- En
- Fr
- عربي
نحن والقانون
الجريمة, وبسبب تعرّضها لأمن المجتمع واستقراره ومصالحه, إضافة الى مصالح الأفراد الخاصة, تستوجب حتماً ملاحقة مرتكبها وكلّ من ساهم فيها, بغية توقيع العقاب المناسب بكلّ منهم.
الملاحقة من أجل العقاب اتخذت في الماضي البعيد شكل الثأر الفردي أو الجماعي, حيث كان المُجنى عليه يتولّى بنفسه الإنتقام ممن اعتدي على نفسه أو ماله, أو ربما ممن ظنّه الفاعل, لكنها باتت في أيامنا هذه, بعهدة الدولة, صاحبة السلطة العليا والوحيدة على شعبها وأراضيها, تمارسها في إطار الدستور والقوانين المرعية الإجراء. فبدلاً من معاقبة الجاني بصورة تلقائية, وربّما تعسفية, تجري ملاحقته وفقاً للأصول أمام المراجع الجزائية المختصة, فتتولى التحقيق معه ومحاكمته, في إطار ما يُسمى بـ”الدعوى القضائية”, ويُتاح له الإدلاء بدفاعه, توصلاً لتخفيف العقاب عنه, أو حتى لإعلان براءته, إذا كان بريئاً فعلاً.
من هنا نشأت الحاجة الى وضع القواعد التي تنظم السلطات والمحاكم الجزائية, وتحدد إختصاصاتها والإجراءات الواجب إتباعها في استقصاء الجرائم وضبطها وجمع الأدلة عليها, وملاحقة من أتاها أو من نُسبت اليه, ومن ثم, إجراء الملاحقة والفصل فيها, الى تحديد أصول الطعن بالأحكام الصادرة بنتيجتها... هذه القواعد بمجملها هي ما يُعرف في لغة القانون بـ”أصول المحاكمات الجزائية”, وقد خضعت في لبنان لتغييرات عدة خلال القرن الماضي, كان أهمها وآخرها التعديل الحاصل مع صدور قانون أصول المحاكمات الجزائية الجديد, بموجب القانون رقم 328, تاريخ 7/8/2001, وقد تبعه في 16/8/2001 القانون رقم 358 الذي عدّل بعضاً من مواده.
في ما يلي, وبعد تعريف الجريمة وكلّ من الدعوى العامة والدعوى المدنية, نستعرض باختصار أهم المراحل التي تمرّ بها الدعوى الجزائية في لبنان.
تعريف الجريمة
الجريمة, بمفهومها القانوني, هي كل فعل يُعاقب عليه القانون بعقوبة جزائية. والجريمة إما أن تكون جناية أو جنحة أو مخالفة, حسبما يعاقب عليها بعقوبة جنائية أو جناحية أو تكديرية. أما العقوبة التي يُنظر اليها لتحديد نوع الجرم, فهي تلك المقررة في النص القانوني, لا تلك التي يحكم بها القاضي.
فإذا كانت عقوبة الجرم, الإعدام, أو الأشغال الشاقة المؤبدة أو المؤقتة, أو الإعتقال المؤبد أو المؤقت, كنا أمام جناية عادية.
وإذا كانت عقوبة الجرم, الحبس مع التشغيل أو الحبس البسيط (بين عشرة أيام وثلاث سنوات إلا إذا انطوى القانون على نصّ خاصّ), أو الغرامة (بين خمسين ألف ليرة لبنانية ومليوني ليرة لبنانية إلاّ إذا نصّ القانون على غير ذلك), كان الجرم من نوع الجنحة العادية.
أما إذا كانت العقوبة المنصوص عنها قانوناً هي الحبس التكديري (من يوم الى عشرة أيام), أو الغرامة (بين ستة آلاف ليرة لبنانية وخمسين ألف ليرة لبنانية), كان الجرم من نوع المخالفة.
سنداً لهذه القاعدة, لا مشكلة إطلاقاً في تحديد نوع الجرم, فيما لو كانت العقوبة واحدة ومحددة المدة أو المقدار.
ولكن ما العمل إذا كانت الجريمة الواحدة معاقبة قانوناً بعقوبتين أو أكثر, والعقوبة الواحدة متراوحة بين حد أدنى وحدّ أقصى, كما هي الحال في أغلب الجرائم, أو حتى بمجملها؟ فبأية عقوبة يؤخَذ لتحديد نوع الجرم, وبأي حدّ؟
بالعودة الى قانون العقوبات, يؤخذ بالحد الأعلى للعقوبة الأشد المنصوص عنها قانوناً (وفقاً لسلّم العقوبات المنصوص عليها في القانون نفسه) لتصنيف الجرم وتحديد ماهيّته.
