- En
- Fr
- عربي
وجهة نظر
بقي لنا من حنايا السراديب القديمة، وجماليّة القناطر المعقودة، عبق سحريّ من ذلك اللبنان الآتي من بعيد على صهوة أبجر معتدّ اسمه الميثاق. تكرج الأيام، وتتلوّن الفصول، وتغادر السنوات لترتّب مقاعدها في ذاكرة التاريخ، ويبقى على المفترق صنوان لا ينفصلان لبنان والميثاق.
بقي لنا الكثير من ذلك العبق الآتي من زمن الشراويل المقصّبة، والقنابيز الطويلة، والطرابيش الحمراء المزهوّة فوق شمخة الرؤوس الكبيرة. لم يتغيّر الميثاق، لم يتبدل، لم يشخ، بقي هو هو، الأصل والأصيل في المفاصل الصعبة، وإن تغيّرت الوجبات، من الأطباق المحشوّة ببرغل العافية، إلى «دوليفري». كنّا في زمن الكراريس المحفورة في الوجدان، والمتآخية مع الكيان، فأصبحنا في زمن «النأي بالنفس»، الترجمة العصرية، لإبداعية رياض الصلح «لا للشرق، ولا للغرب، ونعم للحياد الإيجابي؟!».
حكاية الميثاق
يعوّل المؤرخ يوسف إبراهيم يزبك على شيء من الكلمات النقيّة، عندما يصف الصلح «بصاحب الوجه الألمع، والعقل المداور الأذكى في لبنان، المستطيع الإعراب عن عقيدة الإستقلالييّن العرب». كما يصف الرئيس بشارة خليل الخوري «بالألمعي، المثقف، المتزن، والمحاور المقتدر، صاحب النظرة البعيدة إلى الأمور».
ومع الانتهاء من «حفل الإطناب، وتوزيع الألقاب»، يروي المؤرخ يزبك رحلته مع الميثاق، فيقول:
بعد الاستقلال الجديد، التام سياسيًّا، بدأ يذاع في صحفنا تعبير لا عهد للناس به، وهو قولهم: «الميثاق الوطني» مشيرين بذلك إلى اتفاق تمّ التفاهم عليه بين بشارة خليل الخوري، ورياض الصلح، القطبين اللذين كتب لهما شرف تمثيل قيادة النضال، في المرحلة الأخيرة من المسعى الوطني الطويل، الطويل، والعنيد، الذي بدأه آباؤنا لتحقيق الاستقلال المذكور.
والاتفاق المشار إليه لم يكتب في بنود، ولا سجّل على ورق، أي ليس له مستند خطّي موقّع عليه من الرجلين اللذين وضعاه حتى يرجع إليه عند الإقتضاء، ذلك أن صاحبيه اعتبرا نفسيهما زعيمين وكيلين يمثلان شعبًا وينطقان باسمه «فمانا» على وطنهما، وعدّا اتفاقهما «وفاق شرف» – بالاصطلاح الأوروبي – وخصوصًا بعد أن جاراهما فيه محازبوهما الأقربون، واشترك في الإعداد له رجالات الوطنية الاستقلاليّة في سوريا وأيدوه تأييدًا كاملاً، وباركوه.
في البيان الأول للوزارة الاستقلاليّة التي ألفها رياض الصلح، وكان رفقاؤه فيها: حبيب أبو شهلا، كميل نمر شمعون، مجيد إرسلان، سليم تقلا، وعادل عسيران، بسّط جوهر هذا الميثاق وغايته، فلمع نبراسًا وطنيًّا أضاء الطريق إلى مفهوم الاستقلال الجديد وقصده.
