بلى فلسفة

«الهوى» الأسود
إعداد: العميد اسعد مخول

رداً على مقالة  «الهوى» الأصفر للعميد أسعد مخول التي نشرت  في عدد حزيران 2006 الرقم 252

 

إن كان للّون الأصفر بعض الدلالات المقلقة المتعبة المضنية في حسابك، فإن لأخيه الأسود أضعافاً وأضعافاً عندي، وأنا غير ميّال اليه، لا بل متشائم من طلّته، فاقد القدرة على التمييز بين الأشياء اذا غمرها أو ظللها. أسألك: هل عرفت، على مدى العمر، مكاناً لهذا اللون في دنيا الزهور؟ هل لغيره ما لحضرته من سطوة في وطأة الأحزان؟ هل دلّ أو أشار أو لمّح إلى نظر أو بصر؟ أليس عدوّاً للأطفال، خانقاً للشموع، مشيراً إلى الشكوك، باعثاً للوحشة والخوف والظنون في كل مكان؟... ومع ذلك، تورطتُ، راضياً، في صحبته. لقد اشتريته بمالي. اشتريته باقتنائي سيارة سوداء هزيلة نحيلة لم تنفع المصابيح والمشاعل التي علّقها الصناع في مقدمتها وعند مؤخرتها في ردع ظلامها المتحرك. وروى لي العارفون انه لو كانت سيارتي من ذوات القيمة لانقلب أسودها إلى الهيبة والفخامة وبدا جميلاً بهيّ الطلعة وذا جلال، لكن، والأمر كذلك، فلا الأسود الفاحم ينفع ولا الأبيض الصافي، ولا الأزرق الرسولي، ولا الأحمر اللاهب الطاغي...
ولم احدّثك بعد عن محدودية قدرتها في «نهب» المسافات، فكأنها مهيأة للتنزه في جوار المنزل فقط، بحيث إذا أصابها عطل أو ضرر، تركتُها حيث شعرتْ بالإعياء، ونفضتُ يدي منها، وعدت أدراجي على القدمين.
بذلك لم تكن عندي أي محاذير من مبيتها هنا أو هناك، إذ إن الأخطار التي تصيب أخواتها الفارهات في العادة، اخواتها اللواتي تنبعث من جوف كل منهن أصوات التحذير والويل والثبور عند اقتراب أحد، أو شيء حتى لو كان كرة يد أو حبة تين، تلك الأخطار يجب ألا تصيبها على الإطلاق.
مضيت بسيارتي الموصوفة تلك الى مكان أكثر بعداً حيث أركنتها ورحت أقفز من صخرة إلى صخرة، ومن ربوة إلى ربوة، حتى نأيت عنها من دون أن أحسب لأمانها حساب. إلا أنني في العودة من تلك الرحلة لم أجد السواد إلا في قلبي لأنني لم أجد للسوداء الأصيلة أثراً. حسبت في البداية انني ما زلت مأخوذاً بسحر الطبيعة، وان السيارة مركونة في تلك النقطة أو تلك... إلى أن سلّمت بأنها مخطوفة مخفية مفقودة... يا للهمّ! كان في الاتفاق والعرف ان مِثلها لا يعرف السرقة، ولا يميل اليه الخاطفون. أفلا يحيا عرف هنا؟ أفلا يدوم اتفاق؟ هل وصل اللصوص إلى مثل هذا الدرك البائس؟
... وأنا في ذلك إذا برجل يحمل سلاحاً «ظاهراً»، ويربط عند طرف بطنه جثة عصفور قتيل، يتقدم مني، وقد لاحظ ما أنا فيه من حيرة، قائلاً: «أنت تفتش عن سيارتك، لقد دفع بها لصوص ملتّمون نحو الوادي، إلى هناك، وراح يشير بيديه... سامحهم الله، نصحتهم بالابقاء عليها فقد يفيدهم منها حديد أو جلد أو قماش... لكنهم رفعوا الصوت في غضب: إنها من رموز النحس. انها غير جديرة بالسرقة نفسها، ولا تستحق البقاء، ولو كان مالكها هنا لما ترددنا في إرفاقه بها إلى تحت، إلى تحت...».
ضربت كفاً بكف وأنا أدعو: نجّني يا رب. لو سرقت سيارتي، لتقدمت بشكوى لدى مرجع يمكن أن يحسبها بين المسروقات التي قد تستعاد في يوم. لو أحرقت لكان هناك كشف وتقدير وتعويض واستنكار ومؤاساة... أما وقد دفع بها الدافعون الى الوادي السحيق، فما الشكوى؟ هل من نص في قانون العقوبات حول جرم اسمه جرم دفع سيارة في اتجاه غير طبيعي على رغم رغبة إطاراتها ومقودها وفراملها ومنبّهها... وعلى رغم إرادة صاحبها في الأول وفي الآخر؟ ما الذي يمنع أن يقول لي من قد أشكو إليهم أمري إنني أنا من أخطأ في قيادتها وتدحرج بها إلى المجهول؟ ومن لي آنذاك بمن يتفحّص أنفي وفمي وأسناني... ويثبت انني لم أكن سكراناً من شراب أو طعام؟ ومن لي بمن يثبت أو ينفي أن سكرة النفس أفتك من فعل الكؤوس وأمضى؟ ومن لي بشاهد يؤكد أنني دائم الترديد مع الشعراء: ردّ كأسي عن فمي يا أيها الساقي ودعني؟!
* * *
في أبسط حالات الشرح والايضاح، أنت ترى اللون الأصفر، وتميّز ما يجاوره، وما يداوره، وما يساوره، أما في الأسود فأنت أمام حالة مجهولة لا ترى شيئاً مما قد يكون فيها، ولا يراك من ليس فيها.
وبعد الذي أوردته أمام عينيك عن «الهوى» الأسود، هلاّ رضيت بهواك؟