- En
- Fr
- عربي
المغازي السياسية والعسكرية والأمنية لفقدان اسرائيل عمقها
I ـ مقاربة في التحولات النفسية والعقيدية داخل اسرائيل:
تعكس ردات فعل اسرائيل السلبية المتكررة لعروض السلام العربية والدولية, على الرغم من سخائها وصدقيتها وانسجامها مع قرارات الشرعية الدولية, محاولاتها للتملص والتمويه, والالتفاف حول مساعي الصلح والتسوية بما يتعارض عملياً مع مزاعمها المعلنة حول رغبة مدعاة في تحقيق “السلام” مع الفلسطينيين والعرب بشكل عام. بل ان العديد من المهتمين بالصراع العربي الاسرائيلي في الغرب, وفي أميركا بالذات, بدأوا منذ زمن يتساءلون عن مبررات “خوف اسرائيل من السلام” و”فتور حماسها للتصالح مع جيرانها” وترددها في الاقدام على مبادرة سلمية حقيقية وتجاهلها لشتى عروض التسوية المنبثقة عن القرارات الدولية المعروفة رقم 242 و338 بشأن الأراضي المحتلة عام 1967 والقرار 425 المتعلق بانسحاب اسرائيل من دون قيد أو شرط من الأراضي اللبنانية المحتلة منذ عدوان عام 1978 وحتى انبلاج فجر يوم المقاومة والتحرير في 25 أيار هذا العام.
إن مجموعة الشكوك والتساؤلات الآنفة الذكر تقودنا إلى الغوص في حيثيات الاطار العام للموقف الاسرائيلي ـ النفسي من موضوعة السلام, والتي تتلخص في أربعة عناصر أساسية هي: الخوف وفتور الحماس والتردد والتجاهل كما سبق وذكرنا.
إلاّ ان هذه العناصر تبقى غير كافية لكشف المحتوى الحقيقي لموقف المجتمع الاسرائيلي السلبي من السلام ولا تجيب عن السؤال الأهم: لماذا لم تستجب اسرائيل حتى الآن لامكانات التسوية السلمية المتاحة؟ وهل حقاً ان الموقف الاسرائيلي السلبي منها نابع من الطروحات السلمية نفسها باعتبار انها لا تلبي ـ من المنظور الاسرائيلي ـ المطالب الاسرائيلية السياسية والأمنية وسواها؟ أم ان هذا الموقف السلبي يعود إلى ما هو أبعد من الرؤية المبدئية بحيث يصل إلى جذور الامن النفسي الستراتيجي المفقود في مجتمع يبحث عن هويته العقيدية “من هو اليهودي؟” وهويته الجيو سياسية التي تعاني من حالات اهتزاز قوية ومستمرة من جراء الفعل العدواني الاسرائيلي وردات الفعل عليه بالمقاومة والانتفاضة وتشكيل شبكات الوقاية السياسية لدى الطرف العربي المعتدى عليه؟.
لقد وصفت الأمم المتحدة في أكثر من قرار لها اسرائيل بانها دولة غير محبة للسلام, الأمر الذي يتجلّى في تحديها الدائم للارادة الدولية وفي اهدار كلّ فرص السلام التي أتيحت لها وفي عدم تبنّي أي تصور لأي شكل من اشكال العلاقة السليمة أو الودية مع الإنسان العربي في المنطقة ما عدا علاقة الكراهية والاجلاء والابتزاز, وهذه الحقيقة تنطبق على قوى اليمين واليسار والوسط على حدّ سواء. ذلك ان “العربي الجيد هو العربي الميت”, والقادة العرب ما هم سوى “جلابيات مذهبة”, والمحيط العربي ما هو سوى غابة وحوش محيطة بـ”فيللا” متطوّرة ومرهفة تسعى للعيش بأمان. ومثل هذه التصريحات الصادرة عن قادة من امثال بيغن وايتان وشارون وآرنز ورابين وبيريس ونتنياهو وباراك انما تعبر عن واقع نفسي دفين لدى المجتمع الاسرائيلي الذي يعيش عقدة الاغراب “غوييم” وعقدة “اللاسامية” من خلفية صهيونية ثأرية تقول ان الامتناع عن المطالبة “بحقوق” في نابلس والخليل يضعف “حقوق” اسرائيل في حيفا وتل أبيب والقدس!.
وكتعويض عن الخوف من اتهام الاسرائيليين الوافدين من مختلف أصقاع الدنيا إلى أرض يزعمون ان أجدادهم كانوا يقطنونها لحقبة من الزمن قبل نحو ألفي عام, نجد أن هؤلاء يقلبون الطاولة في وجه خصومهم بادعائهم ان العرب المقيمين على شواطىء البحر المتوسط ما هم سوى غزاة امبرياليين انطلقوا من الجزيرة العربية ودمروا بعنف نموذج حياة السكان الذين كانوا يعيشون فيها. وتنسحب كراهية هؤلاء الاسرائيليين, من العرب إلى سائر المجتمع الدولي الذي يُنظر إليه نظرة التشاؤم المغلّفة بالحقد. وتتلخص الحلبة الاقليمية والدولية لدى هؤلاء بأنها ساحة تنازع على البقاء حيث لا وزن لحجج الأخلاق والعدل, وفوق ذلك فإن مطالبة اليهود “بأرضهم” هو بحد ذاته الشرعية الاخلاقية الوحيدة ذات الدلالة التاريخية الهامة المعترف بها من قبلهم. ويقتنع هؤلاء الاسرائيليون من خلفية عقدهم النفسية المزمنة بأن اسرائيل, بسبب أهميتها, وتفوقها التكنولوجي والعلمي على العرب, بوسعها أن تسمح لنفسها أن تقاوم ضغوط العالم بما في ذلك الولايات المتحدة من أجل تقديم “تنازلات” لحماية مصالحها التوسعية والأمنية.
إلا أن هذا المسار المفهومي المغلوط أصيب بنكسة كبرى في التجربة الاسرائيلية المريرة, والتي بلغت حدّ “المأساة” حسب توصيف مناحيم بيغن وإيهود باراك على السواء, على مدى اكثر من اثنين وعشرين عاماً من العدوان الاجرامي والوحشي على لبنان منذ غزو عام 1978 ومروراً بغزو عام 1982 ووصولاً إلى عدواني عام 1993 وعام 1996 (تصفية الحساب وعناقيد الغضب), هذا ناهيك عن المساهمة المباشرة والأساسية من قبل المخابرات الاسرائيلية (الموساد) في تحريض وتأجيج الفتن الطائفية منذ العام 1975 ومنذ تأسيس اسرائيل عام 1948.
لقد تمكّنت المقاومة الفاعلة في لبنان جنباً لجنب مع دعم الشعب والدولة خاصة في المراحل الحاسمة الأخيرة التي تحقق فيها الانسجام التّام ما بين متطلّبات المقاومة ـ الثورة وموجبات الدولة, من انزال فضيحة تاريخية مدوية باسرائيل في مجتمعيها العسكري والمدني. وقد لخص الباحث الاسرائيلي المعروف زئيف شيف في صحيفة هآرتس (17/5/2000) معالم هذه الفضيحة بقوله: “لقد ملّ الاسرائيليون من لبنان. فالخسائر الفادحة فيه هي التي قادت إلى قرار القيادة السياسية الذي جاء في إطار حملة انتخابية. وللمرة الأولى في تاريخ حروبنا تغلَّب العدو في الحرب النفسية على اسرائيل, بما في ذلك الاستخدام الذكي لوسائل الاعلام الاسرائيلية حيث تبين أن قدرة اسرائيل على الصمود قد تآكلت حتى لم يعد أحد يستطيع التعرّف عليها. ولا يزال الإمتحان قائماً ولم ينته بعد. ويتصدّر في العالم العربي صوت أولئك الذين يدّعون ان اسرائيل لا تفهم سوى لغة القوة التي بوسعها لوحدها أن تدفعها للانسحاب. هكذا في الانتفاضة الفلسطينية وهكذا في حرب حزب الله, وهذا خلافاً للمفهوم المصري منذ اتفاق كامب ديفيد والقاضي بأنه ينبغي اقناع اسرائيل بالانسحاب ليس من خلال الحرب بل باتفاقات السلام والترتيبات الأمنية”.
