مواسم وخيرات

أخضر أو مجفف التين ملك ملوك فواكه
إعداد: د. حسين حمود
كلية الزراعة - الجامعة اللبنانية

فوائدها الطبية وخصائصها البيولوجية تجعل منها شجرة لا مثيل لها بين جميع الأشجار المثمرة في لبنان، مع ذلك فإن شجرة التين باتت مهددة بالانقراض في بلدنا أحد مواطنها التاريخية.

 

موطن شجرة التين
إن الموطن الأصلي لنبتة التين هو بلاد فارس وسوريا، وقد نقلها الفينيقيون والإغريق إلى أوروبا كما حملها العرب في أثناء فتوحاتهم إلى معظم البلدان التي وصلوا إليها. وانتقل التين إلى الشرق عن طريق سوريا ووصل إلى الهند في القرن الرابع عشر ميلادي، وانتشر في الصين في القرن السادس عشر، ودلّت آثار تاريخية تعود إلى 2000 عام قبل الميلاد بأن زراعته كانت من الزراعات الرئيسة في بلدان آسيا الصغرى.

 

الخصائص البيولوجية لشجرة التين
شجرة التين هي أقدم الأشجار التي عرفها الإنسان في تاريخه القديم إلى جانب كل من الزيتون والنخيل. إنها الشجرة الأطول عمرًا بين جميع الأشجار المثمرة. تشتهر هذه الشجرة بتحمّلها أقسى الظروف البيئية التي تعجز النباتات الأخرى عن تحمّلها. تتميّز بمقاومتها الذاتية للأمراض وبقدرتها على النمو في أماكن لا يمكن لأي نوع آخر من الشجر أن ينمو فيها، إذ أنها تنمو في الأرض الصخرية والرملية على السواء. وهي من أكثر الأشجار تحمّلًا للعطش ومقاومة للجفاف بفضل نظامها الجذري الكثيف الذي يمتص الرطوبة من التربة.
تعيش شجرة التين بالمتوسط بين 50 و70 عامًا وقد يصل عمرها إلى 100 سنة إذا ما توافرت لها الظروف البيئيّة الملائمة، وفي حال عدم انخفاض درجات الحرارة إلى الحدود التي تؤذيها.
تعطي شجرة التين الثمار في الصيف، وهذه الثمار قابلة للتجفيف والتخزين على مدار السنة. تحب شجرة التين ضوء الشمس المباشر والحرارة العالية إلى المعتدلة.

 

الإنتاج العالمي للتين
تنتشر زراعة التين بكثرة في دول حوض البحر المتوسط وفي دول أميركا الشمالية والوسطى والجنوبية كما في دول أواسط آسيا، وتمتد شمالًا حتى شواطىء البحر الأسود وبحر قزوين. لقد بلغ الإنتاج العالمي لثمار التين العام 1992 مليون طن إستأثرت دول حوض البحر المتوسط وحدها بـ90% منها. واحتلّت سلّم الإنتاج العالمي الدول الواردة أدناه حسب التسلسل من الأعلى إلى الأدنى: تركيا 278 ألف طن (27% من الإنتاج العالمي)، إيران 84 ألف طن ويليهما سوريا 44 ألف طن، والعراق 16 ألف طن ثم لبنان بإنتاج بلغ 13 ألف طن، يليه الأردن وفلسطين بإنتاج بلغ 12 ألف طن. تشير هذه الأرقام إلى أن حصّة دول الشرق الأوسط من إنتاج التين بلغت 446 ألف طن ما يمثّل 44% من الإنتاج العالمي مقابل 30% لأفريقيا و14% لأوروبا و6% للقارة الأميركية.

 

المتطلّبات البيئيّة لشجرة التين

 

• التربة:
تتمتّع شجرة التين بقدرة النمو والإثمار في أنواع من الأراضي لا يمكن لأي نوع آخر من الأشجار أن ينمو فيها، فهي تنمو في الأراضي الصخرية وعلى الجدران وحتّى في الكهوف، وباختصار في أسوأ أنواع التربة من حيث التركيبتين الفيزيائية والكيميائية.

