- En
- Fr
- عربي
نحن و القانون
في الأحوال العادية، ليس مألوفاً، ولا مباحاً، أن، يتولى شخص إدارة شؤون غيره من دون إذن منه؛ فالتدخل في شؤون الغير أمر مرفوض إنسانياً واجتماعياً؛ فكيف بالأحرى إذا أنشأ هذا الشخص، بنتيجة تدخله، وبإرادته المنفردة، موجبات على عاتق الآخر!؟ هذا من حيث المبدأ .
إلا أنه، وفي أحوال جدّ استثنائية، وكي لا يعدم التعاون والتضامن بين البشر حين تقتضي الضرورة ذلك ، أجاز المشترع مثل هذا التدخل المسمى بـ " الفصول"
(La gestion , d affaires) وأفراد له فضلاً خاصاً من قانون الموجبات والعقود، منظماً أحكامه في المواد 148 إلى 164 منه. بمقتضى هذه الأحكام يمكن لأحد الأشخاص، ويسمى "الفضولي" أن يقوم في ظروف معينة بإدارة مصالح آخر، يسمى "رب المال" بشرط أن يأتي عمله بهدف المحافظة على هذه المصالح ليس إلا، لا سيما في حال غيابه.
نستعرض في ما يلي أبرز أحكام الفضول، بدءاً بتعريفه وشروطه، وصولاً إلى الآثار الناجمة عنه.
تعريف الفضول
- ما هو الفضول أو العمل الفضولي؟
يكون العمل فضولياً عندما يقدم المرء (الفضولي) من تلقاء نفسه على إدارة شؤون الغير (رب المال) ، عن علم، وبلا تفويض، بقصد العمل لذلك الغير. بمعنى أن يبادر الشخص، بصورة شخصية وعفوية، وبدون أي تكليف، إلى العمل، وهو مدرك بأنه يقوم بعمله لمصلحة الغير.
أما إذا حصل أن قام بإدارة ملك الغير، عن غير علم، لاعتقاده أنه يدير ملكه الخاص، وأدى ذلك إلى إثراء هذا الغير على حسابه، من دون سبب، فعندها يخرج العمل عن أحكام الفضول (ولا تطبق عليه بالتالي الأحكام الآتي ذكرها)، ليخضع لنظام الإثراء بلا سبب (L’enrichissement sans Cause) إذا ما توفرت شروطه القانونية.
- ما هي الأعمال التي يمكن للفضولي أن يقوم بها؟
إن الأعمال المادية، كما الأعمال القانونية، يمكن أن تكون محور العمل الفضولي.
تتنوع الإعمال المادية بتنوع الظروف التي استدعت تدخل الفضولي؛ أم القسم المشترك بينها، فيتمثل في كونها ترمي كلها إلى درء خطر محدق بشخص الغير أو بملكه. من الأمثلة على هذه الأعمال، نذكر:
- إجراء إصلاحات سريعة في منزل شخص غائب، منعاً لتسرب مياه الأمطار إليه، بفعل تشقق السقف مثلاً.
- إصلاح كسر في المجارير أو في أقنية بستان الجار الغائب، منعاً لإغراقه بالماء وتلف المزروعات.
- المبادرة إلي انتشال راكب دراجة تدهورت وبدأت بالاحتراق، أ, راكب سيارة جنحت عن الطريق العام وانقلبت معرضة حياته للخطر.
إن كل ما تقدم ذكره يعتبر بمثابة عمل فضولي مادي.
والجدير ذكره أن إثبات هكذا أعمال غير مقيد بطرق معينة، إنما ممكن بكافة طرق الإثبات المنصوص عنها قانوناً.
أما لجهة الأعمال القانونية (كالعقود مثلاً)، ونظراً لغياب النص القانوني الذي يوضح ما إذا كانت كلها مشمولة بالفضول أم لا، فقد اعتبر البعض أ، نظرية الفضول تقتصر على إعمال الإدارة والحفظ، كالتعاقد مثلاً مع ملتزم لرش أشجار الغير بالمبيدات حرصاً على عدم إنتشار وباء يعرض سلامتها للخطر، ولا تشمل بالتالي الأعمال التصرفية، كبيع ملك الغير مثلاً.
إلا إن تطور نظرية الفضول، وتوسع نطاقها، بتأثير عوامل العدالة والضرورة، وكون إدارة شؤون الغير بصورة مفيدة تتطلب أحياناً القيام ببعض الأعمال التصرفية، أديا إلى إدخال جانب كبير من الأعمال التصرفية في نطاق الفضول، كبيع ثمار الأشجار القابلة للتلف، وغير ذلك.
