متاحف في بلادي

«ميم» في اليسوعية
إعداد: جان دارك أبي ياغي

سحر المعادن وثروة علمية للبشرية في متحف فريد

صفراء، خضراء، حمراء، سوداء، بيضاء... دائرية، مربعة، هرمية، لولبية... معادن قد تبدو للزائر، وللوهلة الأولى، غير حقيقية. لكنها في الواقع كنوز ابتدعتها عوامل طبيعية وهي تفوق بجمالها، وألوانها وأشكالها كل الأشكال الهندسية التي ابتكرها الإنسان على مرّ العصور.
سليم إده الشغوف بهذه الكنوز، قرّر تقاسم شغفه مع أكبر عدد ممكن من الناس، فأنشأ متحف المعدنيات في بيروت الذي يحمل إسم «ميم».
مجلة «الجيش» زارت المتحف في الجامعة اليسوعية وجالت بين مجموعة المعدنيات التي تعتبر اليوم واحدة من أهم المجموعات الخاصة بالعالم، من حيث تنوّعها وجودتها.

 

البدايات
المتحف هو مشروع سليم إده الذي، منذ العام 1997، كرّس أيامه في السفر والتجوال في أربعة أقطار العالم بحثًا عن أجمل ما صنعته الطبيعة من بلورات ومعادن يبتاعها ويجمعها لتكوين مجموعة معدنيات ضمَّت إلى الآن قطعًا من مجموعات مختلفة مشهورة في العالم، قديمة وحديثة، وكذلك من مكتشفات منجمية رئيسة ومعاصرة. ولرؤية مشروعه حقيقة واقعة، عرض العام 2004 فكرته على الجامعة اليسوعية التي رحّبت فقدَّمت مساحة 1300 متر مربع في حرم الابتكار والرياضة. وأخذ السيد إده على عاتقه التكاليف كلها، فأمّن أفضل العتاد والمعدات المتوافرة في عالم المتاحف، من الإضاءة إلى الواجهات، إلى المقاعد والشاشات... وما كان هواية أصبح اليوم متحفًا خاصًا في بيروت يفتخر به لبنان ويضاهي أمثاله في العالم.

 

مجموعة فريدة ونادرة
عند مدخل المتحف استقبلنا سليم إده بابتسامة، واصطحبنا إلى مكتبه في الطابق السفلي للمتحف ليشرح لنا فكرة مشروعه والهدف منه قبل أن نقوم بجولة ميدانية في داخله...
يهدف المتحف، الذي يعرض حوالى 1500 معدنية تمثل بعيّناتها أكثر من 300 صنف مختلف، تعود لحوالى 61 بلدًا، إلى إبراز النواحي الفنية والجمالية والعلمية والتاريخية والجغرافية والصناعية والاقتصادية كما الرياضية لعلم المعدنيات غير الحائز حتى الآن مساحة خاصة به في عالم المتاحف إن في لبنان أو في الشرق الأوسط.
معرفته المعمّقة بالمعادن وباستعمالاتها المختلفة من الصناعة إلى الطب والحلي تحوّل الزيارة معه إلى متعة. يشرح منشأ كل حجر من الأحجار المعروضة والتي يعود تاريخها إلى ملايين السنين، مشيرًا إلى أهمية هذا المشروع وفرادته وقيمته العلمية والتاريخية. وهنا تجدر الإشارة إلى أن سبعة بلدان تقدّم لوحدها أكثر من نصف عيّنات المجموعة إذ يتجاوز نصيب ما يقدمه البلد الواحد منها المئة قطعة: كالبرازيل، المكسيك، الولايات المتحدة الأميركية، ناميبيا، الباكستان، أفغانستان، والصين.

 

زوايا متنوعة
نبدأ الجولة من الطابق السفلي للمتحف الذي يقسم إلى اثني عشر قسمًا وفق الأصناف المعروضة.
ردهة الاستقبال تربط أجزاء المتحف بعضها ببعض وتشكّل نقطة التقاء ومكانًا مخصَّصًا للمناسبات. ترتفع ضمن مساحتها مجموعة من خمسة أعمدة تستعيد مرأى مداخل الهياكل القديمة. وقد تمّ تزويدها واجهات تعرض فيها معدنيات من المجموعة، هي بمنزلة مقبّلات للزائر قبيل زيارته.
أما حائط بانروز فيفصل ردهة الاستقبال عن قاعة الكنز وهو يحمل إسم عالم رياضي إنكليزي في القرن العشرين يدعى روجرز بانروز. يشير الحائط إلى الانتظام الطاغي في البلّورات ويولّد الإنطباع الوهمي بأنه يتمّ على أساس الأبعاد الثلاثة على الرغم من أن تبليطه قد جرى على مستوى بُعدين اثنين.
تشكّل باحة التواصل فسحة مميَّزة للأنشطة التعليمية والترفيهية إذ يطّلع فيها الزائر على جميع المعلومات المتوافرة في المتحف بواسطة أدوات الإتصال الحديثة، من شاشة عملاقة تعمل باللمس، وحواسيب وغيرها...
في قسم السمعي البصري يتعرّف الزائر بواعث سليم إده في تكوين مجموعة المعدنيات والأسباب التي دفعته لإنشاء المتحف.
أما قاعة البلورة فتستضيف المعارض المؤقتة وأنشطة ثقافية واجتماعية مختلفة.