وكذلك فعل أيضاً الدكتور (والعميد في الاحتياط) شمعون شابيرا المعتبر بأنه الخبير رقم واحد في اسرائيل في شؤون حزب الله وايران, عندما أعلن بكلّ وضوح أنه: “توجد هنا فجوة أساسية بين نظرتين للحياة. نظرة حزب الله التي تقدّس الموت وترى فيه قيمة عليا. ومن أجل ذلك يقيم حزب الله جهازاً يعتني بفضائل النّفس ويضم الشهداء وعائلاتهم, ويعد شهداءه بجنة النعيم, وفي المقابل يوجد المجتمع الاسرائيلي الذي يقدّس الحياة ويرى في كلّ قتيل كمن يموت عبثاً. ان اسرائيل تتعذب وتبكي قتلاها بعويل ونحيب. والمجتمع الاسرائيلي غير مستعد للمواجهة أكثر مع نزف الدم المستمر في لبنان. وهذا الموقف فهمه حزب الله وعزّز لديه الرغبة بالاستمرار في ضربه المجتمع الاسرائيلي”([1]), ويضيف شابيرا قائلاً: “لقد أدرك حسن نصر الله ان الشباب الاسرائيلي اليوم يسعى إلى التمتع بملذات الحياة وهو ليس على استعداد للتضحية بنفسه من أجل اسرائيل الكبرى. هذا هو جوهر الثقافة السائدة لديهم. وهذا بحدّ ذاته تحوّل ثقافي هام نوعي وستراتيجي” ويعلّق شابيرا أيضاً فيقول: “جاءت أقوال نصر الله هذه قبل ثلاث سنوات. وتجدر الإشارة إلى أن حزب الله مدرك جيداً لمجريات الأمور والأحداث في اسرائيل, أي يمكن القول أنه يتخذ اجراءاته وفق اعتبارات واقعية”([2]).
في المجال نفسه كان الصحافي والكاتب البريطاني المعروف باتريك سيل قد وضع اصبعه على مكمن الداء في تهرب اسرائيل من السلام الحقيقي مع ما يتطلبه من موجبات وشروط للحياة والنمو, وذلك عندما وجه رسالة مفتوحة عبر صحيفة “الحياة” إلى كلّ من الرئيس السوري الراحل حافظ الأسد ورئيس الوزراء الاسرائيلي ايهودا باراك, تحدث فيها عن مأزق اسرائيل النفسي الستراتيجي في داخل المجتمعين العسكري والمدني. وكشف سيل عن حيثيات هذا المأزق بقوله في رسالته الموجهة إلى الرئيس الأسد: “اسمح لي أن أقدّم لك شيئاً تعلّمته من زيارتي إلى اسرائيل في السنة الأخيرة: يعاني اليهود بسبب تجربتهم المأسوية في أوروبا, من قلق دائم على المصير. من هنا فإنهم يرون أن في صنع السلام مخاطرة لانه يعني خفض حال التأهّب. ان اليهود أكثر من غيرهم بحاجة إلى التطمين إلى أنها مخاطرة مقبولة...” ويضيف سيل: “هناك في العقلية الاسرائيلية ترابط حميم بين القضايا الجوهرية والأجواء النفسية السائدة من الجهة الثانية. ان اسرائيل قوية, لكنها لا تشعر دائماً بأنها كذلك. وقد استنتجت من الكلام مع كثير من الشخصيات الاسرائيلية البارزة ان سوريا كلما “برزت نياتها السليمة أكثر, كلما قلل ذلك من متطلبات اسرائيل في أي اتفاق. بكلمة أخرى, كلما قدمت سوريا أكثر على الصعيد النفسي كلّما احتاجت اسرائيل إلى أمَل على صعيد الجوهر”([3]).
إلا ان المؤرّخ الاسرائيلي توم سيغيف المعروف بنظرته النقدية والموضوعية الثابتة, أعطى تشخيصاً مغايراً وأقرب بكثير للحقيقة من تشخيص السيد سيل لمرض اسرائيل النفسي الستراتيجي الذي نحن بصدد البحث فيه, فهو قد شخّص هذا المرض بأنه يعود إلى ما تخلفه اسرائيل لنفسها بنفسها من مخاوف وأهوال عندما تصنع بأيديها الملطخة بدماء الأبرياء كوابيس الرعب والمذلة لشعبها من خلال سياسات القمع والاضطهاد والتوسع على حساب الأغيار “غوييم”. ولقد رد سيغيف على صحيفة يديعوت احرونوت التي وصفت الاندحار الاسرائيلي عن الأراضي اللبنانية المحتلّة منذ العام 1978 بأنه “يوم المذلة” وعلى عضو الكنيست منير شطريت من الليكود الذي قال إنها المرة الثانية التي يخجل فيها من كونه اسرائيلياً, بعدما شعر بذلك للمرة الأولى عندما اغتيل اسحق رابين, فقال: “ان شطريت لم يشعر بالعار على ما يبدو ويديعوت احرونوت لم تشعر بالذل أيضاً عندما أقامت اسرائيل نظاماً ديكتاتورياً عسكرياً في جنوب لبنان قائماً على الابتزاز والتنكيل, وانشأت معتقلاً هو بحسب ممثلي حقوق الإنسان الأكثر ترويعاً في كلّ المنطقة...”([4]) هكذا إذاً ينطبق على اسرائيل قول المثل أنه من يزرع الريح لا يحصد إلا العاصفة, ونقطة الاعاقة في مشروع “السلام” العربي الاسرائيلي لا تكمن في قلة السخاء العربي المتهم في الأصل بالهرولة والاسراف, بل في عامل الطمع وروح العدوان الصهيوني الذي تجلّى في تصريحات ومواقف لا تعد ولا تحصى لكبار المسؤولين, كمثل قول رئيسة الحكومة الاسرائيلية الراحلة غولدا مئير بأن حدود اسرائيل هي عند آخر دبابة وجندي اسرائيلي وان هذه الحدود مثلها مثل جلد الغزال يتمدّد ويتوسّع كلّما ازداد الغزال صحة وعافية وقوة.
لقد اعتبر الكاتب الاسرائيلي ألوف هارإيفن([5]) أن ثمة أربع عقبات صعبة وكأداء تعمل حالياً على ايجاد ميزان ثقة نفسي ـ سياسي سلبي بين اسرائيل والدول العربية وهي:
1 ـ الإحساس بالغبن والاجحاف المتبادل.
2 ـ التهديد الستراتيجي الذي ينسبه كلّ طرف للآخر.
3 ـ الموقف الثقافي والعقائدي للعرب وللاسلام تجاه اسرائيل واليهود.
4 ـ ديناميكية الاطار العربي الذي لا تسود فيه علاقات ثقة متبادلة وتحل محلها علاقات انتهازية ومزايدات.
أما رئيس الحكومة الاسرائيلية الراحل اسحق رابين فرأى ان الأمر اللازم لاستمرار السلام بعد تحقيقه هو نفسه الأمر الذي لا بد منه لكي يتحقق السلام. بمعنى أن التغييرات اللازم اجراؤها في المجال السياسي الستراتيجي لاستمرار السلام هي نفسها التي من دونها لا يمكن التوصل إلى السلام. وقد وصف عضو الكنيست افيغدور ليبرمان, زعيم حزب اسرائيل بيتنا, السلام في الشرق الأوسط, بأنه سلام غير ناجم عن اتفاقات وإنما عن توازن ستراتيجي بين الدول وقال: “لا يوجد أي أثر ومعنى لجميع الاتفاقات التي نوقعها مع الدول العربية... خذ الأردن مثلاً. فالأمر ليس اتفاق سلام مع دولة وإنما مع نوع من عائلة مالكة لا أكثر من ذلك”([6]) وبالتالي “فعندما يتغير ميزان القوى في الشرق الأوسط, فإن الجانب الذي يشعر بأنه ازداد قوة سيستغل الفرصة ويهاجم. والآن هناك نوع من الخلل والميزان الستراتيجي العام ما بيننا وبين العرب. ولو سألتني لأجبتك بأن المواجهة بيننا وبين العرب لا مناص منها أبداً, فالميزان يتغير ضدنا, وعندما يحددون الأمر فسيستغلون الوضع”([7]).
كذلك الأمر فإن البروفسور يهوشفاط هوكابي يتحدّث عن مفهوم المرحلية لدى الجانبين المتصارعين, أي القبول بتسوية ما للصراع كخطوة تكتيكية مع استمرار العمل, من منطلق فقدان الثقة, بالخطة الكبرى, وهذا يعني ان الردع المتبادل قد يكبح “النوايا السيئة” ولكنه لا يمحوها, كما وانه لن يكون بوسعه أن يوصل إلى حلول نهائية قاطعة. ومن هنا فإن معنى القبول والتصالح بالنسبة للاسرائيليين لا يقتصر فقط على أن يقبل العرب باسرائيل بل أيضاً أن يقبلوا بالصهيونية بكامل مقتضياتها وأبعادها ومستلزماتها الجيوبوليتيكية والجيوستراتيجية على حد سواء.ومن هنا يتضح ان الاسرائيليين هم الذين يوجدون عوامل الشك والريبة والخوف ومن ثم يعترضون على نتائجها. وفي هذا السياق بالذات يجري توظيف المفاهيم المغلوطة للحدود الآمنة والقابلة للدفاع عنها, في وقت تصرّ فيه اسرائيل على احتكار السلاح النووي وسائر أسلحة الابادة الجماعية الأخرى, على الرغم مما تتمتع به من خصوصية مميزة في الاستفادة من وسائل الضغط الديبلوماسي الهائل على العرب.
