- En
- Fr
- عربي
عسكريو الهندسة: أحياناً كان ما تحقق أشبه بالجنون!
هو الفوج - الصورة الأنسب - للتعاون بين الأفواج كافة. فوج الهندسة أدى دوراً أساسياً ومهماً جداً في معركة نهر البارد، وذلك من خلال سراياه التي توزعت حسب مهامها لمساندة القوى المشاركة في القتال وتأمين الدعم الهندسي لها.
المهام الأساسية: شقّ السبيل للتقدم، فتح الطريق لإخلاء المصابين، تفكيك الألغام ونزعها، إقامة مربض ومساند للدبابات وتأمين دخولها، تغطية عناصر الجيش وتأمين تقدمهم...
إنتهت المعركة وما زالت سريتان من الفوج داخل المخيم، تعيد تمشيطه وتنظيفه كاملاً من التفخيخات.
هنا حصيلة عدة لقاءات مع عسكريين من رتب مختلفة شاركوا في مهمة نهر البارد.
صنعنا تلة
هي تلة لكنها تحمل توقيع «صنع بالتعاون بين الهندسة والمغاوير». كان التحدي فتح الطريق من جهة النهر الى أعلى نقطة في المخيم، تأميناً لإخلاء المصابين وإمداد العسكر بالذخيرة.
النقيب الذي كان مع الفصيلة المساندة لفوج المغاوير، والذي كان مسؤولاً عن تنفيذ مهمة التلة، يعتبر أن لكل مرحلة في معركة نهر البارد خطورتها وتحدياتها، ويروي كيفية بناء التلة:
«كانت هذه العملية تحدياً كبيراً. قائد فوج المغاوير قال لي: إذا فتحت طريقاً وأمّنت وصول دبابة الى القمة تكون حميت العسكر. هذا الأمر شجّعني على المضي في تحقيق العملية. بدأنا فتح الطريق بواسطة حفّارة خنادق، جرّافة د9 ورفش جنزير؛ وتابعنا ردم المنازل والإرتفاع صعوداً. كان الأصعب في هذه العملية، تأمين مركز رمي للدبابة من أعلى نقطة في التلة، مع العلم أن الأبنية كانت بأغلبيتها تتألف من 3 أو 4 طوابق. أكملنا جمع ركام المنازل حتى بنينا التلة، ووصلت الدبابة الى نقطة مرتفعة كاشفة على الأبنية كافة. كان لهذه التلة دور كبير في قصف معاقل الإرهابيين حول منطقة الحاووز». استغرق بناء هذه التلة ثلاثة أيام. «كانت فكرة جنونية وما كنا نتوقع أن نستطيع تنفيذها».
مرّت على خير...
المخاطر التي يتعرّض لها أفراد فوج الهندسة، خصوصاً في ما يتعلق بتفكيك العبوات والألغام مخاطر جمة. حول هذه النقطة يقول النقيب:
«كنا دائماً مع حضائر الطليعة جنباً الى جنب مع فوج المغاوير وتعرّضنا لمخاطر جمة. أذكر مثلاً أنه في المرحلة الأخيرة من المخيم الجديد، كانت إحدى السرايا تنفّذ مهمة إحتلال مبنى. كنت وآمر السرية مع رهط هندسي وحضيرة دهم، نراقب المبنى وقد وضع العدو على مدخله صناديق ذخيرة. في البداية كانت الخطة الإقتراب وتفكيك الذخيرة، ولكنني تردّدت معتبراً المشهد فخاً، فالعدو عادة يخبئ العبوات. اقترحت عندها قصف المبنى بقذائف «آر. بي. جي» قبل دخوله. احتمى العناصر، وبعد توجيه القذيفة الثانية الى المبنى دوّى صوت انفجار قوي. وتبيّن لنا في ما بعد أن المبنى المقصود كان مفخخاً مع المبنيَين المجاورَين، وقد كان كميناً لاستدراجنا وتفجيرنا».