عنوان التعالي الوطني
يؤكد يزبك بأن اللبنانيين، ومعهم العرب جميعًا، لم تكن عندهم في ذلك الزمان رؤى وطنيّة تحرريّة أكثر، ولا أوضح مما جاء في البيان الوزاري الأول لبسط النيّة الاستقلاليّة – ولا عبرة بصيحات فرديّة، وخلايا سريّة عظم مرماها وضؤل حجمها، وعدد مناضليها حتى الصفر – فصار مسموحًا، والحالة تلك، أن يعدّ الميثاق عنوان التعالي الوطني يوم وضع، وكيف لا يكونه، وقد صرّح مؤكدًا بأنه يريد تحرير لبنان من صك الانتداب تحريرًا كاملاً، ويريد تقديس السعي إلى وحدة جميع أبنائه. وهل كان العرب يحلمون بأكثر مما جاء في بيان الوزارة الاستقلاليّة؟
الفصل الأول من القصّة التاريخيّة بدأ بأحاديث خافتة الصوت، شبه سريّة، دارت أيام الانتداب بين الرجلين بشارة الخوري ورياض الصلح كان دافعها التذمر من استفحال طغيان الانتدابيين، وإمعانهم في التفرقة بين المواطنين طائفيًا، وعبثهم بكل كرامة لبنانية، ولاسيما بعد خنقهم مشروع المعاهدة اللبنانية – الفرنسيّة، وأختها السوريّة – الفرنسيّة، وهما المعاهدتان اللتان عمل بشارة الخوري جاهدًا في تنسيق نصوص الأولى وإبرامها في البرلمان اللبناني، كما عمل رياض الصلح كثيرًا في الأندية اليسارية الفرنسيّة لأجل إبرام الأخرى، ولكن الاستعماريّين خنقوهما في العاصمة الفرنسيّة.
ظلّ بشارة الخوري، ورياض الصلح، في تلاقيهما المتكتم، والمقفل أحيانًا، يتفقان على التذمّر والشكوى من الانتدابيّين وأعمالهم، ولم يتفقا وإن تلميحًا على خطّ صريح في قرار عملي قاطع للقضاء على الطغيان. ومن أسباب عدم اتفاق الرجلين المتذمّرين، حذر يمسك بالناقم الوطني كي لا يفصح: فالذهنيات، والمفاهيم، والتربية، والمستطاعات آنذاك، وقبل كلّ هذه العقود الطويلة، هي غيرها اليوم.
أسرار 1943
أما الفصل الآخر من القصّة، فحديث إيجابي دار سنة 1943 سرًّا - والحديث سريّ دائمًا أو شبه سرّي في هذا الصدد - بين الرجلين وهما على عتبة باب الانتخابات النيابيّة التي طبخها الإنكليز، وأوصلت نتائجها لبنان إلى تحقيق استقلاله السياسي. المجزرة العالمية، يومها، في أبان جذوتها، ومصير الدنيا كلها على كف عفريت، اجتمع الإثنان هذه المرّة على خط صريح ونهائي للخلاص من طغيان الأجنبي وتحكمه بالكبير والصغير، بالمسلم والمسيحي على حدّ سواء.
وهذا الخط الصريح النهائي هو تعاهد المسيحي والمسلم على استقلال لبنان استقلالاً كاملاً، وعلى بنائه من جديد وطنًا حرًّا يكون لجميع أبنائه على التساوي، ويكون أخا العرب، ونافذتهم إلى الحضارة الغربيّة.
وهو تعاقد المسيحي والمسلم على أن يحولا دون أي سبب من أسباب إثارة النعرة الطائفيّة، ذلك التعاهد هو ما أطلق عليه بعد تحقيق الاستقلال، اسم الميثاق الوطني.
ماذا بقي من الميثاق؟
«غابت قبعة بشارة خليل الخوري (الفرنجيّة) الغربيّة - الأجنبيّة، وأفل طربوش رياض الصلح (العربي) الشرقيّ، ولم يبق من تلك المدرسة الوطنيّة السياديّة إلاّ كتاب القواعد الذي يضبط إيقاع الاستنهاض الوطني في كل مرّة يتعرّض فيها الكيان إلى الإهتزاز، وتصاب الصيغة بندوب. وقد أثبتت التجارب الكثيرة والمريرة بأن الميثاق، ليس مجرّد كلام منسوخ عن طبعة وجدانيّة حبّرت حروفها نزوات وطنيّة عابرة، تقمّصت بشخصيات كانت لها داّلة على تاريخ هذا البلد، وجغرافيته، بل هو الإيمان العتيق، العميق بلبنان، بخصوصيته، بمزاياه، بتراثه، بتقاليد شعبه، وبتكوين مجتمعه، هو الحلم المفعم بوحي سرمدي متلازم مع سرمديّة هذا الوطن الذي عشق يومًا طائر الفينيق، وتآخيا معًا حتى منتهى الدهر». لقد تألبت الأجيال، وتبدّلت الوجوه، وتنوعت الثقافات، وتغيّرت العادات، والتقاليد، والسلوكيات، والمفاهيم، ولم يبقَ من الشراويل العتيقة، والطرابيش المشرئبة، سوى ما يحتاجه المسرح للتمتع بسهرة صيف، أو بمسرحيّة تراثيّة، لكن الخمرة المعتقة تبقى رهن الأجاجين الدهريّة التي تثمل سطوة التاريخ، وتطفىء نهم الجغرافيا، وتبقي الشعب العنيد متباهيا بأصالته ووحدته، جزلانًا يرندح مع سعيد عقل:
