رحلة في الإنسان

أخطاء العلاقة الأولى هل تصحّحها علاقة جديدة
إعداد: غريس فرح

على الرغم من عمق المعاناة التي تواكب إنقطاع العلاقات العاطفية وفي مقدمها العلاقة الزوجية، هنالك إثباتات على أن معظم المعنيين بهذا الواقع، يرتكبون الأخطاء نفسها خلال مرحلة الارتباط التالية وتحديداً بعد الطلاق مباشرة، الأمر الذي يتسبب بسلسلة انهيارات علائقية قسرية تنعكس سلباً على اصحابها والدائرين في فلكهم. واللافت، حسب تأكيد الدراسات، ان الخبرة المكتسبة من العلاقة الاولى تبقى على هامش العلاقة الثانية او حتى خارجها لأسباب لاارادية. من هذا المنطلق، تمّ مؤخراً تسليط الضوء على مشكلة تكرار الأخطاء العلائقية وخصوصاً بين المتزوجين من الذين مرّ أحدهما أو كلاهما معاً بعلاقة فاشلة تسببت بالطلاق. كما تمّ عرض الأسباب الكامنة وراء هذه الظاهرة، مروراً بدوافعها، ووصولاً الى وضع حلول لها.

 

أين الحكمة؟

من البدهي القول ان الانسان يكتسب الحكمة بالتجارب. بمعنى أن ادراكه لا يقارب الموضوعية الاّ من جرّاء محاسبة الذات وتقييم الاخطاء المرتكبة، ومن ثمّ التدرب تدريجاً على التحكّم بردات الفعل اللاإرادية. إلا ان هذا الرأي لا يصح إلاّ بالنسبة الى الذين يملكون الاستعداد الكافي لاستعادة وقائع الاحداث والتركيز على تفاصيلها اضافة الى الاقرار بالخطأ والعمل على تصحيحه. ولكن عندما يتعلق الأمر ببناء علاقة عاطفية جديدة، او معاودة الارتباط بالزواج، يصبح الامر مختلفاً، لأن المعنيين كما سبق وأشرنا يتخلون عموماً عن منطق المحاسبة الذاتية ويحصرون التركيز على الشريك باعتباره سبب المشكلة التي حوّلتهم الى ضحايا ابرياء.

 

ماذا يحصل بعد الانفصال؟

تؤكد الإحصاءات التي أجريت في غير مؤسسة اميركية للعلاج النفسي ان حوالى أكثر من تسعين بالمئة من المنفصلين او المطلقين من الجنسين، يسعون الى الارتباط من جديد. كما ثبت ان حوالى السبعين بالمئة من العلاقات الجديدة تسير بسرعة باتجاه الفشل بسبب الميل الى الهروب من الماضي.

يسعى المعني بالعلاقة العاطفية جاهداً الى اثبات ذاته، اضافة الى تسخير العلاقة لتحقيق احلام قابعة في لاوعيه. لذا فإن الفشل الذي تؤول اليه هذه العلاقة، يزعزع الى حدٍ ما ثقته بنفسه ويعرقل تحقيق احلامه، الامر الذي يدفعه الى الهروب من ذكريات هذه العلاقة، والتعويض عن معاناته بالتفتيش عن اخرى جديدة.

من هنا فإن الآمال المعقودة على العلاقة الجديدة ومقدرتها على ترميم ما تهدّم، تؤدي الى تجييش عناصر الرومانسية بعيداً عن المنطق، بهدف ملء الفراغ الناجم عن الإنفصال، الأمر الذي يمهد آلياً الى طمس معالم الماضي والحذر من إستعادة ذكرياته. ويجدر بالإشارة أن الميل لدفن الماضي قد ينبع من الخوف على العلاقة الجديدة لجهة إثارة غيرة الشريك، وهنا الخطأ الأكبر.

وحسب تعبير البروفسور ويليام دفري الاختصاصي في العلاج النفسي لمشاكل الزواج والطلاق، فإن الشركاء الجدد يحملون معهم التفكير والتصرف نفسيهما اللذين رافقا مرحلة ما قبل الارتباط السابق. وهذا يقود الى الاعتقاد بأن العلاقة العاطفية وخصوصاً الزوجية، قد تشكل هيكلية معنوية لإحتواء عقد الهروب من الذات والغير، الأمر الذي يقود الى تمويه الواقع عبر كل خلاف بدلاً من مواجهته، وبالتالي يحاول كل من الشريكين إلقاء التهم على الآخر لتبرئة ذاته.

 

إحتدام الخلاف يحجب الرؤية

حسب اعتقاد البروفسور دفري، فإن احتدام الخلاف النابع من آلية حماية الذات، يحجب الرؤية الصحيحة ويزيد المشكلة تعقيداً. والخلاف الذي هو جزء طبيعي من العلاقة يربك الكثيرين ممن يفتقرون الى العقلانية والمنطق، ويؤجج مخاوفهم ويزيد من إنفعالهم وبالتالي سعيهم الى الاستزادة من نبع الحماية الذاتية. وهذا يعيدنا الى حتمية بروز سلسلة التراكمات النفسية التي تلي هذه المرحلة لتمهد للهروب من الماضي، والتعلق بأحلام مستقبلية واهية.

