- En
- Fr
- عربي
حلف شمال الأطلسي أي دور بعد التفكك السوفياتي؟
تتناول هذه الدراسة القضية المركزية التي تتمحور حول قدرة منظمة حلف الأطلسي (NATO على تأمين استمراريتها في العالم المعاصر، وبالتالي تحديد المدى( الذي ستستمر الدول الأوروبية الغربية المنضوية تحت لوائها في تحالفها مع الولايات المتحدة الأميركية. فمع تفكك الكتلة الشيوعية، برزت مجموعة من التساؤلات الحيوية حول المهام المستقبلية للمنظمة في حال استمرارها.
فهناك وجهة نظر تقول إن منظمة حلف شمال الأطلسي باتت كياناً سياسياً - عسكرياً باهظ التكاليف، ومن الممكن تحويل معظم مهامها إلى منظمات و مؤسسات أخرى. وتقول وجهـة نظر معاكسة إن انتشار الأسلحة النوويـة وأسلحة الدمار الشامـل وامتلاكها من قبل مجموعات إرهابيـة معادية للنظام العالمي، يُحتِّمان استمرار المنظمة ويُبرِّران وجودها، لا بل حتى يحركان سياستها الدفاعية.
والحقيقة أنه حتى لو تم خفض القوات الأميركية في أوروبا إلى النصف مع نهاية القرن الحالي، فإن احتمالات استمرار المنظمة لا تزال عالية جداً. ويبدو أن المسار الأساسي يهدف إلى تحويل المنظمة من مؤسسة عسكرية إلى مؤسسة سياسية تضمن السلام والاستقرار في أوروبا. ومن أهم الدلائل التي تشير إلى ذلك، لقاء القمة الذي عقد في روما سنة 1991 حيث تم تبني ستراتيجية جديدة قائمة على الحوار والتعاون في أوروبا وتأسيس مجلس تعاون شمال الأطلسي (North Atlantic Cooperation Council) - NACC الذي يضم 38 دولة منها بعض الدول التي كانت ضمن الاتحاد السوفياتي وبعض حلفائه في أوروبا الشرقية.
ومن الأوجه الأخرى للستراتيجية الجديدة، التأكيد على الدعم الذي يمكن أن تقدّمه الأمم المتحدة في مجال حل الأزمات وعمليات حفظ السلام، فضلاً عن مؤتمر الأمن والتعاون في أوروبا، والحلف الغربي الأوروبي. ولقد تم تفعيل الهيكلية الإداريـة لحلف الأطلسي، كما تم تطوير قوة خاصة للتدخل السريع.
الخلفية التاريخية لحلف الأطلسي
لقد أُطلقت منظمة حلف شمال الأطلسي، من قبل الولايات المتحدة الأميركية، كأحد العوامل الأساسية الممكن اعتمادها في سياسة الاحتواء الموجهة ضد الدول الشيوعية عموماً والاتحاد السوفياتي خصوصاً. وتمتد عضوية المنظمة جغرافياً من الولايات المتحدة وكندا غرباً إلى تركيا واليونان شرقـاً. أما الأعضاء المؤسِّسون فكانوا: بلجيكا، كندا، فرنسا، ايسلندا، إيطاليا، اللوكسمبورغ، هولندا، النروج، البرتغال، المملكة المتحدة والولايات المتحدة الأميركية.
وكان تم توقيع معاهدة تأسيس في العاصمـة الأميركيـة واشنطن في نيسان سنة 1949، وبدأ وضع أسس العمليـة موضع التنفيذ في شهر آب من العام نفسـه. وفي سنة 1952، انضمت كل من اليونان وتركيا إلى الحلف، وفي سنة 1955 انضمت جمهورية ألمانيا الفدرالية إليه. وأخيراً، انضمت إسبانيا سنة 1982 ليرتفع العدد الإجمالي للأعضاء إلى 16.
يُذكر أنه في سنة 1966، أعلن الرئيس الفرنسي شارل ديغول رغبة بلاده الانسحاب من الحلف، وطلب تالياً انسحاب القوات الأجنبية من الأراضي الفرنسيـة. وفي سنة 1967، نُقل مقر القيادة العامة للقوات الحليفة (SHAPE إلى مدينة مونز ((MONS)، في حين افتتح مقر جديد للسكرتاريا والمجلس في بروكسيل.