 

معايير عالمية
في ست قاعات، خصصت كل واحدة منها لصنف معيّن من المعدنيات، تتوزَّع المعروضات في واجهات زجاجية تبرز رونق القطع، وتتمتَّع بالمواصفات والمعايير العالمية التي تحميها من عوامل الرطوبة والحرارة والغبار، فيما تسهم الاضاءة وطريقة العرض وتركيز القطع بإضفاء المزيد من الجمالية والذوق عليها:
- عرض للمعدنيات وهي تسعة أصناف موزّعة بحسب الصنف الكيميائي الذي تنتسب إليه وعددها حوالى 900 معدنية. ظاهرة الخلق هذه، تشكَّلت من دون أي تدخل بشريّ إنما وحسب بفضل مفاعيل تأثيرات الحرارة والانكباس، وبفعل بالغ التعقيد للماء، كما بفعل الزمن على الأخصّ. ويمكن للزائر التمعّن بهذه الأصناف من خلال مشاهدة فيلم يقدّم معلومات مفصّلة حول مجموعة «م».
- قسم المعدنيات المشعَّة، ذات النشاط الإشعاعي من دون أن ينطوي الأمر على أي خطورة إلا أنها تعرض في مكان محصّن بأعلى درجات الأمان، في واجهات زوّدت فتحات خاصة تمتصّ الغاز المنبعث من النشاط الإشعاعي (الرادون) لتلفظه خارج المبنى.
- في زاوية الفرائد عيّنات من قطع ثمينة وفريدة ونادرة تمكّن إده من الحصول عليها بعد مواجهات ومنافسات شرسة مع متاحف وهواة تجميع. في هذه الزاوية يطّلع الزائر على المعايير المستخدمة من قبل هواة جمع المعدنيات وطريقة انتقائها، ويكتسب معلومات إضافية عن الأحجار الكريمة والتقليد والجواهر، بواسطة شاشة تعمل على اللمس. وقد استوحى سليم إده طريقة عرض هذه الواجهة من منصة الفائزين في المباراة الرياضية.
- تستضيف غرفة الكنز المعادن الثمينة (الذهب والفضة) بالإضافة إلى المواد المعروفة وصفًا بالأحجار الكريمة أو النفيسة (المرو، التوباز على أنواعه، الزمرّد بكل أنواعه...)، والتي تمّ اصطفاؤها عمدًا على أساس شفافيتها، ولونها، وأشكالها الهندسية الصريحة. وتحتوي على 21 واجهة بانورامية تسمح بمشاهدة النماذج من جميع الزوايا، كما هو الحال في معرض المجوهرات. وقد صممت الإنارة على نحو يتيح تسليط الضوء على تباينات اللون لإظهار بعض القطع، مثل التنزانيت والأحجار الكريمة كالزبرجد والتورمالين، وإبراز تفاصيل قطع أخرى مذهلة مثل الذهب والفضة الخيطية الشكل.
يرتسم شكل المتحف ضمن زجاجية مثمّنة الأضلاع متميّزة، تستمدّ شكلها من منظومة الأهرامات. وبدل أن يعمل المعمار على تأليف مجسّم هرمي واحد، قرّر إضافة مثمَّنين اثنيْن أصغريْن مُندمجين في قلب الأول الأكبر، قاصدًا بذلك استظهار معدنيَّة من أجمل معدنيات الفْليوريت التي تضمها المجموعة.

