اقتصاد ومال

«سيليكون فالي» في بيروت مدن رقمية لحياة أفضل
إعداد: تريز منصور

ظهر مفهوم المدن الذكية أو الرقمية التي تستشرف المستقبل منذ أكثر من عقد، تلبية لاحتياجات معدّلات الهجرة المتزايدة إلى المدن، وما يسبّبه ذلك من اكتظاظ، وضغط على الموارد المحدودة كالطاقة والمياه، فضلاً عن ارتفاع الطلب على الخدمات، مثل الصرف الصحي والرعاية الصحية والتعليم، والطاقة والخدمات. وبالتالي تهدفُ هذه المدن إلى الوصول إلى الدرجة المثلى من الموارد والأمن، فهي تسمح بتعزيز الخدمات المقدمة للمواطنين والتي تعتمد على البنية التحتية لتكنولوجيا المعلومات والاتصالات، وبتوفير فرص العمل في بيئة مستدامة تعزّز الشعور بالسعادة والصحة.
 

صفات المدن الذكية وأهميتها

تحدّد صفات المدن الذكية بالمستدامة، وهي تتميّز بجودة الحياة، والذكاء، والحوكمة، فضلًا عن محاربة التلوث وعوامل أخرى. جودة الحياة معيار يرتبط بالرفاه المالي والوجداني، أما الذكاء فيتعلق بالطموح الضمني أو الصريح إلى تحسين المعايير الاقتصادية والاجتماعية والبيئية. ويتمّ تقييم المدن الذكية المستدامة من خلال استخدام أربعة عناصر واسعة النطاق: المجتمع، والاقتصاد، والبيئة والحوكمة، وهي تشمل البنية التحتية الخاصة، التكنولوجيا والبيئة الرقمية، الإضاءة، السلامة، الطاقة المتجددة، النهج التحليلي الذكي في ما يخصّ الأبنية، انعدام الانبعاثات الصناعية وتطور تقنيات تصنيع ابتكارية. تدار شركات الطاقة ومرافقها في المدن الرقمية بشبكة ذكية واتصالات لاسلكية، كما تستخدم شبكات خاصة وذكية للقضاء على مخلّفات الصرف الصحي، وتوفير المياه والكهرباء، ويتمّ السهر على الأمن من خلال المراقبة الفيديوية، وإدارة الملفات إلكترونيًا عن بُعد. يضاف إلى ما سبق توفير العيادات الطبية والرعاية الصحية والمؤسسات التعليمية التي تقدم محتوى رقميًا وتعلّمًا مرنًا تفاعليًا يفي بأعلى معايير الامتياز على الصعيد العالمي.
وقد كشف تقرير للأمم المتحدة (صدر حديثًا) أنه بحلول العام 2050 سيتمركز ما يقارب 70 في المئة من سكان العالم في المدن الكبرى، وهناك توقّعات جديّة بأن تستحوذ دول مجلس التعاون الخليجي على أحد أعلى معدلات التجمّع السكاني على النطاق العالمي، بنسبة تراوح بين 80 و100 في المئة.
 

منطقة بيروت الرقمية Beirut Digital District BDD
تنمو المدن الكبرى بوتيرة متسارعة، وفي زمن التحوّل الرقمي والإقبال الهائل على تكنولوجيا المعلومات والاتصالات في أوساط الأفراد والشركات والحكومات، تتشكّل قوة دافعة للتحوّل الاجتماعي والاقتصادي في مختلف المدن حول العالم.
إزاء هذا النمو المطّرد، أطلقت شركة زاد أر إي ZRE للتطوير العقاري (مؤسّس المشروع) بالتعاون مع وزارة الاتصالات وشركة Bery Tech مشروع منطقة بيروت الرقمية Beirut Digital District BDD في 3 أيلول 2012 في عهد رئيس الحكومة نجيب ميقاتي ووزير الاتصالات نقولا الصحناوي.
المشروع نموذجي وهو الأوّل من نوعه في لبنان، يُتيح مع التسهيلات المرافقة له جلب الاستثمارات الخارجية في مجال المعلوماتية والاتصالات، ويشجّع الشركات اللبنانية في الخارج على العودة إلى لبنان، ويتيح أيضًا جعل لبنان منصّة إقليمية متقدّمة لهذا النوع من الاستثمارت، وبالتالي فهو مشروع يهدف إلى إنشاء مركز للصناعات الرقمية والإبداعية في لبنان.
تؤكد السيدة كريستال أبو جودة كنج (مديرة قسم المبيعات والتسويق في شركة ZRE) لمجلة «الجيش» أنّ «منطقة بيروت الرقمية تهدف إلى جذب المواهب والشركات من حول العالم من جهة، وإلى العمل على الحدّ من النزوح البنيوي للكفاءات اللبنانية من جهة أخرى. وذلك عبر خلق فرص عمل وفرص للاستثمار في لبنان في جوّ صحيّ لنموّ الشركات العاملة ضمن المجال الرقمي والابتكاري، ولتطوير الأفراد العاملين فيها».