 

• الماء:
تتميّز شجرة التين بأنها أكثر الأشجار تحمّلًا للعطش والجفاف، ويعود ذلك إلى جهازها الجذري الكثيف والمتفرّع والعميق والقادر على إمتصاص أقل كمية من الرطوبة في التربة، إلا أن كميّات من الري المنتظم خصوصًا في بداية مرحلة الإثمار، تسهم إلى حدّ كبير في تكبير حجم الثمار وتحسين نوعيتها.

 

• الظروف المناخية:
سبق وذكرنا أن شجرة التين تستطيع أن تتحمّل في الشتاء حتى 12 درجة مئوية تحت الصفر، أما في الربيع فإن درجة حرارة 4 تحت الصفر هي كفيلة بالقضاء على الموسم خصوصًا في الأصناف التي تنتج موسمين. من ناحية أخرى تتطلب ثمار التين درجة حرارة عالية في الصيف ورطوبة هواء معتدلة، فالثمار النامية في صيف بارد رطب بالقرب من المناطق الساحلية تكون أكبر من تلك النامية في المناطق الداخلية الحارة، غير أن الثمار في هذه الإخيرة هي أكثر حلاوة من ثمار المناطق الساحلية. إلى ذلك، فإن الضباب والمطر وتدنّي درجات الحرارة في أثناء نضج الثمار يؤدي إلى تشقّقها وتعفّنها.

 

العمليّات الزراعية الضرورية لنجاح زراعة التين

 

• تحضير التربة وعملية زرع التين:
يتم تحضير الأرض المخصّصة لزراعة التين من خلال حرثها مرّتين ثم تحدّد أماكن الغرّاس وتحفر الجَور بأبعاد 50 سم طول ×50 سم عرض × 50 سم عمق، ويوضع تراب سطح الجورة على جهة وتراب قاع الجورة على جهة أخرى. قبل زرع الغرّاس يتم تقليم الأطراف المكسورة والطويلة وتوضع في الحفرة المعدّة لها. يردم التراب حول المجموع الجذري بحيث يردم أولًا تراب السطح ثم تراب قاعها الجور جيدًا حول الغرّاس وتروى بغزارة، مباشرة بعد الزرع. تجدر الإشارة إلى أنه يجب أن تغرس الشتول في الأرض الدائمة على العمق نفسه الذي كانت مغروسة عليه في أرض المشتل. تختلف المسافة بين الغرسة والأخرى حسب الصنف ونوع التربة وهي تراوح بين 3 و6 أمتار بين الشجرة والأخرى و5 و9 أمتار بين الخطوط.

 

• العزيق:
إن الغرض من عزق أرض بستان التين هو التخلّص من الأعشاب التي تنافس غرّاس التين على المواد الغذائية والماء، ولحمايتها من الأمراض والحشرات التي تنمو وتتكاثر على الأعشاب البرّية. ويتم العزيق في الخريف عند إضافة السماد العضوي والكيميائي بحيث يكون سطحيًا كي لا تتعرّض جذور الغرّاس للتلف.

 

• الري:
تستطيع أشجار التين أن تتحمّل الجفاف بدرجة أكبر من أشجار الفاكهة الأخرى متساقطة الأوراق، حيث يلاحظ أن زراعة التين تمتدّ حتى المناطق الصحراوية. تروى الأشجار صغيرة العمر على فترات متقاربة حتى ينتشر مجموعها الجذري ويتثبّت جيدًا في التربة، أمّا الأشجار البالغة فتروى مرّة في بداية آذار (في حال لم تكن كمية الأمطار كافية)، ثم تروى مرّة ثانية قبل التزهير بأسبوعين إلى ثلاثة أسابيع، ومرّة ثالثة عندما تصل الثمار إلى ثلث حجمها الطبيعي، علمًا أنه لا يجب المغالاة في الري أثناء فترة نضج الثمار لأن ذلك يؤدي إلى تشقّقها وتعفّنها.

 

• التسميد:
لا يحتاج التين إلى تسميد غزير، غير أن توافر الري ينعكس إيجابًا على كمية المحصول ونوعيته. وإضافة الأسمدة العضوية تساعد في تحسين خواص التربة ورفع قدرتها على الاحتفاظ بالماء، كما تزيد من نشاطات الكائنات الحيّة في التربة التي بدورها توفر عنصر خصوبة التربة وتجدّدها. الأسمدة الآزوتية تساعد في زيادة نمو المجموع الخضري، والأسمدة الفوسفورية تسهم في التبكير في الحمل والإنتاج والعقد والنضج، أما الأسمدة البوتاسية فتعمل على زيادة حجم الثمار وتحسين نوعيتها. وتختلف كميّات الأسمدة المضافة حسب عمر الأشجار وخصوبة التربة ومعدّلات هطول الأمطار ونوع الزراعة (مروية أم بعلية).