ولا بد من الإشارة إلى المحاولات المتعددة التي كانت جرت سابقاً لتشكيل قوة دفاعية متبادلـة بين مجموعة من الدول الأوروبية هي فرنسا، بلجيكا، اللوكسمبورغ وهولندا، وعُرفت بمعاهدة بروكسيل التي وقعت في 17 آذار 1947. ومع أن هذه المحاولات نالت الدعم الأميركي ظاهرياً، إلا أن الدول الأوروبية إقتنعت تدريجياً بأن هذا الإطار المؤسساتي غيـر كاف لردع الاتحاد السوفياتي. وبالتالي، أدركت هذه الدول أن الأمن الأوروبي لن يتحقق إلا بمشاركة كاملة وفاعلة من الولايات المتحدة في المعادلتين السياسية والعسكرية.
لذلك، بدأت في تموز 1948 محادثات في الولايات المتحدة مع كندا ودول معاهدة بروكسيل لإنشاء حلف شمال الأطلسي، مع التركيز على الأهداف الرئيسية التالية: الحفاظ على مفهـوم الأمن والسلام وتطويره، التعبير عن إدارة الأعضاء لصدّ العدوان، تحديد المنطقة الجغرافية الواجب العمل ضمن إطارها، التركيز على المساعدة المتبادلـة، تحقيق رفاهية شعوب الأطلسي عبر توسيع التعاون لما هو أبعد من المستوى العسكري، وأخيراً خلق الآلية التنفيذية لهذه المفاهيم والمبادئ.
ولا بد من التوقف عند "ورقـة واشنطن" السرية التي قُدِّمت في 9 أيلول 1948 من قبل الدول التي أصبحت لاحقاً أعضاء في الحلف، والتي اعتبرت أن أية أوضاع سياسية متشنجة أو أية أخطاء تكتيكية قد تؤدي إلى حرب شاملة مع الاتحاد السوفياتي حتى ولو لم تكن تلك نيته. فالتصور الغربي لستالين كان قائماً على أنه يمثل هتلر بأفكاره وتصرفاته، مما قد يولد ظروفاً سياسية غير مُحبَّذة في أوروبا. فكما دفع هتلر بجنوده قبل الحرب العالميـة الثانية إلى الراين، النمسا وتشيكوسلوفاكيا، فإن ستالين دعم بعد الحرب: الشيوعيين في الحرب الأهلية اليونانية، الانقلاب في تشيكوسلوفاكيا وتحركات أخرى مماثلة في دول أوروبا الشرقية.
ومن المعروف أن تشكيل حلف شمال الأطلسي في فترة التنافس بين الشرق والغرب، كان لضمان المساعدة الأميركيـة لأوروبا لمواجهة أي هجوم سوفياتي محتمل. والمشاركـة الأميركية العسكرية تعني، بصورة غير مباشرة، الاستعداد الأميركي لاستخدام السلاح النووي، لعدم قدرة القوات البرية الحليفة منفردة على صدّ أي هجوم سوفياتي في حال حصولـه. إلا أن هذه النظرية فقدت مصداقيتها تدريجياً مع قيام الاتحاد السوفياتي بتطوير قدراته النووية.
في مجمـل الأحوال، زال الحظر السوفياتي المباشر اليوم مع تفكك الاتحاد السوفياتي سنـة 1991. وهذا يقودنا إلى مسألة الجدل القائم في أوروبا الغربية والولايات المتحدة حول الدور المستقبلي لحلف شمال الأطلسي.
الحلف في التسعينات
بما أن "التهديد السوفياتي"، في فترة ما قبل وخلال الحرب الباردة، شكل السبب الرئيسي لتأسيس حلف شمال الأطلسي، فـلقد برز التساؤل حول ضرورة استمرار هذا الحلف بعد التفكك السوفياتي سنة 1991.
من الواضح أن هناك وجهتي نظر متناقضتين حول هذه القضيـة المحورية. فمؤيدو الاستمرار لا يكتفون بالدعوة إلى تطوير الحلف لجعله الإطار المؤسساتي الملائم لتفعيل التعاون بين الدول الأعضاء فحسب، إنما يطالبون بتوسيع قاعدة العضوية فيه لتضم الدول الشيوعية السابقة، وحتى روسيا نفسها.
أما معارضو استمرار الحلف، فيعتبرون أنه أدى دوره السياسي والعسكري في مرحلة زمنية محددة، وآن الأوان لفتح آفاق التعاون مع روسيا بدل التضييق عليها، خصوصاً وأنها لا تزال تمتلك قوة عسكريـة ونووية ضخمة. فتوثيق التعاون مع روسيا، بدل محاصرتها، سيكون كفيلاً بضمان الأمن الأوروبي.
