- En
- Fr
- عربي
رحلة في الإنسان
من منّا لم يقض قسمًا من أوقات فراغه سارحًا في دنيا الأحلام، حيث متعة الهروب من واقع ضاغط، أو مغاير للآمال والتطلعات؟
أحلام اليقظة تأخذنا إلى حيث يصعب علينا الذهاب، وتحقّق لنا أهدافًا بعيدة المنال. لكن، هل تضاهي المنافع التي نجنيها من الإستمتاع بها أضرار الإدمان على حياكتها؟
الدراسات العلمية التي أجريت حول أحلام اليقظة، أدت إلى فهم دور هذه الأحلام في تفعيل عملية الوعي الطبيعي، الأمر الذي عزّز أهمية وجودها، ولفت إلى الأضرار التي قد تنجم عن غيابها.
دور أحلام اليقظة في حياتنا
بالنسبة إلى الباحثين في علم النفس، فإن عالم أحلام اليقظة هو عالم إفتراضي، ينسج الحالمون أحداثه ويعيشون تفاصيله، فيتذوقون طعم السعادة والثراء، ويحققون أهدافًا يصعب تحقيقها في الواقع.
فالمغامرات التي يخوضها الحالم في هذا العالم تساعد، بحسب الباحثين، على استنباط حلول خلاّقة، وتذكر لدى الإنغماس في العمل الروتيني، بالأهداف البعيدة المدى، والمهمة بالنسبة إلى المستقبل. مع ذلك، فهذه الأحلام قد تجرّ البعض إلى عالم الإدمان، حيث يصبح التلذّذ بالخيال متعة تعطل النشاطات الحياتية، بما فيها العمل والعلاقات الإجتماعية. وهنا يشير الباحثون إلى العلاقة بين الإدمان على أحلام اليقظة والإدمان على المخدرات، وكلاهما يقترن بمشاعر الندم والقلق والخجل. مع ذلك تعتبر أحلام اليقظة جزءًا من تكوين الدماغ، وهذا يعني أنها حالة طبيعية، حتى ولو تسببت بالإدمان الممكن علاجه.
فهذه الأحلام، كما تشير الدراسات الجارية كافة، تنشأ عن شبكة خلايا عصبية دماغية، مهمتها تحويل الأفكار إلى صور خيالية، أو تسلسل أحداث يستعرضها الوعي بشكل أفلام شيقة. هذا الإكتشاف العلمي، ساعد إلى حد بعيد، على فهم الأهداف التي من أجلها تكوّنت هذه الشبكة العصبية، وتشكلت وظائفها، وطرق عملها.
فالخلايا العصبية المشار إليها لا تعمل، بحسب الباحثين، عندما نكون منهمكين في العمل. ولكن، في اللحظة التي نشعر خلالها بالفراغ، تمارس وظيفتها الهادفة إلى تفعيل الشعور بالأنا. وعلى هذا الأساس يعتبر عملها ضروريًا من أجل تعميق معرفتنا بأنفسنا وبكيفية دمج العالم الخارجي في خبايا ذواتنا.
دليل على الصحة العقلية
عرّف البروفسور جيروم سينجر أستاذ علم النفس في جامعة يال الأميركية YALE أحلام اليقظة بأنها تحويل الإنتباه من حالة فيزيائية أو عقلانية، باتجاه مشاهد خيالية ينسجها الدماغ لدوافع باطنية.
وحسب رأيه، فإن هذه الأحلام نوعان: النوع الإيجابي البناء الذي يتضمن رؤى متفائلة، والنوع القلق الذي قوامه أفكار وصور قاتمة، وشعور بالندم والفشل. وبرأيه، فإن أكثرية الناس قد اختبرت النوعين بدرجات متفاوتة. وهنا يلفت إلى ارتباط أحلام اليقظة الواضحة بالصحة العقلية، ويقارن بين أحلام الأصحاء وأحلام المرضى النفسيين. فالأخيرة كما هو معروف، تفتقر إلى الوضوح والتماسك وتسلسل الرؤى.
