قضايا إقليمية

اسرائيل في مواجهة الارتباك والتخبط الداخلي

تواجه اسرائيل اليوم حالة من الارتباك الإستراتيجي وعدم التوازن بسبب تحولها إلى مجتمع متطرف جدًا في تعصبه الديني والقومي وعدم تجانسه الاقتصادي والايديولوجي، وهو ينكفئ نحو مزيد من العزلة والانشغال بهمومه الداخلية. وفي حين يكسب المستوطنون ومؤيدوهم المزيد من النفوذ والثقل النوعي سياسيًا واجتماعيًا، يفشل هذا المجتمع بالتكيف مع التطورات الهائلة التي تحدث في محيطه الجيوسياسي الحيوي. ولعل الأصل في كل هذا يكمن من الاساس في عدم وجود مجتمع إسرائيلي موحد، فهو مجتمع ممزق أساسًا بين يهود غربيين (اشكناز) ويهود شرقيين (سفاراديم ومزراحيم)، وما يدور بينهما من توتر، كي لا نقول من كراهية وعداء، قديمين منذ تأسيس الدولة. وهناك المتدينون (حريديم وحسيديم) الذين يقول الحاخام يائيردريفوس بشأنهم «إن اليهود الحقيقيين يرغبون في أن يعيشوا كيهود وليس لهم خيار إلا أن يفصلوا أنفسهم في أماكن منعزلة خاصة بهم». وهناك أيضًا العلمانيون بمختلف انواعهم، علمًا أن العداء بين هذه المجموعات هو عداء مصلحة وايديولوجيا. كذلك توجد مجموعات عرقية مميزة ومتنافرة مثل اليهود الروس واليهود «الفلاشا» القادمين من اثيوبيا، وهناك المستعمرون الجدد أي المستوطنون الجدد.
سياسيًا واجتماعيًا، نجد اليسار واليمين والوسط واليمين المتطرف، والفقراء والاغنياء الذين تكبر الفجوة الاجتماعية في ما بينهم على نحو متسارع ومريع. هذا ناهيك عن تزايد الفجوة عمقًا بين كل هؤلاء وعرب 48 من الفلسطينيين الاصليين. وفي المشهد السياسي نجد أن حزب «الليكود»،الذي مثل تاريخيًا اليمين الصهيوني المتشدد، يأتي إلى يمينه في السنوات القليلة الماضية، حزب أكثر تشددًا وعنصرية هو «إسرائيل بيتنا» بزعامة العنصري ليبرمان. ومن ثم يأتي على يمين هذين الحزبين حزب ثالث فاعل في السياسة الإسرائيلية الراهنة، متوغل في التطرف والعنصرية هو «البيت اليهودي» بزعامة نفتالي بينت. وهذا يعني أن الخريطة السياسية للتيارات الصهيونية قد شهدت تبدلات وتخبطات حادة، وهي تغرق الآن في أزمات داخلية متعلقة بسياساتها وطروحاتها، وتفشل في تقديم برامج أو قيادات ذات كاريزما مميزة تجمع عليها غالبية المجتمع الصهيوني. ولعل لهذا السبب يقول الكاتب اليهودي الصهيوني الأميركي المعروف توماس فريدمان في جريدة «نيويورك تايمز» في 19/9/2011 «لم أكن أبدًا أكثر قلقًا على مستقبل إسرائيل من قلقي عليه الآن. فتداعي الأعمدة الرئيسة لأمن إسرائيل (السلام مع مصر، واستقرار سوريا، والصداقة مع تركيا والأردن) مقترنًا مع أكثر الحكومات في تاريخ إسرائيل حماقة من الناحية الدبلوماسية، وأكثرها عجزًا في الشأن الإستراتيجي، قد وضعا إسرائيل في وضع بالغ الخطورة».
وتعطي المحللة الإسرائيلية أمونة ألون وصفًا مُعبرًا عن واقع الحال عندما تقول إن «العالم العربي ينقلب رأسًا على عقب، وهكذا إسرائيل أيضًا، فالأرض التي تهتز تحت الدول المجاورة تهتز تحت إسرائيل أيضًا، ويكفي النظر في ما يحصل الآن في الشرق الأوسط كي نفهم أننا لا نفهم شيئًا»!!
في الخلاصة يمكن القول بصورة اجمالية إن الصهيونية قد فشلت، بالرغم من جهودها الاستثنائية، في صهر يهود العالم ضمن بوتقة واحدة، بحيث تحوّل المجتمع الاسرائيلي تدريجيًا إلى مجتمع «غيتوات» أو معازل. فالصراع بين الأصوليين والعلمانيين يخيف إسرائيل ويؤرقها، الأمر الذي دفع جيرالد شتينبرغ رئيس برنامج إدارة الصراعات والمحادثات في جامعة بار إيلان للقول: «ليس منا من عنده أي وهم حول الصعوبات التي نواجهها في تباين العلمانيين والمتدينين، حتى أن أكثر الناس تفاؤلا بيننا يعترف بأن التخلص من الحقد وهوة الجهل التي تفصل الحريديم والعلمانيين، تحتاج إلى سنين طويلة... ونحن نعرف أنه ليس هناك تحد أعظم من هذا يواجه إسرائيل والإسرائيليين في الخمسين سنة المقبلة».