فإذا نـصّ القانـون مثلاً على أن عقوبة جريمـة معيّنة هي الحبس من شهرين الى سنتـين, والغرامـة من أربعـين ألف ل.ل. الى مليـون ل.ل., أو أحدهما, نـرى أولاً مـا هي العقـوبة الأشـد, فنخـتار الحبس, لأن الحبـس أشد من الغرامـة, ومن ثم نأخـذ بالحـد الأقصى له, وهو السنتـين؛ أي أن الحد الأقصى للعقوبة الأشـدّ في هـذه الجريمـة هو سنـتا حبس, ما يجـعل الفـعل من نـوع الجنـحـة (كـما سـبق بـيانـه).
الدعوى العامة والدعوى المدنية
الدعوى العامة أو دعوى الحق العام, هي تلك التي ترمي الى ملاحقة مرتكبي الجرائم الجزائية والى تطبيق العقوبات والتدابير في حقّهم.
أما الدعوى المدنية أو دعوى الحق الشخصي, فهي تلك الرامية الى المطالبة بالتعويض عن الأضرار المادية أو المعنوية التي قد تنجم عن هذه الجرائم.
هنا يُطرح السؤال الآتي:
من يحرّك الدعوى العامة, وكيف يتمّ ذلك؟
● تحريك الدعوى العامة من قبل النيابة العامة:
النيابة العامة هي المرجع المخوّل قانوناً ممارسة دعوى الحق العام, وهي تطّلع على الجرائم الواقعة من خلال وسيلة أو أكثر من الوسائل الآتية:
- التحقيقات التي تُجريها بنفسها.
- التقارير التي تردها من السلطة الرسمية, أو من موظف علم بوقوع جريمة أثناء قيامه بوظيفته أو في معرض أو مناسبة قيامه بها.
- الإستقصاءات الأولية التي تقوم بها الضابطة العدلية عند تكليفها بتقصي الجرائم, والمحاضر التي تضعها عند علمها بوقوعها.
إشارة الى أن وظائف الضابطة العدلية يتولاها النواب العامّون والمحامون العامون, تحت إشراف النائب العام لدى محكمة التمييز, ويساعدهم في ذلك (كلّ في حدود إختصاصه) المحافظون والقائمقامون, والمديرون العامون لكلّ من قوى الأمن الداخلي والأمن العام وأمن الدولة, والضباط ورتباء التحقيق لديهم, ومختارو القرى, وقادة السفن والطائرات... الخ.
- الشكاوى والإخبارات التي تردها مباشرة أو بواسطة النيابة العامة التمييزية أو معاونيها. والمقصود بالشكوى تلك التي تصدر عن شخص المتضرر بالذات أو عن وكيله. أما الإخبار, فيصدر عن مُخبر عَلِمَ بالجريمة أو سمع عنها.
- أية وسيلة أخرى مشروعة.
إذا كان الجرم من نوع الجناية, أو من نوع الجنحة التي تتطلب التحقيق, يجب على النيابة العامة الإدعاء أمام قاضي التحقيق الأول.
أما إذا كان الجرم من نوع الجنحة التي لا تتطلب التحقيق, أو من نوع المخالفة, فإن الدعوى العامة تُقدّم أمام القاضي المنفرد الجزائي.
● تحريك الدعوى العامة بمقتضى الإدعاء الشخصي:
إذا كانت ممارسة الدعوى العامة منوطة بقضاة النيابة العامة (كما سبق ذكره), إلا أنه يمكن للمتضرر بالذات (أي الشخص الذي وقعت عليه الجريمة) أن يقوم بتحريكها عن طريق الإدعاء الشخصي.
فالواقع أن المشترع أجاز له إقامة دعواه المدنية (الرامية الى التعويض) إما أمام المرجع الجزائي الناظر في الدعوى العامة, أو أمام المرجع المدني على حدة.
