- En
- Fr
- عربي
كلمة الرئيس
شدد رئيس الجمهورية العماد ميشال عون في رسالته إلى اللبنانيين عشية عيد الاستقلال على الأخطار التي تواجه الوطن في ظل الصفقات والتسويات في المنطقة. وتوقف مليًا عند الأخطار الداخلية ولاسيما منها الفساد طالبًا من اللبنانيين الضغط لتنفيذ القوانين الموجودة وتشريع ما يلزم من أجل استعادة الأموال المنهوبة وملاحقة الفاسدين.
في ما يلي نص الرسالة:
أيتها اللبنانيات،
أيها اللبنانيون،
عشية الذكرى السادسة والسبعين للاستقلال أتوجه إليكم، مع علمي أنّه ليس وقت الخطب والكلام والاحتفالات. إنّه وقت العمل، العمل الجدي الدؤوب، لأنّنا في سباق مع الزمن فالتحديات كبيرة وخطيرة، وقد فاتنا الكثير من الوقت.
حكومة جديدة ينتظرها لبنان وتُعقد عليها الآمال، كان من المفترض أن تكون قد وُلدت وباشرت عملها. إلا أنّ التناقضات التي تتحكم بالسياسة اللبنانية فرضت التأنّي لتلافي الأخطر، وأيضًا للتوصل إلى حكومة تلبّي ما أمكن مِن طموحاتِكم وتطلّعاتِكم، تكون على قدر كبير من الفعالية والإنتاجية والانتظام، لأنّ التحديات التي تنتظرها ضخمة، والاستحقاقات داهمة.
أيها اللبنانيون،
ستة وسبعون عامًا مرت منذ صار لبنان وطنًا مستقلًا، عرف خلالها مراحل قاسية تعرّض فيها استقلاله للخطر، ومع كل محنة نزداد يقينًا أنّ المحافظة على الاستقلال أصعب من الحصول عليه؛ فالاستقلال هو القرار الوطني الحر والمستقل، غير الخاضع لأي شكل من أشكال الوصاية، صريحة كانت أو مقنّعة، وهذا ما نتشبث به اليوم ودائمًا، بكل ما أوتينا من عزم وقوة، ومهما كان الثمن.
إنّ الصفقات والتسويات التي تُعدّ لمنطقتنا، ومحاولات فرضها، تهدّد ليس فقط استقلال الدول المعنية بل أيضًا كيانها ووجودها.
من هنا، فإنّ تأكيدنا على استقلال لبنان لا يعني خصومة مع أي دولة أو استعداءً لأحد، إنما نحن نسعى إلى صداقة صادقة والتعاطي بإيجابية مع من يصادقنا، ولكن، انطلاقًا من قرارنا الحر وعلاقة الندّ للند، وقبول ما يلائم وطننا من مقترحات، ورفض ما يشكل ضرراً له. وإذا كانت السياسة فن الممكن، فهي أيضًا رفض اللامقبول.
وليست التسويات الدولية وحدها ما يهدد استقرار الدول، ففي الداخل اللبناني خطر محدق يتهدّد مجتمعنا ومؤسساتنا واقتصادنا هو الفساد.
لقد أضحت مكافحة الفساد شعارًا استهلاكيًا يُستحضر كلما دعت الحاجة، لا سيما من قبل الغارقين به، ولكن، عند أبسط إجراءات التنفيذ، تبدأ الخطوط الحمر المذهبية والطائفية بالظهور.
المعركة هنا قاسية، لا بل من أقسى المعارك، لذلك توجهت إليكم، أيها اللبنانيون، طالبًا المساعدة، فلا أحد غيركم قادر على جعل كل الخطوط متاحة. ولا أحد غيركم قادر على الضغط من أجل تنفيذ القوانين الموجودة، وتشريع ما يلزم من أجل استعادة الأموال المنهوبة وملاحقة الفاسدين.
وأكرر هنا ندائي إلى المتظاهرين للاطلاع عن كثب على المطالب الفعلية لهم وسبل تنفيذها، لأنّ الحوار وحده هو الطريق الصحيح لحلّ الأزمات.
لقد كسرت التحركات الشعبية التي حصلت أخيرًا بعض المحرمات السابقة وأسقطت، إلى حدّ ما، المحميات، ودفعت بالقضاء إلى التحرك، وحفّزت السلطة التشريعية على إعطاء الأولوية لعددٍ من اقتراحات القوانين الخاصة بمكافحة الفساد.
إنّ تسليط الضوء على مكامن الفساد عبر الإعلام وفي الساحات، صحيّ ومساعد، وكذلك تقديم المعلومات والوثائق المتوافرة إلى القضاء. ولكن، أن يتحول الإعلام والشارع والجدل السياسي إلى مُدّعٍ، ومدّعٍ عام، وقاضٍ، وسجّان في آن، فهذا أكثر ما يسيء إلى مسيرة مكافحة الفساد، لأنّ إطلاق الاتهامات العشوائية وإصدار الأحكام المبرمة، والتعميم، قد تجرّم بريئًا، ولكنّها بالتأكيد تجهّل المرتكب الحقيقي وتسمح له بالإفلات، وأيضًا بمتابعة نشاطه في الفساد.
لقد أعطيتم دفعًا للقضاء، فدعوه يقوم بواجبه...