في هذا السياق، تركز مجموعة من الاختصاصيين على خطوات ينبغي اتخاذها قبل البدء بعلاقة جديدة، اضافة الى تدريبات واعية يوصى بممارستها لتعميق الافادة من الاخطاء والتجارب وتعلم اساليب تمهيدية وعملية.

 

التمهّل وعدم الخوف من الفراغ

الشعور بالفراغ بالمعنى العلمي هو كالشعور بالجوع الذي يدفع بصاحبه الى التهام مطلق صنف من الطعام يجده بمتناوله. فالتوق الى العاطفة والدفء والاحتماء بالشريك، هي مشاعر طبيعية تدفع بمُعاني الانفصال الى سرعة التفكير بالعودة الى الارتباط، علماً انهم يحتاجون الى الوقت الكافي لاستعادة التنظيم الفكري والتوازن العاطفي لتصويب الاختيار. واللافت ان هؤلاء عموماً ما يضللون انفسهم بالتركيز على سلوكيات الشريك ومواصفاته من منطلق تجاربهم الفاشلة، بدون اي اعتبار لصفاتهم الذاتية، وهنا الخطأ الأساسي. ومن هذا المنطلق يُنصح بالتمّهل وعدم الخوف من الفراغ اضافة الى إرساء التوازن بين تقييم الذات والتركيز على وضع «دفتر الشروط» لتقييم الغير.

 

عدم الخجل من الاعتراف بالحزن

لا شيء يضرم الغضب أكثر من تراكم الأحقاد نتيجة ذكريات الأحداث الأليمة. وهنا لا بد من التأكد ان اظهار الحزن المكبوت على العلاقة المفقودة مهم في مجال تخفيف الغضب والإنفعال. وحسب تأكيد الاختصاصيين، فإن عدم التمكن من اختبار الحزن على فقدان مرحلة ارتبطت بالكيان، يؤدي الى الجفاف العاطفي الذي يتسبّب بتراكم الأحقاد، وبروز مشاعر الدونية والغضب والخجل، والخوف من الانتقاد. وهذه العوامل تسبّب بدورها فشل العلاقة التالية.

 

اعتماد المصارحة ونبش الماضي

 الحلّ الأفضل للتحرر من المشاعر السلبية المشار اليها هو العودة الى الماضي ومصارحة الذات. والأفضل فتح المجال للحوار مع الشخص المختار لعلاقة جديدة لمناقشة الامور والاحداث الشخصية التي تسببت بالمعاناة في الماضي. وهنا التشديد على ضرورة الاعتراف بالخطأ علانية، على امل عدم تكراره، كما يوصى باعتماد صراحة التعبير عن الآمال والأحلام والتوقعات التي كانت معقودة على العلاقة السابقة، وتلك المتوقعة من العلاقة الجديدة. وهي طريقة في النقاش تلقي الضوء على اسباب الفشل في الماضي، وتنير الطريق لبداية جديدة. كما ان التشديد على نقاط الفشل السابقة، يبرز خطوط شخصية الشريكين ومدى استعدادهما للتفاعل مجدداً على اسس عقلانية، مع الاخذ بالاعتبار اهمية التدريب الذاتي والمشترك على تغيير السلوك غير المستحب.

 

مناقشة الضغوط الخارجية

بالاضافة الى المعطيات الشخصية، تدخل ضغوطات البيئة الخارجية كعنصر رئيس في مجال زعزعة اجواء العلاقة بنسب مختلفة. وهذه الضغوطات فرضتها عموماً ظروف العمل والعلاقات الاجتماعية والعائلية. وهنا اهمية التنبّه الى طبيعة هذه الضغوط، والعمل على إيجاد متنفس صحي لها، من دون المساس بمشاعر المعنيين بها. والمعلوم ان وجود اطفال من زواج سابق قد يشكل تحدياً واختباراً لجدية العلاقة. وقد تدخل على الخط العلاقات مع الاهل والصداقات القديمة وما تثيره من احاسيس الشك والغيرة.

 

التضحية هي افضل الحلول

المهم هو التخلي عن الأنانية والإيمان بأن التضحية هي طريق السعادة. والمهم ايضاً اخماد الغيرة والميل الى الانتقاد وإلقاء التهم بهدف البروز.

لكلّ منا ماضٍ وذكريات وخصوصيات حميمة تتحصن ضد أي تدخل من أية جهة كانت. ولكل منا طباع وميول، فلماذا لا نعتمد التضحية والتسامح وصولاً الى جعل العلاقة مجالاً لتبادل الدعم ولتعزيز حرية التحرك في إطار احترام الحقوق والموجبات؟