ومن خطر نمضي إلى خطر??ما هم؟ نحن خلقنا بيتنا الخطر
الأنواء والعواصف
الخطر هنا لا يكمن بهشاشة الصيغة، أو عقد الميثاق، بل بما هو ناجم عن الأهواء، والعواصف الزاجرة من الخارج، لتطبيع الداخل، وتطويعه، وفق أجندات المصالح، أو طمعًا بمكاسب كيانيّة. كثيرون لم «يستهضموا» وضعية «لبنان ذو وجه عربي»، أرادوه أن يكون مكتمل المواصفات، ونسخة طبق الأصل عن المحيط، لا فرادة، ولا خصوصيّة، ولا علامة فارقة. كثيرون لم يتقبلوا الصيغة، ما هي هذه الديموقراطيّة التوافقيّة؟ ولماذا هناك جماعات ممتازة، وأخرى مميّزة، و»ناس بسمنه. وناس بزيت؟!». وكثيرون ضاقوا ذرعًا بالنهضة الثقافية التي أبدعتها الإتنيات المختلفة، والمجموعات الحضاريّة التي يتكون منها المجتمع اللبناني، فجرت محاولات عدّة لتفجيرها من الداخل تحت طائل من الذرائع الواهية، والشعارات الموسميّة المغرضة.
إلاّ أنّ الخطر الأكبر والأعم كان يتمثل دائمًا في الوظيفة المطلوبة للكيان الصغير، والتي كانت تفوق دائما قدراته وإمكاناته.
أين جيل اليوم من ميثاق القرن الماضي؟
جيل اليوم، ربما لا تستهويه قبعة بشارة الخوري الغربيّة، وطربوش رياض الصلح الشرقي، لكن بالتأكيد هو حكمًا ينعم هانئًا تحت هذه المظلّة الميثاقيّة التي حبكاها بخيوط وطنيّة مذهبة لا يقاربها الصدأ، ولا تتلفها نوائب الدهر. جيل اليوم، يكتسي حكمًا عباءة الميثاق، في كلّ مرّة يشعر بالخطر الداهم الذي يستهدف طمأنينته الوطنيّة، ووحدته، وخصوصيته، ومصيره، ومستقبله. هو حكمًا ينعم بالاستقرار والأمان في حمى هذه المظلّة. بالطبع هناك هوة فاصلة، ربما هي صنيعة الولاءات الخارجيّة، ربما هي نتيجة فراغ كبير في التنشئة الوطنيّة، ربما بفضل الحساسيات المفرطة بين المكونات الثقافية - الحضارية للمجتمع اللبناني، وقبل كل هذا، ربما الحاسوب، وثقافة الرقم، والتكنولوجيا الحديثة، والإلكترونيات التي تغزو عالمنا، وتفرض حضارة خاصة قائمة بها، منسلخة تمامًا عن واقعنا، وعن ماضينا، ومع ذلك لا خوف على الصيغة والميثاق، وقد أثبتت الوقائع مرارًا وتكرارًا بأنه في كل مرّة تحاصر فيها سفينة الوطن وسط الأنواء والأهوال، وتتغشّى معالم الطريق، تعود فتهتدي ببوصلة الميثاق الذي يرشدها إلى شاطىء الأمان، ويكفي اللبنانيين ما خبروه خلال الأسابيع المنصرمة عندما تشبثوا بعبارة «النأي بالنفس» للخروج من الأزمة التي بدأت تواجه الحكومة، والعهد، وتستهدف مسيرة الاستقرار والسلم الأهلي.
وليس «النأي بالنفس» سوى التعبير الحضاري، المتطور، الشائع في لغة هذا الزمان، والذي يضمر في حضنه المعاني السامية لميثاق ذلك الزمان.
يعرف جيل اليوم، وعند المفارق الصعبة، والتحولات المصيريّة، أن هناك ميثاقًا لا يمكن تجاهله، أو تجاوزه، ويعرف من كتب التاريخ أن قبّعة بشارة خليل الخوري، وطربوش رياض الصلح، دشّنا دروب الاستقلال، وحصّنا قصور الحكم، وصنعا الميثاق الصخرة التي بني عليها الوطن لبنان، الصيغة والكيان، والتي لا تقوى عليها الرياح! «لا شرق، ولا غرب، بل نأي بالنفس وفق مقتضيات المصلحة الوطنيّة اللبنانية العليا؟!»