فإذا أقام المتضرر دعواه المدنية أمام المرجع الجزائي المختص في النظر في الدعوى العامة, يُحرّك بذلك الدعوى العامة, إذا لم تحرّكها النيابة العامة. وله أن يرجع عن إدعائه الشخصي أو أن يُجري مصالحة, من دون أن يؤثر ذلك على الدعوى العامة, إلا في الأحوال التي تسقط فيها الدعوى العامة تبعاً لسقوط دعوى الحق الشخصي. وله أيضاً أن يَعدُل عن دعواه المدنية هذه, ليعود ويقيمها أمام القضاء المدني, وهو المرجع الصالح والطبيعي للنظر بها.
أما إذا أقام المتضرر دعواه المدنية أمام القضاء المدني المختص, فلا يجوز له العدول عنها وإقامتها أمام القضاء الجزائي, ما لم تكن النيابة العامة قد حرّكت الدعوى العامة بتاريخ لاحق لادعائه أمام القضاء المدني, شرط ألا تكون الدعوى المدنية قد فُصِلَت بحكم نهائي.
إشارة الى أنه في حال أقيمت الدعوى المدنية أمام القضاء المدني, يتوقف هذا الأخير مؤقتاً عن النظر فيها الى أن يفصل القضاء الجزائي نهائياً في دعوى الحق العام.
هذا بالنسبة الى حق الخيار المُعطى للمتضرّر في اتخاذ صفة الإدعاء الشخصي أمام أي من المرجعين المدني والجزائي.
أما لجهة تحديد المرجع الجزائي المختص, الذي يُفترض بالمتضرر الإدعاء أمامه, فيما لو اختار الطريق الجزائي, فهو:
- قاضي التحقيق الأول, إذا كان الجرم من نوع الجناية.
- قاضي التحقيق الأول, أو القاضي المنفرد الجزائي, إذا كان الجرم من نوع الجنحة.
- القاضي المنفرد الجزائي, إذا كان الفعل من نوع المخالفة.
مع العلم أن المرجع الجزائي المختص من الناحية المكانية (من حيث المحافظات والأقضية) هو ذلك الذي وقعت الجريمة ضمن نطاق دائرته, أو ذلك التابع له محلّ إقامة المدعى عليه أو محلّ إلقاء القبض عليه.
● حالات خاصة:
في بعض الحالات المنصوص عنها قانوناً, لا يمكن تحريك الدعوى العامة إلا بناءً على شكوى أو إدعاء شخصي من المتضرر. بمعنى أنه لا يحق للنيابة العامة أن تتولى تحريكها بمعزل عن شكوى أو إدعاء المتضرر.
من بين هذه الحالات, نذكر على سبيل المثال:
- جرائم النصب والإيذاء التي ينجم عنها تعطيل عن العمل لمدة لا تزيد عن عشرة أيام.
- جرائم خرق حرمة المنزل أو ملحقاته.
- جرائم القدح والذم والتحقير بأحد الناس.
- جريمة السفاح بين الأصول والفروع, وبين الأشقاء والشقيقات, والأخوة والأخوات لأب أو لأم, ما لم يؤدّ الأمر الى فضيحة.
- جريمة الزنى.
... وغيرها.
وفي حالات أخرى, فرض المشترع, لتحريك الدعوى العامة, ضرورة الإستحصال على إذن مسبق أو إتمام إجراء معيّن؛ كما هي الحال في ملاحقة رئيس الجمهورية, النواب, رئيس مجلس الوزراء والوزراء, المحامين, الموظفين, القضاة... وسواهم.
سلطات الملاحقة والتحقيق والحكم
يتميز نظام القضاء الجزائي في لبنان بتعدد السلطات التي تقوم بمهام الملاحقة والتحقيق والحكم في الدعوى, بحيث تتولّى سلطة أولى إقامة الدعوى وملاحقة الجرم, ثم تحيل الدعوى الى سلطة ثانية لتحقق فيها, وهي بدورها تحيل الملف الى سلطة ثالثة تتولّى المحاكمة والحكم.
أما السبب في الفصل بين سلطتي الملاحقة والتحقيق, فمردّه أنه يخشى أن يكون من يتولى سلطة الملاحقة (الإدعاء بالجرم) قد وقع في خطأ ما, فإذا أوكلت إليه أيضاً سلطة التحقيق في القضية, قد يستمر في الخطأ طوال مرحلة التحقيق. ولذلك, منع القانون على النائب العام الذي ادعى في قضية ما أن يتولى التحقيق أو الحكم فيها.
