- En
- Fr
- عربي
قضايا بيئية
تبدو رائعة في السماء بأشكالها المتنوعة والمتغيرة، حتى ان الطائرات الحربية تقوم بعروض خاصة لتجعل منها لوحات تعبيرية، يتمتع بها ألوف المشاهدين. انها الذيول الدخانية أو آثار التكثّف كما تسمّى علمياً، التي تخلّفها الطائرة عندما تحلّق عالياً في السماء. لكن العودة إلى الأرض تحمل معها بعض الخيبة. فهذه التشكيلات الدخانية الرائعة تنطوي أيضاً على الكثير من العبارات التحذيرية، وتشير إلى ظاهرة بقيت لغاية اليوم من دون أن تؤخذ بعين الاعتبار. ولكن لِمَ هذا الاتهام الموجّه إلى الطائرة في عصر وصلت فيه حركة النقل الجوّي المشترك إلى ذروة الازدهار؟
تأثير الغاز في الجو
ان الطائرة ليست كالسيارة أو الباخرة، مجرّد باعث لثاني أوكسيد الكربون. فهي تطير في الأجواء العليا على ارتفاع يتراوح بين العشرة آلاف والاثني عشر ألف متر، أي في منطقة من الجو، حسّاسة جداً بالنسبة إلى ظاهرة الاحتباس الحراري. وللمزيد من التوضيح نقول ان ارتفاع متوسط الغازات التي تنطلق من الطائرة عندما تحرق محركاتها مادة الكيروسين، يصل - بحسب المعهد الفرنسي للبيئة - إلى مئة وأربعين غراماً للكيلومتر الواحد والراكب الواحد، مقابل مئة غرام فقط بالمقارنة مع السيارة. وهذا منطقي، إذ ان طائرة الركاب تنقل عدداً كبيراً من الأشخاص (ثمانمئة راكب في طائرة المستقبل (A-380. وهي تطير بسرعة كبيرة (بين ثمانمئة وتسعمئة كيلومتر في الساعة). كما تحتاج إلى الكثير من الطاقة في مقاومة جاذبية الأرض عندما تنطلق عالياً في الجو. ان هذه العوامل وحدها تجعل من الطائرة وسيلة النقل الأكثر «تسخيناً» لأجواء الكوكب. لكن الملف لا يغلق فقط على غاز ثاني اوكسيد الكربون. فالواقع ان حرارة اشتعال الوقود المرتفعة جداً تشكّل غازات اوكسيد الآزوت (Nox)، من وراء تفاعل جزئيات الأوكسيجين والآزوت الموجودة في الهواء. ولهذه الغازات تأثيران متناقضان في الأجواء العليا: التأثير الايجابي، إذ إن غازات اوكسيد الآزوت تدمّر غاز الميتان، وهو غاز اخطر بعشرين مرة من غاز ثاني اوكسيد الكربون، بالنسبة لظاهرة الاحتباس الحراري او تسخين أجواء الأرض.
خطر آثار التكثّف
إن لغازات أوكسيد الآزوت تأثيراً آخر سلبياً، يتغلّب بأشواط على تأثيرها الايجابي، فهي مصدر لتسخين الأجواء العليا. فكيف يحدث ذلك؟ تبين حصيلة الدراسات في هذا المجال، ان غازات اوكسيد الآزوت تزيد بنسبة 60% من التأثير الخطر لغاز ثاني اوكسيد الكربون الذي ينبعث من الطائرة. ولا تنتهي هنا لائحة الغازات التي تطلقها المحركات. فهناك أيضاً بخار الماء والدخان الأسود وأملاح الحامض الكبريتي. ولهذا الثلاثي تأثير سلبي على المدى البعيد، لا يمكن تجاهله. أما السبب فلا يبدو مؤذياً في ظاهره، لأنه مجرّد انتاج للغيوم في السماء! لكن الواقع ان الحرارة والغازات المنبعثة من الطائرة تجعل بخار الماء يتكثّف في الجو ويظهر على شكل ذيول دخانية بيضاء تسمى آثار التكثّف -contrails) وهي اختصار لتعبير (condensation trails. ويكون لهذه الذيول الدخانية، التأثير ذاته الذي تتركه الغيوم العادية التي نعرفها بشكلها الدقيق الذي يشبه الصوف والتي تتشكّل على علو مرتفع، حيث تصل درجة الحرارة أحياناً إلى سبعين تحت الصفر، وتسمى هذه السحب، الطخرور.
والخطير في الأمر أن مثل هذه الغيوم تساهم في عملية الاحتباس الحراري فهي وإن كانت تسمح لأشعة الشمس باختراقها، إلا أنها تحتجز الأشعة تحت الحمراء التي تنعكس من سطح الأرض. والجدير بالذكر أن هذه الأشعة المنعكسة هي المتنفس الوحيد الذي يتخلّص كوكبنا عبره من حرارته الفائضة.