II ـ شواهد واستنتاجات نفسية وستراتيجية
في كتابه الجديد “الشاباك بين التمزقات”([8]) كتب كارمي غيلون, رئيس الشاباك الذي أقيل في أعقاب اغتيال اسحق رابين على يد لجنة شمغار, ان المرافقين من الوحدة الخاصة الذين ينبغي عليهم أن يحاموا بأجسادهم وبحياتهم إذا دعت الحاجة عن رئيس الحكومة, تحولوا إلى اوغاد جبناء. واعتبر غيلون ان الفشل الذي حصل كان فشلاً موضوعياً وليس فشلاً في الأسلوب. وأضاف ان أحداً من الحراس لم يشهر مسدساً من أجل قتل مطلق النار. لقد تدربوا على ذلك سنوات لمواجهة هذه اللحظة وعندما ازفت تجمدوا مكانهم وعمير تمكن من اطلاق ثلاث رصاصات متتالية, وبالتالي فعدم موت عمير هو بمثابة فشل تنفيذي لوحدة الحماية لا يقلّ خزياً عن الفشل بمنع الاغتيال. هذا المشهد هو واحد من مسلسل طويل من الخيبات والتهرّب من اداء الواجب وطلب السلامة الشخصية يجتاح هيكلية المجتمعَين العسكري والمدني الاسرائيليين. وقد استخلص الكاتب الانكليزي باتريك سيل من ظاهرة الخوف وعدم الرغبة في القتال لدى الجنود الاسرائيليين نتيجة ستراتيجية بالغة الأهمية مفادها أن أمن اسرائيل الستراتيجي لم يعد يعتمد بالضرورة على احتلال الأراضي العربية بشكل عام, خاصة إذا كانت هذه الأراضي مأهولة بسكان يرفضون الاستكانة للاحتلال وسلبياته, وبالتالي فضرورة التراجع الجغرافي هي اضطرار أمني لا ضرورة سلمية. وفي مجال التداعيات النفسية العسكرية كشفت دراسات عدة نشرتها مجلات علمية متخصصة وساهم فيها خبراء نفسيون حول الاثار الميدانية للحرب الاسرائيلية على لبنان منذ العام 1982 عن ان 25% من العسكريين الذين خدموا في لبنان بدأوا يُظهرون عوارض نفسية عصابية مرضية ويصابون بانهيارات نفسية تسمى “عُصاب الحرب S.T.P.” وتبين أن قسماً كبيراً من هؤلاء بدأت تظهر عليهم العوارض بعد إنهائهم الخدمة العسكرية بستة أشهر أو سنة, وهي عوارض تنقسم إلى ثلاثة أقسام([9]):
القسم الأول:
ـ تكرار الحدث الصادم أو الواقعة, مع امكان معايشتها خيالياً والشعور الوجداني بكلّ الاضطرابات اللازمة لها.
ـ استذكار داخلي: أي يصبح الحدث دخيلاً مؤذياً في داخل النفس.
ـ حصول نوم متقطّع بكوابيس تعود إلى ذكريات الحرب والنوم يصبح هاجساً.
ـ فترات يتخيل فيها المريض أنه يعيش المعركة.
القسم الثاني: يتمثل بأعراض اجتماعية وعائلية:
ـ انحصار وانكماش اجتماعي.
ـ انعزال عن الأصدقاء وباقي أفراد العائلة.
ـ فقدان الأهمية في النشاط المهني.
ـ تبدل عاطفي وهبوط مستوى ردود الفعل.
القسم الثالث: ظهور عوارض نفسية لم تكن موجودة في السابق. زيادة في الخوف, والخوف الشديد من الماضي والمستقبل ـ حساسية انفعالية ـ سرعة وشدة في الغضب مرافقة لتصرفات عنيفة ـ قلة صبر وشعور بالذنب واكتئاب لا يسعد بأي شيء يحققه ـ يرى الحياة بطيئة ومؤلمة.
ـ ضعف في الذاكرة وفي المقدرة على الاستذكار.
ـ مواقف حذرة وتجنّب كلّ ما له علاقة بالحدث من قريب أو بعيد. أضف إلى ذلك الكثير من العوارض مثل: الخوف ـ الادمان: كحول, مخدرات, مهدئات, اضطرابات في تنظيم الشخصية, عنف, عداء للآخرين ـ اتخاذ مواقف عدائية ضد المجتمع أو ظهور أمراض عضوية نفس ـ جسدية (قلب, ضغط, سكري...) وأخيراً عوارض قهرية تكرارية. وهذه العوارض كلّها تدخل في إطار الحال المرضية ما بعد صدمة الحرب. وتبين للخبراء أن 59% من الجنود المصابين لا تظهر عليهم العوارض إلا بعد نهاية خدمتهم العسكرية. وقد نجم عن هذه العوارض زيادة الموجة الاجرامية بعد الانسحاب بحسب تقارير الاعلام الاسرائيلي. واللافت ان الجنود الاسرائيليين بدوا أكثر هشاشة وتعرّضاً لهذه الصدمات من بقية الجنود في البلدان الأخرى.
وكان من أبرز ما أوردته تقارير الخبراء النفسيين الاسرائيليين, احتدام الصراع ما بين ايديولوجيا الحرب وأيديولوجيا السياسة. فالأولى تحشد في نفسية كلّ جندي شرعية الدفاع عن الحدود وعن الوجود في آن واحد مهما غلت التضحيات, أما الثانية فمبنية على حسابات شخصية ومصالح سياسية وحزبية تصب في تعزيز سلطة أصحابها وتجعل من الجنود أشبه بقطع شطرنج تنقلهم وتضحي بهم كما تريد. وقد أدى هذا التناقض ما بين ايديولوجيا الحرب وأطماع رجال السياسة إلى احتجاجات شعبية في داخل اسرائيل نفسها أجبرت حكومة بيغن على الانسحاب من لبنان بعد تظاهرات ضخمة نظمتها حركة “السلام الآن” وأدت إلى سقوط شمعون بيريس في الانتخابات بعد مجزرة قانا. وأخيراً أجبرت حركة الأمهات الأربع ايهود باراك على جعل الانسحاب من لبنان شعاراً له في الانتخابات الأخيرة. وهذا يدل على أن عمل المقاومة لم يقتصر فقط على محاربة الجنود الاسرائيليين بل تحول رسالة موجهة إلى وجدان الشعب الاسرائيلي وصميم معنوياته جعلته يفقد العمق الستراتيجي النقي الكامن في القدرة على الصبر والتحمل, كما وجعلته يفهم عبر الخسائر الكبيرة والمتلاحقة عبثية الحرب وحتمية ضرورة الانسحاب.
وبتعبير آخر فإن اسرائيل, من زاوية النظر النفسية, كانت تستمد اطمئنانها وأمن مواطنيها من خلال اثبات قدرتها على العدوان والفتك والتدمير, فتغطي عجزها بوحشيتها, وهذا ما يفسر هوس التسلح الصهيوني الذي لا ينتهي مثلما انه يفسر أيضاً وفي الوقت ذاته معظم اخطائها الستراتيجية العسكرية والسياسية.
لقد تحوّل الخوف في مستعمرات اسرائيل الشمالية إلى العنوان الكبير للحياة. والخوف بالنسبة للاسرائيليين يعني اقتراب الموت ويعني تقلّص النشاط الاقتاصادي, ويعني ان الجيش والدولة سوية فقدا احترامهما على حد تعبير مئير داغان تعليقاً على الانسحاب المهين وانتصار لبنان المقاوم في الرابع والعشرين من شهر أيار من هذا العام. وفي هذا السياق أكد الصحافي روني اشكنازي ان تقارير العيادات النفسية دلت على وجود ارتفاع في اعداد المرضى بالخوف الهستيري. ومما يؤكد انتشار هذه الحالة ما حصل أخيراً عندما سرت شائعة في الثانية عشر ظهراً في مستعمرة كريات شمونه تؤكّد قيام سلاح الجو الاسرائيلي بقصف قرية في جنوب لبنان بطريق الخطأ ومصرع أربعة مواطنين لبنانيين, في ذلك الوقت كان الشارع في كريات شمونه يعج بالمارة وسوق المدينة مليء بالرواد. وخلال دقائق فرّ الجميع إلى المخابىء وأسرع الأباء لإحضار أبنائهم من المدارس خوفاً من ردة فعل المقاومة. وفي لحظات تحوّلت كريات شمونه إلى مدينة أشباح, الأمر الذي دفع رئيس بلدية المستعمرة إلى مطالبة الحكومة بتوفير فرق من الاختصاصيين النفسيين لطمأنة السكان وطالب أيضاً بتسيير دوريات من الأطباء والمعالجين النفسيين للتجول في المدينة في دوريات طوارىء لتهدئة روع المستوطنين. وهذه المشاهد جميعاً فيها ما يكفي لرسم خط بياني نفساني هابط لدى الإسرائيليين يكشف معالم الحقائق التي نذهب إليها في هذا البحث.