وقد ذهب البعض إلى حد الاعتبار أنه يجوز للفضولي قبول هبة من واهب مشرف على الموت، لمصلحة شخص غائب يمت إلى الواهب بصلة قرابة، أو موجود في حالة العوز، أو مصلحة قاصر لا ولي له ولا وصي.
من الأمثلة على الأعمال القانونية التي يمكن تصورها في هذا المجال، نذكر:
التعاقد مع ملتزم لإتمام أشغال في بناء مهدد بالسقوط ومالكه غائب أو مهاجر.
دفع أقساط مدرسية عن أبناء غائب أنذروا بالدفع تحت طائلة طردهم من المدرسة.
تأجير منزل الغير الشاغر، للحؤول دون مصادرته من قبل سلطة الاحتلال.
التصريح عن وجود مستأجرين في بناء قيد الإستملاك للمنفعة العامة، حفظاً لحقوق هؤلاء المستأجرين الغائبين.
نقل مصاب بحادث سير إلى المستشفى، ودفع نفقات عملية جراحية مستعجلة عنه.
أما عن إثبات العمل القانوني الذي يقوم به الفضولي، فيخضع كسائر الأعمال القانونية إلى وسائل إثبات خاصة به، كالمستند الخطي والمعاملة الشكلية؛ هذا بالنسبة إلى علاقة الفضولي بالأشخاص الثالثين (أي الذين يتعامل معهم لصالح رب المال). أما في علاقته مع رب المال، فالأمر مختلف، نظرا لكون عمله تمّ أصلا بدون علم هذا الأخير، وبالتالي، بدون موافقته. لذا، فإن توفير المستند الخطي مثلاً أمر غير ممكن، مما يستدعي اللجوء إلى وسائل الإثبات الأخرى المتوفرة، سواء كان الفضولي هو الذي يقوم بالإثبات تجاه رب المال، أم العكس.
شروط تحقق الفضول
يتبين من مراجعة الأحكام القانونية التي ترعى الفضول أن هناك أربعة أركان لقيام العمل الفضولي: أولها، أن يبادر شخص إلى رعاية مصالح شخص أخر وهو عالم بذلك؛ ثانيها، أن يقوم بالعمل بدون أي تكليف أو إلزام؛ ثالثها إن يهدف عمله إلى الحفاظ على مصلحة الغير وتجنيبه المخاطر المحدقة، وان يكون نافعا له؛ ورابعها إن يكون متمتعا بالأهلية اللازمة للقيام بالعمل.
نعالج هذه الأركان ضمن ثلاث فقرات.
- تولي المرء شأن غيره بدون تكليف أو إلزام:
إن التدخل في شؤون الغير، كما سبق وذكرنا، هو شرط أساسي لتحقق الفضول، وهو يرتكز على فكرة القيام بالعمل الفضولي، عن قصد بهدف تمثيل الغير. ومن شروط تحقق الفضول أيضا أن يقوم الفضولي بالعمل من دون إن يكون ملزما به تنفيذا لموجب مصدره القانون (كما في الولاية أو الوصاية مثلا)، أو الاتفاق الصريح أو الضمني (كما في الوكالة أو الكفالة مثلا)، أو أمر من السلطة القضائية (كما في الحراسة القضائية مثلا).
إشارة إلى انه لا عبرة في الفضول لمعرفة الفضولي بشخص رب المال أو بهويته الحقيقية، بمعنى إن الفضول يعتبر متحققا إذا ما توفرت شروطه، وان كان الفضولي لا يعرف رب المال أو اخطأ في تقدير هويته. وفي الغالب، يكون هذا الغير أي رب المال، جاهلا العمل الذي يقوم به الفضولي. وطالما انه بقي غير عالم بحصوله، يبقى العمل خاضعا لأحكام الفضول. إلا انه إذا حصل إن علم الغير لاحقا بأمر هذا التدخل، هنا نميز بين حالتين:
الحالة الأولى: إذا أجازه بصراحة أو ضمنا (بعدم الاعتراض عليه مثلا)، عندها ينقلب وضع الفضول إلى وضع الوكيل، فتصبح علاقته برب المال محكومة بقواعد الوكالة، وبمفعول رجعي، أي منذ بدء العمل؛ هذا ما يختص بالعلاقة القائمة بين رب المال والفضولي. أما بالنسبة إلى علاقة الفضولي ورب المال بالغير، فتطبق أحكام الوكالة من تاريخ الإجازة، لا من تاريخ بدء العمل.
