احوال الكون

أبعاد جديدة... وأكوان موازية!
إعداد: رويدا السمرا



 

تردّدتُ قليلاً قبل أن أترجم هذا التقرير العلمي, إذ كنت كلّما قرأته, واجهت صعوبة في استيعاب ما يحويه. وقبلت التحدي, وقرأته مجدداً وأنا أستنجد هذه المرة بمخيلتي. ودخلت الى عالم آخر, أرجعني لساعة من الزمن, الى حقيقة ما نحن منه وفيه.
وترجمت ما قرأته, رغبة مني في أن يصل بشكل موجز ومبسّط قدر الإمكان, الى من يقبل التحدي لذكائه العلمي, ومخيلته, فيُدرك بُعده بالنسبة الى الأبعاد المحيطة به في الكون.
صار العلماء اليوم على اقتناع تام, بحتمية وجود أبعاد أخرى غير المكان والزمان حيث نعيش ونتطوّر. وهي أبعادٌ, إما صغيرة جداً بحيث لا نشعر بها, أو كبيرة جداً لا يمكن أن نصل إليها. ويسعى هؤلاء منذ سنوات الى إقتفاء أثر ولو خفيف لهذه الأبعاد الغامضة.

 

أربعة أبعاد لا تكفي لتفسير الكون

لماذا هذا الإصرار المفاجئ من قبل العلماء اليوم على الكشف عن أبعاد أخرى تحيط بنا, في حين أنه يكفي وجود ثلاثة أبعاد لتحديد المكان الذي نعيش فيه؟ فإذا مشينا, أو رقصنا, أو قفزنا من على شجرة, فإننا نتحرك دائماً بحسب إتجاهات ثلاثة أساسية: من اليسار الى اليمين, من الأمام الى الوراء ومن الأعلى الى الأسفل. وحتى لو قمنا بحركات دائرية أو مائلة, فلن يكون تحركنا سوى حصيلة لمجموعة تنقلات ضمن أبعاد ثلاثة.
يُضاف الى هذه الأبعاد, وفقاً لدراسات الفيزيائي الألماني “ألبرت أينشتاين”, بُعدٌ رابع يختلف عنها, ويرتبط بها بشكل وثيق: إنه الزمان. والزمان بعدٌ لا نملك في سلوكه أي خيار. فهو يحملنا على “الإنتقال” باتجاه واحد, من الماضي نحو المستقبل, وهي خاصية لم يتوصل علماء الفيزياء حتى اليوم الى تفسيرها بشكل واضح.
وفي كل الأحوال, فإن هذه الأبعاد الأربعة تسمح للعلماء بوصف العالم الذي نعيشه بدءاً من تنقل الحشرات وإنتهاءً بتحرّك المجرات, أو تسمح بالأحرى, بوصف جزء صغير من هذا العالم: فإذا نزلنا الى مستوى الجزئيات, لا يعود هناك أي علاقة بين القوانين والقوى التي تتحكم بالمادة, وبين القوانين التي تسيطر على دوران الكواكب حول الشمس. فالكواكب تتبع مسارات متواصلة, في حين تتحرك الإلكترونات بقفزات من الطاقة, حول نواة الذرّة, الأمر الذي يبقى من دون تفسير بالنسبة للعلماء. ويحاول هؤلاء, منذ نحو قرن, أن يتخطوا هذه المفارقات ويوحّدوا القوانين الفيزيائية (الفيزياء الكمية, والنسبية العامة...), وذلك على مختلف القياسات في الكون, من أصغرها الى أكبرها. والغريب أنهم في كل محاولة, ينتهون الى نتيجة مذهلة: لا بد من وجود أكثر من أربعة أبعاد لتفسير الكون.