وهنا يأتي دوركم، أيها القضاة؛ إنّ المطلوب منكم اليوم أن تلتزموا قسَمكم فتقوموا بواجبكم «بأمانة»، وأن تكونوا «القاضي الشريف الصادق»؛ فمكافحة الفساد، أينما بدأت، فإنّ حُسن ختامها عندكم، والانتصار فيها رهن شجاعتكم ونزاهتكم.
منذ العام ٢٠١٧ أحلتُ تباعًا على القضاء ما يزيد عن ١٨ ملفًا تتعلق بقضايا فساد ورشاوى في إدارات الدولة، وإلى اليوم لم يصدر أي حكم بأي منها. وإذا كانت العدالة المتأخرة ليست بعدالةٍ، فإنّ التأخر في بتّ قضايا الفساد هو تشجيع غير مقصود للفساد، ونحن نعوّل اليوم على التعيينات القضائية الأخيرة من أجل تفعيل دور القضاء وتحصين استقلاليته للوصول إلى سلطة قضائية مستقلة وشُجاعة ومنزَّهة، تكون السيف القاطع في معركة القضاء على الفساد. وأكرّر أنّني سأكون سدًّا منيعًا وسقفًا فولاذيًا لحماية القضاء، وأعني بذلك أنّني سأمنع كلّ تدخل فيه انطلاقًا من قسمي المحافظة على الدستور والقوانين.
أيها اللبنانيون،
نحن على أبواب المئويّة الثانية للبنان الكبير، ونجد أنفسنا رهينة أزمة اقتصاديّة حادّة، ناتجة من سياسات اقتصاديّة خاطئة ومن فساد وهدر في الإدارة على مدى عقود من الزمن.
فلتكن السنة المقبلة سنة استقلال اقتصادي فعلي، من خلال تغيير النمط الاقتصادي الريعي إلى اقتصاد منتج عبر دعم الزراعة والصناعة وتبنّي سياسات تحفيزية ليصبح إنتاجنا تنافسيًا في الأسواق الخارجية. وكذلك تخصيص كلّ الاهتمام بالقطاع التكنولوجي واقتصاد المعرفة الذي يمكن للبنان أن يكون منافسًا جديًّا فيه.
نعم فلنجعل منه عام استقلال اقتصادي فعلي، من خلال بدء حفر أوّل بئر للنفط في البحر، ومن خلال إقرار قانون الصندوق السيادي الذي سوف يدير عائدات البترول على أن يلتزم أعلى معايير الشفافية العالمية.
فلنجعل منه عام استقلال جغرافي عبر التمسّك بكلّ متر من المياه في المنطقة الاقتصادية الغنية بالثروات الطبيعية، تمامًا كما تمسّكنا بكل شبر من أرضنا، وكما نسعى لتحرير ما بقي منها تحت الاحتلال الإسرائيلي.
فلنجعل منه عام استقلال بيئي من خلال تحريج الجبال، وخصوصًا ما طالته الحرائق أخيراً ولنجعل منه أيضًا عام استقلال اجتماعي فعلي بدءًا بإقرار قانون الحماية الشاملة المعروف بضمان الشيخوخة.
أما الاستقلال الناجز فيكون عبر تحرّرنا من نزاعاتنا الطائفية والمذهبية، والبدء بالخطوات اللازمة لإرساء الدولة المدنية.
إنّه وقت العمل، والحكومة العتيدة سوف تجدني حاضرًا لمواكبة عملها، ودافعًا لتحقيق الإنجازات.
أيها العسكريون،
لا يمكن للاستقلال أن يمرّ من دون التوجه إليكم، فأنتم كنتم وما زلتم وستبقون درع الوطن، وحماة استقلاله وسياج وحدته.
إنّ أصعب المهمات التي قد تواجَه عسكريًا هي المهمات الداخلية كما هو حاصل معكم، إذ عليكم أن تحموا حرية المواطن الذي يريد التعبير عن رأيه بالتظاهر والاعتصام، وأن تحموا أيضًا حرية التنقل للمواطن الذي يريد أن يذهب إلى عمله أو إلى منزله.
ونجاحكم في هذه المهمة الدقيقة هو ميزان ثقة المواطنين بكم، والثقة غالية لا تعوّض.
أيها اللبنانيون وأخصّ الشباب منكم،
إنّ تفلّت الخطاب في الشارع هو من أكبر الأخطار التي تتهدد الوطن والمجتمع، فلا تنسوا أنّكم بعد انتهاء هذه الأزمة ستعودون إلى المنزل، إلى الحي، إلى المدرسة، إلى الجامعة، إلى العمل... ستعودون للعيش معًا، فلا تسترسلوا في خطاب الكراهية والتحريض لأنّ الهدم سهل ولكنّ البناء شاق، ولا تهدموا أسس مجتمعنا الذي يقوم على احترام الآخر وعلى حرية المعتقد والرأي والتعبير.
لقد قاسى أجدادكم الويلات ليحافظوا على وجودهم الحرّ وكيانهم المستقلّ، وعرف أهلكم كل أنواع المعاناة في حرب داخلية مدمّرة قضت على معظم أحلامهم وخطفت زهرة عمرهم.
"الأمانة اليوم بين أيديكم، والعبرة لمن اعتبر. عشتم وعاش لبنان"