ولكن ما هو التأثير الحقيقي لآثار التكثّف؟
من الصعب الاجابة بدقة على هذا السؤال، اذ تختلف في كل مرة، الظروف التي تتشكّل فيها. ولا تولد آثار التكثّف الا في الهواء البارد والرطب، كما يحصل مع البخار الذي يخرج من فمنا في الشتاء. وبالتالي فهي تتكثف في هذا الفصل، أكثر من فصل الصيف، وفي الطبقات الجوية العليا، أكثر من الطبقات القريبة من سطح الأرض، وأيضاً في المناطق المرتفعة أكثر من الحارّة المنخفضة. كذلك، فإن آثار التكثّف تتغير بحسب أحوال الطقس! هذا ويصعب من جهة ثانية دراسة هذه الآثار بسبب تشكّلها على علو مرتفع. إلا أن ذلك لم يمنع الباحثين، من الاتفاق على رقم معيّن، بعد دراسة بالوسائل البصرية، تناولت عمر هذه الآثار وكثافتها. وكانت النتيجة ان آثار التكثّف تزيد من خطر الاحتباس الحراري الناتج عن ثاني أوكسيد الكربون بنسبة... أربعين بالمئة! ويمكن القول بمعنى آخر أن تأثير غاز ثاني أوكسيد الكربون الذي ينبعث من محرّكات الطائرة، يتضاعف مرتين، عندما ندخل في الحساب تأثير غازات اوكسيد الآزوت، وأيضاً آثار التكثّف التي تخلّفها الطائرة. ولكن هل يقف عند هذا الحد، التأثير السلبي للغازات الضارة التي تسبّبها حركة النقل الجوّي؟ الجواب مع الأسف هو كلا.
التأثير المتأخر
نستنتج مما سبق ذكره أن الطائرات تولّد، بآثار التكثّف التي تتركها، كمية كبيرة من الغيوم الطخرورية، أو السحب الدقيقة الصوفية الشكل. والمعروف أن هذا النوع من السحب، له تأثيره الكبير على تسخين أجواء الأرض. وتكون «فبركة» هذه الغيوم عملية بسيطة نسبياً، كما يقول أحد المسؤولين في الأبحاث الجوية الفرنسية: «نحن نعلم أن الأجواء التي ترتفع إليها الطائرة، تكون مشبعة عادة بكميات كبيرة من بخار الماء. لكن ذلك لا يؤدي دائماً إلى تشكّل الغيوم، إلا في حال توافر نواة للتكثّف، أي جزئيات (قد تكون حبيبات الغبار مثلاً) تتكثف من حولها بلّورات الجليد التي تتألف منها سحب الطخرور. وفي وجود طائرة في هذه الأجواء المرتفعة، تنفث محركاتها الجزئيات أو نواة التكثّف المطلوبة، فتؤثر في الطبقات الجوية العليا بطريقتين: الأولى، وهي تظهر بوضوح على شكل آثار التكثّف التي، بدلاً من أن تختفي، تتوسّع وتصبح حدودها غير واضحة المعالم، وتتطوّر إلى غيوم طخرورية. أما التأثير الثاني للطائرة على الأجواء العليا، فهو توليد سحب طخرورية متأخرة. وفي هذه الحال، تبقى الجزئيات التي تخلّفها المحركات، من دون تأثير فعلي مباشر، إلى أن تشكل بعد أيام قليلة، نواة لعملية التكثّف. لكنه ليس من السهل التأكيد على هذا التأثير المتأخر، بسبب عدم التمكن من دراسة هذه الظاهرة بشكل مباشر.
نسبة تزايد السحب تصل إلى 2%
يبقى اللجوء إلى التجارب غير المباشرة، الطريقة الوحيدة للتأكيد على التأثير المتأخر في عملية انتاج الطخرور. الاختصاصي في علم الأجواء العليا في الـ«نازا»، الباحث باتريك فينيس، قام بمتابعة لتطوّر آثار التكثّف التي خلّفتها الطائرات الحربية، غداة احداث الحادي عشر من ايلول 2001. وكانت هي الطائرات الوحيدة التي سُمح لها بالتحليق في الأجواء الأميركية لمدة ثلاثة أيام. ويقول باتريك فينيس: «لقد دامت احدى سحب آثار التكثّف، أكثر من ست ساعات إلى أن شكّلت غيمة امتدّت مساحتها على احد عشر الف كيلومتر مربع!». وذهب فينيس في استنتاجه إلى القول بأن الغيوم الطخرورية، كانت ستمتد في ذلك اليوم على مساحة ثلاثمئة ألف كيلومتر مربع لو أن الطائرات تابعت تحليقها بشكل طبيعي. ويقدّر فينيس بأن تزايد السحب الطخرورية في شمال اميركا، ارتفع بين العامين 1971 و1995، من نسبة خمس وعشرين في المئة إلى ثمان وعشرين، بسبب كثافة تحليق الطائرات. وكذلك الأمر بالنسبة إلى أوروبا. فقد أظهرت الدراسات الحديثة، توسعاً متزايداً في رقعة الغيوم الطخرورية، ارتفع من نسبة واحد الى اثنين في المئة خلال عشر سنوات.