 

سر الجاذبية

كنا نعلم في السابق, بوجود قوّتين فقط: القوة الكهرومغناطيسية التي تربط الذرات ببعضها في المادة, وقوة الجاذبية, وهي تجذب الأجسام الثقيلة الى بعضها. ثم تبيّن للعلماء في ما بعد, أن هناك قوتين إضافيتين: القوة النووية الأقوى, التي تحفظ الجزئيات داخل النواة, والقوة النووية الأضعف وهي التي تلعب دوراً في النشاط الإشعاعي, وتعطي للشمس نورها الساطع. لكن العلماء, كشفوا في العام 1967, أن القوة النووية الأضعف هي وجه آخر للقوة الكهرومغناطيسية. أما قوة الجاذبية وهي القوة الرابعة, فلا يربطها ببقية القوى الثلاث أي رابط: فهي أولاً تخضع على مستوى الكواكب, لنظرية النسبية العامة, التي يقول فيها “أينشتاين” أن كل شيء نسبي, في حين تستدعي القوى الباقية, قوانين مختلفة تماماً, كما أن قوة الجاذبية تبدو من ناحية ثانية, ضعيفة جداً بالنسبة لبقية القوى الثلاث الأخرى: لنأخذ مثلاً قطعة مغناطيسية صغيرة, إنها تكفي لرفع مسمار من على الأرض. وهذا يعني أن القوة الكهرومغناطيسية الصادرة عن قطعة المغناطيس التي لا يتعدى وزنها غرامات قليلة, تكفي للتغلّب على تأثير الجاذبية الناتجة عن ستة آلاف مليار من مليارات الأطنان التي يزنها كوكبنا!!! فكيف نفسّر هذا؟ يقول العلماء, أن هناك أحد العناصر المفقودة التي من شأنها توضيح هذه الفارقة. من هنا عادت نظرية الأبعاد “المستترة” الى البروز ثانية, بعد أن كانت قد ظهرت في العام 1919 تقريباً, ووُضعت جانباً لفترة من الزمن.

 

عالم بأحد عشر بُعداً؟

في نهاية الثمانينات, لم يتحدث العلماء عن بعد إضافي واحد بل عن ستة أو سبعة أبعاد كونية, تضاف الى الأبعاد الأربعة المعروفة. وقد خرجوا “بنظرية الحبال”, التي لا يزالون لغاية اليوم, يعتبرونها النظرية الأنسب, في مجال توحيد القوى والقوانين الفيزيائية الهادفة الى إعطاء وصف موحّد للكون. تقول هذه النظرية: إن الجزئيات والقوى المعروفة, هي ذبذبات تنتج عن إهتزاز حبال صغيرة جداً, تتحرّك باتجاه عشرة أو أحد عشر بعداً. ولكن ما هي هذه الأبعاد؟ وأين تختبئ؟

 

سيناريوهات مذهلة

خط الطول, خط العرض, والإرتفاع: ثلاث كلمات تكفي لتحديد موقع طائرة في الجو. الطول, العرض والإرتفاع, أيضاً ثلاث كلمات تكفي لقياس غرفة أو طاولة. وهذا يعني أننا نعيش في فراغ له أبعاد ثلاثة. صحيح أن أحداً لم “يشاهد” هذه الأبعاد لكننا نشعر بها غريزياً ونسبح فيها. إذن, وفي حال وجود أبعاد إضافية, كما يقول العلماء, فأين تختبئ؟ وكيف يحصل أنها لا تعطي إشارة عن وجودها؟

 