 

• تقليم الأشجار المثمرة:
يتضمّن هذا التقليم إزالة الأفرع المتداخلة والمكسورة والمصابة، وإزالة بعض الأفرع التي يراوح طولها بين 5 و10 سم، وتقصير الأفرع الطويلة (عمرها سنة) حيث يقصّ الثلث أو الربع لتشكيل أفرع حديثة تحمل المحصول الأساسي.

 

أنواع التين اللبناني
التين هو فاكهة صيفيّة بامتياز تنتشر زراعته في لبنان بدءًا من الساحل وحتى أعلى المناطق الجبليّة وينضج في أشهر الصيف وفق الصنف وارتفاع المنطقة عن سطح البحر. فالأصناف الساحلية تنضج في شهر تموز، بينما الأصناف الجبلية تتأخر شهرًا أو أكثر حسب ارتفاع كل منطقة.
بين الأصناف التي تزرع في المناطق الساحلية نذكر التين الأبيض والبقراطي ذا اللب الأحمر والقشرة الخضراء، والتين الجمّالي ذا الثمرة الكبيرة، وهناك الغزلاني والعسلاني والسويدي والبيضاني والشموطي والصيداني. أمّا المناطق الجبلية على مختلف ارتفاعاتها، فتستأثر بالتين الأسود ذي القشرة السوداء واللبّ الأحمر والمعروف بحلاوة أقل من الأصناف الأخرى، وهناك التين الحمّار ذو القشرة الحمراء واللبّ الأحمر والذي يتميّز بصغر حجم ثماره وغزارة حمله، والتين العاملي (جبل عامل) الذي يتميّز بنكهة خاصة جعلت له شهرةً واسعة في الداخل والخارج. والميزة التي تجمع تين الجبال هي أن إنتاجه يمتدّ حتى فصل الخريف وأحيانًا حتى بداية الشتاء.

 

الفوائد الصحيّة لثمار التين
يعتبر التين من أغنى مصادر الفيتامينات حيث يحتوي على فيتامينات أ، ب، ث، كما يحتوي على نسبة عالية من المواد المعدنية كالحديد والكلس والنحاس وهي المواد الهيكلية لبناء خلايا الجسم والمولّدة لخضاب الدم، كما يعتبر التين من النباتات التي تحتوي على أكبر مصدر للكلسيوم والألياف. يقلّل التين الحوامض في الجسم أمّا حليب الثمار غير الناضجة فهو ذو مفعول قابض. كما تعالج ثمار التين فهي معالجة الإمساك القوي خصوصًا في حال تناولها في الصباح وعلى الريق، أما تناول التين المجفّف فيؤمن مقدارًا عاليًا من الحرارة لمقاومة برد الشتاء. ويفيد منقوع التين في علاجات التهاب الحنجرة والجهاز التنفسي والقصبة الهوائية وتخفيف حدّة السعال الديكي. ولصنع منقوع التين: تؤخذ عشرون حبّة تين وتشرّح كل حبّة إلى قسمين وتوضع في نصف ليتر من الماء الساخن وتترك لمدة 12 ساعة ثم تستعمل. يفيد التين أيضًا كعلاج لخرّاجات اللثّة والقروح حيث تقسّم الثمرة إلى قسمين يوضعان على الخرّاج والقروح.

 

الفوائد الصحيّة للتين المجفّف
 تؤكد وزارة الزراعة الأميركية أن التين المجفّف غني بالألياف والنحاس والمنغنيز والمغنيزيوم والبوتاسيوم والكلسيوم والفيتامين «ك». إضافة إلى ذلك يحتوي على عدّة عناصر مغذّية، كما يحتوي على مواد مليّنة وأخرى مضادة للأكسدة، وهو مصدر لعدّة مواد كيميائية كالفلافونويد والبوليفينول وحمض الغال وحامض الكلوروجينيك والسيرانجيك والكاتشين.