وللتأكيد على نتائج هذه الأبحاث، يضع روبير سوزن، الباحث في المركز الألماني لعلم الهواء الفضائي، آماله كلها، في القمر الصناعي الجديد «Méteosat-8»، الذي يصفه بأنه يتميز بدقة فائقـة في المراقبـة المتواصلـة للبقعـة ذاتهـا، في حين أن الأقمار الصناعية الحالية، لا تغطّي الرقعة ذاتها سوى مرتين في اليـوم، وهو أمر غير كـاف من أجـل اقتفــاء اثـر السحب الطخرورية ودراستها بشكل دقيق. هـذا، ومن المتوقع أن يتوصل العلماء خلال ثلاث أو أربع سنوات، إلى تحديد الرقم الدقيق لتأثير السحب التي تولّدها الطائرات في الأجواء العليا، الأمر الذي يضع تحت المجهر، عملية التنامي المتزايد لحركة النقل الجوي في العالم.
عدم توافر الحل البديل
ان نسبة انبعاث غاز ثاني اوكسيد الكربون الذي تنتجه محركات الطائرة، لا يتعدّي اليوم الإثنين بالمئة من مجموع الانبعاث العالمي الذي يسبّبه الانسان، والذي يصل إلى نسبة 3.5%. لكن التنامي المتصاعد لحركة النقل الجوي، سوف يؤدي خلال سنوات قليلة، الى ارقام لا يمكن التغاضي عنها. فالتصاعد السنوي لحركة الطيران بنسبة 5%، سوف يضاعف أربع مرات أو أكثر، نسبة تأثير الطائرات على المناخ، من الآن وحتى العام 2050. فما الذي سيحدث عندئذ، لو أن نسبة الـ14% من تسخين الأرض، الناتجة عن حركة النقل الجوي، ستتضاعف مرتين بفعل الغيوم الطخرورية؟
المشكلة أنه لا يوجد حتى الآن، أي بديل تقني فوري، يخفّف من انبعاث الغازات الضارة، وبالتالي من تشكّل الغيوم الناتجة عنه. إلا أن هناك دراسة معمّقة لحلول مقترحة، يقضي أوّلها، بالتخفيف من استهلاك الوقود. والمعروف أنه، بفضل تطوير نوعية المحرّكات، والتقدّم في مجال الديناميكا الهوائية، والتخفيف من وزن هيكل الطائرة باستعمال المعادن الجديدة، فإن طائرة العام 2000 أصبحت تستهلك نصف كمية الوقود التي كانت تصرفها الطائرة في السبعينيات! وفي انتظار أن يخطو العلم في هذا المجال، خطوة اخرى بهذا الحجم (كأن تعمل المحرّكات على الهيدروجين مثلاً)، يمكن أن نزيد من قدرة الطائرة على الاستيعاب. فاستهلاك الوقود لطائرة «ايرباص A-380»، التي تحمل ثمانمئة راكب، سوف يكون اقل من استهلاك طائرتي «ايرباص A-340»، تتّسعان لأربعمئة راكب. وهناك حلّ آخر قيد الدرس، إذ يبدو واعداً للغاية. إنه التخفيض من علو الطيران. ومع أن هذا التدبير، يؤدّي، بحسب نتائج مشروع الأبحاث الأوروبي «Tradeoff»، التي نُشرت في العام 2003، الى زيادة في انبعاث غاز ثاني اوكسيد الكربون، بنسبة 5.85 بالمئة، إلا أن الطيران عبر طبقات الهواء الأكثر كثافة يتطلّب طاقة اكبر، لكن مفعول آثار التكثّف، سوف يتراجع بنسبة 44.5%، وبنسبة 30% في ما يختص بطبقة الاوزون.
وعلى أمل أن يتوصّل الباحثون الى تطبيق حلول فاعلة خلال السنوات القليلة المقبلة، فإن طريق وسائل النقل الجوي، لا تزال غير «معبّدة»، على الرغم من مرورها بفترة ازدهار تصل الى الذروة.
Science & Vie - Mai 2005