على هذه الخلفية النفسية والعقيدية والعملية يمكننا إذن طرح السؤال الجوهري حول المغازي السياسية والعسكرية لفقدان اسرائيل عمقها الستراتيجي النفسي لدى محاولتها التمركز أو التجذر في منطقة غير مناسبة لنموها غير الطبيعي.
1 ـ في المغازي السياسية:
تعيش اسرائيل في المرحلة الراهنة في خضم حرب أهلية ـ ثقافية ينزع فيها أحد الطرفين المتنافسين إلى رؤية بلده يستمر كدولة يهودية, في حين ينزع الطرف الآخر إلى اثبات ان الصهيونية (الفكرة المؤسسة للدولة) قد وصلت إلى غايتها وإلى منتهى ما يمكن أن تصل إليه. وبالنسبة للجماعة الثانية المناوئة, فإنه قد حان الوقت لأن تدخل اسرائيل مرحلة ما بعد الصهيونية لأن المشروع الصهيوني المغامر بات يفتقر إلى الصلاحية المعنوية والاخلاقية وبالتالي السياسية.
وهذه الجماعة الثانية حسب رأي ميراف ورمسر, المدير التنفيذي في معهد الشرق الأوسط للاعلام والابحاث MEMRI في واشنطن, تطمح إلى تهديم الصهيونية بدل تحسينها وإلى التخلي عن النزعات الايديولوجية([10]). والذي يهمنا من هذا الصراع ذي الطابع الستراتيجي هو ما يحمله معه من أزمة هوية وقيم و مصير من شأنها ان تمسّ جوهر التكوين الجيوسياسي لدولة اسرائيل و ما يرتبط به من تحولات نفسية داخل المجتمع المفكك الذي بات يعتبر الاستسلام و الجبن و الفرار من وجه الخطر شيئا من الفضيلة و الصلاح. و في هذا السياق يقول ميراف ورمسر: “ان الصراع الأهلي والثقافي على السمة المميزة لاسرائيل غدا من بين أبرز مواضيع الجدل التي شهدها تاريخ البلاد... وبكلّ بساطة إذا اعتنق معظم الاسرائيليين فكرة ما بعد الصهيونية وباتوا يشعرون بالخزي لمجرد كونهم يهوداً فسوف لن يكون بمقدور اسرائيل أن تصمد”([11]).
ومن منطلق هذه الأجواء اعتبر الباحث الاسرائيلي زئيف شيف ان اسرائيل الحالية لا تفتقر فقط إلى العمق الستراتيجي الاقليمي “وإنما أيضاً إلى النَفَس الستراتيجي لخوض حروب شاملة طويلة, ومن هنا فإن صمودها الستراتيجي محدود سلفاً”([12]). وكانت وثيقة الخطوط العريضة لحكومة باراك الحالية قد أكدت على أن صنع السلام في الشرق الأوسط سيستند إلى “جبروت الجيش الاسرائيلي وعظمة اسرائيل الاقتصادية والقدرة على الردع”([13]) كما وكان باراك قد حدد ستراتيجيته من السلم والحرب بقوله: “أنا أشعر انني إنسان واعٍ وواقعي, انسان يصل للسلام ليس من خلال مراجعة النبوءات القديمة للانبياء ميخا ويشعياهو وانما من خلال الواقع ومجرياته”([14]). ومن ثم يضيف مستنتجاً: “ان الطريقة الوحيدة لفرض السلام تتم من خلال الاتفاق مع الجيران. أنا أؤمن بالسلام من موقع القوة وليس من موقع الخوف والجزع. انني أقول ان الشرق الأوسط ليس غرب أوروبا ولا شمال أميركا, ففي هذا المكان لن تكون هناك فرصة ثانية للضعفاء, ولكنني أقول أيضاً اننا دولة قوية ويتوجب علينا أن نتوقف عن الخوف, فالتهديد الأمني ليس ملحاً جدّاً وقوة اسرائيل لا تكمن في جيشها وحده, قوتها تكمن في اقتصادها وعلمها ونوعية الحياة فيها وثقافتها ورغبة شبابها في البقاء هنا. بيبي (نتنياهو) أعطى الشرعية لأوسلو وتنازل أكثر ممّا تنازل رابين, وفي مرحلة معينة خاف عندما نظر إلى الهاوية, حكومته انشغلت بشكل مفرط في صياغة النصوص وبدرجة أقل في فهم ودراسة الواقع”([15]). فإذا كان هذا هو موقف باراك من تفسير الواقع فإن البروفسور افرايم انبار, مدير مركز بيغن ـ السادات للدراسات الستراتيجية, يرى ان التحدي الأهم الذي سيعترض سبيل أي زعيم اسرائيلي في قيادة اسرائيل إنما يكمن في “تعزيز الارادة الوطنية للقتال. فقد أظهر المجتمع الاسرائيلي علامات التعب, كما ان الالحاح على الأمن الشخصي ومستوى حياة مرتقع يمكن أن يقود إلى انحراف في وضع الولايات وتوظيف الامكانيات”([16]).
ويضيف أنبار موضحاً أن مشكلة اسرائيل الستراتيجية في المرحلة الراهنة على خطي السلم والحرب انما تكمن في التحولات النفسية والمعنوية والثقافية العميقة التي تجتاح الاجيال الجديدة من الاسرائيليين الذين باتت همومهم الفردية ومصالحهم القطاعية في أحسن الأحوال, في رأس اهتماماتهم خصوصاً بعد نصف قرن من الاستنزاف وعدم الاستقرار وفقدان بوصلة الأمل.
ويلخص البروفسور انبار هذا الوضع الاجتماعي والنفسي ـ السياسي بطريقته فيقول: “في بعض حالات النزاع الطويل, يتعب المقاتلون من النزاع, وحصيلة الصراع لا يحددها فقط تفوق القوة العسكرية, ولكن أيضاً الدأب والمثابرة والقدرة على التحمّل, وهكذا فإن دور القيادة قد يكون جوهرياً في اقناع شعب اسرائيل بأن التضحيات ما تزال مطلوبة من أجل بلوغ الأهداف الوطنية المهمة. واذا نجح باراك في هذا الدور فإنه سيترك أثراً دائماً في تاريخ اسرائيل”([17]).
أما رئيس الوزراء السابق بنيامين نتنياهو فعزا فشله السياسي والمعنوي بصورة أساسية إلى تعب الاسرائيليين من الصهيونية ومتطلباتها, وقد قال في هذا المجال في سياق مقابلة صحفية: “ان الشعب (الاسرائيلي) تعب ولم يعد يفكر سوى بحياته اليومية” وأضاف: “ان الشعب بغالبيته مستعد لقبول كلّ الانسحابات!” في الأراضي الفلسطينية وفي هضبة الجولان.
وفي السياق ذاته انتقد وزير الدفاع الأسبق موشيه آرنس (من حزب ليكود) سلّم أولويات باراك السياسي الستراتيجي الذي يعطي الأفضلية للتسوية السلمية مع سوريا على حساب ترتيب الوضع الداخلي الاسرائيلي, واعتبره خاطئاً, ذلك لأن المشاكل الداخلية (الاجتماعية والسياسية والمعنوية) هي أكثر الحاحاً من التسوية مع سوريا التي بحسب رأيه “يتدهور وضعها ويزداد ضعفها وضعف جيشها شيئاً فشيئاً([18]). ولكن الكاتب الاسرائيلي عاموس هرئيل علّق على هذه المعادلة النفسية الستراتيجية بقوله انه يرى انه بالرغم من معرفة أوساط الجيش الاسرائيلي والاستخبارات الاسرائيلية بأن سوريا ضعيفة عسكرياً واقتصادياً, الا انها تظل عدواً خطيراً بامكانه تكبيد اسرائيل خسائر كبيرة بالأرواح, وهذا سبب يبرر سعي باراك لعقد اتفاق سياسي معها([19]).