كذلك الأمر بالنسبة الى الفصل بين سلطتي التحقيق والحكم, فالهدف منه ألا يستمر في الخطأ من قام بالتحقيق في القضية, وقرر (عن خطأ) الظن بالمدعى عليه (في الجنحة) أو إتهامه (في الجناية), وكي لا يتمسك بالوجهة التي اقتنع فيها, بوصفه سلطة تحقيق, ويعتمدها في الحكم, لا سيما وأن التحقيق يعتمد في بعض الأحيان على الشكّ, بينما الأحكام النهائية الصادرة عن سلطات الحكم لا تُبنى إلا على اليقين (أي ما هو مؤكّد). لهذا, منع القانون على قاضي التحقيق الذي يتولى التحقيق في قضية ما أن يحكم فيها أو يشترك في الحكم فيها.
● سلطات الملاحقة:
توصّلاً لإجراء التحقيق والمحاكمة, لا بد من سلطة تتولى الملاحقة لتضع مرتكبي الجرائم بين أيدي سلطة التحقيق ومن ثم أمام المحاكمة. وكما ذكرنا, أناط القانون بقضاة النيابة العامة حصراً سلطة الملاحقة, إلا أنه أجاز للمتضرر تحريك الدعوى العامة بادعائه الشخصي, وحصر في حالات معينة حق تحريكها به, وفي حالات أخرى أقر مبدأ إسقاطها تبعاً لإسقاط الحق الشخصي... الخ.
فيكون القانون اللبناني بذلك قد تبنى طريقة “الإتهام القضائي العام”, وأخذ أيضاً بنظام “الإتهام الشخصي”.
نذكر أن قانون أصول المحاكمات الجزائية نظّم النيابة العامة بطريقة هرمية, ووضع على رأسها النائب العام لدى محكمة التمييز, الذي تشمل سلطته جميع قضاة النيابة العامة, بمن فيهم مفوض الحكومة لدى المحكمة العسكرية, وفي مرتبة أدنى, تقوم نيابة عامة إستئنافية لدى محكمة الإستئناف, ونيابة عامة مالية, يرأس كلّ نائب عام دائرته, ويوزّع الأعمال الداخلة في إختصاصه على المحامين العامين الذين يعاونونه. ووفق هذا التنظيم, لم يعد وزير العدل في قمة هرم تنظيم النيابات العامة, كما كان الأمر عليه في السابق, ذلك أن القانون الجديد خفّف من سلطاته في هذا المجال, وأعطاه فقط حق الطلب الى النائب العام التمييزي إجراء التعقبات بشأن الجرائم التي يتصل خبرها بعلمه.
● سلطات التحقيق:
تتمثل سلطات التحقيق بالهيئات التي تتولى جمع الأدلة على الجرائم وفاعليها, حتى إذا تبيّن لها أن الجرم قائم, والأدلة كافية, والفاعل معروف, اتخذت قرارها بإحالته الى المحكمة المختصة (محكمة الجنايات أو القاضي المنفرد الجزائي) لتتولى إصدار الحكم بحقه.
أما إذا لم يكن الفعل موضوع الإدعاء مما يشكل جرماً جزائياً, أو لم تتوفر الأدلة بحق المدعى عليه, أو إذا كانت الدعوى بشأنه قد سقطت بأحد أسباب السقوط, فتقرر منع المحاكمة عنه.
نظّم القانون سلطات التحقيق, ونصّ على أن تتألف دائرة التحقيق في كلّ محافظة من قاضي تحقيق أوّل (يرأس الدائرة), ومن قاضي تحقيق أو أكثر, وعلى أن تتولى غرفة من غرف محاكم الإستئناف المدنية مهام الهيئة الإتهامية في كل محافظة.
في الواقع, إن مهام التحقيق يتولاها مبدئياً قاضي التحقيق, أما الهيئة الإتهامية, فلا تقوم بها إلا عند الضرورة, الى جانب وظائفها الأخرى المحددة قانوناً (إشارة الى أن الهيئة الإتهامية هي المرجع الإستئنافي لقرارات قاضي التحقيق, تتولى وحدها سلطة الإتهام في الجناية, وتمارس حق التصدي في الحالات المبيّنة قانوناً).