لماذا بيروت؟
توضح السيدة كنج أن عدّة عوامل تساعد لبنان على تصدّر مشهد ريادة الأعمال والابتكار التكنولوجي واحتواء مشروع كهذا، ولعلّ أبرزها استراتيجية موقع لبنان الجغرافي، بالإضافة إلى الشروط المناخية الجيدة ونمط العيش في بيروت، مدينة الثقافات المتعدّدة، التي تمتلك المقدرة على استقطاب الناس من مختلف أنحاء العالم.
أما سبب اختيار منطقة الباشورة لتنفيذ المنطقة الرقمية، وفق أبو جودة، فهو مالي واقتصادي. فمشروع إعادة إعمار وسط بيروت لم يلحظ منطقة الباشورة على الرغم من التصاقها بهذا الوسط، ما أبقى أسعار الأراضي والعقارات فيها منخفضة نسبيًا. إضافة إلى ذلك، تتمتّع المنطقة بميزات استثنائية لكونها قريبة من المطار والمرفأ والوسط التجاري، ولامتلاكها دلالات تاريخية نظرًا لكونها شكّلت في فترة ما قبل الحرب مركزًا للتجارة في لبنان، ولتعدديّتها الثقافية ولاحتضانها تراثًا معماريًا غنيًا. وهنا لا بدّ من الإشارة إلى اهتمام القيّمين على المشروع بالشقّ المعماري وبالقيمة الجماليّة للأبنية. إذ يلحظ المشروع ترميم بعض المباني الأثريّة والقديمة وترميم كنيسة سريانية مهجورة تقع ضمن نطاق المشروع.
بالإضافة إلى مقوّمات البيئة الطبيعيّة والاجتماعية والاقتصادية، يكمن الأساس في اليد العاملة اللبنانية الكفوءة، أي في المستوى التربوي والعلمي المتطوّر في مجالات البحث والتكنولوجيا والمعلوماتية والبرمجة، نظرًا لوجود مؤسّسات تربوية وجامعات ذات مستوى عالٍ من جهة، وللثقافة السائدة في لبنان التي تدفع الأسر إلى تخصيص نسبة كبيرة من المداخيل لشؤون التعليم من جهة ثانية (وهي النسبة الأعلى في العالم).


