- En
- Fr
- عربي
الخطوط العريضة
ليس غريبًا أن تكون مجريات الأمور في لبنان، كما في الكثير من بلدان العالم، على صلة بما يجري في الخارج، سواء من الناحية السياسية أو الأمنية أو الاقتصادية... وليس خافيًا على الإطلاق، أن الحلول المطلوبة، بحجم أو بآخر، ترتبط بمراكز القرار الدولية هنا وهناك... لكن ذلك لا ينفي أبدًا أن تكون أسباب الأحداث داخلية أيضًا، وأن تكون الظروف المؤاتية لحلولها داخلية هي الأخرى. فالوطن هو المعني أولاً وأخيرًا بمشكلاته، وأبناؤه هم من يتلقون، قبل غيرهم، ردات الفعل ونتائجه، وعليهم، قبل الجميع، أن يسعوا إلى الحلول، وأن يهيّئوا التربة الصالحة لها، لحاجاتهم إليها أولاً، ولمعرفتهم بخباياها ثانيًا، وهنا يبرز دور العاملين في السياسة، لا بل واجبهم، فالسياسة ليست مهنة شخصية أو شأنًا فرديًا، إنما هي المشاركة في إدارة الشأن العام، سواء كانت في الحكم أو خارجه، والسبب أنها على علاقة حتمية بالناس في جميع الحالات، في سعيها إلى الحكم أو انتقالها إلى المعارضة، كما تقتضي الأصول والأعراف.
بالانتقال إلى ما يعنينا في الموضوع، إلى التحوًلات السياسية والأمنية التي تفرض نفسها على بعض الدول العربية، نقول إن حدة تلك التحوّلات قد اشتدت، وإن دائرتها اتسعت مقتربة من حدودنا بشكل مباشر، ومتخطِّية تلك الحدود في بعض الحالات، بشكل غير مباشر، لجهة تدفّق النازحين، وحصول ردَّات فعل متضاربة، اعتبارًا من الاحتدام الاعلامي، مرورّا بالتظاهر والاحتجاج والمواقف المنبرية، وصولاً إلى الشأن العسكري. وهذا الشأن الأخير شمل أشكالاً مختلفة: عبور الممنوعات من سلاح ومسلَّحين، الاشتباكات المتفرّقة، في بعض الأحياء، بين المجموعات الموزّعة تأييدًا ورفضًا، حصول أعمال الخطف والخطف المضاد... كل ذلك أدّى بالطبع إلى زيادة الأعباء والمهمات الملقاة على عاتق الوحدات العسكرية، وتزامن مع تضارب واضح في المواقف السياسية، تلك المواقف التي حاولت في بعضها التعرُّض للجيش، وفي بعضها الآخر تجيير مواقفه لمصلحتها. أما أسباب التباين فلا جديد فيها: كل طرف يريد أن يكون الجيش إلى جانبه وحده، مع تجاهل أن هذه المؤسسة هي للجميع، وأن في أولى أولوياتها استقرار البلاد كاملة، وتماسكها أرضًا وشعبًا ومؤسسات. وكم من مرة أوضحت القيادة أنها تنطلق دائمًا في إعداد خطواتها وتنفيذ مهماتها من المفهوم المؤسساتي والشرعي، ومن مقتضيات الوحدة الوطنية ومصالح المواطنين بجميع فئاتهم واتجاهاتهم. وهل من متتبع للأوضاع اللبنانية، في أي مكان على سطح الأرض، لا يعرف أن هذه البلاد قائمة على التنوُّع الديني والسياسي والثقافي والاجتماعي، وما إليها، وهي تحتاج إلى مؤسسات تعمل للجميع، وإلى قيادات سياسية تعترف بوجود الآخر، ولا تسعى إلى إلغائه، بهذه الوسيلة او تلك، خصوصًا بالوسائل المسلحة التي تتبنَّاها أحيانًّا، وتغطي نتائجها أحيانًا أخرى. وكم من مرة طلب من القيادة أن تضرب بيد من حديد كلّ مخلِّ بالأمن، وفي القصد الحقيقي: أن تضرب الخصم والمنافس من دون غيرهما.
وهذا ما تبنّته قيادة الجيش في تذكيرها السياسيين بالكلام الصريح برفع الغطاء عن جميع المسلّحين بشكل واضح وليس بمواقف متردّدة ولغة مزدوجة. وأكَّدت أن الجيش مصمِّم على ضبط الأمن، وعدم السماح للفتنة بالعودة إلى البلاد، وعلى منع عقارب الساعة من السير إلى الوراء، وهو قادر على ذلك. بالمقابل، القيادة على عادتها، تعمل من دون ضجيج، وصمتها في بعض الأحيان، كما استيعابها ردَّات الفعل وسماحها بتلقي الاتهامات الملقاة جزافًا، ليس بداعي الضعف أو الهروب من الحقيقة، لا، فهي تُشرف على ما تقوم به وحدات الجيش، وتعلن عنه بالنتائج الملموسة والبيانات الواضحة، وبالتالي، هي لن تسكت عن استهدافها والتطاول عليها.
إن عسكريي هذه المؤسسة يعرفون وطنهم شبرًا شبرًا، ويدركون الكثير من الخفايا السياسية المنتشرة فيه، كما يؤمنون إيمانًا مطلقًا بأن عليهم، قبل غيرهم، حماية المواطنين في ممتلكاتهم، وفي حقّهم في الحرية التي تنبثق من حرية لبنانهم واستقلاله، عارفين أن بلادهم الصغيرة مساحة لا يمكن أن تكون إلا واحة محبة وحضارة ولا أي شيء آخر.