- En
- Fr
- عربي
رحلة في الإنسان
العنف المعنوي
عملية تدمير للآخر تحت ستار الحب والحماية و...الكلام المعسول
من المعتقد لدى الكثيرين أن العنف، وخصوصاً في إطار الزواج، يقتصر على الأذى الجسدي الناجم عن سرعة الغضب أو الانفعال نتيجة السكر أو إدمان المخدّر، أو بسبب تفاعل الصراعات الداخلية المتعدّدة الأوجه. لكن الدراسات في هذا المجال تؤكد أن الخلاف الزوجي المتصاعد إلى نقطة العنف الجسدي، لا يحصل إلاّ إذا كانت لأحد الشريكين (أو لكليهما) شخصية منحرفة تتلذّذ بإلحاق الأذى المعنوي بالشريك لأسباب نفسية كامنة.
وباعتبار العنف المعنوي أخطر أشكال العنف الذي لم يُمنح حتى الآن الحيّز الكافي من اهتمام المعنيين، كرّست دراسة أجراها إختصاصيون في الحقل النفسي، الجهود لمعاينة أشكال الإيذاء المعنوي وآثاره المدمّرة، آخذة بالاعتبار إعترافات ضحاياه وتجاربهم، وانعكاسات معاناتهم.
فما هو العنف المعنوي وما هي جذوره، وكيف نرصد وجوده لنتجنب خطورة ذيوله؟
أشكال العنف المعنوي
حسب أستاذة العلاقات العائلية الأميركية (صاحبة عدة مقالات في مجال العنف العائلي) نورا بانيا (Nora Pania)، فإن مسبّب الإساءة، رجلاً كان أم إمرأة، يكتسب شخصيته العدائية أو الاستفزازية نتيجة تراكم بعض العوامل الوراثية، والضغوطات النفسية. كما انّ لظروف البيئة الإجتماعية والعائلية، بما فيها ظروف حياة الوالدين والميل الى التشبّه بشخصية أحدهما، دوراً لا يستهان به في هذا المضمار.
وقد ركزت الدراسة المشار إليها، على أشكال العنف المعنوي، وتحديداً على سمات الشخص الذي يستمتع بإلحاق الأذى بالغير، أو باستخدام الشريك وسيلة للتنفيس عن صراعاته الداخلية. كما شدّدت على ضرورة مراقبة صفات هذه الشخصية التي تبدو طبيعية إلى حدٍ ما، وخصوصاً خلال مرحلة التعارف الأولى، وهنا أهمها:
* الميل إلى المراقبة والتحكّم:
في طليعة الصفات المشبوهة للشخص المعني بالشخصية السلطوية، والتي تدعو إلى الحذر، الهوس بالمراقبة الدقيقة، والميل إلى التحكم بالأمور اليومية كافة وضبطها لصالح رغباته. وصاحب هذه الصفات، يتّخذ الشريك في الزواج هدفه الأول، أي أنه يحوّله إلى ضحية دائمة لممارسة ضغوطات العنف المعنوي والتي قد يتبعها أحياناً بحسب الظروف إيذاء جسدي بدرجات مختلفة. واللاّفت كما تشير الدراسة أن صاحب الشخصية المتسلّطة يعي ضمناً عيوب توجّهاته، لذا فهو لا يجاهر بها علانية وفور تعرّفه إلى الشريك، بل يمارسها تدريجاً، وعن طريق الإنتقاد الذي يمهّد السبيل إلى التحكّم والضبط بدافع التقويم. فهو يبدأ مثلاً بانتقاد طريقة الكلام والتفكير وحتى إنتقاء الملابس والأطعمة، بهدف إضعاف الشريك، وإفقاده الثقة بالنفس، ومن ثمّ إخضاعه، بعد تجريده تدريجاً من أسلحة المقاومة الطبيعية. واللاّفت أيضاً أن ممارس العنف قد يصل إلى مبتغاه باستخدام الكلام المعسول للتحكّم بسلوك الضحية تحت ستار عاطفة الحب والغيرة والحماية.