وهنا يُطرح السؤال الآتي: أليس ممكناً التوفيق بين الدعوة إلى استمرار الإطار المؤسساتي للحلف، من جهـة، وتطوير التعاون مع روسيا، من جهة ثانية؟ أليس ممكناً إعادة رسم أولويات، أهداف وسياسات الحلف بشكلٍ يتناسب مع المتغيرات بعد التفكك السوفياتي؟
إن الإجابة على هذين السؤالين تستلزم دراسة مدى قدرة روسيا على التعامل مع الغرب، وسط تخبطها بأزمات سياسية داخلية (كحركة التحرر الشيشانية مثلاً)، واقتصادية (كالوضع المعيشي والبطالة وسواها). إن التفكك السوفياتي أعاد رسم الخريطة السياسية الدولية، من حيث سقوط القطبيـة الثنائية التي ميزت فترة الحرب الباردة طوال خمس عقود متواليـة، وأحد الدلائل هو انحسار عدد الحروب بالوكالة التي كانت تُخاض من قبل الدولتين الكبيرتين منذ سنة 1991.
ولا بد من الإشارة إلى تقليص النفقات العالية التي كانت تُصرف سنوياً على سباق التسلُّح، وهو كان الاتجاه السائـد قبل التفكك السوفياتي بموجب معاهدتي ستارت 1 و 2 (START). فمع أن المعاهدة الثانية لم تستكمل الإجراءات القانونية والتشريعية، إلا أنها عكست قناعـة الدولتين بالحد من الأسلحة. وهذا المنطق طغى على الأمور قبل سقوط إحدى القوتين، فكم بالحري بعده؟ وبالتالي، تبلورت فكرة أفضليـة إنفاق الأموال على المشاريع التنمويـة والقطاعات الاقتصادية بدل التسلح الذي قد يجر العالم إلى حرب دمار شاملة.
ومن الممكن تشخيص مرحلة ما بعد الحرب الباردة بأنها تتكون من العناصر الرئيسية التالية: "نظام عالمي جديد" يقوم على قوة عظمى لا منافس لـها قادرة على التعاطي مع كل أجزاء العالم، قوة عظمى سابقة لا تزال تتمتع بقدرة عسكرية ضخمة ودور سياسي أقل بالمقارنة مع ماضٍ "مجيد" في هذا الإطار، مجموعة من القوى المتوسطة (مثل فرنسا، بريطانيا، ألمانيا، اليابان وسواها) تسعى للعب دور بارز في المجتمع الدولي على المستويين السياسي والاقتصادي، وأخيراً أكثريـة ساحقة من الدول النامية التي تواجه إما استحقاقات وتحديات سياسية (كالديموقراطية، حقوق الإنسان، الحريات العامة . . .) أو اقتصادية (كالفقر، التنمية، التضخم السكاني . . .).
والسؤال المطروح هو أين يقف الأمن الأوروبي في ظل المتغيرات الدولية؟
الواقع أن الجهود الأوروبية، منذ تأسيس الاتحاد الأوروبي سنة 1954، لم تنجح في بلورة هيكلية مؤسساتية قادرة على استيعاب المصالح الأوروبية الجماعية. وخطوات توثيق التعاون، ضمن هذا الاتحاد، كانت بطيئة نسبيا مما انعكس على تركيبـة المعادلة السياسية والأمنية في أوروبا.
ولم تستطع منظمة الأمن والسلام في أوروبا (OSCE) مواجهـة التحدي إياه، لعدم قدرتها على تقديم نظام أمني لا يتكل على المساندة الأميركية. ولا يمكن نفي الدور الأمني الداعم الذي لعبته هذه المنظمـة خلال فترة الحرب الباردة، دون أن يخولها هذا الدور البروز كبديل أمني لا غنى عنه.
