قضايا اقليمية
الاحتلال هو الذي يصنع الخطر ويؤدي الى تزايد العداء لإسرائيل وينزع عنها شرعيتها
الاحتلال تحوّل الى خطر وجودي لأنه يزعزع التوازن الديموغرافي الخاص بإسرائيل
تُسلّم الأغلبية الساحقة من الإسرائيليين بواقع ضرورة استمرار احتلال الأراضي العربية (فلسطين، سوريا، لبنان...) تحت ذريعة «الخشية من اليوم التالي»، وبتعبير آخر يقول الإسرائيليون إن السبب العميق لاستمرار الاحتلال هو ادعاء الإحساس العميق بالتعرّض للخطر. وهنا ندخل نحن وإياهم في جدلية عقيمة كجدلية أيهما قبل البيضة أم الدجاجة، أي أيهما في الأول الخطر أم الاحتلال؟
هم يقولون إن الخطر هو الذي ولّد الاحتلال في العامين 1948 و1967. ولكن أين كان هؤلاء الإسرائيليون قبل العام 1948، ألم يكونوا في الشتات الأوروبي والعربي والروسي؟ وبالتالي أليس من المجدي والمنطقي القول إن الاحتلال هو الذي يصنع الخطر ويؤدي الى تزايد العداء لإسرائيل؟ كما أليس من المجدي والمنطقي القول إن الاحتلال نفسه قد تحول الى خطر وجودي جديد لأنه يزعزع التوازن الديموغرافي الخاص بإسرائيل وينزع عنها شرعيتها الدولية وصورتها الأخلاقية والإنسانية؟ والشواهد على ذلك لا تحصى في كل من فلسطين ولبنان بشكل خاص.
لقد أضاف الاحتلال ولا يزال يضيف، يوماً بعد يوم، أبعاداً جديدة ومتجددة للخطر؛ وعلى محور الزمن وتعاقب الأحداث، لا يمكن لأحد أن ينكر بأن الاحتلال هو الذي يولّد الخطر، وهو الذي يمثّل المكوّن الأساسي للصراع المستدام في المنطقة.
على أرضية الاحتلال هذه، ظهر الخطر القومي والخطر الديني والخطر الحضاري والاقتصادي ثم الخطر الاستيطاني، وما يرتبط به من نوازع حق العودة للمشردين العرب في الأراضي الفلسطينية والسورية واللبنانية. والحل الأخلاقي المطروح على الإسرائيليين لإزالة هواجس الإحساس بالخطر، هو مبدأ: الأرض مقابل السلام. وإذا كان الافتراض الذي ساد العام 2000 بأن السلام بات على مرمى حجر في غضون لقاءات كامب ديفيد الثانية التي ضمت الرئيس كلينتون ورئيس الوزراء الإسرائيلي إيهود باراك ورئيس منظمة التحرير الفلسطينية الراحل ياسر عرفات، فإنه بعد ذلك العام، وبعد تولي شارون السلطة، اختفى السلام كلياً مع اختفاء الأمل بإنشاء دولة فلسطينية مستقلة وكاملة الأوصاف الشرعية والقانونية، على أراضي الضفة الغربية وقطاع غزة.
في المقابل اضطرت إسرائيل مرغمة الى الانسحاب من القسم الأكبر من أراضي لبنان الجنوبية، كما واضطرت مرغمة الى الانسحاب من قطاع غزة وبعض أراضي الضفة الغربية، ولكنها في الوقت نفسه غرقت في جدلية كون الانسحاب، أو حتى إعادة الانتشار، إنما تمثل ضعفاً والضعف يولّد المزيد من المخاطر، لأنه يؤدي بشكل خاص الى تعاظم الدوافع الدينية لمحو دولة إسرائيل من الوجود، الى جانب إنعاش الدوافع القومية المتهالكة لتستعيد وجودها وأنفاسها وشعاراتها. وبتعبير آخر يرى القادة الإسرائيليون أن تحجيم الاحتلال إنما يؤدي الى مفاقمة المخاطر والى فوضى وعدم استقرار وصراع محتدم بين الشرعيات المتناقضة.
وهنا تبرز المفارقة الصعبة ما بين خطر الموت الكامن في سرطان الاحتلال مقابل الخطر الوجودي الكامن في العملية الجراحية اللازمة لإزالة التورم السرطاني. لقد جاءت «خطة الفصل» المتداولة منذ أيام رابين ثم باراك ثم شارون ثم أولمرت، لتشكل رداً بديلاً على خريطة الطريق الدولية الرباعية، كما وجاءت كرد على معضلة الجدلية القائمة بين الاحتلال والخطر.
وهي من زاوية أخرى أيضاً جاءت لتشكل خطوة محدودة ومدروسة لإنهاء بعض الاحتلال في مقابل الحصول على إنهاء بعض المخاطر، خصوصاً وإن إنهاء الاحتلال عبر تسوية نهائية مفترضة هو أمر مستحيل بل وغير مرغوب فيه إسرائيلياً من الأساس.
وبالتالي فالوضع الإنتقالي هو المخرج الوحيد المتوافر والمرغوب فيه لما يحمله معه من تقليص العبء الديموغرافي والسياسي والأمني الذي يوجده الاحتلال الواسع النطاق.