* تعمّد جرح المشاعر بعد تحقيق التملّك:
يشير الإختصاصيون إلى أن سلاح الإنتقاد الذي عموماً ما يستخدم بأشكال تراوح بين اللياقة والمزاح، وإظهار مشاعر الحب والغيرة في البداية، قد يتّخذ مع الوقت، وخصوصاً بعد خضوع الضحية ومسايرتها للأوامر غير المعلنة، أساليب مؤذية وبالغة الخطورة. فالتلذّذ بالانتقاد قد ينمو بعد الزواج، وخصوصاً في أجواء رفع الكلفة، ليتحوّل إلى إنتقادات جارحة تحطّم الضحية أكثر من الضرب، وتتسبّب بمعاناتها ومرضها ومن ثمّ إنفعالاتها المتعدّدة الوجوه.
* التهجّم على أصدقاء الشريك وأفراد عائلته:
من أشكال العنف المعنوي البالغة الخطورة، الميل إلى التفرّد بالشريك بإبعاده تدريجاً عن أفراد العائلة والأصدقاء المقرّبين. وهذا يتم بانتقادهم ومن ثمّ إفتعال المشاكل معهم لإقصائهم بقصد الإستئثار بالشريك الضحية وتطويعه بعيداً عن المؤثرات الخارجية.
وقد يذهب الجاني أحياناً إلى أبعد من ذلك، إذ يتعمّد نقل مكان السكن متذرعاً بأسباب مختلفة، هدفها الأساس حرمان الضحية من العلاقات الحميمة خارج إطار البيت الزوجي، الأمر الذي يتسبب بحزنه وألمه.
ماذا عن أشكال الغيرة؟
المبالغة في إظهار الغيرة بدافع الحب تعتبر أيضاً شكلاً من أشكال العنف المعنوي. فمراقبة الشريك، والشك بتصرّفاته، وملاحقته بالأسئلة عن الأمكنة التي يقصدها والأشخاص الذين يتعامل معهم، إلى ما هنالك من إهتمامات شخصية تؤمن الإستقلالية والهوية الفردية، هي في الواقع ممارسات ضاغطة تسلب الإرادة وحرية العيش وتتسبب مع الوقت بحصول ردات الفعل اللاّإرادية الحاقدة.
* المبالغة بالحماية:
بدافع الحب والغيرة قد يسترسل مسبّب الإساءة في تحطيم ضحيته عن طريق إحاطتها بحماية بالغة تجرّدها من مقوّمات الكيان والهوية وتسلبها الثقة وأسلحة الدفاع الخاصة، الأمر الذي يجعلها تعتمد على الشريك، وتخشى مخالفة أوامره باعتباره مصدر الحماية. إلاّ أن الصراع الداخلي المتولّد عن تفاعل العلاقة غير المتكافئة، قد يتسبب مع الوقت بنمو هوة كبيرة تتراكم ضمنها مشاعر الحقد والكراهية لتفصل بين الشريكين وتؤجج خلافاتهم وأساليب العنف في تعاطيهم مع بعضهم. وفي أحيان أخرى، تقتنع الضحية بمصيرها وتركن إليه لتعاني ضمناً إنفعالات نفسية قد تسيء إلى صحتها وأساليب تعاملها مع أفراد العائلة بشكلٍ عام.
وهنا تشير الدراسة إلى أن المتسبّب بالعنف المعنوي قد يعتمد عموماً وكما سبق وأشرنا أساليب المزاح لتحطيم ضحيته، أو يتعمّد مداعبتها للتقليل من قدرها، وإعطاءها إنطباعاً خاطئاً عن نفسها يجعلها تعتقد أنها أقل قدراً وذكاءً ومعرفة بإدارة شؤونها.
* تعمّد إثارة الشعور بالذنب:
لفت الباحثون إلى منعطف بالغ الأهمية يتصدر معظم أشكال ممارسات القمع المعنوي ويؤدي إلى الإيذاء الجسدي خلال المشاحنات الزوجية، وهو منعطف يتعمد المسيء من خلاله، وأحياناً من دون وعي، تحميل الضحية أوزار الأخطاء ومضاعفاتها، وإثارة شعورها بالذنب لضمان إستمرار قمعها، وبالتالي إرضاء رغباته. وهو في هذا المجال ممثل بالفطرة، يستعين بالانفعالات العفوية المؤثرة لإلقاء اللوم على الشريك ومن ثمّ إسترضائه بالكلام المعسول لتهدئته وإبقائه إلى جانبه. والمثير للدهشة أن المعني بهذه الممارسات والذي يهدف إلى الإحتفاظ بالضحية قد يصاب بالإحباط لرؤيتها تبتعد أو تكتئب نتيجة ممارساته.