لا رحمة... الخطأ الأول هو الأخير! لذا كان عمل الهندسة يتم بتأنٍ، المهم ليس كمية المباني المحتلة، بل التقدم بشكل سليم وتجنّب وقوع الإصابات. فهذه المعركة ارتكزت وبشكل أساسي على التفخيخات والغدر.
لا نترك شهيدنا
يسرد نقيب آخر من فوج الهندسة حادثة بارزة أثّرت به، حصلت في أول المخيم القديم، حيث دخلت مجموعة من مغاوير البحر لاحتلال مبنى ولكنها وقعت في كمين فاستشهد عسكري. حاول رفاقه سحبه فسقط شهيدان تمّ سحبهما فوراً. ويضيف: «حاولنا الدخول من محاور أخرى ولكن من دون فائدة بسبب الأفخاخ. فقررنا الإلتفاف واحتلال ثلاثة مبانٍ مجاورة لتأمين الحماية. أخذنا المبنى الأول، ركّزنا العسكر فيه ومن خلاله استطعنا الدخول الى المبنيَين الآخرين. دخلت مجموعة من خمسة عسكريين الى المبنى الذي توجد فيه جثة الشهيد (7 طوابق) فانهار عليهم. وأصبحت المشكلة كيفية سحب ستة شهداء، أحضرنا عتاداً من الدفاع المدني وعملنا تحت النار، وبعد عشرة أيام استطعنا سحبهم من تحت الردم».
والد الشهيد الأول كان يطالب بعدم تكبّد الخسائر لسحب جثة ولده، ولكننا تابعنا، فشهيدنا لا يبقى في الأرض».
النورس... باب الفرج
ملازم من الفوج شارك في المعركة الى جانب الفوج المجوقل في المخيم الجديد، كان مسؤولاً عن الدهم، وفي المخيم القديم كان مسؤولاً عن الآليات الهندسية الى جانب فوج المغاوير.
في المرحلة الأولى، كان أهم ما حدث احتلال مركز النورس. يخبرنا الملازم أن هذه العملية تمت بالتنسيق بين الجرّافات وأرهاط الدهم من فوج الهندسة والمشاة والمدرعات. فقد كان النورس مركز تدريب مهماً لدى هذه الجماعة الإرهابية. والسيطرة عليه سهّلت في ما بعد احتلال بقعة كبيرة (المرملة ومحيط موقع صامد) وأمّنت موطئ قدم لباقي الأفواج. «على الرغم من المقاومة القوية من ناحية العدو، استطعنا السيطرة على هذا المركز بيوم واحد من دون وقوع إصابات خطيرة. وبعد احتلال النورس كانت مسألة أيام معدودة وتمّت السيطرة على صامد والأونروا واختتام المخيم الجديد».
عمل هندسي متكامل
في المخيم القديم الصعوبة كانت نفسها على صعيد جميع الأفواج، كما يقول الملازم: كان ينبغي فتح الطرقات بين المباني المتلاصقة. فقد كان عمل الجرّافات هو الأساس في هذه المرحلة. «لقد اعترف الأسرى أنهم كانوا يستهدفون الجرّافات خوفاً من فتح الطرقات للمشاة وتقدّمهم. تعرضنا للكثير من المقاومة في هذه المرحلة، ولكن عندما سيطر المغاوير على يسار الطريق العام، توقف إطلاق النار من المنازل التي كانت في هذه البقعة فخفّت الخطورة على عمل الآليات الهندسية التي أدّت دوراً أساسياً في حماية العسكر وتأمين تقدّمهم».
ويشدّد الملازم على العمل الهندسي المتكامل من ناحية الجرّافات والتفجير وتهديم المنازل، الأمر الذي جنّب العسكري الكثير من التفخيخات والعراقيل.
الهندسة الليلية!