من الضروري التوضيح أنه إذا كان الأصل أن الدعوى العامة تمرّ بالمراحل الثلاث, وهي الملاحقة والتحقيق والحكم, إلا أنه, وفي الجنحة, ولا سيما في الجنحة المشهودة, قد ترى النيابة العامة أن الأدلة متوفرة بحق الفاعل, وأنه معروف, فتدعي عليه مباشرة أمام سلطة الحكم (القاضي المنفرد الجزائي), من دون أن تحيل الدعوى الى قاضي التحقيق ليحقق فيها.
أما إذا رأت أن الأمر يتطلّب التحقيق, فإنها تدعي بها أمام قاضي التحقيق, الذي يتولى عند الضرورة إحالة الملف الى قضاء الحكم (القاضي المنفرد الجزائي).
هذا في الجنحة.
أما في الجناية, فإن النيابة العامة مُلزمة بالإدعاء أمام قاضي التحقيق, ولا يمكنها الإدعاء مباشرة أمام سلطة الحكم, أي محكمة الجنايات, لأن هذه الأخيرة لا تضع يدها على الدعوى إلا بعد إكتمال التحقيق فيها من قبل قاضي التحقيق, وبموجب قرار من الهيئة الإتهامية.
يتسم التحقيق الإبتدائي بخصائص ثلاث:
هو مكتوب برمته, فالقاضي يملي على الكاتب ما يجب تدوينه في إفادات يجري الإستماع إليها, أو معاملات أو إجراءات تطرأ على الملف... وسواها.
هو سري (باستثناء ما يتعلّق بالقرار الظني), بمعنى أنه لا يُسمح لأحد الإطلاع على مجرياته, حتى ولو كان من فرقاء الدعوى. إلا أن هذه السرية لا تشمل النائب العام الذي يتوجب عليه متابعة الدعوى باستمرار, وإبداء مطاليبه ومطالعاته فيها, ومراقبة القرارات التي يتخذها قاضي التحقيق للطعن بها إذا ارتأى ذلك.
إشارة الى أن كل من يفشي سرية ملف التحقيق أو ينشر وثيقة من وثائقه, يتعرض للملاحقة الجزائية.
يقوم قاضي التحقيق بمهمة مزدوجة, فهو من جهة, يجمع الأدلة ويتثبت منها, بوصفه قاضياً محققاً, ومن جهة أخرى, يتخذ القرارات الرامية الى البت بالمطالب والدفوع الشكلية المثارة أمامه... وغيرها. وبعد ختام التحقيق, يتخذ قراراً نهائياً بمنع المحاكمة أو بالإحالة الى المرجع المختص.
● سلطات الحكم:
يتولى سلطات الحكم, كلّ بحسب إختصاصه, القاضي المنفرد الجزائي, محكمة الإستئناف, محكمة الجنايات, محكمة التمييز والمجلس العدلي.
1- القاضي المنفرد الجزائي:
ينظر في قضايا الجنح والمخالفات, ما عدا ما استُثني منها بنص خاص. ولا تُمثّل النيابة العامة لديه.
يضع يده على الدعوى بإحدى الطرق الآتية:
- إدعاء النيابة العامة.
- الدعوى المباشرة التي يقيمها المتضرر ويتخذ فيها صفة الإدعاء الشخصي.
- القرار الظني الصادر عن قاضي التحقيق أو الهيئة الإتهامية.
- دعوى بدل العطل والضرر المبنية على قرار مع المحاكمة أو التبرئة أو إبطال التعقبات.
- حالة وقوع جنحة أثناء إنعقاد جلسة المحاكمة.
- المخالفات المُثبتة في محاضر.
2- محكمة الإستئناف:
أخذ المشترع اللبناني بمبدأ المحاكمة على درجتين في الجنحة وفي بعض المخالفات, فأجاز الطعن بالأحكام الصادرة عن القاضي المنفرد الجزائي, إذا ما توفرت شروط معينة حددها, وذلك أمام محكمة الإستئناف. وهذه المحكمة توجد في كل محافظة, وتتألف كلّ غرفة فيها (غرفة واحدة أو أكثر) من رئيس ومستشارين.
أما قرارات محكمة الإستئناف, فتقبل بدورها الطعن أمام محكمة التمييز, ضمن الشروط والأسباب المحددة قانوناً.
3- محكمة الجنايات:
تتألف محكمة الجنايات من رئيس ومستشارين. تنعقد بحضور النائب العام أو المحامي العام والكاتب. تضع يدها على الدعوى بموجب قرار إتهام صادر عن الهيئة الإتهامية, مشفوع بإدعاء النيابة العامة.