ولعل أخطر التطورات الحالية يكمن في قدرة الأصولية اليهودية على تعزيز وجودها داخل المؤسسة العسكرية الإسرائيلية، الأمر الذي تجلى في الفتاوى الدينية المتعددة ذات الطابع السياسي، خصوصًا قضايا السيادة والسياسة والصراع مع الفلسطينيين والقدس والدولة الفلسطينية، الأمر الذي يعطل أي أمل في أي تسوية سياسية حتى لو كانت جائرة بحق العرب والفلسطينيين. وفي هذا يقول رئيس بلدية تل أبيب منتقدًا التعاليم الأصولية: « بنتيجة الضغط السياسي، وباسم التعددية الثقافية وشعارات تقدمية أخرى، تمول دولة إسرائيل وترعى قطاعات كاملة من الجهلة والانعزاليين «. وبحسب استطلاع حديث أجراه معهد «داحاف»للدراسات: «فإن 77% من الجمهور الاسرائيلي لا يوافقون على انسحاب اسرائيلي إلى خطوط العام 1967 مع تعديلات حدودية طفيفة، حتى وإن جلبت مثل هذه الخطوة اتفاق سلام واعلان الدول العربية عن نهاية الصراع». والملفت في الاستطلاع هو الموقف من الاماكن الدينية المقدسة. فقد تبين أن 75% من الاسرائيليين يعارضون نقل الحرم القدسي، أي المسجد الاقصى (جبل البيت بحسب المصطلح اليهودي) إلى سيطرة فلسطينية. وفي سؤال حول الاستعداد للتنازل عن اماكن مقدسة اخرى، مثل «قبر راحيل» قرب بيت لحم و«مغارة الماكفيلا» (الحرم الابراهيمي) في الخليل وابقاء حائط البراق في القدس وحده بيد اسرائيل، اجاب 65% بأنهم لا يوافقون على ذلك».
ووفق كتاب صدر أخيرًا في إسرائيل بعنوان «بين القلنسوة والبيرية – الدين، السياسة والجيش في إسرائيل»، وتناول موضوع تزايد الأسس الدينية داخل الجيش الإسرائيلي، يتضح أنه في نهاية الثمانينيات وبداية التسعينيات بدأ الحافز لدى أبناء الطبقة الأشكنازية الارستقراطية للتجند في الجيش يتراجع. ويصف الباحث ياغيل ليفي، في الكتاب، هذه الحالة بأنها «أزمة معنوية».
في هذه الأجواء تفقد اسرائيل اكثر فأكثر الأمل بالتحول إلى «كيان طبيعي» في هذه المنطقة، وتتقلص، بشكل سريع، فرصها لعقد اتفاقيات تسوية مع شركائها المحتملين في المنطقة، بينما تتعقد المسائل المرتبطة بأمنها ووجودها ومستقبلها. ولهذا السبب نجد هذا الكيان، الذي يصف نفسه بأنه «فيللا في غابة متوحشة» بحسب تعبير ايهود باراك، يشهد تجاذبات داخلية حادة تُفقده القدرة على اتخاذ قرارات أو مسارات تاريخية، وتفقده القدرة على تحديد مساراته الحيوية في بيئة متحركة ومتفجرة سياسيًا وامنيًا.
على هذا الاساس لاتوجد الآن إجابات إسرائيلية واضحة عمّا سيفعله المسؤولون في حال السقوط النهائي لمسار التسوية السلمية المترنح، وخيار الدولتين، وإغلاق باب «السلام» مع الدول العربية. ولا يعرف هؤلاء المسؤولون ماذا سيفعلون إذا ما سقطت السلطة الفلسطينية وعادوا هم لتحمّل تكاليف الاحتلال وأعبائه الاقتصادية والحياتية والأمنية, بينما يستعيد الفلسطينيون تركيزهم ورهانهم على المقاومة بأشكالها المختلفة. كما لا توجد الآن إجابات إسرائيلية واضحة للتعامل مع حالة استمرار الاحتلال، مقابل استمرار الزيادة السكانية الفلسطينية، أو ازاء الدعوة إلى فكرة حل الدولة الواحدة الذي سيفقد إسرائيل غالبيتها اليهودية وطبيعتها الصهيونية، الموجود فقط هو الدعوات المتكررة لتقديم مبادرات سياسية و»تنازلات»؟!. وقد أكد هذه الفكرة عدد من القيادات الإسرائيلية من بينهم شمعون بيريز، وإيهود باراك، وتسيبي ليفني، وشاؤول موفاز، وبنيامين بن إليعازر... وغيرهم. والحلول التي يقدمها القادة الإسرائيليون لا تقدم إجابات حقيقية مقنعة إلا لهم وحدهم ربما وهم يعمدون إلى تكثيف الاستيطان في الضفة الغربية، وتهويد القدس، وفرض الحقائق الاستيطانية على الأرض، كما يتابعون تطوير قوتهم العسكرية، وتنمية القدرات الاقتصادية، ومعالجة مشاكل البطالة... وغيرها. ولكنهم في المقابل لا يستطيعون وقف عجلة التغيير في المنطقة، ويعلمون أن أي انتفاضة واسعة مقبلة ستفقدهم الأمن، وتعيد اقتصادهم سنوات إلى الوراء.