- En
- Fr
- عربي
قضايا اقليمية
لقد أثبتت التجارب التي خاضتها اسرائيل أخيراً في لبنان وفلسطين انها دولة قابلة للعطب على الرغم من قوتها العسكرية وذلك بسبب الفساد المستشري في داخلها من اعلى القمة وحتى ادناها وايضاً بفعل فقدانها المبررات السياسية والاخلاقية لأعمالها الاجرامية المتكررة
يعتبر اغلب الخبراء العسكريين المعنيين بالإفادة من دروس وعبر حرب تموز 2006 الصهيونية على لبنان، بأن تلك الحرب كانت حرباً غير اعتيادية، بل وانها افرزت دروساً عسكرية واستراتيجية مميزة، من شأنها ان تمارس تأثيراتها الجدية على عمليات صنع القرار والتخطيط الحربي وادارة العمليات المستقبلية في كيان العدو.
وعلى أثر تلك الحرب ايضاً وما خلّفته من نتائج كارثية مذهلة على اسرائيل، جيشاً وشعباً واحزاباً ومؤسسات، انفجر جدال كبير حول انطلاقها وادارتها ونتائجها، كانت خلاصته انه لا بد من إحداث تحوُّل جذري في مفاهيم تقييم القدرات العسكرية الاسرائيلية واساليب استخدامها في المنطقة، خصوصاً ان الحرب الأخيرة اثبتت ان اسرائيل كانت ترفض ولا تريد أن تصدق أو أن تدرك بأي شكل من الأشكال، وجود حدود ومحدوديات لغطرستها وجبروتها واصرارها الهستيري على ممارسة العنف و «البلطجة» لوأد الممانعة وسحق المقاومة الشعبية للاحتلال، وذلك من اجل تثبيت احتلالها وتوسعها، بصرف النظر عن التداعيات السلبية الارتدادية التي يمكن ان تنجم عن ذلك في المنطقة، او التي يمكن ان ترتد عليها بالذات.
لقد اثبتت التجربة التاريخية أن اسرائيل تمتلك قوة عنيفة هائلة، الا ان هذه التجربة اثبتت في الوقت عينه ايضاً، أن لهذه القوة عواقب وخيمة وسلبيات ومحدوديات من شأنها أن تحرمها من الحصول على الاستقرار والأمن، لأنه لا قوة في العالم، مهما بلغت من القوة، تستطيع ان تصادر ارادة شعب حيّ وحرّ، ولا ان تضعه في القيود والسجون الى الابد.
وبتعبير آخر، ان من شأن القوة العاتية ان تولد بذاتها اضدادها، عاجلاً أم آجلاً، بحيث تحوّل كيان العدو من ملاذ آمن مفترض لليهود، إلى المكان الذي يقتل فيه اليهود ويعانون بأكبر نسبة ممكنة في العالم بسبب سياسة قادتهم المتهورة والبعيدة عن الحكمة، وبسبب عنجهية قادتهم العسكريين وجنون عظمتهم، مما لا يؤدي إلا إلى الحروب العبثية وإلى تكريس الكراهية والتعصب وتنمية الاحقاد ونشر العنف في المنطقة برمتها، بدلاً من اعلاء قيم الحق والحياة والاعمار والسلام.
وهذه النتائج توصل اليها الباحث الاسرائيلي ميرون بنفنستي الذي ارجع الاخفاقات الاسرائيلية في كل من لبنان وفلسطين بنوع خاص إلى «الاستراتيجية الخاطئة، وقلة الاحتراف السياسي، والتلقائية المنفلتة والسذاجة المندفعة، والضعف الذي يتقنّع بالعزم والشجاعة، والأوهام والعجرفة والغطرسة والادمان على تلبية متطلبات غريزة الانتقام والقسوة، وغياب الكوابح الاخلاقية».
لقد دخلت اسرائيل خلال العقدين الماضيين في موجة من «الحروب اللامتماثلة»، حيث خاض جيشها النظامي والحديث معارك طاحنة مع تنظيمات اهلية مسلَّحة، استخدم فيها كل فريق عناصر تفوّقه الخاصة، في ظل قواعد اشتباك غير مألوفة، ما اوقع القادة الاسرائيليين في اخطاء سوء تقدير كثيرة لقوتهم العسكرية، ناجمة عن تعقيدات ألعاب الحرب ومفاجآتها وسيطرة حالة من عدم اليقين على حيثياتها ونتائجها. وهكذا شكلت الحرب الصهيونية الاخيرة على لبنان (تموز 2006) واحدة من تلك الحروب غير النمطية التي اثارت مجموعة من المشاكل والاشكالات في مجال التقديرات العسكرية، ولا سيما في مجال سوء تقدير حدود القوة ومحدوديتها في ادارة الصراعات، ادت الى انهيارات مخزية في سلّم القيادة، تمثلت في استقالات العديد من القادة العسكريين.