إعمل... عِش... إلعب
عن فكرة المشروع ومرتكزاته تقول كنج: «يرتكزُ المشروع على ثلاثيّة العمل والسّكن والتسلية. الفكرة مستوحاة من مشروع «سيليكون فالي» في الولايات المتّحدة الأميركية، وشبيه بمدن الشركات الكبرى، كشركة توشيبا اليابانية. والهدف من ثلاثية الشعار خلق مناخ سليم وصحيّ وإنشاء بيئة حاضنة للإبداع، عبر تبادل الخبرات والمعلومات والأفكار الجديدة بين العاملين في المنطقة».
يقسّم المشروع الذي تبلغ مساحته 140 ألف متر مربع إلى أربع مراحل، تمتدُ فترة تنفيذها بين 2012 و2027، ولكن قد يتمّ تمديد الفترة إلى عشرين عامًا نظرًا الى الظروف الاقتصادية الصعبة التي يمرّ بها لبنان، لذا، بدأ العمل تدريجًا وفق خمسة مبادىء أساسية وهي:
1- التواصل الاجتماعي Community.
2- مجموعة الأعمال Business Cluster.
3- قابلية الاختبار Testability.
4- التصميم Design.
5- توازن الحياة مع العمل Work life Balance.
تمّ بناء المكاتب وبعض المطاعم وأماكن للتسلية والترفيه في المرحلة الأولى (A) التي انتهى العمل فيها في العام 2016، ليصار بعد ذلك إلى بناء وحدات سكنية للعاملين في المنطقة (فندق) وقاعات خاصة بالمؤتمرات، بالإضافة إلى بناء حدائق ومساحات مشتركة في المراحل الأخرى. ولا يكتفي المشروع بمعالجة الأزمات الخدماتيّة المرتبطة بالإنتاج وبفعاليته، بل يسعى إلى معالجة «الأزمات الروتينية» المتعلّقة بحياة العاملين ضمنه، بحيث يقع ضمن المشروع حضانة لأطفال الأمّهات العاملات، مساحات مشتركة مثل الحدائق، المقاهي، نادٍ رياضي، صالون للتجميل، بغية توفير الوقت والمجهود وتسخيرهما في خدمة الإبداع والتصنيع والفعالية القصوى.
تضمّ المنطقة الرقمية اليوم والممتدّة على مساحة 15000 متر مربع عشر مبانٍ و95 شركة تتفاوت أحجامها بين شركات كبرى (40 في المئة) وأخرى ناشئة (60 في المئة). تتوزّع هذه الشركات على المجالات كلها المتعلّقة بالابتكار والإبداع كبرمجة الكومبيوتر، تطبيقات الهواتف الذكية، الهندسة، الإعلان، الإنتاج والتسويق... ويصل عدد العاملين إلى 1500 موظف بين مهندس ومصمّم غرافيكي ومسوّق وإداري وعناصر أمن وخدمات. تهدف المنطقة إلى تأمين 4000 فرصة عمل في مختلف المجالات في السنوات المقبلة.


تجاوز الأزمات
توضح أبو جودة أن منطقة بيروت الرّقمية عانت منذ انطلاقتها مشاكل سببها الواقع الخدماتي السّيّئ في لبنان، لكنّها لم تستسلم، بل تمّ تشخيص أوضاع البنى التّحتيّة وخدمات المؤسـسات الرسميّة في بداية الأمر، ثم اتُخذت إجراءات عملانيّة شكّلت حلولًا جذرية لبيروقراطية الدوائر الحكومية. بحيث تُقدّم للشركات خدمة ملاحقة المعاملات ودفع الفواتير، وبالتالي تُنظم العلاقة مع المؤسسات الرسميّة التي تتطلّب جهدًا ووقتًا كبيرين. إضافة إلى ذلك، تهدف المنطقة الرّقميّة إلى إنشاء البنى التحتية الأساسيّة وتفعيلها لتوفير أفضل جودة بتكاليف ممكنة، من شبكة الألياف البصرية «الفايبر أوبتكس» FIBER OPTICAL CABLE المفعّلة حصرًا ضمن المنطقة، وإلى الإنترنت السّريع (الأسرع في لبنان). وقد افتتحت هذه الشبكة في نهاية العام 2016 مع تقديم عروض خاصة وسرعة قصوى، بعد معانـاة طويلـة من إغلاقهـا، كمــا تمّ حــلّ مشكلــة التقنــين في الكهربــاء بواسطــة استخــدام UPS.
تتضمن البرامج المنوي تحضيرها في المرحلة الثانية بالإضافة إلى عملية البناء، مواكبة بعض الشركات العالمية المسرّعة أو المدرّبة Accelerators لبعض الشركات الناشئة، ورعاية الأفكار المبتكرة ودعمها بهدف إنشاء مؤسسات مستقلّة تتمكن من تسويق ابتكاراتها. ومن ناحية أخرى سوف يدرس المشروع حاجات العاملين في الشركات، بغية إعداد دورات تدريبية لهم في المجالات كلها.
 

التعميم 331
عن الدعم التمويلي للشركات الناشئة، قالت أبو جودة: «لقد ساند مصرف لبنان أهداف المشروع عندما أصدر تعميمًا يحمل الرقم 331 في آب 2013 حثّ فيه المصارف التجارية على تمويل الشركات العاملة في مجال الاقتصاد الرقمي والشركات الناشئة وريادة الأعمال، وذلك عبر ضخّ 400 مليون دولار في المصارف اللّبنانية تسمح للشركات بالاستفادة من قروض ميسّرة بفائدة صفر في المئة، في السنوات السبع الأولى.
أهمية التعميم لا تكمن في المبلغ المحدّد ولا في التسهيلات التي يتيحها، إنّما في التبنّي الرسمي المتمثّل بموقف مصرف لبنان، وبالتبنّي الخاص المتمثّل بموقف المصارف الخاصة للصناعات الرقميّة، بعدما تبنى القطاعان الخاص والعام في لبنان مسار الريع المصرفي والعقاري طيلة فترة ما بعد الحرب».