الإنعكاسات السلبية للطاعة العمياء
الدراسة التي تابعت اعترافات ضحايا القمع المعنوي من الجنسين، وتحديداً من النساء المرغمات على الطاعة العمياء لتجنّب العنف الجسدي، أكّدت على خطورة إنعكاسات العنف المعنوي على أكثر من صعيد.
فالضحية الحائرة بين الرضوخ بحكم العادة والحرص على صيانة العلاقة، وبين الرغبة بالتحدّي والإنتقام للكبرياء المجروحة والهوية الضائعة، قد تتحصن بدون وعي منها بجملة مشاعر وردّات فعل سلبية حاقدة تسيء إلى العلاقة وإلى أفراد العائلة الدائرين في فلكها. وبالإضافة إلى مشاعر الإحباط والإكتئاب التي يثيرها القمع المعنوي، لا بد من الأخذ بالاعتبار الانحرافات السلوكية الناجمة عن آثاره، والتي قد تترجم بتشبه الضحية بالمعتدي لممارسة الضغوط على أفراد عائلتها وخصوصاً الأطفال بقصد التشّفي. الأمر الذي يضع العائلة ككل في دائرة العنف المعنوي وذيوله الهدّامة. ولا ينسى الإختصاصيون إنعكاسات هذا العنف الخطيرة على صعيد الصحّة النفسية والجسدية والتي سبق وأشرنا إليها، بالإضافة إلى تسبّبه بردّات الفعل المؤدية إلى تأجيج العنف الجسدي. ومن هنا التشديد على أهمية مراقبة الإشارات الأوليّة الممهدة له وفي مقدمها: الكلمات النابية، حتى ولو صدرت بشكل مزاح في أثناء إحتدام تصادم الإنفعالات، وكذلك محاولة الدفع أو التلميح إلى إمكان اللجوء إلى العنف الجسدي. وفي حال وجود إشارات من هذا النوع، تنصح الضحية بالانسحاب على الفور منعاً لحصول الاصطدام.
كيف نتجنب الارتباط بشخص عنيف؟
لا توجد طريقة محدّدة للحؤول دون التورّط بعلاقة من هذا النوع، ولكن، ينصح عموماً بعدم التسرع بالإرتباط، واتّخاذ الوقت الكافي لدراسة صفات الشخص المراد الإرتباط به، علماً أن الشخص المتسلّط بطبعه، يميل إلى تسريع العلاقة لتسهيل إصطياد الضحية. كما ينصح بالتعرّف إلى عائلة الشريك قبل الزواج، وكذلك الى أصدقائه المقرّبين لمعرفة كيفية تعامله مع المشاكل اليومية. كما ينصح بمراقبة الإنذارات التالية:
* التهور والسرعة في الإعلان عن المشاعر، والرغبة في إرساء قواعد العلاقة على أسس غير واقعية.
* إظهار بعض أشكال الغيرة من الأصدقاء المقرّبين أو التأفف من وجود الأهل.
* إتهام الأهل أو أحد أفراد العائلة بكونه سبب إضطراب العلاقة.
* إبداء الإرتياب من العلاقة بزملاء العمل والميل إلى فرض الرأي وتكبيل التوجهات.
* الاعتراف العلني بالتمييز بين الجنسين.
* التدخل في إدارة المصروف وفرض الرقابة على الشؤون المالية بحجة الحرص والحماية.
* سرعة الإنفعال والغضب وما يترافق معهما من تحرّكات غير منضبطة أو عقلانية.
* إستخدام عبارات التحقير أو الإهانة.
* الميل إلى ذمّ الغير وتحميله أوزار الفشل أو العثرات.