إنها في كل مكان

إذا كانت هذه الأبعاد الأخرى غير “ملموسة”, فلأنها صغيرة جداً يقول الفيزيائيون, فما المقصود بذلك؟
يبدو أن الأبعاد التي نعرفها (الطول, العرض والإرتفاع) تمتد الى أبعد المجرّات التي يمكن أن نشاهدها. فهي إذن أبعاد هائلة في الكبر.
وفي محاولة لتقريب الفكرة الى أذهاننا, يكفي أن نتخيّل ثلاثة محاور عملاقة, عامودية بعضها على بعض. ويقدّر العلماء بحسب مراقباتهم الحديثة للكون, أن الفضاء مسطّح, أو بمعنى آخر, أن المحاور التي نتكلّم عنها مستوية تماماً وتمتد الى ما لا نهاية, علماً أن لا شيء يمنع أن تكون هذه المحاور منحنية قليلاً, وفي هذه الحال, فهي تنتهي بالتلاقي وتصبح بالتالي محدودة, ويصبح الكون بدوره محدوداً أو مغلقاً, شبيهاً بالكرة.
إذاً, عندما يتحدث العلماء عن أبعاد إضافية صغيرة, فلا بد أن تكون أبعاداً محدودة, أو حلقات فضائية صغيرة, نعود دائماً, إذا تبعناها, الى النقطة ذاتها. وفي تقرير هؤلاء, أننا نشعر فقط بالأبعاد الثلاثة التي نعرفها, لأن الأبعاد الإضافية الحلقية أصغر منّا بكثير. وفي محاولة لتقريب هذه الصورة الى الذهن, نأخذ مثل البهلوان الذي يسير على الحبل. فالحبل بالنسبة إليه, مكان ذو بعد واحد يستطيع أن يتحرّك فيه الى الأمام والى الوراء فقط. أما بالنسبة لنملة تقف على الحبل ذاته فهناك بعد إضافي صغير ملتف على شكل حلقة, وهو محيط الحبل, حيث يمكن للحشرة أن تتبعه فتقوم بدورة كاملة, الأمر الذي لا يمكن للبهلوان أن يفعله.
وتشكّل الأبعاد الصغيرة جزءاً متكاملاً وحاضراً في كل مكان من التركيبة الفضائية. “إنها في كل مكان”, يقول أحد العلماء: “إذا رسمنا بيدنا قوساً كبيراً في الهواء فهي لا تتحرك فقط باتجاه الأبعاد الثلاثة المعروفة, بل أيضاً باتجاه كل هذه الأبعاد الحلقية. ولا شك أن هذه الأخيرة متناهية في الصغر, بحيث أن يدنا تعبرها, عدداً لا يحصى من المرات, لتعود دائماً الى نقطة الإنطلاق. وإذا كانت يدنا تقوم في كل ثانية بعملية مسح لهذه الأبعاد الإضافية, فهي لا تتمكن مع ذلك من الدخول فيها لأنها أكبر منها بكثير.

 

حلقات ميلّمترية بعيدة عن متناول عالمنا

تبنّى العلماء في التسعينات, فكرة وجود أبعاد إضافية حلقية, خارجة كلياً عن فضائنا الثلاثي الأبعاد. ولنحاول تصوّر فكرتهم, ونتخيّل فضاءنا مسطحاً كورقة رفيعة ومحوّلة من فضاء ثلاثي الأبعاد الى فضاء ثنائي الأبعاد, يسبح على شكل بساط في فضاء أوسع منه, له أبعاد أخرى. نحن لا نستطيع الوصول الى هذه الأبعاد الأخرى لأننا محتجزون داخل أبعاد بساطنا الفضائي. هذه الفكرة, على الرغم من أهميتها, بقيت جانباً, الى أن أعادها للواجهة عام 1998, ثلاثة فيزيائيين من جامعة كاليفورنيا.
كـان السـؤال التالي يشغل بال هؤلاء: لماذا تبدو قوة الجاذبية ضعيفة جداً بالنسبة للقـوى الثلاث الباقية؟ (القوة الكهرومغـناطيسية, القوة الـنووية الأقـوى, والقوة النووية الأضعف). يرى الفيزيائيون الثلاث أن الجواب يكـمن في الأبعاد الإضافية السابقـة الذكر. وقد وضعوا السيناريو الآتي: تبقى المادة كلها, بالاضافة الى القوى الكهرومغناطيسية والنووية, محصورة في فضائنا الثلاثي الأبعاد أو ما سمينـاه بالبسـاط الفضائي. وحدها الجاذبيـة يمكنها أن تنتشر في أبعاد الفضاء الأوسع الذي يسبح فيه فضاؤنا, لذلك فهي تبدو لنـا “مخففـة” بالنسبة لبقية القوى, بينمـا هي في الحقيقـة بالقـوة ذاتها, ويعطي العلماء صورة تمثل الفكرة بشكل مبسّط:
“لنأخـذ مثل نهر قوي التيار. فإذا تفـرّع الى أنهار صغيرة, أصبح التيار في كل منها أضعف بكثير. وهكـذا الحال بالنسبـة لقـوة الجاذبية التي تضعف عندما تتفرّع في الأبعاد الإضافية, خـارج أبعادنا الثلاثة”. أما بالنسبة لقياس هذه الأبعاد الإضافية, يقول العلماء, فإن واحدها قد يقارب الملمتر الواحد وفقاً لحساباتهم, والشيء الأكيد أننا لن نتمكن أبداً من الدخول في هذا الملمتر الإضافي, أو الحلقة الفضائية الصغيرة, لأننا نحتجز داخل بساطنا الفضائي, مثلنا مثل كل الجزئيات والقوى التي نعرفها. وحدها الجاذبية يمكنها أن تنتشر إذن في هذا الفضاء الأوسع, وربما أنواع أخرى أيضاً, من الجزئيات والقوى التي نجهل كل شيء عنها. ويقول أحد العلماء في هذا المجال: “من الممكن أن يكون هناك عوالم أخرى موازية لعالمنا, على بعد بعض عشرات الملمترات منّا”. إنها ولا شك فكرة لا يمكن أن نستوعبها بسهولة!