وشرح ايهود باراك العلاقة الجدلية الكامنة ما بين سعي اسرائيل للتسوية السياسية وبين الوضع الاجتماعي ـ النفسي المشرذم حول موضوعات التسوية فقال: “انه منذ العام 1967 وانتهاء الخطر الوجودي على اسرائيل, طرحت في اسرائيل قضية ما الذي نحن مستعدون للدفاع عنه؟”([20]) ورأى بالتالي: “ان استعداد المجتمع الاسرائيلي للتضحية مرتبط بمدى الاتفاق الداخلي”. وقال: “فقط حين نصارع من أجل شيء يجمع عليه المجتمع, سيكون من السهل تجنيد كلّ القوى التي نملكها والانتصار. أما في الحروب التي لا نتعرّض فيها لخطر مصيري, فتظهر على الفور خلافات داخلية في المجتمع. وقد حصل هذا في كلّ من حرب لبنان والانتفاضة الفلسطينية”. وبناء عليه دعا باراك القادة جميعاً إلى التفكير ملياً في حال التدهور في اتجاه صراع مسلّح بشأن ما اذا كان الجمهور متفقاً على أن “الأبناء” يقاتلون من أجل أمور حيوية للدولة, لأنها إذا لم تكن حيوية فسيظهر الانشقاق في ما بعد.
من هنا يرى باراك ان السلام مع مصر, برغم كونه سلاماً بارداً, فهو مع ذلك يشكل “انجازاً ستراتيجياً” كبيراً لدولة اسرائيل, وبالتالي فهو يحذر من مواصلة الطريق المسدود مع احتمال تدهور الوضع نحو الأسوأ, مما يستلزم زيادة الميزانية الأمنية على حساب النمو الاقتصادي والاستثمارات الأجنبية والسياحة. والأهم ان التسوية السلمية في نظره من شأنها أن توجد حلاً لمعاناة اسرائيل الكبيرة من جراء فقدانها العمق الستراتيجي الجغرافي والنفسي, كما ومن شأنها أن تخفف من خطر التهديدات المصيرية القائمة والتي ستنشأ في المستقبل.
على هذا الأساس يخشى باراك من الخلافات الحزبية والسياسية الداخلية ويعمل جاهداً على توحيد الصف والكلمة داخل البيت الاسرائيلي, خوفاً من الغرق في مستنقع القضايا الجزئية الخلافية ذات الطابع القطاعي والطائفي أو الاجرائي, على حساب المصلحة الستراتيجية العليا للدولة.
في هذا السياق يبدي باراك خوفه من احتمال مواجهة انتفاضات شعبية متنقلة من لبنان إلى فلسطين إلى الأردن وربما سوريا, ويحذر من التدهور إلى حرب شاملة قد لا يكون المجتمع الاسرائيلي قادراً في الظروف القائمة على تحمل تبعاتها ونتائجها, وذلك من جراء تعثّر العملية السلمية. وفي هذا المجال يعبر باراك عن وجدان الشعب الاسرائيلي المنهك فيقول: “سوف نهزم الفلسطينيين والسوريين. وسيقع لديهم عشرة أضعاف الضحايا الذين سيسقطون لدينا. لكن وقبل التدهور إلى هذا الوضع يجب أن نسأل: ما الذي سنجنيه من ذلك؟. لقد قلنا إننا لن نقضي على الفلسطينيين ولا على سوريا. فماذا سيحدث؟ سندفن قتلانا في نهاية الحرب وسيدفنون قتلاهم الذين يزيدون بعشرة أضعاف, فماذا سنفعل حينها؟ سوف نجلس على طاولة المفاوضات للتباحث. وحول ماذا سنتباحث؟ حول الأمور ذاتها التي نتباحث حولها الآن. لكن الحكومة قد تقول: بعد هذه الضربة سنجري ذلك بشكل أفضل وسنكون أقوى. وانا الآن اسأل, بل وليسأل كلّ مواطن نفسه: لنفترض اننا دفنا 150 قتيلاً سقطوا بانتفاضة فلسطينية مسلحة وانهم دفنوا 150 قتيلاً, هل سنجري المفاوضات حول أمور أخرى؟ وهل سنكون حقاً أقوى؟ لنفترض اننا سندفن الفَي قتيل في اصطدام مع سورياوهم سيدفنون عشرة آلاف قتيل فهل سنكون أقوى؟ لهذا فإنني أقول: نحن أقوياء ولا يجب أن نتنازل عن أية مصلحة أمنية ولا ان نقبل املاءات من ناحيتي المضامين والمواعيد. لكن توجد لنا مصلحة بالتوصل للسلام بالأعمال وليس بالكلام. هذا هو الفرق, لأن البديل هو اصطدام سننتصر فيه, ولكن أحداً أبداً لن يربح منه وسيكون الوضع أسوأ”([21]).
هكذا وبهذا الوضوح يحاول باراك ان يدير السياسة على قاعدة فن الممكن, وهكذا وبهذا الوضوح يحاول أن يرسم مستقبل التسوية مع الدول العربية من خلال وعيه وادراكه لضعف القدرة على التحمّل الذي تعاني منه اسرائيل جيشاً ومجتمعاً مدنياً. ولكن هل بوسع المجتمع الاسرائيلي الذي تمزقه الخلافات الطائفية والبنيوية والاقتصادية والسياسية والايديولوجية ان يستجيب لسياسة الأمر الواقع التي يحاول باراك تطبيقها؟ لا شك ان اسرائيل اليوم تعاني من أزمة زعامة قادرة على الجمع والقيادة. وباراك صاحب الرصيد الكبير في مجال الاداء العسكري, والرصيد الشّحيح في المجال السياسي, يحاول أن يتقمّص شخصية معلّمه ومرشده الراحل اسحق رابين, ولكنه حتى الآن لم يتمكّن من أن يضرب جذوره عميقاً في عالم السياسة الصهيونية المعقد والممتد ما بين تل أبيب ونيويورك. وهو يدرك أنه سيكون من الصعب عليه في المرحلة المقبلة أن يلعب لعبة الضعف والقوة التي كان يمارسها معلمه بتفوق شديد جعل من وزير الخارجية الأميركي الأسبق هنري كيسنجر يقول: “أطالب رابين بتقديم تنازلات فيقول بأن اسرائيل ضعيفة إلى حد أنه لا يستطيع أن يفعل ذلك. وعندما أقدم له أسلحة يقول بأنه ليس مضطراً إلى تقديم تنازلات لأن اسرائيل قوية”([22]). والصحف الاسرائيلية نفسها شككت في قدرة باراك على تنفيذ سياسة التسوية التي يحلم بها وذلك بسبب القلق من الانسحابات المحتملة التي لا تنسجم مع الخطوط الأساسية لحكومته الخاضعة لنزوات قوى أصولية دينية متعصبة, هذا ناهيك عن الحركات والمنظمات الاستيطانية الرافضة لأي تنازل في الجولان أو في الضفة الغربية وناهيك عن قوى اليمين المتربصة بباراك وفي مقدّمتها آرييل شارون الذي اعتبر ان حكومة باراك قد تتمتع بأغلبية في الكنيست ولكن دون أغلبية لدى الشعب الاسرائيلي. وعلى هذا الأساس نجد ان باراك مضطر لمراعاة المتغيرات الوجدانية الحاصلة في المجتمع الاسرائيلي والتي في مقدّمتها مراعاة شروط الأمن القصوى أكثر من مراعاته الشروط الايديولوجية, إلا ان هذا التوجه قد يحمل في طيّاته أيضاً متغيّرات قاسية وربما جذرية في الفكر العسكري والقومي القديم. ومن هنا فهو ينادي بتحقيق تسوية مع الاحتفاظ بجيش قوي وقوة ردعية متخصصة, وبالتالي فالسلام الذي يطرحه باراك هو سلام مسلح قائم على قواعد المصطلحات العسكرية وليس على مصطلحات الليبرالية أو الديمقراطية, وبتعبير آخر انه سلام الهيمنة على الرغم من ابتعاده عن المصطلحات الصهيونية الايديولوجية. ومثل هكذا سلام بوسعه أن يفي بمتطلّبات الهواجس النفسية الداخلية وان يلبي في الوقت ذاته القسم الأكبر من مطالب اليمين القومي الايديولوجي, وبهذا الاسلوب يكون باراك قد أصاب هدفين برمية واحدة.
2 ـ في المغازي العسكرية:
يخيِّم على المجتمع اليهودي في اسرائيل شعور عميق بعدم الامن والحصار ضمن تربة لا جذور له فيها, ومحيط هم غرباء عنه, يتربّص به الدوائر وينتظر الفرصة المناسبة “لإلقائه في البحر” حسبما كانوا يشيعون.