لقد لخص الكاتب كريستوف بيرترام بعض الفجوات التنظيمية الأخرى التي عانت منها المنظمة إياها، بالقول: "لا تتمتع المنظمة بجهاز دائم سوى سكريتاريا صغيرة، وبالتالي هي غير قادرة على جمع الأعضاء عبر أنماط التفاعل اليومي". فعندما تكون آلية اتخاذ القرارات في هذه المنظمة التي تضم 24 عضواً هي الإجماع، من الممكن تخيُّل مدى صعوبة تحقيق التوافق على الأمور البديهية، فكيف إذا كانت القضية المطروحة هي الأمن بكل تداخله وتشابكه مع المصالح السياسية؟
إن استمرار التهديد الأمني الروسي لأوروبا ولو بحدة أقل، من ناحية، والفشل الأوروبي منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية في بلورة صيغة أمنية بديلة عن الحلف الأطلسي، من ناحية ثانية؛ دفعا الغرب لإطلاق فكرة توسيع قاعدة عضوية المنظمة بدعوة الدول الشيوعية السابقة للانضمام إلى الحلف وخلق أسس التعاون مع روسيا. ولقد ركـز الأمين العام للحلف خافيير سولانا التوجه المستقبلي الأساسي بالقول: "دعوة دول جديدة للانضمام إلى الحلف سنـة 1999، تطوير برنامج ‘شراكة من أجل السلام’ لتوسيع التعاون مع كل الشركاء، توسيع العلاقات مع أوكرانيا، التوصل إلى اتفاق مع روسيا، وتطوير الآليات التنفيذية التي تزيد قدرة المنظمة على حل الأزمات".
وتتباين آراء المراقبين حول مسألة توسيع الحلف المذكورة، فيقول كريستوف بيرترام مثلاً: "إن توسيع الحلف لا محال منه ولا رجوع عنه. فالتوسيع يتلاءم مع هدفين رئيسيين هما: الحاجـة إلى إطار مؤسساتي يضمن الأمن الأوروبي، وحاجة المنظمة إلى هدف جديد. إن توسيع الحلف ليس ضرورياً لأوروبا فحسب، إنما هو حاجة بنيوية لاستمراريته".
وإزاء القلق الروسي القائم على اعتبار أن التوسيع يستهدف المصالح القومية الحيوية، وإزاء فشل صيغة 16 + 1 (أي أعضاء الحلف زائد روسيا) التي مُنحت روسيا بموجبها "وضعـاً خاصاً"؛ حاول الغرب إطلاق تطمينات تتعلَّق بنقطتين: الأولى، التأكيد على عدم نشر أي قوات حليفة على أراضي الدول الشيوعية السابقة التي ستنضم إلى الحلف، والثانية، التشديد على أن التوسيع لا يستهدف روسيا إنما يرمي إلى استيعاب أية تشنجات سياسية داخلية أو إقليمية قد تهدد الأمن الأوروبي.
وتجسد النقطة الثانية تحولاً رئيسياً في أهداف المنظمة وقدرة على التأقلم مع المتغيرات السياسية التي حدثت، كما تعيد طرح حساسيَّة الأمن الأوروبي ولو تغير مصدر التهديد. فلقد شكلت الحرب الأهلية في يوغسلافيا السابقة مناسبة لاختيار التعاون الروسي - الأطلسي من خلال قوة التنفيذ (IFOR) التي شُكِّلت لمعالجة الوضع. ولقد أدَّى هذا التعاون الاختباري إلى فتح صفحة جديدة بين "الأعداء" القدامى.
عن هذه التجربة، قال الجنرال الروسي ليونتي شيفستون: "هذه العملية المشتركة تُظهر أن حلف شمال الأطلسي وروسيا يستطيعان العمل سوية وتحقيق الأهداف السلميـة، من خلال التعاون العسكري". وهذا يدُل على أن مساحة التعاون بين الفريقين واسعة ويمكن تفعيلها عبر تعميق القواسم المشتركة بينهما.
لقد حدد البيان الختامي لوزراء مجلس شمال الأطلسي، في كانون الأول 1996، المجالات التي يمكن فيها تطوير التعاون مع روسيـا، عبر إعلان ميثاق يتضمن: "مبادئ تحدد علاقاتنا وتؤمِّن التعاون العملي في المجالات السياسية، العسكرية، الاقتصادية، البيئية، العملية، حفظ الأمن، الحد من انتشار الأسلحة، تخطيط الطوارئ المدنية فضلاً عن آليات الارتباط والتعاون العسكري".
ومن الاختبارات العمليـة للتعاون بين روسيا والأطلسي، كان برنامج "شراكة من أجل السلام" (PFP) الذي أُطلق سنة 1994 ونجح في تحقيق الأمن في البوسنة والهرسك. ولقد رأت روسيا في هذا البرنامج إطاراً مناسباً للتعاون أكثر ملاءمة من توسيع الأطلسي، رافضةً اعتباره "غرفـة انتظار" للدول التي ترغب في الدخول إلى الحلف.