 

تجفيف التين و«تسطيحه»
إن الظروف المناخية السائدة في لبنان وبشكل خاص في المناطق الجبلية التي تتميّز بحرارة عالية ورطوبة معتدلة وفّرت العوامل الأساسية لنجاح عملية تجفيف التين. فقد تعوّد اللبنانيون منذ زمن بعيد على تجفيف الفائض من إنتاج التين خلال الصيف للاحتفاظ به في فصل الشتاء، أو تشريحه ونشره على السطح وتعريضه للشمس ومن ثم تحويله إلى مربّيات. يختلف التين المجفّف عن المسطّح بأن الأول لا يخضع للتشريح بل يبقى ثمرة كاملة ويعرّض للشمس ثم يوضع في سلة كبيرة أو يشك بخيطان طويلة ويؤكل في الشتاء مع الجوز أو اللوز. أمّا المسطوح فبعد تشريحه وتعريضه للشمس يوضع في وعاء لطبخه مع الماء والسكّر والحامض، وعندما يغلي الماء تنزع الرغوة التي تطفو على سطح الوعاء ثم تضاف كميّة من اليانسون أو وريقات من نبتة العطر. وقبل الإنتهاء من عملية الإنضاج يضاف إليه السمسم والمسك والجوز واللوز ويغلى المزيج لمدّة خمس دقائق، ويترك ليبرد قبل أن يسكب في أوعية زجاجية.

 

واقع زراعة التين في لبنان وآفاقها
وصلت زراعة التين وصناعته إلى طريق الزوال بعد أن كانت تغطّي مساحات شاسعة من أراضي معظم القرى اللبنانية، وكانت تسهم إلى حد كبير في دعم الاقتصاد الريفي خصوصًا من خلال تصنيعه وبالتالي تجفيفه وتسطيحه ثم تحويله إلى مربّيات والإتجار به داخل لبنان وخارجه.
إن الصفعة الأولى التي تلقّتها زراعة التين في لبنان كانت بعد انتشار زراعة التبغ، حيث تبشّر المزارعون خيرًا منها وراحوا يقلعون أشجار التين ليستبدلوها بالتبغ، أمّا الصفعة الثانية فجاءت عندما تخلّت الدولة اللبنانية رسميًا عن الزراعة وبات المزارع متروكًا من دون أي نوع من الحماية. في ظل غياب إحصائيات رسمية عن تطور المساحات المزروعة بالتين في لبنان تبقى حقيقة دامغة وهي أن هذه الزراعة تشهد منذ نحو عقدين من الزمن انحسارًا كبيرًا، يعود ذلك إلى أسباب عديدة أهمّها: قلع أشجار التين واستبدالها بزراعة التبغ أو بأشجار مثمرة من نوع آخر كالعنب والتفاح والكرز والدرّاق والزيتون وغيرها، عدم الرعاية الصحيّة لأشجار التين فالأمراض والحشرات وخصوصًا حفّار الساق وحشرة التين الشمعية أصبحت عاملًا هامًا في يباس قسم كبير من أشجار التين المزروعة بشكل عام في أراضٍ بعلية على التلال والمرتفعات والجبال، حيث يصعب تدخل الإنسان وتأمين وسائل الحماية من الأمراض والحشرات. وأخيرًا هناك عامل الحرائق الذي يزداد انتشارًا ويشتد قوّةً نتيجة ظاهرة الاحتباس الحراري الذي يقضي سنويًا على مساحات شاسعة من بساتين التين في ظل نقص المبادرة الفردية وغياب الخطّة الرسمية لمساعدة المزارعين على إعادة زرع المساحات المتضرّرة بغرّاس التين.
إنطلاقًا من الخصائص البيولوجية لشجرة التين التي تجعلها قادرة على تحمّل أقسى ظروف البيئة، ونظرًا إلى أنها من أقدم الأشجار التي تتحدّر بالذات من منطقة الشرق الأوسط، وإلى الفوائد الطبية التي لا تحصى ولا تعدّ لثمارها وحليبها وأوراقها، يتوجب على الأجهزة المختصة الرسمية وعلى رأسها وزارة الزراعة أن تولي شجرة التين اهتمامًا أكبر، فتزرع بها المساحات الجرداء لتلالنا ومرتفعاتنا.