لقد بدأت اسرائيل لعبة الحرب معتزة بقوتها الخارقة وبالدعم الداخلي والخارجي الفريد من نوعه لأعمالها العسكرية المدمرة في الجو والبحر بشكل خاص. ثم ما لبثت ان ادركت بسرعة انها قد فقدت قدرتها على السيطرة على سلوكها او سلوك اخصامها وباتت الحرب هي التي تتحكم بالجميع، فاندفعت في سلسلة من ردات الفعل الغاشمة التي لا هدف لها سوى المزيد من التدمير والقتل بانتظار ظهور راية بيضاء من الطرف الآخر، حسبما اعتادت عليه في حروبها الكلاسيكية السابقة مع اكثر من جيش عربي. ولكن عندما فقدت الامل برؤية راية الاستسلام هذه، اصابها الذهول والتوتر خصوصاً عندما ادركت بأن ثمن التراجع سيكون اكبر من ثمن الاستمرار، وبالتالي رأت نفسها غارقة في سوء التقدير، الذي لا خلاص منه الا بالسبل والوسائل السياسية والدبلوماسية، فكان اللجوء إلى القرار الدولي الرقم 1701. وبعد «وقف الاعمال العدائية» بموجب هذا القرار، ادركت اسرائيل انها تقف وجهاً لوجه مع اكثر الاوضاع العسكرية تعقيداً في كل تاريخها الحربي القديم، على الرغم من كل معطيات تفوقها العسكري والتقني. وباستثناء الايام الاولى من حرب العام 1973، كانت اسرائيل تعتبر اداءها العسكري، مقبولاً، في اقل التقديرات، من جهة نظرها هي. الا ان المعضلة الاساسية التي لم يفهمها قادتها السياسيون الجدد والمبتدئون، انما تكمن في عدم تقديرهم بدقة اعتبارات اخرى غير الاعتبارات «العسكرية الصرف»، ومن اهمها وزن الضغط الدولي وعمق المشاعر الوطنية والعقائدية لدى الطرف الآخر، وما يمتلكه من حسن استخدام قدراته المتوافرة، هذا بالاضافة إلى عدم اقتناعها بمحدودية قواها المادية والمعنوية على حد سواء.
فالقوات الجوية الاسرائيلية أو «ذراع اسرائيل الطويلة» لم تتمكن من حسم المعركة الميدانية على الرغم من قيامها بتدمير كل الاهداف العسكرية او شبه العسكرية التابعة للمقاومة. وهي بالتالي ترددت طويلاً، عن يأس وعن خجل، في استخدام القوات البرية، التي تبين لاحقاً انها نقطة ضعف مكشوفة وعارية في وجه اسلحة المقاومة التي فتكت بها ومنعتها من احراز أي «نصر»، حتى في القرى اللبنانية القريبة من الحدود الدولية مثل مارون الراس، وبنت جبيل، الامر الذي ارغمها على دفع المزيد والمزيد من التعزيزات وحشد القوة البشرية التي وصلت الى 30 ألف جندي في مواجهة مجموعة من المقاتلين لا يزيد عددهم على ثلاثة آلاف مقاتل. وهكذا خسر الجيش الاسرائيلي سمعته ومكانته المفترضة كجيش صغير وذكي وكامل الاستعداد لخوض حروب المستقبل، ومن هنا كان لجوؤه إلى العمليات الاستعراضية الطنانة القائمة على العنف الغاشم والوحشي وغير المبرر سياسياً، وكانت النتيجة ان مستقبل تعايش الدولة التي تنتمي إلى هذا الجيش مع شعوب المنطقة، قد اضحى صعباً جداً بل مستحيلاً.
لا شك بأن اسرائيل تملك قوة لا يستهان بها على الصعيدين المادي والتقني، الا ان التجارب التي خاضتها اخيراً في كل من لبنان وفلسطين، قد اثبتت مراراً وتكراراً، وبشكل لا يقبل التأويل، بأنها ايضاً دولة قابلة للعطب والتعرض للأذى الخطير في الجبهتين الخارجية والداخلية، وذلك بفعل الفساد المستشري في داخلها من اعلى القمة وحتى ادنى القاعدة، وبفعل فقدانها المبررات السياسية والاخلاقية لأعمالها الاجرامية المتكررة.
وباختصار يمكن القول ان نظرية اسرائيل الامنية المبنية على التفوق النوعي قد تصدعت، وان جيشها لم يتمكن من التصرف بالاحترافية التي كانت متوهمة انه سيتصرف بها، وانه لا يمكن ان يضرب بصورة منفلتة من اي ثمن وعقاب وانه عاجز عن ان يفرض دائماً وأبداً امراً واقعاً بلا نهاية. وقد ثبت للجميع في المنطقة والعالم ان للقوة الاسرائيلية المجنونة والبلهاء حدوداً وانه يمكن المساس بها بفعالية بأسلحة واساليب بسيطة، بشرط توافر الارادة والتصميم والايمان لدى الجهة التي لها كامل الحق والمصلحة في الدفاع عن شرفها ووجودها.