 

الموعد المنتظر في العام 2007

بعد إجماع عدد كبير من العلماء, على نظرية الأبعاد الإضافية في فضاء شاسع, يسبح فيه فضاؤنا الثلاثي الأبعاد, يبقى الآن أن يكتشف الفيزيائيون عملياً وجود هذه الأبعاد. ويضـع اليوم علمـاء الكونيّـات أملهم الكبير في مراقبـة الإشعاع الكوني الآتي من أول بريـق كوني وصل إليـنا بعد ثلاثمئة ألــف سنـة من ولادة الكـون أو ما يسميـه العلمـاء “البـيغ بانغ” (Big Bang) .
وقد أعطـت التغيّرات الطفيفة التي طرأت على هذا الإشعاع حتى الآن, الكثير من المعـلومات عن الكون وتاريخه وتركيبته. فَلٍمَ لا تـزودنا هذه التغيرات بمعلومات قيّمة عن وجود الأبعاد “المستترة” الإضافـية وخصائصـها في حـال وُجدت؟ في العام 2007, سوف ينطـلق القمر الإصطناعي الأوروبي (Planck) , في الفضاء ليدرس الإشعاع الكوني بدقّـة تفـوق كل ما حقـقتـه الأقمار الإصطناعية الأخرى. ومـن يدري فقد يلتقط "Planck", إهتزازات الأبعاد الإضافية, أو الصدى البعيد لعـالم لن نـتمـكن من بلوغـه أبداً.

 

ما هو المكان والزمان بالنسبة لعالم الفيزياء؟

تقوم الفيزياء بتمثيل المكان والزمان بالرياضيات ليس إلا. وتستعمل لذلك أدوات أو “متغيّرات” تعودالى ما نسميه بالأبعاد المكانية الزمانية (نرمزللزمن مثلاً بالحرفT). لكن الطبيعة الحقيقية للمكان أو الزمان هي فلسفية بمعظمها.
فبالنسبة لـ"Kant" يبدو المكان والزمان مهداً للإحساس, وهما, بمعنى آخر, عاملان بداخلنا, نعكسهما على العالم الذي نعيشه, حتى نتمكن من فهمه وتمثيله. إن أحداً لم يشاهد الزمان, كما أن أحداً لم يشاهد المكان أيضاً, فكل ما نرى هو محتوياته فقط.

 

عن:Science Et Vie - Juillet 2002 .