الحالة الثانية: إذا علم رب المال بعمل الفضولي واعترض عليه، أو أنهى عنه. هنا يتوجب مبدئيا على الفضولي إن يخضع لمشيئة رب المال، وذلك إن هذا الاعتراض يعكس إرادته الحقيقية. ولكن لا يحق لهذا الأخير الاحتجاج بمخالفة مشيئته، إذا كانت الضرورة الماسة هي التي دفعت بالفضولي إلى القيام بموجب على رب المال، ناشئ عن القانون تستوجب المصلحة العامة القيام به، كدفع الضرائب مثلا، أو تقديم الطعام أو دفع نفقات مأتم أو غير ذلك من الموجبات الضرورية.
لا بد هنا من لفت الانتباه إلى انه إذا كان الفضولي قد استحصل في السابق على وكالة رب العمل للقيام بأعمال معينة، ومن ثم تجاوزها لمصلحة موكله، أو استمر في العمل بالرغم من انتهاء مدة الوكالة، نظرا لتوفر عنصر الضرورة ولغياب موكله، فهنا يعتبر تصرفه تصرف الوكيل في ما كان قد أجيز له سابقا، وتصرف الفضولي في ما حصل خارج إطار الوكالة.
توفّر عنصري الاستعجال والضرورة في عمل الفضولي:
لا بد من أن يتوفر في عمل الفضولي عنصرا العجلة والضرورة، بمعنى أن يكون عمله ضروريا لصيانة مصالح الغير وحمايتها من الخطر الذي يتهددها، وهذا ما يأخذ به الاجتهاد. علما أن النص القانوني لم يذكر هذا الشرط، ولكن الاجتهاد سار على اعتماده، باعتبار أن التدخل في شؤون الغير لا يمكن أن يكون مسموحا به إلا في حالات جد استثنائية، وإلا اعتبر تعديا على حقوق الغير وتجاوزا لسلطته وحريته.
إلا إن بعض الفقه، وفي ظل عدم توفر النص القانوني في هذا الصدد، يعتبر انه لا يشترط لتحقق الفضول إن يتوفر عنصرا العجلة العجلة والضرورة في العمل الفضولي، مكتفيا بكون العمل نافعا ومفيدا لرب المال، على أساس التوقعات الممكنة في الوقت الذي تم فيه العمل، وبصرف النظر عن نتائجه، وحتى ولو كانت سلبية، كأن الفشل مثلا محاولة إنقاذ طفل أما حصان جامح، أو حتى ولو لم تدم هذه النتائج طويلا، كأن يحترق مثلاً البناء الذي أصلحه الفضولي بعد فترة من إصلاحه.
أهلية الفضولي:
هنا يطرح السؤال حول ما إذا كان يشترط لتحقق الفضول أن يكون الفضولي متمتعاً بالأهلية القانونية.
ينص القانون على أن فاقد الأهلية لا يكون فضولياً. وإذا أتى عملاً فضولياً، فلا يضمن تجاه رب المال إلا بقدر كسبه.
هنا يميز بعض الفقه بين الأعمال المادية والأعمال القانونية، معتبراً أنه لا مانع من أن يقوم فاقد الأهلية بأعمال مادية مفيدة لرب المال، ومن أن يكون بالتالي فضولياً،. أما بالنسبة الى الأعمال القانونية التي يقوم بها فاقد الأهلية لمصلحة رب المال فيعتبره الفقه أنها باطلة ولا تسري على هذا الأخير، نظراً لعدم أهلية فاقد الأهلية للالتزام. ولكن إذا انتفع رب المال من جراء هذا العمل، حق لعديم الأهلية مطالبته بالتعويض الموازي للمنفعة التي جناها.
آثار الفضول
ينشئ الفضول على عاتق كل من الفضولي ورب المال عدداً غير قليل من الموجبات نذكر أهمها.
موجبات الفضولي:
-1-الاعتناء بشؤون الغير عناية الأب الصالح:
فرض القانون على الفضولي أن يتصرف في عمله وفقاً لمشيئة رب المال المعلومة أو المقدرة، واشترط عليه أن يقوم بعمله بصورة جيدة، وأن يعنى به "عناية الأب الصالح"، أي وفقاً لمعيار "الرجل العادي"، الحريص كل الحرص على شؤونه؛ وتبعاً لذلك يحاسب الفضولي على كل خطأ أو تقصير يصدر عنه، مهما كان طفيفاً.
