بلا فلسفة

«الهوى» الأصفر
إعداد: العميد أسعد مخول

بعد كَدّ وجدّ وطول أناة ومعاناة، وسهر، بعيداً عن نور القمر، نائياً عن أنس السّمر، بلغتُ انفراجاً مقبولاً في وسع ذات اليد، وبحبوحة متواضعة من تلك التي يرضى بها الدّراويش، فاقتنيتُ في ما اقتنيتُ سيارة تتمتّع بكامل صفات المواطنية رقماً وعنواناً وورقاً ثبوتياً. كان لتلك الشقية ترحيب كبير في وسط الجمهور الذي ارتفعت أصوات بنيه بالـ «آويها» و«يا لا للي»، والذي استرجعت ذاكرته الفنية الترديدة الشعبية اللّطيفة:
هيْ سيارتك يا حبيّب... يا عيوني
ونا عرفتا من النّمرة... هاللّه هاللّه
وكدت أذوب خجلاً حين سمعت ذلك، وأطرقت وسكتّ وخشعت، وبخاصة انني لا أميل الى الإطراء والإطناب والتفخيم والتعظيم، وأخشى في الوقت عينه ألاّ أستطيع ردّ جميلٍ لجمهوري بمثل جميله، أو مكافأةً بحجم عاطفته ومحبته وتشجيعه، إذ لو اقتنى أحد وجهائه سيارة من تلك التي قبل أن تقفز على الطريق يقفز تاريخها الى السنة القادمة كما هو شائع في تحديد «مواديل» السيّارات، (والمواديل هي جمع موديل كما لا يخفى على ساخر)، من الشّبح الى أم العيون  الى الدّمعة الى النّملة الى النّحلة الى الزّرقطة... من أين لي الأشعار والألحان والقدود والضروب والإيقاعات والأنغام، أنشدها وأرددها في الساحات تبريكاً وتحية وطلباً للسعد والمجد... ورفع شر الحاسدين؟
* * *
صودف انّ لون سيارتي جاء أصفَرَ، وهذا ما أثار الجدال بين المتذوّقين. هل أنّ في ذلك إثارة للغيرة بين سيارات المدينة )دي وردة صفرا الغيرة تضنيها(، أم رمزاً للبحبوحة والغنى تيمناً بالأصفر الرنّان، أم إعلاناً للهوان والضعف والشحوب التي تعلو وجوه المرضى وضحايا اليأس والسقام )أصفر م السقم أم من فرقة الأحباب(؟
وإن ننسً لا ننسً أن الأصفر هو لون أطراف الكتب القديمة التي تضم في ثناياها سطور الفكر والحكمة، كما أنه بالتأكيد لون حقول القمح المباركة عندما يحين الحصاد.
ولولا تطيّري في السياسة، ونفوري منها وهروبي وإدباري، لعدتّ بالذاكرة الى الأحلام الكبيرة التي رافقت العِرق الأصفر في بعض قارة آسيا لاعتلاء المنبر الأول في العالم بالحرب والفتك، أو بغيرهما.
* * *
زهوت وتباهيت، هنا وهناك، وأنا على سيارتي، خيّالاً مجنحاً لا تحدّ أحلامي حدود. ولفتني فيها ذاك المقود الأسود الدائري الذي تخاصره يداي مثنى وثلاثاً ورباعاً قبل أن يطاوعني ويغيّر اتجاه مركبتي، وذلك منعاً لأي استدارة متسرّعة قد تكون خاطئة، وهذه من الحسنات التي تذكّرني بالقول القديم الحكيم الداعي الى التشبّه بالجمل عند إطلاق الأقوال والأحكام، إذ لو كان عنق الإنسان طويلاً كما لدى حيوان الصحراء المحبوب، لطال التفكير، ولامتنع علينا الندم وعضّ الأصابع ساعة لا ينفع لا عضّ ولا تكسير.
* * *
وكنت في كل مرة أعود بالصفراء الى «مربط الخيل» قرب منزلي، أفرملها وأهدئ من روعها، وأســـكـــب المـــاء على وجــهــــهــــا الصــبـــيــح وأركــــنــــها علــى بطنها، وأنا أقنع النفس بأن كل الأصوات الغريبة التي تنـــاهت الى سمــعي خلال «فلتانها» فـــوق الزفــت مــا هــي إلاّ زمجــرة القوة والهمّة والطاقة الدفينة الواعدة بالتفجّر والانـطــلاق، إلى أن كــان وقــت أقلعَت فيه عن تلبية أي محاولة للإقـــلاع، فالمحرك المــعدني الذي، رغــمــاً عــن أنــفــه، وإلــزاماً لإرادته، وغصباً واغتصــاباً لرقــبـته، من واجبه الطـــبــيــعـــي، أن يحرّكها ويحرّكني معها، لم يعد يتحرك: إمضِ على القـدمين، أومأ لي هديره الأخرس، إني هــا هــنا لقــاعد... وكــان لا بدّ من اســتــدعــاء الخــبــير الذي لا يــرضـــى بغــير كــلــمة المعلّم نــداء، فــكـــأنـّه سقــراط في زمــانــه، أو فــكــأنه المســيــح، أو فـــكــأنــه، في مـا بــعـــد، فــلان أو فـــلان من الحـــاكــــمــين. الخبير ذاك أقنعني بأنه لا بد من «اصطحاب» عليلتي الى مشــــغــلـــه حيث المـــبــاضع والأدويــة والزيوت والشـــحوم والأســـرّة، الخـــافـــض منها والرّافع، وحيث يســهل الفحص والتدقيق بــعيـــــداً عــن العــيـــون الزرقــــاء، وعـــن كــــل العـــيــــون، لأن العيون، كائنة ما كانت، تســبي العــقول والأرواح «... آه، آه، يا رفاقي ساعدوني». وافقتُ وأنا حزين  لاضطرار الصفراء الى الرضوخ لرغبة المعلّم في نقلها محمولةً مربوطةً مقيّدةً أمام عيون الشامتين، ورحت أذرف الــدمــع مدراراً غزيراً، ولولا خوفي من تحوّله الى بنزين لاســــتمرّيت في ذرفــه حــتّـــى فصل الخريف، خريف السنة وخريف العمر... لكنه البنزيــن، مــلـــك الحرائق، وأنا لا أعرف متى تفاجئني «ساعة التخلّي» فأحترق وتحترق صفرائي، ويمتد الحريق الى قفّازَي المعلّم... المعلّم نفسه، من يدري؟
* * *
ليت شعري، ما الذي أوصلني الى مثل تلك السيارة وهي على ما هي من المظالم والأوجاع؟ أهذا أنا من اختار أو قرّر؟ وهل أنا من دعى «الدبّ» الى كرمه برضاه )ما هو انت اللي جايبه بإيدك لروحك يا قلبي(؟ أم أنّ «الهوى» الأصفر كان لا بد أن يصيبني مهما تروّيت وتحفّظت، أو راعيت وداريت، ولسان حال نافخيه يقول:
أنــــــا المــــــوت آتٍ إلـــــيــــكــــم
فــلــيــس لِهـــاربٍ منّـــي نـــجــــاة