 

أفضل المدن الذكية في العالم
تندرج نماذج عدّة تحت لقب أفضل مدينة ذكية في العالم، وقد صنّفت بعض المدن على أنها الأكثر تطورًا في العالم، علمًا أن بعضها قائم وبعضها الآخر لا يزال قيد الإنشاء.


• سونغدو – كوريا الجنوبية:
أفضل وأقوى نموذج يتمّ تقديمه للمدن الذكية حول العالم، تقع جنوب العاصمة سيول، وهي مدينة متكاملة بدأ تنفيذها في العام 2005، لتكتمل في سنة 2017. تعتمد هذه المدينة على الطاقة البديلة وأجهزة الاستشعار، وأجهزة الكومبيوتر التي وضعت على طول الطرق والمباني لتقييم استهلاك الطاقة وضبطه. تنتشر أجهزة الاستشعار والتحكّم في كل مكان في المدينة، حتى أنّ السلالم الكهربائية لا تعمل إلا إذا جاء شخص لاستعمالها.


• فوجيساوا – اليابان:
مدينة حديثة يشرف على إنشائها مصنع باناسونيك الياباني على أحد مواقع مصانعه القديمة، وعلى مسافة ساعة تقريبًا من العاصمة اليابانية طوكيو. وقد صممت باناسونيك المدينة على أساس الاعتماد الكلي على الطاقة الكهربائية، والحدّ من التلوّث البيئي المنبعث من السيارات التي تعمل بالوقود العادي، لذا قامت بإنشاء محطات تزوّد الطاقة الكهربائية في أنحاء المدينة كلها.


• برشلونة:
قررت مدينة برشلونة أن تكون واحدةً من أهم مدن العالم، فقد تمّ تحويل المباني الصناعية القائمة وترميمها، بحيث تصبح المحارق محطات لتوليد الكهرباء بنظام الدورة المركبة، بالإضافة إلى تنفيذ برنامج تقاسم الدراجات وذلك بتوفير 6000 دراجة للاستخدام في أنحاء المدينة جميعها، بهدف تقليص استخدام وسائل النقل التي تعتمد على الوقود.


• فيينّا – النمسا:
فيينّا هي المدينة التي ستصبح خاليةً من الكربون في حلول العام 2020، فأكثر من 30 في المئة من طاقة المدينة الكهربائية تنتج من حرق القمامة، كما أنّ واحدةً من أكبر محارق القمامة في فيينا أصبحت من أهم الأماكن التي تجذب السيّاح هناك.


• كوبنهاغن:
يطلق على هذه المدينة اسم العاصمة الخضراء، فهي تعمل على الحدّ من التلوث البيئي والتشجيع على إنشاء المباني المستدامة، وهي نموذج للتحديث المستمر للمبادرات المستقبلية. وقد تمّ تدشين المختبر الأخضر فيها لدراسة التكنولوجيا البيئية وتطويرها وتصديرها إلى مختلف دول العالم التي ترغب في الاستفادة من خبرات كوبنهاغن.


• نيويورك:
يظن البعض بأنّ نيويورك من أكثر مدن العالم تلوثًا نظرًا إلى الاكتظاظ السكاني فيها، وكونها مركزًا للمال والأعمال. لهذا السبب قرر القائمون عليها بناء مشروع هدسون وهو عبارة عن مدينة صغيرة بجانب مدينة منهاتن، لتكون من أكبر المدن الذكية في العالم، المدينة التي تقام على مساحة 28 فدّانًا، سيتم تتبّع كل ما فيها رقميًّا للمساعدة على الحدّ من التلوّث.


• بلانيت - البرتغال:
مدينة يتمّ تصميمها لتضمّ عناصر المدن الذكية كلها، وتسعى لاستخدام 100 مليون جهاز استشعار ذكي لتفادي الأضرار الناتجة من الطوارئ. اهتمت المدينة بنظام النقل، وإشارات المرور، وتحديد أماكن وقوف السيارات لمنع التكدّس المروري، وهي تعمل لاستقطاب 225000 شخص للسكن فيها.