تنظر هذه المحكمة في الجرائم ذات الوصف الجنائي, وفي الجنح المتلازمة معها؛ ولا يجوز لها أن تنظر في أي فعل جرمي لم يتناوله قرار الإتهام, أو أن تحاكم شخصاً لم يُتّهم فيه؛ إلا أنه يجوز لها أن تغيّر في الوصف القانوني للأفعال موضوع قرار الإتهام.
لا يجوز أن يشترك في تشكيل هذه المحكمة من سبق له أن مارس في الدعوى عملاً من أعمال الملاحقة أو التحقيق, أو كان عضواً في الهيئة الإتهامية التي أصدرت قرار الإتهام في الدعوى.
تتميز المحاكمة أمامها بإجراءات تمهيدية تسبقها, وبأصول تنفرد بها عن غيرها من المحاكم.
4- محكمة التمييز:
تتألف محكمة التمييز من عدة غرف, وكل منها من رئيس ومستشارين. هي واحدة في لبنان, ومركزها العاصمة بيروت.
تنظر هذه المحكمة في:
- طلبات تمييز الأحكام النهائية الصادرة عن محاكم الجنايات, والقرارات النهائية الصادرة عن محاكم الإستئناف الجزائية, وعن الهيئة الإتهامية.
- طلبات النقض الأخرى الداخلة في إختصاصها بموجب القوانين الخاصة.
- طلبات النقض لمصلحة القانون.
- طلبات إعادة المحاكمة في الدعوى الجزائية.
- طلبات تعيين المرجع.
- طلبات نقل الدعوى.
- جرائم القضاة.
5- المجلس العدلي:
المجلس العدلي هو أحد المحاكم الخاصة التي أنشأها القانون لإجراء المحاكمة في جرائم محددة تُحال إليه بناءً على مرسوم يُتخذ في مجلس الوزراء. وهذه الجرائم هي من النوع الشديد الخطورة والذي يمس بأمن الدولة.
يتألف المجلس العدلي من بين أعلى القضـاة رتبة, ولا تخضع أحكامه لأي طريقة من طرق المراجعة, العادية وغير العادية.
قانون أصول المحاكمات الجزائية الجديد من حيث التطبيق
ضمن سلسلة محاضرات التدرّج التي تنظمها نقابة المحامين في بيروت كلّ عام, ألقى رئيس محكمة الجنايات في جبل لبنان, القاضي جوزف غمرون, في أوائل شهر شباط المنصرم, محاضرة تحت عنوان “قانون أصول المحاكمات الجزائية الجديد من حيث التطبيق”, وذلك في قاعة المحاضرات, في دار النقابة, بحضور حشد كبير من رجال القانون والسياسة والإعلام.
استهل القاضي غمرون المحاضرة بالحديث عن قضية من عشرات القضايا التي تواجه المحاكم اللبنانية كلّ أسبوع. ثم, وبعد أن أبدى القاضي غمرون أسفه لما حصل ويحصل, خاصة بعد تطبيق قانون أصول المحاكمات الجزائية (في ما يلي ق.أ.م.ج.ج.), وهو من المسهمين في صنعه, أعرب عن جملة تحفظات حول بعض نصوصه وتطبيقاته, وبالمقابل, عن عدد غير قليل من الإيجابيات التي تميّز بها.
وأمِلَ في أن يترافق هذا التغيير الشكلي (المتمثل بصدور قانون أ. م. ج. ج.), بخطوة تغييرية أخرى, في الأساس, عن طريق وضع تنظيم قضائي جديد ورائد يتيح الدخول في مرحلة إيصال الحقوق الى أصحابها, ليس فقط بالطريقة المناسبة, بل وكذلك أيضاً في الوقت المناسب.
وأضاف القاضي غمرون أن القوانين لا تكون إلا برجالها, وإلا بقيت حرفاً ميتاً مهما عُدّلت, وأمِلَ في أن يكون للقانون قضاته الساهرون على حُسن تطبيقه, ولو اقتضى الأمر تعديل المادتين /18/ و/70/ من الدستور اللبناني, بحيث يخوّل القضاء الجزائي محاكمة كلّ مسؤول في حال إخلاله بالواجبات المترتبة عليه, وأملَ أيضاً بإلغاء الأذونات المسبقة (في الملاحقة) التي تُكبّل عمل النيابات العامة والمحاكمة, وبتطبيق قانون “من أين لك هذا” بفاعلية.