الهوية الحضارية. ولولا اللغة الفرنسية لما حصل هذا اللقاء الثقافي بين قارىء وكاتب ينتميان لحضارتين مختلفتين. والعلاقة نفسها تقوم بين القارىء الفرنسي والكاتب العربي الفرنكفوني الذي يشكل جسراً تمر عبره الثقافة الأمّ إلى الثقافة الأخرى. إلا أنه لابدّ من الإشارة إلى الحاجة الملحة لتعميم الوعي الذي نشأ في بعض الأوساط الفرنسية الضيقة لأهمية ثقافات شعوب ما يعرف بالعالم الثالث بحيث يتم تجاوز نظرة الإزدراء والتهميش. وقد تكون الخطوة الأولى في هذا الإتجاه إدراج اللغة العربية كغيرها من اللغات الحية في مناهج التعليم, خاصة وأن جزءاً لا يستهان به من الشعب الفرنسي اليوم متحدر من أصل عربي, وأن المجتمع الفرنسي قد أصبح مجتمعاً تعددياً بامتياز. ولعله للمرة الأولى في تاريخها تجد فرنسا نفسها أمام تحدٍ كبير هو أن تثبت بالممارسة السياسية والاجتماعية والثقافية أمانتها للقيم التي قامت عليها ثقافتها والتي تشكل معنى الانتماء للفرنكفونية, عنينا بذلك الحرية والقبول بالآخر واحترام الحق بالاختلاف. يتبنى هذا المنطق عدد من المثقفين والمهتمين الفرنسيين بينهم سفير سابق لفرنسا هو ألبير صالون, والرئيس السابق لمنظمة الجامعات الناطقة كلياً أو جزئياً باللغة الفرنسية ميشال غييو, الذين صاغوا أفكارهم في ورقة عمل تحت عنوان: “من أجل سياسة فرنكفونية متعددة الأطراف” وضعوا فيها تصورات ومقترحات علّ القمة الفرنكفونية التاسعة التي ستنعقد في بيروت في تشرين الأول المقبل توليها العناية والاهتمام. وقد لاحظوا في هذه الورقة غياب سياسة فرنكفونية واضحة المعالم في معظم الدول الفرنكفونية النامية, في مقابل سياسة فرنسية تقتصر على تشجيع انتشار اللغة الفرنسية دون الأخذ بعين الاعتبار علاقتها باللغات الأخرى. بينما يفرض الواقع أن تكون المسؤولية مشتركة بمعنى أنه على الدول الفرنكفونية في العالم الثالث أن تخرج من موقع المتلقي الى موقع المبادر والمشارك الفعلي في وضع سياسة فرنكفونية تلبي حاجاتها. وإذا كان تطور تقنيات الاتصال قد حوّل العالم إلى قرية كونية, فإن تعلم اللغات المختلفة قد أضحى حاجة فعلية, مما يفترض تجاوز العلاقة التنافسية بين اللغات نحو التكامل والتنوع المطلوب. يحضرنا في هذا السياق رأي لأمين معلوف عبّر عنه في الثمانينيات في مجلة تصدرها وزارة الخارجية الفرنسية: “إن دور اللغة الفرنسية اليوم لم يعد الدفاع عن مساحة خاصة بها في دول العالم الفرنكفوني لأنها أصبحت ضرورة أوجبتها المعطيات الاستراتيجية الجديدة. وهي لا يجب أن تكون في تنافس مع اللغات الوطنية بل أن تدخل في علاقة تكامل معها”. ولا مناص من الاعتراف بأن الإنكليزية لغة التقنيات الحديثة والاقتصاد, وأن الفرنسية بما تملك من بعد إنسانوي تضمن لنفسها حيزاً مميزاً, أما العربية فهي بالنسبة لنا نحن العرب لغة الهوية والانتماء, تغرس جذورها في ماضٍ حضاري غني, وفي تراث روحي حي.
كلمة برسم القمة الفرنكفونية التاسعة
ولا بدّ من كلمة أخيرة بمناسبة القمة الفرنكفونية المقبلة التي تنعقد في ظروف يعاني فيها العالم بأسره من مشاكل اقتصادية وسياسية وبيئية, وفي فترة تكثر فيها الصراعات والنزاعات المختلفة. ما نطلبه نحن العرب من القمة في هذا الظرف بالذات حيث تمتهن الحقوق, وتنتهك الحرمات وتستباح الدماء في القدس وعلى أرض فلسطين, هو تجاوز التنظير والبيانات التي تبقى حبراً على ورق نحو بلورة موقف ثابت من شأنه أن يحد من صلف الاحتلال وهمجيته, وأن يسهم في تحريك مسيرة سلام عادل وشامل. ما ننتظره من القمة, نحن اللبنانيون, هو قرارات تساعد على نهوض لبنان الاقتصادي وتخرجه من الأزمة التي يتخبط بها. ما ننتظره من القمة على مستوى أشمل هو العمل على ردم الهوة بين دول الشمال ودول الجنوب ضمن المجموعة الفرنكفونية. وهذا ما لفت اليه رئيس الجمهورية اللبنانية الجنرال إميل لحود في كلمته أمام مؤتمر رجال الأعمال الفرنكفونيين حيث قال: “بالنسبة للبنان البلد الذي يستضيف القمة الفرنكفونية التاسعة تشكل المنظمة الدولية للفرنكفونية مساحة فضلى للتعاون الاقتصادي بين دول الشمال ودول الجنوب وللتنمية المشتركة... إن المساحة الفرنكفونية بالنسبة لنا هي مساحة نمو وتعاون”.
ما ننتظره من القمة أخيراً هو توثيق التعاون بين الدول الفرنكفونية كي تشكل مجموعة منسجمة لها وزنها في ميزان القوى العالمي فتحول دون عولمة أحادية. ذلك أن العولمة الحقيقية هي عولمة إنسانوية من شأنها أن تقيم العدالة بين البشر, ونزعم أنها انطلقت أساساً من فرنسا منذ القرن السادس عشر.