إلا أن القانون عاد وخفف من وطأة هذه القاعدة، فلم يلزم الفضولي إلا بمثل العناية التي يبذلها في سبيل تنفيذ أشغاله الخاصة، في حالتين استثنائيتين: أولهما، عندما يتدخل الفضولي اتقاء لضرر جسيم قريب الوقوع يهدد رب المال.
وثانيهما، عندما يكون الفضولي وريثاً يتمم عملاً بدأ به مورثه.
علماً أن الورثة يلزمون بمتابعة العمل الفضولي الذي بدأه مورثهم (ولم يتممه بسبب وفاته)، في حال كانت مصلحة رب المال تستدعى قيامهم بهذه المتابعة.
إشارة الى أنه يمكن للقاضي أن يراعي وضع الفضولي، الذي ارتكب خطاً أو تقصيراً في عمله، فيخفف من مبلغ التعويض الذي قد يحكم به عليه لمصلحة رب المال، وذلك بالاستثناء إلى الظروف التي دفعت الفضولي للقيام بالعمل، خاصة إذا كان هذا الأخير قد أتى عمله بروح الخدمة والتدرج (أي مجانا).
-2- مواصلة العمل:
يجب على الفضولي إن يتابع العمل الذي باشر به إلى أن يصبح رب المال (او ورثته) قادرا على إتمامه، إلا إذا كان انقطاع الفضول لا يضر بمصلحة رب المال.
-3- المحاسبة عن الإدارة:
يجب على الفضولي أن يقدم جردة حساب عن أعماله، وان يرد كل ما وصل إليه نتيجة إدارته. وكذلك، يلزم بأن يدفع لرب المال التعويض عن الأضرار اللاحقة به من جراء عمله، إذا كان قد جرى خلافا لمشيئة رب المال المعلومة أو المفترضة (باستثناء حالة الضرورة كما سبق أشرنا)، وان لم يكن قد ارتكب أي خطأ.
موجبات رب المال:
إذا كانت إدارة الفضولي حسنة ومفيدة لرب المال، التزم هذا الأخير بعدد من الموجبات أهمها:
-1- الوفاء بما تعهد به الفضولي:
قد يحصل أن يتعامل الفضولي مع أشخاص ثالثين لإتمام أعمال الفضول. فإذا أقدم على هذا التعامل باسم رب المال (لا باسمه هو)، انسحبت كافة آثار هذا التعامل إلى رب المال، فاكتسب الحقوق، والتزم بالموجبات الناشئة عنه.
أما في حال اقدم الفضولي على التعامل مع الغير باسمه الخاص، فعندئذ لا يكون رب المال لا دائنا ولا مدينا لهذا الغير، وإنما للفضولي نفسه.
-2- دفع النفقات:
على رب المال أن يدفع للفضولي النفقات الضرورية والنافعة التي أسلفها هذا الأخير، إضافة إلى فوائدها من يوم الإنفاق. غير أن هذه المسؤولية ترتفع عن رب المال، إذا كان الفضولي قد باشر عمله بنية التبرع. مع العلم أن نية التبرع تعتبر متوفرة إذا كان الفضولي قد حصل خلافا لمشيئة رب المال، ما عدا حالات الضرورة.
إشارة إلى أن الموجبين المذكورين أعلاه يقعان على عاتق رب المال، وان كان لا يتمتع بالأهلية القانونية.
-3- دفع بدل الأجر للفضولي عن أعماله:
في الأصل، إن عمل الفضولي هو عمل مجاني نابع من روح التجرد والإنسانية، وبالتالي، لا يحق للفضولي أي اجر مقابل عمله.
ولكن لا مانع قانونا من أداء تعويض للفضولي، إذا طلبه، ووجد القاضي انه بذل جهوداً ملموسة في أدائه لعمله، لا سيما متى كان ممتهنا وقد أتى عمله أثناء ممارسته لمهنته، ومن دون تكليف من أحد، في سبيل صيانة حق أو مال معرض للهدر أو الخطر، كالطبيب الذي يبادر إلى إسعاف مريض معرض لخطر الموت، بعد إن وجده ملقى على جانب الطريق مثلاً.