- En
- Fr
- عربي
ضيف العدد
بيروت مدرستي وجامعتي أحلُم بهــا تعــــود...
طائر الفينيق بيروت كعادتها، تستعيد أنفاسها العطرة.
هي هي كعادتها تقهر الجمود والسكون، بدبيب حركتها العميقة في التاريخ.
هي هي تصعق المتطاولين عليها، فينهزموا متجلببين بالإنكسار.
وهي هي تخط بجناحيها أحلاماً لاهبة فوق الجفون التي أثقلها السهاد، فتشتعل العيون وتثب الأفئدة وتمتد السواعد جسر تطواف كونيّ مرصّع بدُرَر حيويتها وانفتاحها وتجددها. دُرر بهية كالشعر، وساطعة كالعلم.
لكَم استُضعفت بيروت وأُحرقت ودُمّرت! ولكم عنّفها الإنسان، وثارت من تحتها الطبيعة. وأمعنا معاً، من غير تحالف، في قهرها مرّات. وقلباها تكراراً رأساً على عقب!
ولكم كبُرت رُغم ذلك وأزهرت وازدهرت! ولكم تقاطر عليها من كل حدب وصوب طالبو العلم والعمل والأمان والحرية! ولكم اعتذرت الطبيعة منها، فمنحتها اعتدالاً ودفئاً وطراوة، فانقلبت في كل المرات شامخة كالمنارة، لا تنطفئ جذوتها!
بيروت أهلوها. وأهلها محبوها ومريدوها وعشاقها المقيمون القاصدون العابرون. فهل نبخل على بيروت وهي التي لم تبخل على أحد؟ وهل نكمش راحتينا إزاءها، وهي التي لم تنكمش راحتاها إزاء أحد؟ وهل نصلّب قبضتينا في وجهها، وهي التي لم تتصلب قبضتاها في وجه أحد؟
بيروت لأهلها. وأهلها اللبنانيون أينما وُلدوا وأينما حلّوا. بيروت هي الإقامة وهي الترحال. هي النقطة وهي الدائرة. بيروت تستعيد اليوم جواهر التاج التي امتدت إليها أيادي الحقد والحسد. ومرّغتها الكوابيس حتى انتهكت بريقها قواميس الأفكار المظلمة، والمُفردات المنغلقة على نفسها.
أَوَلم تكن بيروت دوماً قلباً جامعاً، ومرافق وصول وعبور، ومراكز للعلم والمعرفة والثقافة، نابضة على إيقاع التاريخ والحداثة؟
فلنرُدّ الى حبيبتنا قلبها الجامع، والى جامعتنا مرافق الوصول والعبور، والى معلمتنا مراكزها العلمية والثقافية، حتى تعود فتنبض من جديد، على إيقاع التاريخ والحداثة.
ها هو قلب بيروت الجامع وقد تفتح بأبهى حلة وأرقى تنظيم. فانفرجت أسارير ماضيه الذي راح يشهد عاماً بعد عام، كيف يجري وصل شرايينه التي أمعنت فيها يد الجهل والسوء تقطيعاً. وكيف يستعيد الماضي صورته الزاهية عن ذاته، حيث تتقاطع الزحمة مع الوُدّ والازدهار، وحيث ينسجم التاريخ مع المستقبل، وحيث تنفتح الأعمار والأجناس والثقافات والفئات على بعضها، من دون قهر ولا ادّعاء. وكيف تستعيد شرايين المدينة حيويتها ودورها ذا النفس الطويل، وقد انتشرت واسعة حرة سلسة حديثة وأنيقة، بين المواقع والمراكز والمرافق والمناطق. فيعبر فوقها الحشد في هنيهات أنّى اتجه، ومن أنّى جاء.
وها هو مرفق الوصول والعبور وقد تفوّق على نفسه مساحة وجمالاً وقدرات، يعج بالوافدين يستقبلهم بما يليق بهم وبمضيفهم، من حفاوة وعرفان وقبلة، وبالمغادرين الحامدين لطيب إقامتهم في لبنان يودّعهم، وفي فؤاده اشتياق مبكر إليهم، بينما في عيونهم، ألف وعد بالرجوع، وشوق مبكر، ووردة.
وها هي اليوم منارة بيروت، الوفية لبيروت العريقة، تنثر عند أقدامها المغناجة على شفة الموج، جوهرة التاج التي تشعّ وتغمز وتشير وتدلل. فتستفيق الحسناء وقد تزيّن جيدها بعقد فريد من الفنون والعلوم والفكر والشعر. جوهرة التاج، طائر النورس الأبيض، وقد أطلق جناحيه فوق الأبيض المتوسط، ليلامس الشرق والغرب. وها هي تشهد على إكليلهما، بؤرتهما، بيروت.