 

لماذا «ميم»؟
عندما نرى كل هذه التكوينات الجذابة أسئلة كثيرة تطرح والجواب عند صاحب الفكرة: «يسألني زوار المتحف إن كنت قد صقلت هذه الحجارة بنفسي وأعطيتها هذه الأشكال. حفنة منهم تصدّق بأن هذه الروائع هي من صنع الطبيعة والزمن». ويضيف: «المعادن هي المادة التي تحيط بنا وتكوّن الأرض، وهي عبارة عن ذرات اصطفت بشكل هندسي فأصبحت بلورات. بالطبع استغرق تكوين كل معدن عشرات ملايين السنين، والتفاعلات الكيمائية في تركيبة المعادن أدت إلى التغيير في الألوان. ما نراه بالعين المجرّدة ليس حقيقة ما نراه تحت المجهر، فإذا أخذنا مثلًا حبة الملح بالعين المجردة نراها بودرة ولكنها تحت المجهر مكعب كامل مكوّن من مليارات من حبات الصوديوم...». بهذه الكلمات البسيطة يشرح سليم إده كيفية تكوين المعدنيات التي جمع منها1500 قطعة ليعرضها في متحف «ميم» الذي هو من تصميم المهندس فضل الله داغر.
لماذا «ميم»؟ لأنه يشدد على التسمية العربية في معقل الفرنكوفونية في الجامعة اليسوعية، «فهي لغة البلد الأم، ولا مبرر لعدم استخدامها». و»م» هي الحرف الأول من كلمات: متحف، ومعدن، ومنجم.

 

«ما حدا آخذ معه شي»
حصل إده على المعروضات من السوق، فالعمال في المناجم حول العالم ينبشون المعادن لتستعمل في الصناعة بدرجة أولى وفي صياغة المجوهرات بدرجة ثانية، ولا يسلم منها إلا 1% يشفقون عليه فلا يكسرونه، بل يبيعونه لمحبي المعادن حول العالم. وإحدى أهم طرق الحصول على المجموعات تقوم حاليًا على شراء مقتنيات زوجين بسبب طلاقهما أو في حال الإرث. و«هكذا حصلت على قطع فريدة من نوعها في العالم». ويتكلم ببساطة عن الحياة، وعن سبب إنجاز المتحف. فيستشهد بجدته قائلاً: «لطالما كانت تيتا تردد المقولة الشعبية: «ما حدا آخذ معه شي»، وهذه المعادن عمرها ملايين السنين فحتى لو اشتريتها لا يمكنني أن أمتلكها، ويجب مشاركتها مع الجميع. وكلما تأملت الحجارة أقول سبحان الخالق».

 

إدارة المتحف
المتحف الحديث باإدارة المديرة السابقة للمتحف الوطني، سوزي حاكيميان. وهو يعتمد تقنيات الحماية الحديثة، وفق آخر ابتكارات التكنولوجيا، وكل الجدران مصفّحة. ففي الواجهات تعرض المعادن التي تعود الى 250 مليون سنة، وأمامها تقف اللوحات التي تشرح تفاصيلها من خلال تطبيق هاتفي خاص بالمتحف. هكذا يمكن لكل زائر يحمل الهاتف الذكي أن يتعرَّف القطعة ويحصل على تفاصيلها على هاتفه النقّال. ولمن يفضل الشاشات الكبيرة فهي تعرض الحجارة بتفاصيلها الصغيرة والكبيرة. بتقنية اللمس. «يلعب» الزائر بالمعادن، يديرها كما يريد، يكبِّرها، يصغِّرها، يدور حولها من كل الزوايا... والهدف أن تستقطب هذه التكنولوجيا الأطفال، فيزوروا المتحف ويتعلموا عن المعادن عبر الشاشات العملاقة التي تحاكي شغفهم بالوسائل التكنولوجية.
وتجدر بالإشارة ندرة متاحف المعادن حول العالم، أولاً بسبب كلفة الحجارة، وثانيًا بسبب العجز المالي عن إبقائها مستقلة. لذلك عمل إده بالتوازي مع إقامة المتحف على نهج اقتصادي يمنحه الاستقلالية لضمان بقائه، خصوصًا وأن رسم الدخول حدد فقط بـ6 آلاف ليرة للكبار و3 الاف لطلاب الجامعات و2000 ليرة لتلامذة المدارس، وهو مجاني للأطفال لغاية 12 سنة. لذلك «أقمنا قاعة للاحتفالات أو المحاضرات أو حتى للعروض الفنية يمكن تأجيرها لحفلات محدَّدة، ويجب أن توازي هذه النشاطات تكاليف المتحف الشهرية، لأنه لا يبغي الربح وهو مستقل عن الجامعة اليسوعية»، يقول إده.
في ختام الجولة، وأمام جمال هذه الحجارة، قد يتساءل الإنسان إن كان الكمال في الجمال هو لباطن الأرض أم لسطحها!

تصوير: شربل جرجس
وأرشيف المتحف