مفتاح الإبداع
من البدهي القول إن المبدعين والفنانين والعلماء قد مارسوا لعبة أحلام اليقظة بمهارة فائقة. فالكاتب التركي المعروف أوتان باموك، الحائز جائزة نوبل للآداب العام 2006، كان قد تخيّل عندما كان صغيرًا عالمًا آخر ألهمه الكتابة في صباه. وعرف أن العالم البرت أينشتاين كان يتصوّر نفسه سارحًا في الفضاء فوق موجة ضوء.
أما منتج الأفـلام تيم بيرتون، فقد حلم طوال حياته بالنجاح في هوليود، وقضى مرحلة طفولته يحلم بانتاج سلسـلة أفلام رعب خيالية.
كيف تساعد أحلام اليقظة على الإبداع؟
المعروف أن وظائف الدماغ لا تعرف السكون، والتحليق في فسحات خيالية هو كما أشرنا، جزء من هذه الوظائف التي تخدم الأهداف التطورية. والدليل أنه عندما نكون منهمكين بالعمل، نلمس بوضوح حركة العقل الذي يذكّرنا على الدوام بما نحلم به ونسعى إلى تحقيقه. وهنا يلفت الباحثون إلى أن الدماغ الذي يختزن ملايين الأحداث التي تتركها أحلام اليقظة في الذاكرة، لا بد وأن يطلقها خلال العمل أو التأمل، الأمر الذي يعود علينا بالفائدة.
ماذا لو تحوّل الحلم إلى مخدّر؟
سبق وأشرنا إلى أن أحلام اليقظة قد تتحول إلى عامل مدمّر في حال الإدمان على الاستمتاع بها من دون القيام بعمل يترجم محتواها إلى أهداف قيمة.
في حال كهذه، تتحول أحلام اليقظة إلى مخدّر يرافق الوحدة ويؤمن لأصحابها رفقة خيالية قسرية يصعب الاستغناء عنها. وهنا يلفت الباحثون إلى أن وضع الإسترخاء الذي تؤمنه أحلام اليقظة القسرية، يمنع من الإندماج في المجتمع، كما يحول دون لقاء أصدقاء فعليين، أو حتى التمكن من العمل.
وكانت الدراسات التي تناولت هذه الحالة قد أشارت إلى كونها ظاهرة مرضية، أو اضطرابًا يصحبه تخيلات هوسية خارجة على المألوف.مع ذلك، يؤمن البعض بأن هذا النوع من النشاط الدماغي القسري، قد ينشأ كآلية دعم تساعد المعنيين بها على التعامل مع الوقائع غير المحتملة، والتي لا يمكن تخطّيها.
هل يسرح عقلك خارج السيطرة؟
من أجل التفرقة بين أحلام اليقظة المحفّزة للإبداع وتلك القسرية الهوسية ينصح الباحثون بالاستفادة من الإرشادات الآتي ذكرها:
- إستقصاء مضامين الأحلام التي تراودنا والتأكد من إمكان الإستفادة من الأهداف التي تختزنها.
- إجراء مقارنة بين نسبة استفادتنا من التحليق في عالم الخيال، وبين ما يجنيه المبدعون من هذا التحليق، الأمر الذي يرشدنا إلى ايجابية أحلامنا أو سلبيتها.
- الإنتباه إلى أن الخيال الهوسي يتجلى بشكل تكرار للصور والأفكار العالقة في الذهن وعادة ما يكون خارج السيطرة.
- في حال تمكن الحالم من تصنيف أحلام يقظته في الفئة الهوسية، يوصى بمراقبة نفسه، والتدرب على الإندماج تدريجًا في المجتمع. كما ينصح بالانهماك بالعمل المجدي، وإلاّ ينصح بالخضوع للعلاج النفسي.