والفصل الذي بدأ في لبنان منذ العام 1983 ولم ينته بعد في لبنان وفلسطين، قد تكرّس لدى القيادات الإسرائيلية والصهيونية كحقيقة سياسية لا غنى عنها، ولكن بشرط ألاّ تتغلب قيمة السيادة العربية على الأرض العربية على قيمة الوجود الإسرائيلي الآمن والدائم بالذات.
لقد أشار انسحاب إسرائيل من طرف واحد من القسم الأكبر من جنوب لبنان العام 2000 الى أهمية الحدود الدولية المعترف بها، والى قوة السور غير المرئي للشرعية الدولية.
وفي فلسطين يرى الكثيرون من القادة الإسرائيليين أنه لا بد من إيجاد سور مماثل، وليس الجدار الفاصل هو الذي سوف يمنع إطلاق قذائف على مستعمرة كفار سابا ولا العراقيل الإسمنتية الضخمة هي التي ستمنع هجمات القسّام على مستعمرة سديروت، ولكن فقط سور من الشرعية الدولية، علماً أن الحدود الوحيدة المعترف بها من الشرعية الدولية، في الساحة الفلسطينية، هي حدود الرابع من حزيران العام 1967. وهنا تعود المفارقة الإسرائيلية والدائرة المغلقة لتفرض نفسها من جديد على الساحة الفلسطينية، حيث أن الحدود التي تتيح لإسرائيل الحياة، بحسب زعمها، هي حدود غير شرعية، والحدود الشرعية لا تتيح لها الحياة. والحل لدى إسرائيل هو أن تسلك سلوك النعامة فتدفن رأسها في الرمال وتتناسى ما صنعته أياديها من ظلم وقهر واحتلال وتجاوز للأعراف والقوانين. وبالتالي لن يكون هناك، والى أجل غير مسمى، خط أزرق في الضفة الغربية. كما ولن يكون هناك اعتراف رسمي من الأمم المتحدة بانتهاء الاحتلال. ولهذا فإن إسرائيل اليوم، وبعد تجربتي فلسطين ولبنان الفاشلتين، تعيش حالة تسيُّب على مستوى القيادة والمشروع، وتعيش حالة ضياع وانعدام قرار في تحديد الهدف ووجهة السير الخاصة بها للمستقبل.
ولهذا السبب يعترف آفي إيتام، زعيم حزب المفدال، القومي الديني الصهيوني، بأن اسرائيل هي المكان الأقل ملاءمة من بين دول العالم بالنسبة الى اليهودي الذي يتطلع للعيش في مكان آمن، في حين أن هناك ملايين اليهود والذين يعيشون في أماكن أخرى غير إسرائيل في هدوء وطمأنينة، ولهذا السبب أيضاً اضطرت قيادة الدولة في أواخر الثمانينيات ومطلع التسعينيات من القرن الماضي الى غضّ الطرف عن مجيء أعداد هائلة من غير اليهود الذين تسربوا مع موجات الهجرة، الوافدة من دول الاتحاد السوفياتي السابق، والذين تقدر أعدادهم بثلث العدد الكامل من الوافدين.
وفي هذا السياق فإن طرح شعار «الدولة اليهودية»، والصراخ به ليلاً ونهاراً، إنما يعبّر بطريقة غير مباشرة عن الأزمة العميقة التي تعيشها إسرائيل وتدفعها الى إعادة البحث عن هويتها، بل وعن مبرر وجودها بالذات، وهذا ما حاول القادة الأميركيون بشكل خاص منذ ترومان وحتى بوش الإبن، تغطيته والتخفيف من حدة تأزمه ولكن من دون جدوى. فإسرائيل التي كان من المفترض، وبعد ستين عاماً على وجودها، أن تتحول الى «دولة اليهود» كما أرادها تيودور هرتسل منذ المؤتمر الصهيوني الأول المنعقد في بازل في سويسرا العام 1897، لم تستطع حتى الآن، على الرغم من كل الاغراءات والتسهيلات، من أن تجتذب أكثر من 18٪ فقط من يهود العالم، والأكثر خطورة في هذه الحقيقة ليس تواضع هذه النسبة ومحدوديتها فحسب، وإنما ثباتها وعدم القدرة على تطويرها أو زيادتها، خصوصاً على ضوء وجود أعراض تآكل حاد في أعداد اليهود الموجودين في العالم، ما دفع بعالِم الاجتماع الفرنسي - اليهودي جورج فيدمان الى نحت مصطلح «موت الشعب اليهودي» تعبيراً عن هذا التطور السلبي للوضع الاحصائي ليهود العالم.
وقد توقع عدد من الديموغرافيين احتمال فقدان اليهود في العالم نحو مليوني نسمة من عددهم الحالي في غضون العقدين المقبلين. وكان شمعون بيريس من أبرز الذين نبهوا لخطورة هذه الظاهرة حين قال: «إن المشكلة الديموغرافية - المشكلة العددية للشعب اليهودي في عصرنا - هي مشكلة مصيرية بكل معنى الكلمة، فلا يهودية من دون يهود، كما وأننا نشهد ظاهرة مزدوجة من انخفاض الروح اليهودية لدى اليهود وتناقص عدد اليهود في العالم. فنحن لم نعد أقل الشعوب عدداً فحسب بل أيضاً أكثرها تناقصاً».