وفي الوقت نفسه تستدعي عمليات الغزو والاحتلال اليهودي والقتل والقهر والتشريد, ضد الشعوب العربية المجاورة لكيان العدو, حالة من الاستنفار والتهيؤ للرد. وفي هذا المجال يقول الجنرال الراحل موشيه ديان: “لقد جئنا إلى أرض مسكونة وفيها بنينا دولة يهودية, والعرب لا يطيقون ما قمنا به ولهذا فإنّهم محكومون بحالة دائمة من العداء... اننا قلب مزروع في جسم ترفضه بقية الأعضاء”([23]).
ويدرك الاسرائيليون مقدار الخطورة لعملية استعمارهم لفلسطين. وهم يعيشون بالتالي في ظل مخاوف تجربة الصليبيين, خاصة وان الأرض التي استعمروها تقع ضمن بيئة تتوفر لها كلّ مقوّمات التعاون والتكامل الحقيقيين. فإذا ما عمل الفلسطينيون والعرب بالاسلوب الجاد والصادق لتحقيق ذاتهم فلا بدّ عندئذ من أن تطرح التساؤلات الحقيقية حول مصير هذا الكيان الطارىء والغاصب وشروطه التعجيزية.
ان مثل هذا الادراك يقض مضاجع اليهود في الأراضي المحتلّة ويتركهم نهباً لقلق وخوف نفسي دائمين من مستقبل مجهول يولّد لديهم شعوراً بعدم الاستقرار وفقدان الأمن وحالة من الاستنفار والعداء الدائم نحو الآخر الموجود أمامهم بالرغم من محاولات تغييب حقه في الحياة والوجود.
وقد حرص القادة اليهود على تدريس أجيالهم تاريخ القهر والعذاب “اليهودي” في اسبانيا وروسيا القيصرية والمانيا النازية من أجل اغناء خيالهم العسكري بصور فرق الاعدام والارهاب وشبح الابادة الجماعية وعقدة الفناء, مّما شحن وجدانهم ومشاعرهم الباطنية بشحنة عـاطفية جـارفة تسيطر عليهم, وأصبحوا مستعدّين للتنشئة العسكرية القاسية ولممارسة كلّ أشكال القتل الوحشي الدموي والسادية المرضية التي تصاحب بشكل دائم مختلف أساليب العنف اليهودي النابع من خوف عصابي مزمن.
ان التركيز الدائم على الخطر الخارجي, وعلى ما قد يقدم عليه العرب تجاه اليهود في اسرائيل, قد وجد لدى المجتمع الاسرائيلي مجموعة من القيم العدوانية العسكرية التي هيمنت على جميع قطاعات المجتمع الاسرائيلي وجعلت جميع علاقاته الاجتماعية والانسانية قائمة على الشعور بالقلق وعدم الاستقرار وتوقع الخطر والحرب في أية لحظة. وفي هذا السياق يقول آرثر روبين: “لقد حكم علينا أن نعيش في حالة حرب دائمة مع العرب وليس هناك من وسيلة لتجنب التضحيات الدامية”([24]). كما يقول موشيه دايان: “نحن جيل من المستوطنين, لا نستطيع غرس شجرة أو بناء بيت من دون الخوذة الفولاذية والمدفع. علينا الا نغمض عيوننا عن الحقد المشتعل في افئدة مئات الالوف من العرب حولنا. علينا الا ندير رؤوسنا حتى لا ترتعش ايدينا, انه قدر جيلنا, إنه خيار جيلنا ان نكون مستعدين مسلحين, ان نكون أقوياء وقساة حتى لا يقع السيف من قبضتنا وتنتهي الحياة”([25]).
من ضمن هذه البيئة النفسية والعقائدية نشأت لدى المفكّرين الاسرائيليين سلسلة من الثوابت الوجدانية اعتبرت على أنها بمثابة حقائق قاسية تؤرق زعماء الصهيونية وحكام اسرائيل, وهي حقائق مستقرة وكامنة في العقل الباطني النفسي بحيث لا يمكن تناسيها وهي كالآتي:
1 ـ ان اسرائيل دولة صغيرة في مساحتها ومواردها البشرية, ذات عمق جيوستراتيجي بسيط, حدودها طويلة, ويحيط بها العرب من جهات ثلاث, يزدحم سكانها في سهل ساحلي في منطقتين رئيسيتين يفصل بينهما ممرّ ضيّق لا يتجاوز عمقه خمسة عشر كيلومتراً عند قلقيلية وطولكرم في الضفة الغربية.
2 ـ ان الزمن يمكن ان يعمل في مصلحة العرب في المواد المادية والبشرية.
3 ـ ان الحرب الطويلة تستنزف موارد اسرائيل وبخاصة البشرية كما أن الهزيمة تعني “ابادة قومية” بحسب تعبير يغآل ألون.
هذه المعطيات الجيوستراتيجية وهذه الهواجس النفسية الدفينة أدّت إلى نشوء نظريات أمنية وعسكرية تتناسب مع فحواها. فما هي هذه النظريات في خطوطها وخلفياتها الأساسية؟
3 ـ المعطى الأمني من خلال المعطى النّفسي
كانت موضوعة الأمن بالنسبة للاسرائيليين بمثابة الشغل الشاغل ومحور التفكير الأساسي لكبار القادة والمنظرين. وقد قال ديفيد بن غوريون منذ نهاية الأربعينات: “ان مشكلة أمن اسرائيل تختلف كلّ الاختلاف عنها في أي بلد آخر. انها ليست مشكلة حدود أو سيادة, بل تتناول البقاء على قيد الحياة... ان مشكلة أمن اسرائيل تعادل بالتالي مشكلة بقاء الشعب اليهودي بأكمله”([26]) ثم يضيف: “فالمشكلة الفلسطينية لا يمكن أن تحل الا بالحرب وخلال الحرب سيتم تقرير مصير اسرائيل كدولة. فإما ان تزول وإما ان تبقى. ولكي ننتصر في الحرب يجب أن نتفوّق على البلاد العربية تفوّقاً عسكرياً ساحقاً”. ويرى يغآل ألون انه لا يمكن لاسرائيل أن تحصل على الأمن وتحافظ عليه إلا ببقائها متفوّقة عسكرياً وسياسياً واقتصادياً على البلاد المحيطة. ويعرّف الحدود الآمنة فيقول: “هي حدود سياسية ترتكز على عمق اقليمي وموانع طبيعية كمجاري المياه والجبال والصحراء والممرات الضيقة لمنع تقدّم الجيوش البرية والميكانيكية”([27]).
ولقد قضت التطوّرات الدراماتيكية التي حصلت ما بين اسرائيل والدول المجاورة لها على أهم عناصر نظرية الأمن الاسرائيلية الآنفة الذكر وخاصة منذ تدمير خط بارليف على الجبهة المصرية عام 1973 واختراق جدران التحصينات الهائلة التي كانت منصوبة في الجولان ومن ثم سقوط نظريات الأمن الستراتيجي الاقليمي التي خطّط لها ونفّذها كلّ من رئيس الوزراء الأسبق مناحيم بيغن ووزير دفاعه أرييل شارون ورئيس أركان جيشه رفائيل ايتان أثناء الغزو الاجرامي للبنان عام 1982 بفضل قيام المقاومة المسلّحة المخلصة والفاعلة التي عطّلت ونسفت أهم بنود المخطّط الستراتيجي الصهيوني الخاص بالهيمنة والتوسّع على حساب كلّ من لبنان وسوريا وفلسطين. وقد تمكّنت هذه المقاومة ليس فقط أن تحبط الشّق التآمري الصهيوني المتعلّق بلبنان والذي كان يقضي بتقسيم الوطن إلى محمية أمنية في الجنوب وإلى دويلة تابعة في الشمال تحت أوهام الفتنة “الحضارية” بين أفراد الشعب الواحد, واتفاق 17 أيار كان مجرّد نموذج أوّلي لهذه الفتنة, بل إنّها ردّت كيد الصهاينة إلى نحرهم, وحرّرت الوطن, وصدَّرت عوامل الفتنة والخوف إلى داخل المجتمع الاسرائيلي نفسه, فذاقت اسرائيل في يوم المقاومة والتحرير كلّ أشكال المذلّة والانهيار المعنوي حتى ان الصحافة الاسرائيلية نفسها وصفت حالة الجيش الاسرائيلي المدحور بحالة الكلب المذعور وذيله بين ساقيه ساحباً معه فلول مشروع الفتنة الطائفية الذي كان مفصلاً خصيصاً على قياس التصوّرات الصهيونية المغلوطة عن لبنان وشعبه. وقد كتبت صحيفة هآرتس([28]) في هذا المجال ان رئيس الأركان شاؤول موفاز الذي ظنّ بأنّه سيكون رئيس أركان السلام للجليل اكتشف بأنه أصبح “رئيس أركان الذل. فهو تكلّم عن إعادة انتشار وحصل على انهيار عوضاً عن ذلك”. وكتبت صحيفة يديعوت احرونوت([29]) أيضاً: “كلّ أولئك الذين يحتاجون إلى برهان حصلوا عليه: الجيش الاسرائيلي لم يقرأ الاحداث في جنوب لبنان. لكن الأحداث هي التي قادته, ويعترف رئيس الأركان بأن قوافل المدنيين وحزب الله التي جابت القطاع الأوسط شكّلت مفاجأة تامّة. وخلال أقل من 24 ساعة من قيام قائد الجبهة الشمالية واللواء غازي اشكنازي بوصف “الجيش الجنوبي” في القطاع الشرقي بأنّه ـ مستقرّ ويؤدّي دوره ـ تحوّلت هذه القوّة إلى شيء من التاريخ.