وتتراوح مساحة العلاقة بين روسيا والأطلسي بين حدين: الأول يقوم على النظرة الروسية القائلـة إن توسيع الحلف يضر بمصالحها القومية، والثاني التأكيد على ضرورة التعاون مع الحلف حتى ولو كان ذلك عبر برنامج شراكة السلام فقط. إذن، ليس من خلاف حول محوريّة وأهمية التعاون إنما حول حجم التعاون المنشود وإطاره وعمقه.
ولمسألة التعاون مع الغرب خلفيات نفسية لدى الروس تعبر عنها رئيسة دائرة أوروبا الغربيـة في الأكاديمية الروسية للعلوم في موسكو، تتانيا بارخالينا، بالقول: "للعديد من الروس، خصوصاً أبناء الجيل القديم، تُعتبر قضيـة التعامل مع الغرب قضية نفسية فوق كل اعتبار آخر. إن القادة الروس يشعرون أن الولايات المتحدة وألمانيا تحاولان تقليص نفوذ روسيا ومصالحها في أوكرانيا، القوقاز وآسيا الوسطى".
إن سقوط الاتحاد السوفياتي وحلف وارسو، واستمرار، لا بل توسيع، حلف شمال الأطلسي، ولّدا شعوراً وطنيـاً روسياً بالإحباط. فمسار رفض توسيع الأطلسي آخذٌ في التوسع بين الصفوف الشعبية الروسية لأنه "يمس المصالح القومية". ولقد استفاد القادة الروس من هذه المسألة لاستقطاب المزيد من الدعم الشعبي.
وتفسر بارخالينا صعود الحس الوطني الروسي بالقول: "إن الشعور الوطني في روسيا تولَّد نتيجة الإدخال السريع لعوامل السوق في اقتصاد لا يعتمد على السوق، بمعنى آخر تولَّد نتيجة التحديات الاقتصاديـة التي يعجز القادة الروس عن مجابهتها". وكأنها في ذلك تشير إلى أن استخدام مسألة الشعور الوطني يتم لرفض توسيع الأطلسي، من ناحية؛ وللحفاظ على بعض المواقع السياسية لبعض القادة، من ناحية ثانية.
من الممكن القول إن النظام الروسي، بشكلٍ عام، والمؤسسات السياسية الروسية، بشكلٍ خاص، لم تتطور لتستوعب المتغيرات السياسية الواسعة النطاق التي حدثت في السنوات القليلة الماضية. وهي عاجزة عن تلبية الحاجات الأساسية للشعب الروسي على مستويات مختلفة.
من هنا، فإن القادة الروس مدعوون لدراسة السبل الكفيلـة بتلبية الحاجات المتصاعدة للشعب الروسي، بما يكفل حل المشاكل الاقتصادية - الاجتماعية التي نتجت عن التحول من الاقتصاد الموجه إلى اقتصاد السوق. فإذا كانت روسيا تسعى لإعادة احتلال موقعٍ ما في السياسة الدولية، فإنَّ عليها إطلاق برامج تنموية مكثفة في الداخل لتأمين الحصانة الداخلية الغائبة حالياً.
وهناك مجموعة من التحديات المتنوعة التي تعترض العلاقات الروسية - الأطلسية، أهمها ضرورة توضيح المعادلـة الأمنية الأوروبية وتحديد الدور السياسي الجديد لروسيا في المجتمع الدولي. فالماضي السياسي الروسي الحافل، فضلاً عن القدرات البشرية والطبيعية والاقتصادية والعسكرية الهامة التي تتمتع بها هذه الدولة، تُحتِّم استمرارها في السياسة الدولية كلاعب أساسي في صلب المعادلة.
العلاقات الأطلسية مع الاتحاد الأوروبي
في خضم هذه التطورات على المحور الروسي - الأطلسي، تبرز مسألـة أخرى لا تقل أهمية تتعلق بتفاعل الحلف مع الاتحاد الأوروبي الذي تعترضه جملة من العوائق:
أولاً: تتشابك العلاقات والأهداف بين هاتين المؤسستين، خصوصاً وأنهما تتعاطيان مع المنطقـة الجغرافية نفسها وتسعيان إلى تثبيت الأمن الأوروبي.
ثانياً: تسعى المؤسسات إلى تطوير آفاق التعاون بين الدول الأعضاء، مما سيولد المزيد من التشابك في الصلاحيات بينهمـا. فحلف الأطلسي، بعد التفكك السوفياتي، يسعى إلى تفعيل العلاقات الاقتصاديـة والثقافية بين الدول الأعضاء وعدم حصرها في المستوى الأمني.