تفجير في الليل!؟ يخبرنا ملازم أخر من فوج الهندسة عن عملية قام بها الى جانب الفوج المجوقل في المخيم القديم، حيث كان على مجموعته تفجير مبنى ليلاً لتسهيل تقدّم الفوج المجوقل في هجوم الساعة الخامسة من صباح اليوم التالي. «يتطلب العمل الهندسي عادة، من تفخيخ وتفجير، عملاً نهارياً حيث يمكننا أن نرى ما نقوم به بوضوح. في هذه العملية اضطررنا الى العمل في ظلامٍ تام حيث أننا إذا أشعلنا ضوءاً صغيراً، يسهل على العدو استهدافنا. فخّخنا العواميد بثلاثين عبوة وتمت العملية بنجاح من دون وقوع أي إصابة، كما نجحت عملية الفوج المجوقل في اليوم التالي حسب الخطة الموضوعة».
وتتتابع قصص الضباط والعسكر، فيتّفق الجميع على صعوبة هذه المعركة وضراوتها. والأهم أن جميع أفراد الهندسة مقتنعون بطبيعة عملهم الذي يفرض عليهم «التكيّف دائماً مع الخطر». كما أن هذه الحرب زادت على مهامهم مهمة «الدهم مع المشاة».
الخوف سلاح
معاون أول من الفوج يشير الى أن الخوف ضروري، فهو حافز لتأمين حيطة العسكري وأمانه. ويشير رقيب (سائق جرّافة) الى الخطر الذي كان يتهدّد الجرّافات خصوصاً أنها كانت الوسيلة الهندسية الأهم لفتح الطرقات وتأمين تقدم القوى المقاتلة.
لقد كان الخطر محدقاً دائماً بأفراد فوج الهندسة وخصوصاً خلال هذه الحرب.
ويشرح عريف أول وهو خبير متفجرات: «في الأيام العادية، لتفكيك عبوة، يتم تأمين حماية وطوق أمني للخبير الذي يرتدي أيضاً عتاداً خاصاً للتفكيك. في المخيم، كنا نتقدم مجموعات ونتفاجأ بالعبوات ولم نكن نملك الوقت للقيام بالتدابير الإعتيادية، فنضطر الى السرعة في العمل». ويتابع «يبقى الخطر كبيراً الى أن أرى العبوة، عندها يكون قد تمّ نصف العمل!».
من الساحة...
على أرض المخيم، تعمل السريتان الثانية والثالثة من فوج الهندسة بمساعدة عناصر من فوج الأشغال. فيشرح لنا آمر السرية الثالثة: «مهمتنا الآن إعادة تفتيش المخيم كاملاً. قسّمناه الى قطاعات، كل سرية تعمل في قطاع. ستتم العملية ضمن مراحل فيكون التفتيش في المرحلة الأولى بالنظر والتحسّس. أما بالنسبة الى الأبنية المهدّمة، فسيصار الى مواكبة العمل في أثناء رفع الأنقاض، من خلال خبراء وأرهاط من فوج الهندسة».
يتم استخدام آليات هندسية متخصصة في عملية التنظيف من آليات حفر، وشاحنات قلاّب وجرّافة د9 مع سائقيها من فوج الأشغال.
نفديك يا لبنان
«بالروح بالدم نفديك يا لبنان، كلنا لازم نقولها!» يصرخ أحد أفراد الهندسة، مؤكداً على المعنويات العالية التي تحلّى بها الجيش خلال معركة نهر البارد. الجميع يتفق على أن الإرهابيين لم يستطيعوا إحباط عزائمهم، بل أن العسكريين كلما تقدموا، كانوا يزدادون اندفاعاً وشراسة للقضاء على إرهاب سبّب لهم خسارة رفاق وقعوا شهداء في ساحة الشرف.
«إن سقوط شهيد كان يحزننا ولكنه كان يزيدنا قوة للمتابعة. ضباطنا كانوا أمامنا في المعركة محرّكين فينا الاندفاع غير آبهين للمخاطر».
الصعوبات موجودة إن من ناحية طبيعة المخيم وصعوبة التحرك فيه أو من ناحية طريقة العيش والبقاء لمتابعة المعركة، والنقص بالعتاد والآليات الهندسية. أما الإشتياق للعائلة والأولاد فكان دائماً آخر فكرة تخطر للعسكريين، فهناك ما هو أهم، حماية الوطن لضمان بقائهم.
تصوير: راشيل تابت