لقد استخلص رئيس الأركان السابق للجيش الاسرائيلي, والوزير الحالي في حكومة باراك, الجنرال في الاحتياط امنون شاحاك في مقابلة أجرتها معه صحيفة معاريف “ان شيئاً ما قد حصل للمجتمع الاسرائيلي بأسره, فكلّ من يحاول فصل الجيش عن المجتمع يرتكب خطأ وحينما يصل الجنود إلى بيوتهم ويسمعون الأمّهات فإن هذا يؤثّر عليهم. بل يجب أن يؤثّر عليهم”([30]). ويضيف: “لقد ضعفت قوّة صمودنا. وهناك من يصف مثل هذه التعبيرات بأنها انفتاح وأنا لم يعجبني أبداً جزء من هذه الألفاظ والأقوال على الأقل”([31]).
أمّا الباحث آرييه أوسوليفان فرأى أن الجيش الاسرائيلي انما يختصر ويلخّص روح المجتمع الاسرائيلي المنهك في الوقت الرّاهن: “وهو المجتمع الّذي نال منه التّعب وتميّز بالفرديّة حيث يزكّي كلّ انسان نفسه ويفرح بها, بينما القدرة على الصّبر وتحمّل الآلام آخذة في الانحدار”([32]).
وينقل أوسوليفان عن أحد كبار الضباط الاسرائيليين في قسم التخطيط العقائدي قوله: “اننا مدلّلون. ان اسرائيل تفقد قدرتها على تحمّل الخسائر”.
وأورد البروفسور مارتن فان كريفالد في كتابه النقدي لتاريخ الجيش الاسرائيلي “السيف والزيتونة” The Sword and the olive: “لقد قدّمت حرب الخليج أوّل تحذير واضح بأن الشعب الاسرائيلي يفقد الشجاعة في مواجهة الخصم ويتحوّل إلى امة من الجبناء لم يعد لديها ما يعينها على المجالدة والقتال”([33]) وكذلك أورد الدكتور غال, كبير الأطبّاء النفسيين في الجيش الاسرائيلي سابقاً ومؤلّف كتاب “صورة الجندي الاسرائيلي The portrait of th israeli Soldier قوله: “اعتقد ان الطريقة ذاتها التي مجّدت بها وسائل الاعلام جنود حرب 1967 تستخدم في الوقت الراهن لإلحاق العار بجنود سنة 2000 باعتبارهم بكّائين”([34]). أمّا قائد المنطقة الشمالية اللواء غابي اشكنازي فوصف الجنود الصهاينة الذين عبّروا عن آراء انهزامية خلال شهادات أدلوا بها للإذاعة الاسرائيلية حول وجودهم في لبنان بأنهم “مماسح”([35]).
وقد اتفق كلّ من مدير مركز بيغن ـ السادات للدراسات الستراتيجية, افرايم انبار والعقيد في الاحتياط يعقوب حسداي على أن ما حصل في لبنان من فشل عسكري ومعنوي اسرائيلي انما يحتّم على اسرائيل أن تعيد النظر في كامل روزنامتها الدفاعية والأمنية وخاصة في ما يتعلّق بالمتغيّرات الثقافية والمعنوية والنفسية التي تجتاح المجتمع الاسرائيلي بأكمله. واعتبر أنبار ان “التحدي الأهم بالنسبة لباراك قد يكون تعزيز الارادة الوطنية للقتال”([36]). أما العقيد حسداي فرأى ان هذه المتغيرات هي “ذات أهميّة حاسمة وخطيرة. فالمجتمع الاسرائيلي ليس مهيّأً لمناقشة المسائل الأمنية في صلب الموضوع, لأن هذه المسائل تحوّلت إلى جزء من المعركة الانتخابية وإلى موضوع لم يعد يستطيع فيه القادة دعوة الشعب إلى التضحية وبذل الجهد, في وقت هم ملزمون بتقديم امتيازات وحلول للجمهور. ولهذا كان قرار الخروج من لبنان قراراً ذا شعبية وأنا اؤيّده”([37]).
ولفت حسداي إلى أن موضوع الانسحاب من لبنان كان ذا شعبيّة أيضاً منذ عام 1985 واستخدم في حينه كعنوان جذّاب في المعركة الانتخابية في ظلّ شعارات وتحرّكات منظّمة “أمّهات ضد الصّمت” التي سبقت ظهور حركة “الأمّهات الأربع” في ما بعد. ومعلوم ان ايهود باراك كان منذ ذلك الحين من المؤيدين لانسحاب كامل لجيش الاحتلال من الأراضي اللبنانية واعتماد ستراتيجية ردعية ودفاعية من داخل الحدود الدولية. وشرح العقيد حسداي الأوضاع النفسية المتداعية التي أدّت برابين في حينه إلى اتخاذ قرار الانكفاء الأوّل عام 1985 بقوله: “إذا سألتني لماذا قرّر رابين الخروج من لبنان فأقول: إنه قرّر ذلك بسبب الضغط الشعبي والإحساس الكبير بالضيق. أمّا لماذا هذا الضغط وهذا الاحساس بالضّيق فأقول: اننا هنا نصل إلى أساس المجتمع الاسرائيلي, هذا المجتمع المأزوم الذي لم يعد يثق بقيادته, ولم يعد لديه قيادة يستطيع دعوتها لبذل الجهد والتضحية. هذا هو أساس المشكلة “والخروج من لبنان مرتبط بهذا تماماً”.
وربط الباحث ألون بن دافيد التداعيات النفسية في المجتمع والجيش الاسرائيليين بكثرة الضحايا التي سقطت في حرب لبنان وانسداد الافق السياسي وعبثيّة الحرب فقال: “على خلفية كارثة المروحيتين (سقط نتيجتها 76 ضابطاً وعسكرياً) وتزايد العمليات النوعية (للمقاومة) زادت عملية الاحتجاج ومزقت الاجماع الوطني فسجّل حزب الله هذا الانجاز لنفسه”([38]). واعتبر ان الحركات الاحتجاجية والاعتصامات ساعدت في الانهيار المعنوي والنفسي للجيش. وأكّد الدكتور شاؤول من منظّمة “خط أحمر” على خسارة اسرائيل الحرب النفسية فقال: “لقد امتاز حزب الله ليس فقط بالرّماة والقنّاصين وإنّما أيضاً في مجال الحرب النفسيّة مستخدماً الأقنية التلفزيونية ومحطّات الإذاعة وشبكات الانترنت الدقيقة بلغتين وربّما قريباً باللغة العبرية, بينما كان من يجب أن يمتاز في هذا المجال هو الجيش الاسرائيلي الخاص بدولة تكنولوجية مثل اسرائيل”. وأضاف: “نحن أقوى جيش, ونحن الدولة الذرية الخامسة في العالم وفي الوقت نفسه نحن هناك مهزومون أمام مجموعة من الفلاحين الذين يضعون العصائب على جباههم؛ هذا أمر غير معقول”.
ووصف العقيد حسداي العلاقة التبادلية ما بين الجيش والمجتمع في اسرائيل بأنها مثل علاقة الانسان الذي يتعرّض لخلية من النّحل: “النّحلة الواحدة لا تقتل الانسان ولكن خلية من النحل قد تقتله”, أي بمعنى أن كثرة الانتقادات من قبل المجتمعين المدني والعسكري من شأنها أن تفعل فعلها الوجداني والمعنوي وقال: “إنّ لبنان يتسبّب بصورة متواصلة في تآكل الثقة بالنفس لدى مواطني اسرائيل وهذا بالمفهوم الستراتيجي يشكّل خطراً لا يقل عن خطر الحرب الشاملة”.