فهل من تكامل، تناقض أو تضارب بين هاتين المؤسستين؟ لم تتضح الصورة النهائيـة حتى الآن للإجابة عن هذا السؤال، إلا أن المؤكد أن الدور الطويل والبارز الذي لعبه الحلف على صعيد الأمن الأوروبي، من ناحية؛ وعدم تطور الاتحاد الأوروبي كمؤسسة بديلة، من ناحية ثانية؛ يعنيان استمرار الحلف من دون منازع.
لقد كانت خطوات الوحدة الأوروبية، في ظل الاتحاد الأوروبي، بطيئة ومعقدة نظراً لتضارب المصالح الأوروبية - الأوروبية والصراع بين الدول التي تتمتع بنفوذ قوي في القارة (مثل فرنسا، ألمانيـا وبريطانيا). وهذه لم تكن الحال في حلف الأطلسي حيث تولَّت الولايات المتحدة القيادة الرئيسية من دون شريك.
في هذا الإطار، يقول النائب الهولندي فريتس بولكشتايـن: "إن السبب الرئيسي لبقاء صيغة الأمن الجماعي، هو عدم قدرة أية دولة أوروبية على حمايـة نفسها منفردة. فبغض النظر عن تقلُّص الاهتمام بالحلـف، لا يزال الغرب ينعم بدفء المظلـة الأمنية التي يقدّمها". وهو بذلك يُعلن، بصورة غير مباشرة، عن أن لا بديل عن حلف الأطلسي كضرورة أمنية ستراتيجية.
إن منطق الأمور يفرض التعاون بين الحلف وبين الاتحاد الأوروبي. فحلف الأطلسي يسعى لبلورة الصيغ الملائمة التي تضمن تعاونه مع عدوه السابق روسيا، فكم بالحري الاتحاد الأوروبي الذي يضم مجموعة من الدُّول "الصديقة"؟ وهذا ما دفع بالأمين العام المساعد للحلف للشؤون السياسية غيبارت فون مولتكه إلى القول: "إن الحلفاء يعتبرون توسيع الحلف والاتحاد الأوروبي كعمليتيـن متوازيتين ومتكاملتين، إلا أنهما سيتوسعان باستقلاليـة ووفق ديناميكيات منفصلة دون أن يكون ضرورياً أن يتقدَّما بالسرعـة نفسها". أضاف: "العمليتان ستساهمان في تدعيم نظام الأمن والاستقرار في أوروبا بما يتضمنه هذا النظام من أبعاد سياسية، اقتصادية، اجتماعية وبيئية".
التحديات المستقبلية في القرن المقبل
ما هي أهم التحديات التي ينتظر أن تواجه هذه المؤسسة الكبيرة في القرن المقبل؟ لقد تحدث الكاتب جون بيرنز عنها مؤكداً أن "الأهم هو بناء مقاربات مؤسساتية وتحليلية جديدة لمسألة الأمن". وتوسع بطرح مفهوم "الفجوة الثقافية" التي ستتأتَّى من جراء مواجهة التحديات المستقبلية بواسطة الأدوات والمؤسسات الموجودة اليوم.
ورأى أربعة تحديات رئيسية هي: "الوقت، المشاكل الأمنية، المستلزمات المؤسساتية المطلوبة لهذين العاملين، والقدرات التحليلية التي يجب أن تواكب أية تحولات مؤسساتية". أما بالنسبة للتحديات غير الأمنية التي تواجه الحلف، فلخصها بالقول: "الطاقـة، الغذاء، الأمراض، التغيُّر المناخي، الصين ونمور آسيا، التوقعات المتصاعدة، الشيخوخة، دول المغرب ودول الشرق الأوسط".
خاتمة
في المحصلة النهائيـة، إن استمرار حلف شمال الأطلسي، بعد زوال السبب الرئيسي الذي كان وراء وجوده، هو مؤشر لاستمراره في السنوات المقبلـة كأمرٍ مُسلَّم بـه لا يخضع للمزيد من الجدل في الدوائر السياسية. لكن تبقى المسألة الرئيسية المتعلقة بسبل تنظيم علاقات الحلف مع روسيا، أوكرانيا والاتحاد الأوروبي.
إن قدرة الحلف على إعادة رسم الخريطة السياسية والعسكرية الأوروبية على ضوء هذه الاعتبارات، سيُحدد قدرته على التأقلم مع متغيرات سياسية حادَّة قد تطرح نفسها في المستقبل.