لقد وصف عضو الكنيست افيخدور ليبرمان, قائد حزب “اسرائيل بيتنا”, التداعيات النفسية والعسكرية في إسرائيل بقوله: “ان قوّة الدولة وقدرتها لا تقاس فقط بقدراتها العسكرية. فالاتحاد السوفياتي لم يتفكك لأنّ الجيش الأحمر كان صغيراً. والمانيا الشرقية لم تسقط لأنّ أجهزتها الأمنية كانت ضعيفة وغير ناجحة, إذ أن جهاز (الستازي) كان جهازاً فعّالاً قويّاً وكذلك (سكوريتاريا) في رومانيا كان جهازاً دموياً فظيعاً ولكنّه لم يساعد في أي شيء. لقد سقطت جميعها. من هنا فإن التصدّعات الاجتماعية والفجوات النفسية والتناقضات وسط الجمهور وعدم ثقة الشعب بزعامته وقيادته, هذا كلّه أدّى إلى الانهيار الكبير. أي انّه من المستحيل القول طيلة الوقت بأن جيش الدفاع قوي, وندفن رؤوسنا في الرّمال”([39]).
هكذا إذن وصل الاسرائيليون إلى الباب المسدود في مسار استخدامهم الاجرامي قواهم العسكرية ضد العرب عموماً واللبنانيين خصوصاً فألجأتهم خيبة الأمل إلى الاستغاثة بوسائل الضغط الديبلوماسي كمخرج لمأزقهم المتفاقم من باب العجز لا من باب خيار السلام الصادق والحقيقي.
4 ـ خلاصة واستنتاج
إن الخلاصة الأساس والاستنتاج الأهم اللذين يمكننا الخروج بهما بعد هذا البحث المسهب في تأثيرات فقدان اسرائيل عمقها الستراتيجي النفسي يكمنان في ضرورة أن ننظر بطريقة مغايرة إلى عوامل القوة والضعف عندنا وعند العدو. وعلينا أن نضع النصر الذي أحرزه لبنان مقاومةً وجيشاً وشعباً وحكومةً في إطاره العملاني والموضوعي الحقيقي من أجل اخراج الوطن والأمّة مرّة وإلى الأبد من غيبوبة الاستكانة واستضعاف الذات والنزوع المرضي نحو الاستسلام وقبول الهزيمة. ولعلّ المسؤولين وكبار المفكّرين والباحثين في اسرائيل قد بدأوا يتلمّسون خطورة انبعاث روح التضحية والمقاومة المنظّمة والمنضبطة لدى العرب, لا سيّما وأن الشباب الاسرائيلي قد فقد منذ وقت بعيد مثل هذه الروح. الأمر الذي عبّر عنه رئيس وزراء العدو الأسبق اسحق شامير بقوله: “لم يخطر ببالي أن أحيا إلى هذا اليوم الذي ترغم فيه دولة اسرائيل وجيشها الذي وصفه أعداؤنا وأصدقاؤنا بأنّه الجيش الذي لا يقهر, على الفرار أمام طرف عربي. ما الذي حدث؟ كيف تجري الأمور على هذا النحو؟! بضع مئات من مقاتلي حزب الله يجبرون الدولة الأقوى في الشرق الأوسط على الظهور بهذا الشكل الانهزامي”([40]). وأضاف شامير: “لقد اثبتنا للعرب دائماً أنه يجدر بهم ألا يحاولوا ارغامنا على تقديم تنازل لهم بالقوة لأنّهم في النهاية هم الطرف الذي سيقدّم التنازل. لكنّ حزب الله أثبت أن هناك عرباً من نوع آخر”.
لقد أصيب الاسرائيليون جميعاً بالهلع بعد اثنين وعشرين عاماً من المكابرة وتزوير الحقائق بسبب وجودهم العدواني في لبنان. واكتشفوا أخيراً أن الحرب الاجرامية المتعدّدة المراحل على هذا الوطن المسالم. إنما هي “حرب اختيار” أي من دون ضرورة حتميّة لشنّها, واكتشف الشبان الاسرائيليون المغرّر بهم ان ثمّة أمراً غير عادي مفروض عليهم, فبدأوا يفرّون من الخدمة بأعداد كبيرة لم تشهد لها اسرائيل مثيلاً في تاريخها. وانطلقت الحركات الاجتماعية البكائية تندب الابناء الذين ذهبوا ولن يعودوا أبداً, وتفشّت في المجتمع الاسرائيلي حالة متصاعدة من نشدان اللذة الفردية والاستهلاك الشخصي والابتعاد عن إيحاءات الايديولوجيا الصهيونية. ووصلت نسبة المعارضين البقاء في لبنان إلى معدلات قياسية تجاوزت 75%, وظهر الفرح واضحاً وصريحاً على وجوه الجنود المنسحبين خاصة لدى اقفال ما كان يسمّى بوابة “الجدار الطيب” على الرغم من عناوين بعض الصحف الاسرائيلية التي سمّت يوم الانسحاب بيوم المهانة والمذلّة. ومع ذلك فقد برزت عناوين صحافية أخرى تقول: “يا أمي ها قد عدنا أحياء إلى البيت”!!
لقد طالب بعض كبار قادة الجيش الاسرائيلي بمحاكمة الجنود الفرحين, ولكن مثل هذه المحاكمة لم تحصل ولن تحصل لأنّ المجتمع المسكون بروح اليأس والخيبة كفيل بحماية أولئك الجنود وتبرير فرحهم المر.
[1] يديعوت احرونوت. 17/5/2000.
[2] شاميرا في مقابلة تلفزيونية حول كتابه “حزب الله بين ايران ولبنان” ـ القناة الثانية, 17/5/2000.
[3] الحياة, 17/4/2000.
[4] النهار, 27/5/2000.
[5] الستراتيجية الاسرائيلية لتطبيع العلاقات مع البلاد العربية ـ مركز دراسات الوحدة العربية ص 14.
[6] معاريف 30/6/2000.
[7] المصدر نفسه.
[8] جريدة انترنيت ـ قضية مركزية 2/5/2000.
[9] أنظر صحيفة الحياة ـ دراسة نفسية حول آثار الحرب في لبنان على جنود العدو ـ عدنان حب الله ـ 14/7/2000.
[10] هل بمقدور اسرائيل أن تصمد في مرحلة ما بعد الصهيونية؟ ـ ميراف ـ انترنيت.
[11] المصدر السابق.
[12] هآرتس 9/1/1998 ـ نظرية أمن قديمة في واقع جديد ـ زئيف شيف.
[13] السفير 7/7/1999.
[14] الرأي العام 23/5/1999
[15] المصدر السابق.
[16] جيروزاليم بوست 12/7/1999.
[17] جيروزاليم بوست 12/7/1999.
[18] هآرتس 15/8/1999.
[19] هآرتس 17/8/1999.
[20] من مقابلة تلفزيونية أجريت مع باراك بتاريخ 20/10/97 بمناسبة مرور 50 سنة على قيام اسرائيل.
[21] المصدر السابق.
[22] الخداع ـ بول فندلي ص 235.
[23] اسرائيل مجتمع عسكري ـ مازن البندك بيروت 1971 ص 186.
[24] الايديولوجيا الصهيونية ـ عبد الوهاب المسيري ـ مطابع الانباء الكويت 1982, ص 468.
[25] المصدر نفسه ص 466.
[26] أعمال اسرائيل الانتقامية ضدّ الدول العربية ـ د. محمد المجذوب ـ بيروت 1970, ص 128 و129.
[27] مدخل إلى الستراتيجية الاسرائيلية ـ ابراهيم العابد ـ بيروت 1971, ص 29.
[28] هآرتس ـ عامير اورين ـ 24/5/2000.
[29] يديعوت احرونوت 24/5/2000 ـ حزب الله يتخذ القرار ـ عوفر شلاح.
[30] معاريف ـ ايلي كمير ـ 25/3/2000.
[31] المصدر نفسه.
[32] جيروزاليم بوست 18/2/2000.
[33] المصدر السابق.
[34] المصدر نفسه.
[35] الديار 14/2/2000 وأيضاً الحياة التاريخ نفسه.
[36] جيروزاليم بوست 12/7/1999 مقال لافرايم انبار تحت عنوان: السلام المسلّح.
[37] حديث خاص ضمن حلقة تلفزيونية (القناة الأولى) السؤال كيف نخرج من لبنان بمناسة ذكر الاجتياح في 14 آذار 1978.
[38] المصدر السابق.
[39] معاريف 30/6/2000.
[40] من حديث خاص لاذاعة المستوطنين “القناة السابعة” نقلته مجلّة فلسطين المسلمة العدد 6/7/2000, ص46.